أصدرت دار ثقافة للنشر والتوزيع في دولة الإمارات رواية بنات لحلوحة (الرواية القاتلة)، للكاتبة السوريّة ابتسام تريسي، في العام الماضي 2021. تكشف هذه الرواية علاقات خفية وملتبسة بين أجهزة النظام السوري وبين نساء مجتمع القاع بحسب وصف الرواية، كما تتحدَّثُ عن مدى عمق دور التنسيقات المخابراتية وفاعليتها في استمرار النظام الأسدي في الحكم، وتطرح كمَّاً هائلاً من المعلومات القائمة على سياسة استلابيَّة تتَّجه لتغيير الحقائق ونسفها من أصلها. وبذلك، فإنَّ الرواية تُطالب القارئ بجاهزية حسيَّة عالية ترافقه منذ بدء قراءتها حتى الانتهاء منها، وذلك بسبب أنَّها تتناول حيوات عددٍ كبيرٍ من الشخصيات عبر مدَّة زمنية واسعة تمتدُّ من منتصف القرن العشرين وحتَّى بدايات القرن الحادي والعشرين، يتراوح خلالها الخط السَّردي بين المتناوب والمتقطِّع، ويضع القارئ في متاهة ملحميَّة تدور في مجملها حول ثيمات متصارعة بين ثنائيات الخير والشر، والعفَّة والفجور، والاستبداد والعدالة. فالرواية في أساسها تقوم على شخصيات متناقضة في عمقها وفي علاقاتها، وتتراوح بين شخصيتين هما؛ شخصية الضحية وشخصية الجلَّاد، إن صحَّ التعبير.

تعالج الكاتبة ابتسام تريسي موضوعات عديدة في روايتها بنات لحلوحة مستخدمة أسلوباً بوليسياً مشوِّقاً، إذ تبدأ الرواية بجريمة قتل شخصية الكاتبة المتمرِّدة على النِّظام فريدة وأختيها يمامة وجليلة، وتنتهي بالكشف عن الجاني ضمن حبكة تتداخل فيها الأحداث والعلاقات. وخلال 428 صفحة يبقى القارئ مُستفزَّاً ومندهشاً أثناء تكشُّف الحقائق الغامضة، التي تضارع في غموضها البيئة المكانية المختارة محوراً رئيساً في الرواية، والتي تعدُّ بطلة الرواية الأساسية، وهي حي بحسيتا في حلب، حيث تجتمع معظم شخصيات الرواية في هذا المجتمع المنعزل والمتكامل من حيث شروطه وقوانينه الخاصة، فالحيُّ عبارة عن دور للبغاء تمَّ ترخيصها من قِبَل الدولة. ولعلَّ قرار هدم هذا الحي كان وسيلة لتشظِّي مجتمع العاملات فيه، وانتشار العمل بالبغاء بأشكاله المختلفة تحت رعاية النظام وحمايته، هذا النظام الذي لم يفوِّت فرصة الاستفادة من ظروف هؤلاء الفتيات وضعفهنّ، حين عمد إلى استخدامهنَّ ضمن شبكته المخابراتية بحجة خدمة الوطن.

مقتل الكاتبة فريدة المتحكِّمة في السرد الروائي منذ بداية الرواية يعدُّ مشهداً افتتاحياً موفَّقاً، يمكن الانطلاق منه باعتباره حامل دلالات لا يجب أن تغيب إشاراته عن ذهن القارئ، فالكاتبة تُحيل إلى النصِّ الروائيِّ الذي يعلن منذ البداية وفي العنوان الفرعي عن فاعليَّته «الرواية القاتلة»، وبالتشارك بين دلالات العتبة النصية «العنوان» وبين الحدث الافتتاحي «جريمة القتل»، يمكننا أن نقرأ في الواقع تغييباً للحرية الفكرية من خلال موت الكاتبة عن طريق القتل المتعمَّد، والمقصود به قتل حرية التعبير وطمس الحقائق التي كانت متضمَّنة في النص. فالرواية المزعومة تحكي أحداثاً تمسُّ شخصيات لها قيمتها السياسية في النظام السوريِّ القائم، ولا سيَّما أنَّها استخدمت أسماء حقيقية، كلُّ ذلك يغمز إلى ما تمارسه الرقابة على النتاج الفكري في الدول الاستبدادية، والتي أصبحت سورية منذ تولي عائلة الأسد للحكم في مقدمتها.

