تمكَّنَ إيمانويل ماكرون من تجديد إقامته في قصر الإليزيه، وذلك بعد حصده 58.5% من الأصوات مقابل 41.5% لمرشّحة اليمين المتطرف مارين لوبين. ولكن رغم ذلك، فإن هذا الانتصار واحدٌ من أكثر الانتصارات هشاشة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة،في حال احتساب الأصوات البيضاء ونسبة الامتناع عن التصويت التي تجاوزت 28%، فإن إيمانويل ماكرون لم يحصد في الواقع سوى 38.5 % من أصوات الفرنسيين، مقابل 27.3 % للوبين. بكلمات أخرى، قرابة اثنين من كل ثلاثة فرنسيين امتنعوا عن منح أصواتهم للمرشِّح الفائز. في انتخابات عرفت نسبة امتناع عن التصويت هي الأعلى منذ أكثر من نصف قرن، وشهدت انحساراً كبيراً في الفارق الذي يفصل ماكرون عن المرشحة نفسها في الدورة الانتخابية السابقة.حصد إيمانويل ماكرون أكثر من ثلثي أصوات الناخبين الفرنسيين في انتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2017، ولم تتمكن مرشحة اليمين المتطرف من الحصول على أكثر من 32% من الأصوات. من الجدير بالذكر أن الانتخابات الرئاسية لعام 2002 التي وضعت مرشح اليمين الجمهوري جاك شيراك في مواجهة مع زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبين، والد المرشحة الحالية، قد انتهت بمنح المرشح الجمهوري أكثر من 82% من الأصوات.

ستعيش فرنسا إذن في السنوات الخمس القادمة على إيقاع دورة ثانية من الماكرونية، التي لم يُبدِ الرئيس المنتخب أي إشارة حقيقية على رغبته في تغيير مضمونها. تُحاول هذه المقالة القبض على الملامح الرئيسية للماكرونية، وذلك على ضوء ما بلورته في السنوات الخمس الماضية.  

وعود البدايات

عندما وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى سدة السلطة عام 2017، لم تكن أغلب الأصوات التي ساندت ترشيحه شديدة القناعة بمشروعه، فقد كان بالنسبة لكثيرين، وبخاصة أبناء الطبقة الوسطى، أقلَّ ما أفرزه المشهد الانتخابي سوءاً. لم يترشح فرانسوا هولاند لتجديد دورته بعد صدور كتاب لا ينبغي على الرئيس قول ذلك، الذي كان الشعرة التي طوّحت بطموحاته، فاختتمت مدته الرئاسية التي انطوت على سياسات يمينية متناقضة بشكل صارخ مع خطابه ووعوده الانتخابية. كما تجاوزَ أثرُ هذه التركة الثقيلة مشروعَ هولاند الشخصي، فأدّت إلى انقسام في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم، وهو ما أضر بمرشح الحزب بنوا آمون وقضى على كل بريق في حملته الفاقدة للكاريزما الرئاسية. لم يكن حال مرشح الحزب الجمهوري اليميني فرانسوا فيون أفضل حالاً، فبعد أن توقَّع الجميع أن تنتهي حملته بتنصيبه في قصر الرئاسة، تتالت الفضائح الإعلامية، لينكشف عن سياسي فاسد يستفيد من منصبه لتحصل زوجته على راتب بلا عمل. خلت الساحة إذن من الأحزاب الكبرى التي طالما تناوبت على المنصب الرئاسي، ولم يصمد فيها إلا مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين ومرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلونشون، وذلك الشاب غير المعروف المسمى إيمانويل ماكرون.

