قد لا يكون سهلاً اتخاذ موقف واضح من الحرب الروسية على أوكرانيا في الوضع الحالي، لا سيما في ظل الحضور الاجتماعي والإيديولوجي لوسائل الإعلام المهيمنة في الغرب من جهة، والأصوات التي تنقل دون تردّد بروباغندا الكرملين من جهة أخرى. بين خطاب حلف شمال الأطلسي وخطاب النظام الروسي المجرم، يشعر كثيرون في كل مكان بالحيرة والارتباك.
بوصفنا أشخاصاً شاركوا في الثورة السورية، نأمل من خلال هذا النص أن ندافع عن صوت ثالث، وأن نقترح وجهة نظر قائمة على عشر سنوات من النضال والحرب في سوريا.
لإيضاح الأمور، نحن ندافع اليوم كما دافعنا دائماً عن الثورة السوريّة في بُعدها الانتفاضي الشعبي والديمقراطي والتحرري، الذي يتجسد بشكل خاص في تجربة لجان التنسيق والمجالس المحلية للثورة. وفي حال تم نسيان هذا البُعد، فإننا نؤكد أنه لا يمكن لجرائم وادعاءات بشار الأسد والجهاديين إسكات هذا الصوت.
وفيما يلي، لا نعتزم مقارنة ما يحدث في البلدين. ورغم أن بدايتَي الحربَين متشابهان وأن المعتدي واحد، فإن الحالتين مختلفتان تماماً. لذلك، استناداً إلى تجربتنا في الثورة ومن ثم الحرب في سوريا، فإننا نقترح بعض السبل والأفكار التي تهدف إلى مساعدة أولئك الذين يدافعون بصدق عن مبادئ التحرّر على اتخاذ موقف:
1– الاستماع أولاً وبشكل أساسي إلى أصوات المعنيين بالقضية، بدلاً من أصوات خبراء الجيوسياسة:
لا بدَّ من الارتكاز على كلمات أولئك الذين عاشوا الحرب وعايشوا الثورة (ميدان 2014)، وأولئك الذين عانوا في ظل نظام بوتين، في روسيا وفي أماكن أخرى، طيلة 20 سنة. نعتقد أنه من الضروري إعطاء الأولوية لأصوات الشعوب والمنظمات التي تدافع، على الأرض، عن مبادئ الديمقراطية المباشرة والحركة النسوية والمساواتية، لأن ذلك سيساعد على بناء رأي خاص يستند إلى موقف الشعب في أوكرانيا والمساعدة التي يطلبها من الخارج.
وكان من شأن اتّباع هذا النهج فيما يخص سوريا أن يعطي الدعم والأولوية لتجارب التنظيم الذاتي، الواعدة والمثيرة للإعجاب، التي ازدهرت في مختلف أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاستماع إلى الأصوات القادمة من أوكرانيا يُذكِّرنا بأن كل هذه التوترات بدأت بانتفاضة ميدان. لهذا، نرى أنه لا ينبغي ارتكاب الخطأ الذي تم ارتكابه في سوريا باختصار الثورة الشعبية الأوكرانية (رغم ما يشوبها من جوانب إشكالية يطول نقاشها) إلى صراع مصالح بين القوى الكبرى كما حدث عمداً بالنسبة للثورة السورية.
2- الحذر من الجيوسياسية المضادة:
في حين أن فهم المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية للدول العظمى على نحو أفضل له أهميته، فإن القراءة الجيوسياسية تميل إلى الانفصال عن الواقع، وتدفع الناس العاديين مثلنا إلى نسيان الناشطين الفاعلين في الصراع، وأولئك الذين يشبهوننا، رغم أن هؤلاء الناس هم الذين سيعانون، قبل كل شيء، بسبب الخيارات التي يتخذها أولئك الذين يعتبرون العالم لوحة شطرنج ومستودعات للموارد التي ينبغي نهبها. الرؤية الجيوسياسية الصرفة هي رؤية الجهات المهيمنة، وليست رؤية الشعوب التي تحتاج إلى أن تركز على بناء الجسور بينها والسعي إلى تحقيق مصالح مشتركة. وهذا لا يعني إهمال الاستراتيجية، ولكنه يعني ضمناً استخدام السبل التي نملكها؛ التي لا تسعى، في الوقت الراهن، إلى دحر الدبابات أو قطع واردات الغاز. (انظر إلى مقترحاتنا في نهاية المادة).
