تترقب أسواق النفط والغاز العالمية نتائج المفاوضات حول الملف النووي الإيراني في فيينا، في الوقت الذي تتواصل فيه تأثيرات الغزو الروسي لأوكرانيا على هذه الأسواق، وتأثيرات ما تبعه من عقوبات على روسيا، وهي صاحبة ثاني أكبر إنتاج نفطي وأكبر احتياطيات مؤكدة من الغاز في العالم، ومصدر أكثر من 50% من الغاز الذي تستهلكه أوروبا. من شأن انفراجة في المفاوضات النووية أن تعيد إيران إلى موقعها في سوق تصدير النفط والغاز، وتساهمَ بالتالي في خفض أسعار الطاقة بعد الارتفاع الذي سببته انعكاسات الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية.
المفاوضات النووية وغزو أوكرانيا
استُؤنفت الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا النووية في 8 شباط (فبراير) 2022، ثم عادت لتتوقف في 11 آذار (مارس) بعد نحو أسبوعين من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد واجهت إيران معضلة في تلك الجولة من المفاوضات النووية لأن روسيا، حليفتها المقربة، في حالة حرب مع أوكرانيا، وتتعرض لعقوبات دولية، ما يؤثر على دورها الذي تلعبه في المفاوضات من دعم لإيران وتقريب لوجهات النظر بينها وبين الدول الغربية. توقفت الجولة الأخيرة دون سبب واضح، لكن كبار المفاوضين، من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أشاروا إلى أن العقبة الأساسية هي مطالبة روسيا بألّا تَخضع تجارتُها مع إيران للعقوبات الجديدة المفروضة عليها بسبب غزوها لأوكرانيا. تصريحات المفاوضين الدوليين لها ما يدعمها إيرانياً، إذ قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بعد اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في اجتماع مع برلمانيين إيرانيين: «نريد إبرام اتفاق جيد، ولن نسمح لأي عامل خارجي بالتأثير على المصالح الوطنية الإيرانية في محادثات فيينا»، مضيفاً أن إيران تسعى للحصول على توضيحات من الجانب الروسي بشأن مطالبها.
في غضون ذلك، حذرت القوى الغربية موسكو من إفساد الاتفاق شبه المكتمل لإعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال للاتفاق النووي. من جهتها، سارعت روسيا على لسان ميخائيل أوليانوف، رئيس الوفد الروسي في المحادثات النووية الإيرانية، للتأكيد على أن العملية العسكرية التي تشنها بلاده على أوكرانيا لن تؤثر على الحوار حول الاتفاق النووي، كما قال إن مشاكل محادثات فيينا لا تتقاطع بأي شكل من الأشكال مع قضية دونباس.
من المحتمل أن تكون روسيا هي السبب الرئيسي للتأخير، وأن يكون المسؤولون الإيرانيون غير مستعدين لإلقاء اللوم عليها علناً. وفي الحقيقة، كانت روسيا من الدول التي استفادت خلال سنوات المفاوضات النووية من العقوبات على إيران، لأنها فتحت أسواقاً إضافية للنفط والغاز الروسي. لكن على أي حال، فإنه ليس من المرجح أن تمنع المطالب الروسية التوصل إلى اتفاق، رغم أنها قد تناور فقط على خطة العمل الشاملة المشتركة لبعض الوقت، وتؤخر التوصل إلى اتفاق نهائي. كما أن إيران لم تُخفِ عبر إعلامها الرسمي استعدادها لسد الفراغ الروسي، حيث توقعت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) أن تكون حرب العقوبات المكثفة بين روسيا والدول الأوروبية فرصة لإيران لتصبح مصدر طاقة جديداً لأوروبا، وأن يكون لها الآن اليد العليا في المفاوضات الدولية حول برنامجها النووي.