استفاد ماكرون، في هذا المشهد الانتخابي المعقّد، من الأضواء التي سلّطتها عليه الميديا الفرنسية،في تغطيتها للانتخابات الرئاسية الفرنسية، عنونت اللوموند ديبولماتيك إحدى تقاريرها: إيمانويل ماكرون، مرشح الميديا، لتناقش حجم التغطية الإيجابية الهائلة التي قامت بها كبرى وسائط الإعلام لصالح إيمانويل ماكرون. ليقود حملة وجيزة وفعّالة انتهت به في قصر الإليزيه. فهذا الشاب الذي لم يكن قد بلغ الأربعين، والذي لم يَخُض أي حملة انتخابية سابقة، استفاد من عمله في صفوف حكومة فرانسوا هولاند كمستشار للإليزيه في الشؤون الاقتصادية ثم كوزير للاقتصاد والمالية، ليصور نفسه كيساري ليبرالي معتدل، لا يمكن لعمله السابق كموظف في بنك روتشيلد للأعمال أن يختزل شخصه، بل يمكن اعتبار هذا الجانب من سيرته، مع انخراطه في صفوف حكومة محسوبة على اليسار، خلفيةً ضامنةً للمرونة التي تقتضيها روح العصر الذي يجب أن تدخله فرنسا. لم يَخلُ هذا المرشح من السحر والغموض القادر على اجتذاب الميديا وقطاعات واسعة من وسط اليسار واليمين، فهذا المثقف الشاب، الذي عمل كمساعد للفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور، وتعاون لفترة معتبرة مع الدورية الفكرية المرموقة «الروح»، قد أكَّدَ في كتابه البرنامجي ثورة أنه يريد تجديد الحياة السياسية الفرنسية، وتجاوزَ تلك الثنائيات المتقادمة التي عرفها العالم القديم، كثنائية اليمين واليسار، بروح جدلية تجمع اليمين مع اليسار «في الوقت نفسه»،تُشكّل عبارة «في الوقت نفسه»، بالفرنسية «En même temps»، واحدةً من الركائز الدلالية المؤسِّسة في خطاب إيمانويل ماكرون، إلى درجة أنه بات يُعرف برئيس في الوقت نفسه. لتشكل صلب مشروع التقدم والانفتاح الأوروبي الذي لا يمكن أن يقابله إلا رجعية اليمين المتطرف القومية. صحيح أن برنامج المرشح ماكرون بقي غامضاً وغير مشغول بالعناية التي يتطلبها الترشح لهكذا منصب، إلا أن الغموض والإثارة، عدا عن عنصر المفاجأة وتعقيدات المشهد الانتخابي التي لم ترحم منافسيه، كانت من العوامل التي ساعدته على إضافة بعض الزخم لحملته وإثارة فضول قطاعات واسعة من الفرنسيين. 

سياسات اقتصادية نيوليبرالية

منذ انتصار النيوليبرالية عالمياً، قطعَ اليسار الديمقراطي الغربي مع حاضنته الشعبية التاريخية المتمثلة بالطبقات الشعبية والعاملة، كما قطعَ مع أسئلة هذه الطبقات المتمركزة حول توزيع الثروة وتمكين دولة الرفاه. بل وتلاقى خطابه الاقتصادي بشكل كبير مع الخطاب النيوليبرالي السائد، الذي تقتصر همومه على زيادة الجاذبية الاستثمارية للسوق الوطنية في عالم مُعولَم شديد التنافسية وعلى كبح كافة القيود الدولتية على الاستثمار والسوق بهدف مكافحة البطالة وزيادة فرص العمل، وهو الأمر الذي ارتقى في سلّم قيم اليسار إلى مصاف القيم المركزية، كما هي حال خصمه اليميني.

على سبيل المثال، كانت فترة حكم اليساري فرانسوا هولاند واحدة من أكثر الأمثلة تعبيراً عن هذا المنعطف الاقتصادي، حيث مَضَت حكومته في مشاريع اقتصادية يمينية كان هدفها المعلن محاربة البطالة، لكنها وبنتائجها شديدة البهوت، حين يتعلق الموضوع بالأهداف التي أعلنت التصدي لها، لم تكن إلا ماءاً يصب في طاحونة المشروع النيوليبرالي الراغب بتوسيع نفوذه وتفكيك ما تبقى من دولة الرفاه الفرنسية. وقد لعب وزير الاقتصاد والمالية في حكومة هولاند، إيمانويل ماكرون، دوراً وازناً في هذا المشروع. فهذا المصرفي هو ابن بار لهذا المشروع ومسكون تماماً بمخياله، وهو ما أكدته محصلة دورته الرئاسية الأولى.

لم يفّوت ماكرون منذ بداية حكمه أي فرصة لتنفيذ إصلاحات وقوانين يمينية، وبسرعة مبالغ فيها. فقد بدأ رئيس الأغنياء، كما وصفه محتجو الستر الصفراء، إصلاحاته الاقتصادية برفع عدد من الضرائب التي تلمس حياة قطاعات واسعة من الناس بدافع حرصه على توازن مالية الدولة، بل لم يمنعه هذا الحرص عن ملاحقة الأكثر فقراً واقتطاع 5 يورو من مساعدات السكن التي يحصلون عليها، في الوقت الذي تخلّى فيه عن ذلك الحرص وتحمّل خسارة أربعة مليارات سنوياً عبر إسقاط ضريبة ISF، أو الضريبة على الثروة التي تخص فاحشي الثراء من الفرنسيين. ورغم أن الهدف المرجو من تخفيض ضريبة الأثرياء كان الحد هجرة رؤوس الأموال من فرنسا، وما ينتج عن ذلك من زيادة في استثمارهم في السوق، إلا أن المؤسسة الحكومية «فرانس ستراتيجي» المرتبطة برئاسة الوزراء، والمُشكَّلَة من الخبراء الأكثر قرباً من توجهات الماكرونية النيوليبرالية، أكَّدَت في تقييمها لهذه الضريبة أنها لم تساهم في الحدّ من هجرة رؤوس الأموال إلا بشكل طفيف، وأن تأثيرها على الاستثمار منعدمٌ كلياً، ليؤكد ماكرون بذلك أنه ليس رئيس الأغنياء، وإنما «رئيس الأغنياء جداً» كما وصفه سلفه فرانسوا هولاند، أو «الممثل الأبسط والأكثر وضوحاً للرأسمال» كما وصفه المفكر النقدي جاك رانسيير، ويؤكد أيضاً أن تقدّميته ليست إلا مضياً في «درب لا بديل له» إن استلهمنا مفردات عرّابة النيوليرالية ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر.