يواجه القارئ مشاعر متناقضة تجاه الفتيات اللواتي انسقنَ إلى امتهان العمل في البغاء دون إرادة منهنِّ، ولكنَّه لا يلبث أن يعود ليوجِّه انتباهه بعيداً عن تلك المشاعر، فإثارة تلك المشاعر هو أبعد ما يكون عن غايات الرواية، إذ إنَّ العلاقة التي تربط هؤلاء الفتيات بالمخابرات هي ما ترغب الرواية تسليط الضوء عليه، لا سيَّما أنَّ هذه العلاقة تمتدُّ حتى بعد هدم حي بحسيتا، المرتبط أصلاً بالأنظمة الاستخباراتية منذ نشوئه، وتتفرَّع لتسيطر على فتيات يتشابهنَ في ظروفهنَّ مع بنات لحلوحة.

الرواية تعرض بشكل فجٍّ هيمنة النظام المجتمعي الذكوري وتسلطه على المرأة، التي تظهر بنماذجها المختلفة مستلبَةً ومقهورةً، تحكمها العادات والتقاليد وأنظمة المجتمع الأبوي الصارم، إذ تحوَّلت المرأة فيه إلى جسد تمَّ تسليعه من قِبَل هذه السلطة الذكورية التي كان جُلُّ همِّها إرضاء شهواتها وإشباع غرائزها، سواء في البقاء في الحكم وترسيخ مفهوم الأبدية أو في إلغاء الآخر وإقصائه، مهما كانت الوسيلة. فكلُّ ما تتمتَّع به نساء الرواية هو واجبات عليهنَّ تقديمها بكامل الطَّاعة، للرجل الذَّكر وللرجل السُّلطة. لذلك، فإنَّ التحكُّم بالنساء هو أمرٌ مفروغٌ منه، استغلَّته أجهزة النظام الحاكم الأمنيَّة لتربط مصير المرأة باختياراتٍ سلطويَّةٍ كانت سبباً في الوصول إلى نهاياتٍ تُنبِئ بسوء هذا الاختيار.

تشهد الرواية سلسلة من التحولات التي طرأت على حياة بنات لحلوحة، وذلك بالنظر إلى الزمن الطويل الذي تغطِّيه، والتي تبدأ مصحوبة بالخوف والحاجة والبحث عن الأمان، وتنتهي محفوفة بالرغبة في السلطة والمال والسطوة، المرفقة بمزيدٍ من التنازلات التي تؤكِّد عدم قدرتهنَّ على الخروج عن النسق الذي رُسِمَ لهنَّ من قِبَل السلطة، فكان وصول أبنائهنَّ الشرعيين أو غير الشرعيين  إلى مناصب وزارية الغاية التي تبرر أيَّ وسيلة قد سلكنها في الماضي أو يسلكنها في الحاضر. وإذا كانت هذه التحوُّلات انتهت نهايات فجائعية حين وقع التفجير المدبَّر أثناء الاجتماع الوزاري، فإنَّها أيضاً تتنبَّأ بمصير كلِّ من وقَّع مع هذا النظام الفاسد عقداً فاوستياً مشابهاً. 

في الحقيقة، الرواية فيها الكثير من القضايا التي يطول الكلام عليها، قضايا تتناول المصائر والمآلات التي مرَّ عليها الزمن، أو تلك التي لا تزال مفتوحة ومجهولة الحلول في ظلِّ السلطة الأسدية التي ما تزال تمارس استبدادها وسطوتها على شعبها داخل سورية وخارجها. الجرأة وحدها ليست العامل المفاجئ في هذه الرواية، إذ سبق وأن حضرت في روايات الكاتبة السابقة، ولكن الملفت في هذه الرواية هو الرؤية البوليسية المنضبطة مع العناصر السردية والمتكاملة معها، والتي تجعل الرواية تستحوذ علينا لأيام عديدة بعد الانتهاء من قراءتها.