ينطلق عددٌ من الشبان السوريين العاملين في الحدادة والإعلان إلى ورشٍ متنقلة، حاملين ما يلزمهم في تثبيت لوحاتٍ إعلانية تحمل صور مرشحين وأسماءهم وشعاراتهم الانتخابية، وذلك قبل شهرٍ من بداية الانتخابات النيابية اللبنانية المقرر إجراؤها في الخامس عشر من شهر أيار (مايو) المقبل.
في جوٍّ تسوده الطرافة ويُنسي مشقة يوم عملٍ طويل، خلقت صور المرشحين، لا سيما المعروفين منهم، نقاشاً بين العمال. وقد كانت نظرة هؤلاء المرشحين وكتلهم النيابية وتعاملهم مع ما يسمى عادةً «ملف النزوح السوري» أو «معضلة النزوح» محور الحديث. راح معظم العمال يسردون مواقف سمعوها من هذا المرشح أو ذاك. تحدّثوا عن فشلهم في إقرار قوانين تخدم شعبهم بالحد الأدنى من الخدمات، وعن تغريداتهم التي ملّها اللبنانيّون، وعن مواقف محرجة تعرض لها النواب من تجمعات الحراك المدني، إذ لاحقوهم حيث ذهبوا، في المجلس النيابي وفي المطاعم ووصولاً إلى بيوتهم.
يدور النقاش ثانيةً بجدّية: أحد العمال تحدّث عن مطالباتٍ حثيثة وقوانين تقدمت بها كتل نيابية لإنهاء «ملف النزوح» عبر تأمين عودة سريعة للسوريين، وتنظيم عمالتهم والحد منها، بالإضافة إلى اتهامات لقوى أخرى بالتواطؤ لتوطينهم وإحداث تغيير ديموغرافي في البلاد. المقصود هنا هو حديث وزير الشؤون الاجتماعية السابق رمزي مشرفية في تموز (يوليو) 2021 عن تواجد 1.5 مليون سوري في لبنان، وفقاً لإحصاءٍ غير مكتمل أجرته وزارة المهجرين اللبنانية، شمل 88 بالمئة من البلديات في لبنان، في حين تقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إنها تسجل لديها أقل من 900 ألف لاجئ سوري في آخر إحصاءٍ أجرته نهاية العام 2021.
نظرة عامة
أدى دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، بعد عامٍ على اندلاع الحرب الأهلية، وسيطرة النظام السوري شيئاً فشيئاً على مفاصل الحياة السياسية في لبنان، وخاصةً بعد انتهاء الحرب عام 1990، إلى تزايد الحديث عن سورية في الانتخابات النيابية التي سبقت خروج الجيش السوري عام 2005، بعد أن كانت مقتصرة على أمور روتينية مثل ترسيم الحدود البرية وضبط عمليات التهريب وتفعيل اتفاقيات وصيغ تعاون مشترك.
انقسمت القوى السياسية بين مؤيدة لتواجد الجيش السوري وأخرى معارضة بطرق سرية وعلنية، إلى أن قامت «ثورة الأرز» في 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وراح خطاب القوى السياسية في لبنان تجاه الشأن السوري يختلف بحسب قربها أو بعدها من النظام إلى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، تحدث التيار الوطني الحر في برنامجه الانتخابي لعام 2005 عما أسماه «الاحتلال السوري»، إذ قال: «إن استقلالية القضاء واحدة من أبرز ركائز الدولة الديموقراطية، وقد تم اغتصاب هذه الاستقلالية بفعل الاحتلال السوري».
وفي العام 2011 حدث تغّير مهم، إذ قامت الثورة السورية وبدأ مئات آلاف السوريين بالتدفق إلى لبنان، وجاء ذكر اللجوء السوري في ميادين الانتخابات النيابية اللبنانية تحت مسمّى «ملف النزوح»، وأصبح اللاجئون ورقة سياسية يتقاذفها المرشحون بهدف الحصول على مقعد في مجلس النواب، كما بدأت الكتل النيابية تتسابق لإيجاد حلول على الورق لتنظيمهم وإعادتهم، وذلك من باب «الحفاظ على أمن الشعب واقتصاد البلد»، وكذلك إلى «ضبطهم في سوق العمل من باب الحفاظ على اليد العاملة اللبنانية».