3- عدم تقبل التفرقة بين مهاجر جيد ومهاجر سيء:
لا شك أن استقبال اللاجئين السوريين في أوروبا كان أفضل بكثير (رغم أنه بعيد كل البعد عن المثالية) من استقبال اللاجئين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً. صور اللاجئين ذوي البشرة السوداء المرفوضين على الحدود الأوكرانية البولندية، والتعليقات الإعلامية التي تفضل وصول اللاجئين الأوكرانيين ذوي «الجودة العالية» على اللاجئين السوريين، ليست سوى دليل على أن هناك تزايداً لعنصرية أوروبية دون رادع.
الدفاع الضروري عن استقبال غير مشروط للأوكرانيين، الهاربين من ويلات الحرب، يدفع إلى رفض كل أشكال التمييز بين اللاجئين عموماً.
4- الحذر من وسائل الإعلام المهيمنة:
رغم أنها تدّعي اتخاذ موقف إنساني وتقدّمي، كما هو الحال بالنسبة لسوريا، فالأرجح أن يتخّذ جزء كبير من وسائل الإعلام المهيمنة موقفاً يقتصر على تصوير الأوكرانيين كضحايا غير مسيسين، سواء في أوكرانيا أو في بلدان اللجوء، حيث لا يحق لهم التحدث إلا عن حالات فرديّة؛ عن الهروب والخوف من القنابل… إلخ.
لا ينظر هذا الموقف إلى الأوكرانيين والأوكرانيات كفاعلين سياسيين قادرين على التعبير عن آراء، أو على تقديم تحليلات سياسية عن الوضع في بلدهم. بالإضافة إلى ذلك، تقوم وسائل الإعلام غالباً بالدفاع عن الموقف الغربي بشكل عام، من دون تنوّع في وجهات النظر، ومن دون تَعمُّق تاريخي أو شرح لمصالح الدول الغربيّة، التي يتم تصويرها كمدافعة عن الحق والحريات، أو كديمقراطيات ليبرالية مثالية.
5- تجنّب اعتبار الدول الغربية محورَ الخير:
بالرغم أنهم ليسوا غزاة أوكرانيا، إلّا أن لحلف الناتو ودول الغرب دوراً في الصراع، لذلك يتوجب بشكل كامل رفض تقديمهم كحلف مدافع عن «العالم الحر». في الحقيقة، الغرب نفسه قد أسَّسَ قوته (وما زال) عن طريق الاستعمار والسلوك الامبراطوري، وقمع ونهب خيرات شعوب عديدة في العالم أجمع.
وفي حال كان القرن العشرين يبدو بعيداً بالنسبة للبعض، فإن هنالك كوارث حدثت مؤخراً بسبب غزو العراق وأفغانستان. في الآونة الأخيرة أيضاً، خلال الثورات العربية منذ العام 2011، وعوضاً عن مساندة المكونات الديمقراطية والتقدّمية، قرّرت الدول الغربية الاهتمام بشكل رئيسي بالحفاظ على سيطرتها ومصالحها الاقتصادية. في الوقت ذاته، استمرّت ببيع السلاح والحفاظ على علاقات خاصة مع دكتاتوريين عرب وملوك وأمراء الدول الخليجية. مثلاً، في تدخلها في ليبيا لم تدافع الحكومة الفرنسية سوى عن مصالحها الاقتصادية والأمنية، بينما كانت تردد الأكاذيب عن معركة تخوضها من أجل دعم الديمقراطية. وبالإضافة إلى تداعيات الأوضاع في الدول الغربية على الصعيد الدولي، يستمر الوضع في التدهور داخلها أيضاً: صعود الاستبداد والمراقبة وعدم المساواة، وقبل كل شيء العنصرية.