بعيداً عن محاولاته «إصلاح» نظام التضامن الاجتماعي المتعلق برواتب المتقاعدين أو بتعويضات العاطلين عن العمل، وكذلك عن رغبته في إخضاع آخر مؤسسات الدولة القوية كشركة إنتاج الكهرباء (EDF) وشركة السكك الحديدية (SNCF)، وهي المحاولات التي لا تندرج إلا في إطار المشروع النيوليبرالي، فإن مشروعه الذي يريد تحويل الدولة الفرنسية إلى دولة «ستارت آب»،درجَ في العقدية الماضية مصطلح ستارت آب، الذي لا تغطي ترجمته العربية كـ «مشروع ناشئ» كافة أبعاده الدلالية، فالظاهرة تعبّر عن تلك الشركات التي بدأت كمشاريع صغيرة بأفكار خلّاقة، وبخاصة في مجال تقانة المعلومات، لتتحول إلى ظواهر مهمة تسم مجتمعاتها، بل والعالم أحياناً، عبر «النقلات النوعية» التي حققتها في مجالها. والذي أثار شهية بعض الشرائح الشعبية التي لم تعد تجد في التعليم العالي وسيلةً للارتقاء الاجتماعي، لا يختلف في محتواه كثيراً عن باقي مشاريعه النيوليبرالية. فعالَمُ الستارت آب العزيز على قلب إيمانويل ماكرون، هو كذلك لأنه ليس إلا امتداداً  للعالم الطبقي الذي لم يعرف غيره، حيث يؤكد تقرير فرانس تيك، الحكومية، أنه عالم ذكوري بنسبة 90%، أبيض اللون، 83% منه هم ممّن حصلوا على شهادات عليا ويندر أن تجد فيه حضوراً  للملوّنيين والفقراء والنساء. هو عالَم من تحرروا من كافة القيود والبنى، يُحلّقون من مطار إلى مطار على عكس أبناء التضاريس،راجع مقالة سامر فرنجية:  أبناء المطارات وأبناء التضاريس، الحياة. هو عالم ماكرون الذي رفض أن تفرض عليه الحياة حتى والديه فاختار أن ينشأ في ظل جدته، والذي ثار على مجتمعه فارتبط بمعلمته التي تكبره بـ24 عاماً، الذي لا يرتبط بأرض طفولته بأي رباط حقيقي، أو أنه يحافظ على ألّا يُظهِر هكذا ارتباط على عكس أسلافه من الرؤساء الفرنسيين. بكلمات أخرى، هو عالَم من آمنوا بالإرادة الحرة حتى الثمالة، عالَمُ الأقوياء «الذين ينجحون» لا عالَم «الذين لا قيمة لهم»، كما قسّم ماكرون الناس في إحدى خطبه. هو عالم أصحاب تتبلور فيما بينهم علاقات طبقية غير منفصلة عن مشروع النيوليبرالية السياسية، هو عالَم يذكرنا بوكالة ماكينسي للاستشارات، التي افتضح أمر تهرّبها الضريبي خلال الحملة الانتخابية الحالية، والتي كان مسؤولها في فرنسا صديقاً شخصياً لماكرون، ساعده في انتخابه عبر تسخير موظفيه للعمل مجاناً في حملته لعام 2017.

بدورها، لم تكن العلاقات الخارجية للماكرونية إلا امتداداً آخر لحُبّ أشباهه من الأقوياء، بكل ما في التعبير من سينيكية، فلم يوفر ماكرون فرصة لخطب ودّ سيد البيت الأبيض دونالد ترامب أو سيد الكرملين بوتين دون أي محتوى نقدي رغم خطورة مشاريعهما. لم يخجل كذلك من دعم كل قوى الثورة المضادة في العالم العربي، فاعتبر منذ بداية حكمه أن بشار الأسد ليس عدواً للشعب الفرنسي، وكان أول من بادر إلى مصافحة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد أن تلطّخت يداه بدماء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بل وسرعان ما تلقَّفَ الديكتاتور المصري عبد الفتاح السياسي ليؤكد له أنه يود أن يكون عرّابه الجديد بعد أن نبذه الأميركيون، كما خطب ودَّ الإسرائيليين بإقرار قانون يجعل من معاداة الصهيونية قريناً لمعاداة السامية.