ساهم الحديث عن اقتراحات أميركية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وطول مدة إقامتهم إلى خلق مخاوف من توطين السوريين في حال طال بقاؤهم، ولذا عكفت جهات سياسية لبنانية عديدة على استعمال صفة نازح بدلاً من لاجئ، أو displaced بدلاً من refugee في المراسلات الدوليّة، مع التأكيد دائماً أن «لبنان ليس بلد لجوء». يستغل النواب والمرشّحون الجدد تداعيات ذلك بوعود وشد أعصاب ومبادرات واقتراحات وخطط لا تنتهي.
وقد كانت انتخابات العام 2018 هي الأولى بعد اللجوء السوري، دعا فيها مرشحون كثر إلى تنظيم العمالة السورية، والتنظيم يعني هنا منعهم من مزاولة أي مهنة خارج مجالات الزراعة والبناء والنظافة. استدعى ذلك انطلاق حملات على الأرض من عدة جهات، قادها التيار الوطني الحر تحت شعار «بتحب لبنان وظّف لبناني». بعدها بشهر أقرت وزارة العمل اللبنانية خطة مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية، وفق شعار «ما بحرّك شغلك غير ابن بلدك».
مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في 15 أيار (مايو) المقبل، تحاول الجمهورية.نت في السطور التالية أن تقف عند البرامج الانتخابية التي أطلقتها مختلف القوى السياسية في لبنان، لا سيما التقليدية والتي تملك كتل نيابية كبيرة، وكيف قاربت «ملف النزوح السوري» وفق نظرها. وفي الضفة الأخرى، سنقف عند نظرة اللاجئين للانتخابات، وهواجسهم وخوفهم وقلقهم، خاصةً حين يتكرر ذكرهم مع كل موسم انتخابي، ويأخذ مساحةً بارزةً في البرامج والبيانات والمواقف الارتجالية للمرشحين.
عودتكم حق وليست عنصريّة!
اعتبر النائب جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر ورئيس تكتل لبنان القوي (أكبر كتلة في البرلمان الحالي، ويضم التيار الوطني الحر وحزب الطاشناق وحركة الاستقلال والحزب الديموقراطي اللبناني بـ29 نائب من أصل 128)، خلال إطلاق ماكينة التيار الانتخابية وتسمية مرشّحيه في آذار (مارس) الفائت أن انتخابات 2022 مناسَبةٌ لإقرار القوانين التي «تشجع النازحين السوريين على العودة إلى بلدهم». وتحدث باسيل في تسجيل مصور بداية هذا العام كيف أن «بقاءهم في لبنان مؤامرة». كما طالب حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تنفيذ ورقة سياسة النزوح السوري في لبنان المقررة عام 2014، دون «الرضوخ» لمطالب المجتمع الدولي الذي يرفض إعادة اللاجئين، إذ «لا يمكن تخفيف العبء الاقتصادي عن البلاد دون إعادتهم، خاصةً أنهم يتقاضون أموال مساعدات من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تبلغ أضعاف ما يتقاضاه اللبناني من معاشات» بحسب باسيل.
«لا توجد طريقة واضحة لنيل المساعدات»، يقول أبو يوسف، أحد عمال شركة الإعلانات. هو مثلاً يتلقّى مع عائلته مساعدةً مالية شهرية تبلغ مليون ليرة لبنانية، ويخبرنا أنها اليوم تعادل أقل من 40 دولار حسب سعر الصرف في السوق السوداء، علماً أنها تنقص كلما انخفض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار. ويضيف بأن عائلاتٍ أخرى تحصل على 500 ألف ليرة (19 دولار) للفرد الواحد شهرياً، كما حُرمت عائلاتٌ آخرى من أي نوع للمساعدات «نظراً لمحدودية الموارد» كما أخبرتهم المفوضيّة، وبأن عائلاتٍ أخرى ما زالت لا تملك أصلاً بطاقة المساعدات.