إمكانيات ومكاسب إيران
لا يعيق قيام إيران بسدّ الفراغ الروسي في سوق الطاقة بعد رفع العقوبات عنها سوى وجود علاقات سياسية وثيقة مع موسكو، ويبقى احتمالاً وارداً أن تنحاز إيران لمصالحها بعيداً عن روسيا، إذ لطالما كانت علاقتهما عبارة عن تحالف مصالح ظرفية. لقد تعاون الجانبان في سوريا، لكن خلال عقد من المفاوضات النووية دعمت روسيا العقوبات الغربية على إيران، ودعمت قرارات مجلس الأمن المختلفة التي تسعى إلى منع إيران من تطوير أسلحة نووية. أخبر المسؤولون الروس نظراءهم الإيرانيين بشكل روتيني أنه لا ينبغي لهم الاعتماد على حق النقض الروسي في مجلس الأمن، وأن عليهم أن يتصالحوا مع الدول التي تقود المفاوضات.
لا شك أن إيران تفهم عواقب التقلبات الاقتصادية في سوق الطاقة العالمي على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد صرَّحت طهران علانية بدعمها لروسيا، مُحمِّلة مسؤولية الحرب لأعمال الناتو الاستفزازية، إذ قال المرشد الأعلى علي خامنئي: «من خلال التدخل في شؤون أوكرانيا، وإحداث ثورات ملونة، وإسقاط حكومة ووضع أخرى في السلطة، جلبت الولايات المتحدة الحرب إلى أوكرانيا»، لكن القيادة الإيرانية لا يمكن رغم ذلك إلّا أن تنظر في احتمالات الاستفادة من سدّ الفراغ الذي سوف يُحدِثه تقليص صادرات روسيا من النفط والغاز، وذلك لتعزيز اقتصادها الذي تعرَّضَ للسحق على مر سنين العقوبات الدولية وحظر تصدير النفط، ما أدى إلى انخفاض صادراتها من حوالي 2.8 مليون برميل يومياً في 2018 إلى 700000 برميل يومياً.
تلفت أزمة الطاقة الانتباه إلى حقيقة أن إيران لديها ما يصل إلى 80 مليون برميل من النفط المُنتَج، وجزءٌ منه مُخزَّن في ناقلات بحرية وجاهز للبيع في أقرب وقت ممكن، كما يمكن لإيران زيادة إنتاجها المحلي بمقدار 1.2 مليون برميل نفط يومياً، ما يسد حاجة السوق. كذلك، تحتل إيران المرتبة الثانية بعد روسيا في قائمة حجم الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي. لا يفيد هذا اقتصادَ إيران الذي يعاني من العقوبات فحسب، بل يفيد أيضاً إدارة بايدن، التي تكافح من أجل خفض أسعار النفط وجعل وقود السيارات أرخص.
العامل الرئيسي المتحكم في عودة إيران إلى سوق الطاقة مرهون برفع العقوبات عنها، ولو بشكل جزئي. لكن ثمة عوامل أخرى، منها ما هو تسويقي، فهي لن تستطيع استعادة مكانتها في السوق على الفور في حال رُفعت العقوبات عنها، لأن عملائها الرئيسيين في آسيا (كوريا الجنوبية واليابان والهند على سبيل المثال) تحولوا إلى الاستيراد من بلدان أخرى. قبل ستة أعوام، عندما تم التوصل إلى الاتفاق النووي، استغرقت إيران بضعة أشهر لزيادة حجم صادراتها إلى المستوى القديم. ولا يبقى أمامها لتسريع عودتها إلّا البيع في أسواق تريد التخلي عن النفط والغاز الروسي، بكل ما يحمله هذا البيع من مخاطر سياسية في العلاقة مع الحليفة روسيا.
يرتبط رفع العقوبات نفسه بالمفاوضات حول الملف النووي، التي استؤنفت في فيينا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بأيام، وأخذت دفعة قوية من الأمل بجدية التوصل إلى نتيجة مُرضية، بعد إبداء رغبة من الولايات المتحدة وباقي الدول التي تدير المفاوضات في التوصل إلى اتفاق يوقف استمرار إيران في زيادة معدل تخصيب اليورانيوم. لن تقبل الولايات المتحدة برفع عقوباتها عن إيران، والسماح لها بتحصيل مكاسب من صادراتها النفطية في ظل الأزمة العالمية الراهنة، بدون مقابل تنتزعه من برنامج إيران النووي تحديداً.