وبالعودة للاقتصاد، فحتى انخفاض البطالة بمقدار 2%، والذي تُسوِّقُهُ الماكرونية باعتباره أحد إنجازاتها الكبرى، لا يخلو من إشارات استفهام مشروعة عن وجود تلاعب إحصائي بالأرقام، أو عن ارتباطه بتدهور شروط العمل في ظل الماكرونية، حيث ازدادت نسبة الأعمال البائسة، كالعمل الحرّ في توصيل طلبات الطعام لصالح تطبيقات مثل ديليفرو وغيرها من الأعمال المشابهة، التي رغم احتساب أصحابها كفاعلين في الاقتصاد إلا إن متوسط دخلهم لا يتجاوز نصف الحد الأدنى للأجور.راجع تقرير (AFP): الانتخابات الرئاسية: معارك حول انخفاض أرقام البطالة. بل يجزم كثيرٌ من الاقتصاديين أن هذا الانتعاش الاقتصادي الذي تعرفه فرنسا، في هذه المرحلة، هو النتاج الطبيعي لعودة عجلة الاقتصاد إلى الدوران بعد سنتين من أزمة كوفيد وبعد السياسات الكينيزية، والتي تمثلت في اقتراض الدولة لأكثر من 600 مليار دولار لدفع رواتب العمال وحماية الشركات من الإفلاس وتحفيز بعض القطاعات الاقتصادية، والتي كان ماكرون مُرغَماً على اتباعها، وبحذر أكبر بكثير من أقرانه في ألمانيا والولايات المتحدة، باعتبارها الحل الوحيد الذي تشاركته الدول الكبرى بهدف منع من انهيار الاقتصاد عقب تطبيق الحجر الصحي. ورغم كل هذه السياسات الكينيزية، حافظت محصلة ماكرون الاقتصادية على نتائج سلبية على فقراء فرنسا الذين ازداد عددهم بأكثر من 400 ألف مواطن وانخفضت طاقتهم الشرائية، في الوقت الذي ارتفعت فيه الطاقة الشرائية لأغنياء فرنسا بل واستفاد فاحشو الثروة من زيادة هائلة في عوائد استثماراتهم السهمية، لتقفز من 14 إلى 24 مليار يورو وتُحقّقَ الشركات الأربعون الكبرى المعروفة بالـ (CAC 40) أرباحاً تاريخية تجاوزت 160 مليار يورو عام 2021 بحسب تقرير لصحيفة الإيكو الاقتصادية.

بين النيوليبرالية والأنتي ليبرالية

منذ اللحظات الأولى في مدته الرئاسية الأولى، أنعشَ ماكرون الهواجس والتوجسات التي راودت الفرنسيين حول غموض مشروع، فاختياره لهرم اللوفر لإلقاء خطاب النصر ومضمون ذاك الخطاب أمورٌ أظهرت أن هذا الرئيس الجديد، الذي رأى في حوار صحفي قبل انتخابه أن فرنسا بحاجة إلى رئيس جوبيتر (في دلالة على إله الأرض والسماء في الميثيولوجيا الرومانية)، لن يوفر أي سلطة من السلطات الهائلة التي تمنحها الرئاسة الفرنسية للمضي في مشروعه الغامض حتى خواتيمه. وجاءت الأشهر الأولى من الدورة الانتخابية لتخيّب الكثير من الآمال المعقودة على الرئيس الشاب ومشروعه التقدمي،خسر ماكرون في الأشهر الثلاثة الأولى من حكمه 22 نقطة من رصيد شعبيته، ليحصل على رضى 40% من الفرنسيين فقط، في الوقت الذي نال فيه هولاند على رضى 54% وساركوزي على 69% على أدائهم في أشهرهم الأولى. راجع صحيفة JDD فقد انكشف إيمانويل ماكرون عن روح سلطوية يمينية لا تخجل من تأكيد حضورها في كافة المناسبات الممكنة، وعن رغبة عارمة بالتفرد في شؤون الحكم. كما لم توفر حكوماته أي فرصة لتطبيق سياسات نيوليبرالية صرفة، لا هدف لها إلا زيادة ثروة فائقي الثراء، بل وملاحقة الأكثر فقراً لتكدير حياتهم.