ويروي أبو يوسف أنه فقد وظيفته السابقة في شركة تطوير زراعي، مع أنه خريج كلية هندسة زراعية ولديه خبرة 11 سنة: «تسببت خطة الوزارة في خسارة كثيرين لوظائفهم، وبافتراض أنك قمت بإصدار إجازة عمل كما طلبوا، فلن يمنحوك إياها». يعمل أبو يوسف في أيام متقطعة في الشركة، وفي أحسن الأحوال لا يجني أكثر من 100 دولار شهريّاً، وبإمكانهم الاستغناء عنه في أي لحظة، إذ لا يملك كفالة عمل، وإن وافقت الشركة على إصدار كفالة له، وهذا غير وارد اليوم، عليه مغادرة لبنان، ثم العودة وفق قانون الأمن العام.
تحدّث جبران باسيل خلال التسجيل المصور عن اقتراح قانون لتنظيم وجود السوريين في لبنان وعمالتهم، قدّمه تكتل لبنان القوي في كانون الثاني من 2022، أي قبل أشهر من الانتخابات النيابية. ومما كان لافتاً فيه أنه تضمّن أفكاراً تدغدغ مشاعر جمهور التيار الذي لا يريد أن يخسره. قدم باسيل أسباباً اعتبرها موجبة لصدور مثل هكذا قانون، إذ قال: «ازدياد أعداد النازحين يشكل خطراً على الواقع الديموغرافي، ووجودهم له انعكاسات كارثية على الواقع والاقتصادي والمالي والاجتماعي والبيئي، فهم يشكلون ضغطاً على البيئة والبنية التحتية والموارد وفرص العمل والخدمات، لا سيما في الصحة والتعليم والكهرباء والمياه، ومؤخراً استفادوا من السلع التي كانت تدعمها الدولة اللبنانية، قبل أن يرفع الدعم».
بيّنت بنود القانون أنه سيمنع دخول أي سوري إلى لبنان كان مسجلاً بصفة «نازح» وغادر الأراضي اللبنانية براً أو بحراً أو جوّاً، وسيغرّم كل «نازح» سوري أقدم على العمل بحسب تعريف قانون العمل اللبناني أو استأجر مبنى أو مؤسسة أو مركز بهدف العمل أو تشغيله، بمبلغ خمسة ملايين ليرة لبنانية، ومضاعفة الغرامة عشر مرات في حال تكررت، أو حبسه مدة أربعة أشهر ثم ترحيله إن تلكّأ عن الدفع أو كرر المخالفة، إضافة إلى تغريم كل لبناني بمبلغ عشرة ملايين ليرة لبنانية، أو حبسه مدة ستة أشهر، إن أقدم على توظيف أو تشغيل عامل سوري مسجل بصفة «نازح».
مخاوف مشروعة
تصف ريما المجني، وهي لاجئة وناشطة سورية تعمل في جمعية خيرية، هذا القانون بالخطير، إذ تعتبر أن «كلمة ترحيل ستضع الشبّان إما في المعتقلات أو في الخدمة الإلزامية، وهي أصلاً تتعارض مع مفهوم العودة الطوعيّة التي تتم بالتنسيق بين النظام السوري والأمن اللبناني، بعد أن يطلب اللاجئ من الاخير إعادته إلى بلده، والعودة الآمنة التي تتحقق بضمانات دولية يفترض ألا تعرض حياة العائدين للخطر».
وتضيف المجني: «تطبيق هذا القانون يعني عدم التزام لبنان بالعرف الدولي القاضي بعدم ترحيل من يتعرّض للتعذيب أو الخطر في بلاده، وهذا سيعود بنا إلى عامي 2011 و2012، حين استنكرت الولايات المتحدة ودول أوروبية ومنظمات حقوقية ترحيل سوريين، ما دفع السلطات اللبنانية للاكتفاء بتبليغ اللاجئ بقرار ترحيله في حال ارتكب جرم شائن أو دخل لبنان خلسة، ولكن من دون تنفيذ الترحيل».