الوقت مسألة مهمة وعامل ضغط على إيران، إذ أن سوق الطاقة، المتضرر بالعقوبات على روسيا، لن ينتظر إيران أكثر من الوقت اللازم للمنتجين للتكيّف مع الوضع الجديد وسدّ الفراغ الروسي دون الحاجة لإيران.
روسيا وإيران في سوريا: شرخ ممكن في المصالح
تتضارب المصالح الروسية الإيرانية في سوق الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بين مستفيد مُحتمَل إيراني ومتضرر روسي، ويُحتمل أن يرمي هذا التضارب في المصالح بتأثيره على سوريا، بحكم أن كلا البلدين يشكلان تحالف قوى احتلال للبلد، والأهم أن الأراضي السورية تمتلك إمكانية أن تكون ممراً لمشاريع تُغني أوروبا عن الغاز الروسي وتُغني تركيا عن الغاز الإيراني.
يمكن أن تقع روسيا وإيران في خلاف عميق في سوريا إذا اشتُرط على إيران، من أجل عودتها إلى سوق الطاقة، أن تستخدم نفوذها في سوريا ولبنان من أجل دفع كل من حزب الله والنظام السوري للموافقة على مرور خط الغاز بين إسرائيل وتركيا، وهو الأمر الذي تستطيع روسيا تعطيله بحكم تموضعها عسكرياً في سوريا، بالإضافة الى نفوذها الكبير على النظام السوري بعد أن دعمته عسكرياً بشكل حاسم وسلبته قدراً مهما من قراره السياسي بالمقابل، الأمر الذي مكّنها مثلاً من السيطرة على حقوق التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية السورية.
حاجات أوروبا من مستنقع جيوسياسي
يدفع الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا لأن تكون أكثر تصميماً على إيجاد بدائل لإمداداتها من الطاقة، وهذا الأمر ليس جديداً، حيث أن الدول الأوروبية تسعى منذ سنوات إلى تنويع مصادر الطاقة التي تستهلكها، ولكن دون جدوى حقيقية. فمشاريع الطاقة النظيفة لا تكفي بحكم المناخ الأوروبي، واستمرارُ العمل بالمفاعلات النووية يواجه احتجاجات من المنظمات البيئية الفاعلة، ما حقَّقَ استجابة كبيرة في بلدان مثل ألمانيا التي أوقفت العمل بشكل كامل في أغلب مفاعلاتها النووية، فيما تتعثّر مشاريع نقل الطاقة من الجوار الأوروبي (حقول البحر المتوسط) بسبب ارتفاع كلفة الخطوط الممكنة مثل خط إيست ميد، بالإضافة إلى الوضع الجيوسياسي المعقد في دول شرق المتوسط صاحبة المصدر الأكبر للغاز في المتوسط.
كنتُ قد تناولتُ في مقال سابق الاحتمالات الممكنة لمشاريع نقل الطاقة التي تمر عبر الأراضي السورية. وتسعى كل من تركيا وإسرائيل لتفعيل واحد من هذه المشاريع، إذ يعمل الطرفان على وضع نهاية لعقد من المآزق الدبلوماسية، عادةً بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية. ويقوم المشروع على نقل الغاز عبر خط بحري من حقول الغاز الإسرائيلية والمصرية إلى تركيا لتقوم بتغطية احتياجاتها المحلية، وكذلك التصدير للأسواق الأوروبية القريبة التي تتطلع إلى التنويع بعيداً عن روسيا. وسيمتد خط الأنابيب من 500 إلى 550 كيلومتراً، وبتكلفة تصل إلى 2 مليار دولار، ما يجعله أكثر قابلية للتنفيذ من الفكرة المقترحة لخط الأنابيب إيست ميد، الذي تبلغ تكلفته 6 مليارات دولار، والذي يربط إسرائيل بقبرص واليونان وإيطاليا.