لم يتوقف «معتزل القصر»Le solitaire du palais – Le livre du quinquennat Macron 2017-2022 –  Laurence Benhamou, Maison d’édition Robert Laffont.، وهو العنوان الذي منحته ملحقة وكالة AFP الصحفية بالقصر الرئاسي لكتابها الذي كرسته عن تجربتها في تغطية الرئيس الفرنسي، طوال مدته الرئاسية عن محاولة التفرد بالسلطة والتذكير بأنه صاحب القرار الأول والأخير، بل وإقصاء كل ندّ محتمل، حتى داخل صفوف حركته. فقد اصطدم منذ الأسابيع الأولى برئيس حركة موديم الوسطية فرانسوا بيرو، عرّابه السياسي، والذي كان بانضمامه وحركته إلى حركة الجمهورية إلى الأمام التي أسسها ماكرون السببَ الرئيسي لاتّقاد حملة الرئيس الشاب وصعوده في استبيانات الرأي. كما لم يتوقف عن احتكار التصريحات الحكومية الوازنة، ليحرم وزراءه ورئيس وزرائه، الذين يندر أن يتكلَّم عنهم باستخدام أسمائهم ويكتفي بذكر توصيفهم الوظيفي، من أي فرصة للظهور كسياسيين لا كموظفين. قام كذلك بتغيير رأس حكومته، إدوارد فيليب، بعد أن تجاوزه في رصيد شعبيته، وجاء بشخصية مغمورة من صفوف اليمين الفرنسي، تفتقد لأي كاريزما بل وتبدو كإحدى شخصيات مسلسلات هشام شربتجي الكوميدية. هذا وتبقى حكومات ماكرون أكثر حيوية واستقلالاً من الكتلة البرلمانية التي يقودها حزبه الرئاسي، فرغم الكثير من الانشقاقات والانسحابات التي عرفتها أغلبيته البرلمانية، إلا أنه حافظ على أغلبية قادرة على تمرير كل قوانينه وإصلاحاته دون أي مُساءَلة أو استقلالية، إلى درجة أن هذه الأغلبية رفضت بمجملها مشروع قانون لتمديد إجازة الحِداد على الأبناء دون أي اعتراض يُذكَر، وهو ما تحوَّلَ إلى قضية إعلامية أثارت الكثير من الاستهجان والسخط على امتثالية هذه الكتلة البرلمانية واشتغالها وفق منطق القطيع.

بدورها، لا تدلل علاقته بالصحافة ووسائل الإعلام على عمق احترامه للشفافية التي تفترضها الديمقراطيات الليبرالية الناضجة، أو على رغبة في ممارسةٍ تقدمية للسياسة كما أعلن في «ثورته» البرنامجية. فمنذ وصوله إلى الإليزيه أعلن عن رغبته في إقصاء صالة الصحفيين، لتأتي كخطوة رمزية معبّرة عن العلاقة التي يرغب بإقامتها مع الصحفيين. حاول أيضاً أن يفرض على كبرى الصحف ووسائل الإعلام الأسماء التي يريدها كملاحق صحفية للقصر الرئاسي، كما لا يتجاوز عدد اللقاءات الإعلامية التي أقامها خلال كامل دورته الرئاسية أصابع اليدين، في تناقض هائل مع أسلافه، وفي تعبيرٍ عن غياب أي رغبة بإطلاع محكوميه على رؤاه ومخططاته أو الدفاع عمّا تَحقَّقَ منها. وعندما حاولت الصحافة تعقُّبَ آثار ألكسندر بنالا لاستكشاف كل أبعاد هذه القضية،للاطلاع على بعض تفاصيل قضية بنالا، راجع الفيديو الذي قدّمته اللوموند: قضية بنالا ملخصة في خمس دقائق. الجدير بالذكر أن هذا المُرافق الشخصي المقرب من ماكرون قد استغل «نفوذه» لامتلاك أسلحة وجوازات دبلوماسية، كما رافقَ الشرطة دون أن يكون له الأذن بذلك، ليقوم بضرب بعض المتظاهرين. والأخطر من كل ذلك هو تلك الصِلات والعقود التي كشفتها ميديا بارت، والتي تجمعه مع شبكات روسية مقربة من الكرملين. لم يكتف ماكرون بالدفاع عن مرافقه الشخصي الذي اعتدى على متظاهرين بالضرب وارتكب غيرها من الجرائم، بل وهاجمَ الصحافة «التي لم تعد مشغولة بالبحث عن الحقيقة». كذلك رفضَ ماكرون، خلال الجولة الأولى من الحملة الانتخابية الحالية، كل العروض التي قدمتها وسائل الإعلام لتنظيم مناظرات تجمعه بباقي مرشحي الرئاسة، وكان رفضه لدعوة البرنامج الذي تقدمه القناة الحكومية الثانية، والذي استضاف كل المرشحين الآخرين، كلٌّ على حدة، وواجههم بأسئلة نخبة صحفيي التلفزيون الحكومي، بمثابة رفض غير مفهوم لهذا التقليد الديمقراطي الذي يقتضي منه الدفاع عن حصيلة دورته الرئاسية أمام محكوميه. ولا بد في هذا السياق من التذكير بقانون «الأمن العام» الذي أقرّته الماكرونية في البرلمان، والذي يهدف إلى حماية عنف الشرطة ومنع نشر أي فيديو يصورهم أثناء أداء واجبهم، وكأنَّ المطلوب هو منع الصحافة من نشر ما يشبه ذلك الفيديو الذي صوّرَ اعتداءاً وحشياً لعدد من عناصر الشرطة على شاب أسود دون أي مبرر، والذي انتشر بشكل فيروسي في العالم بأسره.يمكن الإطلاع على الفيديو على الموقع الصحفي لوبسايدر الذي قام بنشره، ولكن يجب التنويه إلى احتوائه على لحظات قاسية!