يحمل ذلك القانون نتائج كارثية، تحدّث عنها سوريون قابلناهم، في حين كان هاجس الخوف واضحاً لديهم. تحدّث أبو نور، وهو اسم مستعار لشرطي منشق عن النظام السوري، عن تضييق الخناق عليهم بهدف إجبارهم على الرحيل: «لماذا يتحدّثون عن العودة طالما تنتشر مراكز العودة الطوعية في كل لبنان. يذكّرونك بأن سورية باتت آمنة للعيش، ويتناسون أنك لا ترجع خوفاً من بطش النظام وعمليات الاعتقال التي ينفذها، وهم يعرفون أن هناك كثر يفضّلون الانتحار على العودة».
يعتبر اللاجئ السوري محمد مسلم أن «مشكلة القانون السابق في أنه يهدف إلى تمييز السوريين بين لاجئ وعامل»، برأيه أن هذا ينفع في بلد دخلَه السوريون حديثاً، لا لبنان الذي يحوي آلاف العمال السوريين منذ عشرات السنين، والذين جلبوا، بدورهم، عائلاتهم كي يستقروا حيث يعملون منذ سنين طويلة. ويسأل مسلم: «ما هو تفسير وجود عائلات كثيرة من مناطق شمال وشمال شرق سوريا هنا في لبنان؟ أليس الأولى، منطقيّاً، أن يلجأوا إلى تركيا؟ أولادهم هم من أحضروهم لأنهم يعملون في لبنان منذ ما قبل العام 2011، وقد أصبحوا اليوم جميعاً لاجئين».
يقول محمد إنه يعمل في لبنان منذ عام 1991، وأمضى أياماً هنا أكثر من سورية، ولذلك يرفض حرمانه من العمل: «خاصةً أن العمل حق لكل إنسان، إضافةً إلى أن مساعدات المفوّضية، في أحسن حالاتها، لا تكفي لإيجار المنزل، كما أن اليوميات أو الرواتب التي يتقاضاها السوريون لم تعد تلبي الاحتياجات الأساسية بعد تدهور الليرة اللبنانية وتفاقم الغلاء». وهو ما أكدته بالفعل المفوضية التي قالت في دراسة أعدتها أن نسبة الفقر بين اللاجئين السوريين قد ارتفعت من 55 بالمئة عام 2019 إلى 89 بالمئة عام 2020.
يرى وليد حسين، وهو صحفي لبناني متابع للشأن الانتخابي، أن اقتراح التكتّل «هو بالدرجة الأولى دعاية انتخابية يهدف من ورائها إلى شد عصب الجمهور المسيحي وكسب أصواته عبر إقناعه أنه سيوفر خدمات وفرص عمل عظيمة في حال أزاح السوريين من العمل أو أعادهم إلى بلادهم، كما أن التيار يستخدم ملف النزوح كسلاح في مواجهة قوى أخرى، أهمها حزب القوات، واتهامه بمؤامرة إبقائهم والاستفادة المادية منهم».
وعلى الرغم من حضور الملف السوري في البرامج الانتخابية هذا العام، إلا أن وليد حسين يرى أن زخم التصريحات الإعلامية والبيانات الخاصة بالمرشحين، سواء الإيجابية أو السلبية، أقل من انتخابات 2018: «إذ طغت أزمات أخرى على ملف السوريين، مثل الأزمة المالية وانهيار سعر الصرف ورفع الدعم وحجز أموال المودعين وتدهور قطاع الكهرباء، وبالتالي وجدت الأحزاب نفسها في موضع الدفاع عن النفس أمام قوى المجتمع المدني وما أفرزته ثورة 17 تشرين، خاصة باتهامها بترسيخ الفساد ونهب المال العام».