سيكون خط الأنابيب هذا ذو فائدة كبيرة لإسرائيل وتركيا (تستهلك تركيا حوالي 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، ومعظم هذه الكمية مستوردٌ عبر أنابيب من روسيا وإيران وأذربيجان). وسيكون ذا فائدة لأوروبا بشكل خاص، لأنه يعني إمدادات غاز بديلة لموازنة الهيمنة الروسية على السوق. بالنسبة للشركاء في حقل ليفاثان الإسرائيلي، سيكون نقل الغاز عبر الأنابيب إلى تركيا مربحاً أكثر بكثير من الخيارات الأخرى، لا سيما خيار التصدير إلى الصين والإسالة في المنشآت المصرية.
تجري مناقشة خط أنابيب غاز بين تركيا وإسرائيل خلف الكواليس كواحد من بدائل أوروبا لإمدادات الطاقة الروسية، لكن الأمر يحتاج مناورة جيوسياسية معقدة للتوصل إلى أي اتفاق قابل للتطبيق.
يمتلك مسار خط الغاز هذا احتمالين اثنين؛ إما أن يمر في المياه القبرصية أو السورية، ولدى تركيا معوقات تحول دون قدرتها على المضي قُدُماً مع كلا الاحتمالين، فهي ترفض استيراد النفط من قبرص بسبب الخلافات على حصص الغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة بينهما نتيجة أزمة قبرص التركية، والمشكلة الأخرى هي أن تركيا لا تمتلك علاقات سياسية مع سوريا تؤهلها للتفاهم على السماح بمرور خط الغاز من المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا في المتوسط . وحتى لو أرادت تركيا إصلاح علاقتها السياسية مع النظام، كما يُشاع مؤخراً، تبقى العقبة نفسها موجودة نتيجة عدم قدرة النظام على الاتفاق مع تركيا بمعزل عن روسيا.
تمرير الغاز إلى تركيا يمتلك فرصة أخرى، براً، داخل الأراضي السورية، وهي استكمال خط الغاز العربي إلى تركيا ليُنقل عبره الغاز المصري والإسرائيلي الذي يرفد خط الغاز العربي عند محطة الخناصري في الأردن. قد تكون روسيا أقل قدرة على التأثير على مشروع استكمال خط الغاز العربي إلى تركيا نظراً إلى أن معظم الأراضي التي يمر عبرها الخط في سوريا تخضع لنفوذ ميليشيات إيران.
الجدير بالذكر أن كل احتمالات نقل الغاز الى تركيا محفوفة بالمخاطر ومحملة بأسباب الفشل، يدلّ على ذلك ما حدث مؤخراً، حين نقلت رويترز عن مسؤولين عراقيين وأتراك أن خطة مشروع لجلب الغاز، بمساعدة إسرائيل، من إقليم كردستان العراق إلى تركيا وأوروبا، هي ما تسبب في هجوم صاروخي إيراني على أربيل. ويُرجَّح أيضاً أن تكون هذه الخطة سبباً للعملية العسكرية الضخمة التي أطلقتها تركيا مؤخراً شمال العراق، إذ ربما يكون أحد أهدافها ضمان مسار آمن للمشروع المُفترض.
يمكن أن تسمح روسيا وإيران بمرور مشاريع الطاقة من سوريا في حال كانتا بشكل ما شريكتين فيها، لا أن يكون الهدف من هذه المشاريع الاستغناء عن إحداهما. وهذا يعني أن تنفيذ أي مشروع إقليمي لنقل الغاز عبر سوريا محكومٌ عليه بالفشل إذا لم يمرّ عبر التفاهم مع إيران وروسيا، وهو الفشل الذي يزيد من شلل النظام السوري سياسياً واقتصادياً، ويحدّ بالتالي من قدرته على لعب أدوار مهمة تساعده على إعادة تأهيل نفسه للعودة إلى المجتمع الدولي نظاماً شرعياً معترفاً به.