لم يقتصر عداء إيمانويل ماكرون على الصحافة، فقد خاض العديد من المعارك لإخضاع الدبلوماسية الفرنسية والمؤسسة العسكرية والكثير من مؤسسات الدولة والبنى الوسيطة، وحاول تلافي خوض أي حوار جاد مع النقابات العمالية، وتفخيخ الأحزاب السياسية التقليدية ليبدو متأثراً بالموجة «الشعبوية» اليمينية التي ترافقت مع وصوله، الراغبة بتحطيم كل وسيط يفصل بين القائد وشعبه. فقد دشَّنَ مدته الرئاسية الأولى بصراع مع أحد قادة أركان الجيش ودفعه للاستقالة من منصبه، ولم يتوانَ عن استخدام مصطلحٍ شعبوي كـ«الدولة العميقة» لتوبيخ السلك الدبلوماسي الفرنسي بسبب قلة امتثاله لقرارات الرئاسة. لجأ كذلك إلى «الحوار الوطني»، غير المرتكز على أي تراتبية سياسية أو تمثيلية، ليلتفَّ على احتجاجات الستر الصفراء التي اندلعت بعد تمادي حكومته في يمينية سياساتها. خلال إدارته لأزمة الكوفيد، أعلن «حالة حرب» مع الفيروس ولجأ إلى كتلته البرلمانية لفرض حالة طوارىء صحّية، تمنحه القدرة الكاملة على الاستئثار بالقرار دون الحاجة للخضوع لأسئلة البرلمان واعتراضاته. بل ولم يتورع عن مخالفة وصايا اللجنة العلمية التي شكّلها للحصول على الإنارة العلمية اللازمة، دون تقديم أي مبررات صلبة لقراراته الحازمة والمتقلبة. 

ولكن تبقى الأحزاب السياسية التقليدية، التي طالما تناوبت على حكم الجمهورية الفرنسية الخامسة، المؤسسات الوسيطة الكبرى التي شكَّلت أزماتُها إحدى أسباب انتخاب ماكرون، والتي عمل فيما بعد على القضاء على ما بقي فيها من حيوية ليضمن استمرارية حكمه وتفرده في صناعة القرار. من جهة، كانت حملته الانتخابية لدورة 2017 إحدى الأسباب التي ساهمت في انهيار الحزب الاشتراكي الفرنسي، فالذي لم يتمتع بالولاء لعرّابه السياسي فرانسوا هولاند، ارتكزَ في حملته على الكثير من شخصيات هذا الحزب التي وجدت فيه الفرصة الوحيدة التي يمكن انتهازها كي تبقى في مواقعها في السلطة التي اعتادت طعمها. ومن جهة أخرى، استفاد هذا «الرئيس الحرباء»، كما وصفته اللوموند في سلسلة من المقالات التي تغطي فترة ممارسته للسلطة، من الأزمة التي عرفها حزب اليمين الجمهوري بعد فشله في بلوغ الدور الثاني من الانتخابات، فأغرى كثيراً من شخصيات اليمين الجمهوري الصلب، بعد أن اقتصر اعتماده في حملته على اليمين الوسطي، ولم يتوقف خلال دورته الرئاسية عن التودُّد لنيكولا ساركوزي بهدف الاستعانة بكثيرين من محيطه، وذلك رغم تكاثُر فضائح هذا الأخير والإدانات القضائية بحقّه، وهو ما انتهى بحملة مرشحة اليمين الجمهوري في الانتخابات الحالية إلى نهاية أكثر بؤساً من نهاية الاشتراكي بونوا آمون في الانتخابات السابقة، فحصدت أقل من 5% من الأصوات، وهي العتبة التي توجَّبَ عليها تخطيها كي تُوفر على حزبها تكاليف حملتها الانتخابية وتستردّها من صندوق الدولة.