في انتخابات 2018، دعا التيار الوطني الحر في برنامجه الانتخابي إلى عودة آمنة وسريعة للنازحين، وضبط وجود وإقامة العمال السوريين، وتسجيل ومتابعة ولاداتهم، وتعليم أبنائهم المنهج السوري «كي يبقوا مرتبطين ببلدهم ولا يعاد توطينهم في لبنان». ولكن اقتراح التيار لم يلق آذاناً صاغية، وتابع التلاميذ تعلم المنهج اللبناني. وبمقارنةٍ بسيطة مع انتخابات 2022، نجد أن التيار الوطني الحر قد أولى اهتماماً أكبر بـ«ملف النازحين»، وأسهب في شرح تداعياته ومخاطره حسب رؤية التيار، علّها تكون ورقة رابحة لكسب الأصوات بعد فشل أغلب القوى السياسية في إدارة ملفات شائكة مثل الكهرباء والتلوّث والنفايات.
نريد عودتهم، ولكن كيف؟
تلاقت وجهة النظر الخاصة بتكتل لبنان القوي مع غريمهم السياسي حزب الكتائب المعادي للنظام السوري والمناهض للعمالة السورية في لبنان حتى قبل العام 2011. قبل ذلك، تجدر الإشارة أن الكتائب تعرضت لانتقادات شديدة ولاتهامها بالتحريض من خلال الخطاب العنصري في انتخابات 2018، بعد تعليق لافتات قبل الانتخابات بتسعة أيام تحمل عبارات مسيئة للسوريين، يبدو أنها أرادت من خلالها الحصول على أصوات الناخبين الرافضين لوجود اللاجئين السوريين من جماهير الأحزاب الأخرى.
ومع اقتراب انتخابات العام 2022، طالبت الكتائب في برنامجها الانتخابي بإجراء مسح كامل للسوريين في لبنان، والتواصل مع الأطراف الدولية المعنية لتخفيف العبء على لبنان، ودعت الدول العربية لاستقبال أعدادٍ منهم لحين عودتهم إلى بلادهم. إلى جانب ذلك، كرر حزب الكتائب مطالبته بإنهاء ملف اللبنانيين في السجون السورية، ومراجعة الاتفاقيات مع سورية وتعديلها، وإلغاء المجلس الأعلى السوري اللبناني، وإلغاء اتفاقية الأمن والدفاع بين البلدين.
كما وضُعت هذه البنود في برنامج حزب القوات لعام 2018، مع غياب ما يتعلق بـ«النازحين» وإعادتهم، وهو ما ساق الاتهامات للقوات بالتواطؤ لإبقائهم، علماً أن رئيس الحزب سمير جعجع تحدّث، وقتها، عن حلول أخرى لعودتهم دون التعاطي مع النظام السوري وشرعنته من البوابة اللبنانية، وذلك «عبر إرسالهم إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، وتزويدهم بالمساعدات هناك»، مبرّراً أنه «لا يريد أن يضعهم في فم الأسد». أما في البرنامج الانتخابي لعام 2022، ذكر برنامج القوات عبارة «رفض التوطين وعودة النازحين السوريين الفوريّة إلى سورية».
وفي وقت لاحق، أيّد سمير جعجع المبادرة الروسية لعودة السوريين من لبنان في منتصف 2018، والتي قدّمت «ضمانات روسية وسورية بعدم التعرّض للعائدين وعدم اتخاذ تدابير قاسية بحق المقاتلين منهم، إضافة إلى بذل الجهود لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار».
وفي مارس 2019، تقدّم وزير الشؤون الاجتماعية السابق ريشار قيوميجيان باسم وزراء القوات مبادرةً لعودة «النازحين» السوريين. ما كان لافتاً في هذه المبادرة هو تخلي القوات عن شرط إعادتهم إلى مناطق المعارضة، في حين طالب النظام السوري بإلغاء الخدمة الإلزامية وغرامات التخلّف عنها، وضمان عدم التعقب والملاحقات والاستدعاء إلى التحقيق والاعتقالات التعسّفية بحق العائدين، وبذلك ربما يرى أنصار القوات أن تلك المبادرة وسيلة لإقناع من يهاجمهم أنهم يؤيدون إعادة السوريين لا بقاءهم.