قدَّمَت الماكرونية أيضاً «محصلة كارثية» في شؤون البيئة على حد تعبير منظمة السلام الأخضر البيئية المرموقة، وأُدينت لمرتين من قبل العدالة الفرنسية على «غياب الفعل البيئي»، وهو ما ظهر منذ بداية الدورة الرئاسية الأولى ودفعَ الوزير البيئي والنجم التلفزيوني فرانسوا هولو لتقديم استقالته من أولى حكومات ماكرون، وهو الذي عبّر عن عجزه على العمل في ظل النفوذ الهائل الذي تتمتع به مجموعات الضغط أو ما يسمى لوبيات الشركات الكبرى، وهي الفضائح التي لم تمنع إيمانويل ماكرون من تعيين المسؤولة السابقة في مجموعة الضغط الخاصة بشركة دانون على رأس وزارة الانتقال البيئي. كما لم يحظَ الرئيس الفرنسي، الذي قام بتعيين متهمين بالتحرش على رأس وزارات حكومته كوزارة الداخلية التي يُفترض بها حماية المرأة، بدعم أي منظمة نسوية فرنسية، بل إن كثيراً من الفرنسيين يجدون أن مرشحة اليمين المتطرف أكثر نسوية منه بحسب تقرير لتلفزيون (BFM).

بين الكوليرا والطاعون

ما يثير الاستغراب إذن هو أن هذا الرئيس المغرور والمتفرّد بالسلطة، ذا الأجندة النيوليبرالية القاسية، والذي أصبح أكثر رؤساء الجمهورية إثارة لسخط كثير من الفرنسيين وكراهيتهم، هو نفسه الرئيس الذي حصل على أعلى قدر من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية وتمكَّنَ من تجديد دورته الرئاسية. فكيف حصل ذلك؟

يمكن تفسير ذلك بخروج فرنسا من أزمة كورونا، رغم إدارته المضطربة وغير الديمقراطية، بمقدار معقول من الأضرار، بالإضافة إلى الانتعاش الاقتصادي الذي رافق نهايتها. يمكننا كذلك الحديث عن بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي غيَّرَ كثيراً من معطيات المشهد الانتخابي الفرنسي، وعزَّزَ صورة ماكرون كزعيم محارب يترأس فرنسا والاتحاد الأوروبي،  ويفرض حضورهما كمحور أساسي ووسيط مركزي قادر على الضغط على بوتين وتوجيه دفة التاريخ نحو أوروبا مستقلة وقوية. قد تسمح هذه الأسباب بفهم ما دفع أكثرية كبار السنّ، والذين يشكلون ربع المجتمع ولا يتغيبون إلا فيما ندر عن الاستحقاقات الانتخابية، لإئتمانه على أصواتهم، كما تسمح سياساته النيوليبرالية بفهم أغنياء فرنسا الذين شكَّلوا مع كبار السنّ النواة الرئيسية لقاعدته الانتخابية في الدور الأول من الانتخابات الحالية، ولكنه لن يسمح لنا بتشكيل صورة متكاملة للماكرونية والاستراتيجية الخطرة وغير المسؤولة التي اتَّبعتها للفوز برئاسة فرنسا لمدة ثانية.

فالفراغ السياسي الذي خلقه انهيار الحزب الاشتراكي، والذي عملت الماكرونية على توسيعه وشحنه عبر خلخلة صفوف اليمين الجمهوري، تحوَّلَ إلى الحالة المثلى التي تريد الماكرونية المحافظة عليها ورسم أبعادها. فمنذ تراجع حركة السترات الصفراء، والتي كانت الصدمة الأولى والكبرى لماكرون في دورته الرئاسية، بدا أن الماكرونيّة بعد أن أحست بخطر الحراك الاجتماعي على مشروعها استلهمت العدة الساركوزية للحكم، فعملت على الالتفاف على السؤال الاجتماعي وتفخيخ النقاش الوطني. فما أن ركد حراك السترات الصفراء، حتى أراد ماكرون إقامة حوار وطني حول موضوع الهجرة، وهي فكرة غريبة عن مشروعه الانتخابي وقليلة الصلة بالمشهد السياسي الذي أعادته الستر الصفراء إلى سؤال توزيع الثروة وتمكين خدمات الدولة. كما قضى وزراء حكومته ما تبقى من المدة الرئاسية في اللعب على وتر تدعيم العلمانية في المجتمع، بهدف تحويلها إلى شكل من أشكال دين مجتمعي يجب أن يدين به كل الفرنسيون وإلا ستلاحقهم شبهة الإرهاب. فتكاثرت الأجندات الحكومية المتعلقة بأسئلة الهوية والأسلمة والعلمانية، وتعاظم الاستثمار في حادثة قطع رأس المدرّس الفرنسي صامويل باتي إلى درجة أثارت في الصحافة الأنجلوساكسونية تساؤلات عن إسلاموفوبيا حكوميّة في فرنسا. كما وصل إسفافُ النقاش وسقفُ هذه المضاربة العلمانوية إلى مستوى غير مسبوق، حيث دعا وزير الداخلية زعيمةَ اليمين المتطرف مارين لوبين لـ«تناول الفيتامينات» بعد تلك «الطراوة» التي لمسها في خطابها ضد الأسلمة، وهو المناخ الذي أدى إلى تزايد هجرة المسلمين الفرنسيين بحسب تقرير لنيويورك تايمز.