يعرقل بقاء النظام الحالي في سورية عودة السوريين وفق لاجئين سوريين عديدين تحدّثنا إليهم، في وقت لا يمانعون ترحيلهم إلى إحدى الدول العربية أو الأوروبية، بل يتمنّون ذلك. يخبرنا اللاجئ أحمد العثمان أن وضعهم كلاجئين يزداد هشاشةً مع مرور الوقت، ويواجهون تحدّيات قاسية يومياً، خاصةً أن نسبةً كبيرةً منهم لا تملك إقاماتٍ نظامية، مما يقيّد حرية تنقّلهم أو يعرضهم لخطر الاعتقال والاستغلال، كما يعملون في سوق العمل غير الرسمي بأجور متدنية جداً. إضافةً لذلك، لا يتلقّى أبناؤهم تعليماً جيّداً، وهم يعانون مثل اللبنانيين من نقص الخدمات مثل انقطاع الكهرباء والمياه وسوء شبكات الصرف الصحي. بدوره، يروي اللاجئ عمر خير الدين أنه يبحث منذ مدّة عمن يحمله بحراً إلى قبرص أو تركيا، بعد أن انقطعت سبل العيش في لبنان بحسب برأيه.
تتعالى اليوم أصوات المرشحين وكتلهم بعبارة أن «النزوح» السوري يكلف لبنان سنويّاً 4 مليار دولار، إلّا أن أحمد العثمان يرفض تحميل السوريين أوزار ما سبّبه فشل السلطة الحاكمة. يقول: «أعمل في لبنان منذ عام 1998، ولم يتغيّر شيء يذكر منذ ذلك الوقت. لو هالكلام صحيح، شو رح يعملوا بالمليارات؟ حيجيبوا كهربا لشعبن؟ من يوم يومها ما في كهربا، ولا مي ولا خدمات، والإنترنت معدوم والشعب اليوم صار يعرف كل شي وما عاد يصدّقهن».
عالقون في لبنان
يختلف الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) مع حزب الكتائب في رؤيته للعلاقة مع النظام السوري، إذ دعا حزب الله في برنامجه الانتخابي إلى «العمل على معالجة قضية النازحين» بما يؤمن لهم العودة الكريمة إلى بلدهم. أما حركة أمل، فلم تتطرق في برنامجها الانتخابي للجوء السوري، واكتفت بدعم أي حل سياسي للمسألة السورية.
كما لم يتطرق البرنامج الانتخابي للحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط للملف السوري إلا بشكل عرضي، واكتفى بعبارة «إعادة النظر بموضوع اللاجئين»، إلا إن النائب بلال عبد الله قال لموقع النشرة في 11 نيسان (أبريل) الجاري إنّ «كلفة النزوح السوري هائلة جدّاً على جميع المستويات، ولا يوجد أحد في لبنان لا يريد عودتهم».
في أوساط تيار المردة الموالي للنظام السوري بقيادة سليمان فرنجية، بدأ النائب والمرشح الحالي اسطفان الدويهي خلال إطلاق الماكينة الانتخابية للحزب حديثه حول الوجود السوري، إذ قال: «إن المعركة اليوم هي معركة مواجهة إبقاء النازحين السوريين والتوطين وبيع الوطن وحدوده الجغرافية وثرواته البحرية».
وفي اليسار، برز الموضوع السوري في برنامج الحزب الشيوعي اللبناني، إذ طالب «بالعمل على بلورة معالجات لقضية اللاجئين السوريين، من ضمنها تأمين عودتهم السويّة إلى بلدهم، بالتعاون مع الأمم المتّحدة والحكومة السوريّة، وفي الوقت ذاته مكافحة مختلف أشكال الحملات والممارسات العنصرية ضدّهم». في حين طالب حزب الحوار الوطني، بزعامة النائب الحالي فؤاد مخزومي، في برنامجه «بضمان عودة اللاجئين السوريين، مع وضع جداول زمنية لهذه العودة». أما علي درويش، النائب الحالي والمرشّح عن المقعد العلوي في طرابلس، فقد طالب «بوضع ملف النزوح على الطاولة فور انتهاء الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة»، مشدّداً على «التعاون والانفتاح على دمشق».