وقد نجحت هذه الاستراتيجية القذرة، والتي كانت على النقيض الكامل لما وعد به ماكرون يوم انتخابه عام 2017: «فعل كل شيء للقضاء على كل مبرر يدفع الفرنسيين للتصويت لليمين المتطرف»، في ترويض المشهد الانتخابي إلى حد كبير، فهذه النقاشات، التي لا يرغب اليسار في خوضها، وسَّعَت حالة الفراغ السياسي وشحنتها ليبدو وكأن الفرنسيين محكومون بالاستسلام للكوليرا الماكرونية كي يتجنبوا طاعون اليمين المتطرف.

خاتمة

تعرف فرنسا، كما كثيرٌ من الدول الديمقراطية المتقدمة، أزمة عميقة في ديمقراطيتها التمثيلية، فمنذ قيام نيكولا ساركوزي بتمرير معاهدة لشبونة لإقرار محتوى الدستور الأوروبي النيوليبرالي الذي رفضه الفرنسيون في استفتاء عام، ومنذ تكاثُر علامات فساد الطبقات السياسية وانفصالها عن واقع مجتمعاتها، والذي كانت فضائح قائد اليسار الفرنسي دومينيك ستروس خان،انفجرت في العام 2011 سلسلة من الفضائح الجنسية، بعد أن حاول السياسي الفرنسي ورئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستروسخان اغتصاب الموظفة المسؤولة عن نظافة غرفته في أحد الفنادق نيويورك. وقد تتالت الفضائح الجنسية ودعوى الاغتصاب بحقّ هذا المسؤول السياسي، لكنها لم تتمكّن من تلويث ملّفه الجنائي، وإن اضطرته للانسحاب من الحياة السياسية والاكتفاء بالمناصب الاستشارية الحساسة في العديد من الدول الأفريقية النامية. المرشحُ الأكثر حظاً للرئاسة في دورة 2012 ورئيسُ صندوق النقد الدولي، واحدةً من أكبر مجازاته، بدا أن فرنسا دخلت وبقوة في مرحلة «ما بعد الديمقراطية». فالمُنظّر البريطاني كولين كروش، الذي نحت هذا المفهوم في بدايات القرن الحالي، يرى أن سيادة الشعب في الديمقراطيات الغربية قد تآكلت وانحسرت عمّا عرفته هذه الديمقراطيات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فاعتمد المجتمع السياسي في اتخاذ القرارات على الصِلات التي يعقدها مع كبرى الشركات العالمية لا مع قواعده الانتخابية التي تحوَّلت إلى مجرد مستهلكين. كما تحولت الأطر النيوليبرالية، كالاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، بإملاءاتها المتكاثرة إلى لجامٍ للديمقراطية بوصفها حكم الشعب وسيادته. النيوليبرالية بشكلها الحالي، والتي يبدو أن إيمانويل ماكرون هو حامل شعلتها الأساسي في هذه المرحلة وإحدى أكثر تعبيراتها جذرية، هي واحدة من الأخطار الكبرى على الديمقراطية، كما يؤكد ديفيد هارفي في كتابه: الليبرالية الجديدة.. موجز تاريخي، ولا يمكن أن تَعِدَ الفرنسيين في السنوات الخمس القادمة إلا بمزيد من الأزمات والانفجارات الاجتماعية.

ولكن يبقى أن أكثر ما يثير الحزن في الحالة الفرنسية، التي تؤكد تعقيدات مشهدها الانتخابي على عمق أزمة نموذجها الديمقراطي، هو أن النيوليبرالية لم تصل فيها إلى قمّة نفوذها إلّا في اللحظة التي تحاول فيها الأمم التي بدأت هذا النهج، كالولايات المتحدة وتشيلي، طيَّ هذه الصفحة بعد أن تداعت أغلب أساطيرها.