تتعدد المجموعات والحركات التي ترشحت للانتخابات في مواجهة الأحزاب التقليدية، وتفوقها عدداً، معظمها ولد بعد انتفاضة 17 تشرين 2019، وهمّها «الانتفاض على السلطة الحالية في صناديق الاقتراع كما انتفضت عليها في الشارع»، إلا أنها بقيت مشتتةً ولم تستطع توحيد صفوفها إلى اليوم، فضلاً عن افتقار أغلبها للبرامج الانتخابية، والاكتفاء بتصريحات المرشحين التي تبدو في أغلبها مهاجِمةً للأحزاب الحالية وتعدُ اللبنانيين بغدٍ أفضل.
حزب سبعة هو أحد الأحزاب التي تحسب نفسها على قوى التغيير، ويرى أن أحد مهامه «مواجهة القوى السياسية الطائفية وخلق لبنان جديد وجعله دولة رائدة في الشرق الأوسط». وعد حزب سبعة في انتخابات 2018 بتقديم «مقاربة لملف النازحين بجدية تامة»، وإجراء مسح كامل لأعدادهم في البلديات اللبنانية بهدف تسهيل عودة العدد الأكبر منهم بأسرع وقت إلى المناطق الآمنة، وإنشاء مخيمات لائقة لغير القادرين على العودة، كذلك تحديد عدد اليد العاملة السورية التي يحتاجها لبنان، ومنحهم إقامات حسب الأصول.
لم يصدر برنامج حزب سبعة لعام 2022 بعد، إلا أن القيادي في الحزب عبد الرحيم حرب، أثناء تصريحه لقناة mtv في سبتمبر 2021، تحدث عن «عودة النازحين إلى مناطق آمنة في سورية، أو إسكانهم في مخيمات على الحدود السورية اللبنانية»، مشيراً لما أسماها «مخاطر النزوح وما يقابلها من مخاوف أمنية مشروعة». وبرر موقفه هذا بـ«ارتفاع نسبة اللاجئين السوريين إلى 30% من السكان، وما يشكّلونه من ضغط على بلد ضعيف ومفلس ويواجه أزمةً ماليةً وانهياراً في البنى التحتية» على حد قوله.
أيضاً طالب حزب الكتلة الوطنية، وهو حزب داعم ومشارك في الحراك الثوري، أسسه الرئيس اللبناني الراحل إميل إدّه عام 1946، وكان معارضاً بشدة لوجود الجيش السوري في لبنان واعتبره احتلالاً، في برنامجه الانتخابي لعام 2022 «بوضع خطة جدية وإنسانية دولية لإعادة النازحين السوريين».
يحضر السوريون اليوم في البرامج الانتخابية، وتحاول الأحزاب في برامجها أن تنتقي جملها، وبشكل مقتضب، فيما خص عودتهم وتسريعها، في حين يشرح المرشّحون بإسهاب في تصريحاتهم ومواقفهم الارتجالية عن خططهم ومشاريعهم «التي لم تنجح بسبب النزوح السوري»، يهاجمون بعضهم البعض بسبب «مؤامرة إبقاء النازحين السوريين»، ويدافعون ويُبرزون «حسن النية» بتعجيل رحيلهم. أمام ذلك، قد لا يقرأ سوريون كثر البرامج الانتخابية، إلا أنهم أخبرونا أنهم يحفظون أسماء كثيرة وصور وتصريحات لنواب ومرشحين أكثر من أعضاء مجلس الشعب السوري. يتابعون حديث هذا النائب عن معاقبة مخالفي نظام الإقامة، وذاك المرشّح عن حرمانهم من المساعدة وإعطائهم إياها في سورية. وهم جميعاً لا يملكون رفاهية السؤال: «لماذا أسميتمونا نازحين؟».