إن تَقدُّمَ نظام بوتين، والتهديد الذي يشكله اليوم على حق الشعوب في تقرير مصيرها، يعود إلى تراجع قدرة الدول الغربية على الحفاظ على سيطرتها وهيمنتها. لكن، لا يتوجب استبعاد فكرة أن الدول الغربية قد لا تترد في انتهاز الفرصة، في حال إلحاقها الهزيمة ببوتين، لإعادة فرض هيمنتها. لذلك، فإن الأفضل للأوكرانيين ألّا يعتمدوا على «المجتمع الدولي»، ولا على الأمم المتحدة التي يَظهر نفاقها كما هو الحال في سوريا.
6- محاربة كل الإمبرياليات!
«النزعة الاختزالية للعقائد» هي نفسها عقيدةٌ من حقبة أخرى، تمثّلت خلال الحرب الباردة في دعم الاتحاد السوفيتي بأي ثمن في مواجهة الدول الرأسمالية والإمبريالية، وهي لا تزال تدفع حتى اليوم جزءاً من اليسار الراديكالي لدعم روسيا وبوتين في أوكرانيا، أو لتبرير الحرب الحالية. كما حدث في سوريا تماماً، عندما استخدموا ذريعة أن النظامين الروسي أو السوري يخوضان مواجهة مع الإمبريالية الغربية والأطلسية. لسوء الحظ، ترفض هذه النظرية المانوية، المعادية للإمبريالية، أن ترى الإمبريالية في جهات أخرى غير الغرب.
من أجل ذلك، سيكون من الضروري تصنيف ما تفعله الأنظمة في روسيا والصين وإيران منذ سنوات: توسيع سيطرتها السياسية والاقتصادية في مناطق معينة من خلال تجريد السكان المحليين من حقهم في تقرير المصير؛ ما التسمية التي يمكننا أن نطلقها على هذا النوع من السلوك؟ حسناً، يمكنهم استبدال «الإمبريالية» بأي كلمة أخرى في حال بدت غير ملائمة بالنسبة لهم، لكن ما ينبغي هو رفض تلطيف العنف والهيمنة اللذين تتم ممارستهما على السكان باسم الأحكام النظرية الزائفة.
والأسوأ من ذلك، أن هذا الموقف يدفع هذا اليسار إلى نقل دعاية هذه الأنظمة، إلى درجة الحديث عن «انقلاب» عند تناولهم لأحداث الميدان 2014 في أوكرانيا، وإلى إنكار جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الروسي في سوريا وإنكار استخدام نظام الأسد لغاز السارين. ويعتمد هذا الإنكار ونشر الأكاذيب على التحفظ، الذي يكون مشروعاً في حالات كثيرة، تجاه وسائل الإعلام السائدة في الغرب.
إنه موقف غير مسؤول على الإطلاق، لا سيما عندما يكون صعود نظريات المؤامرة مُعزِّزاً لليمين المتطرف وللعنصرية. فيما يتعلق بالحرب على أوكرانيا، يشكل المعادون للإمبريالية، الذين يدّعي بعضهم مع ذلك أنهم مناهضون للفاشية، حلفاء المرحلة بالنسبة لجزء كبير من اليمين المتطرف في أوروبا. وفيما يخص الوضع في سوريا، فإن اليمين المتطرف، المليء بالأوهام المتعصبة وأحلام شن حملة صليبية ضد الإسلام، دافع بقوة عن بوتين والنظام السوري بسبب أفعالهما المزعومة ضد الجهاديين، وهذا دون فهم مسؤولية نظام الأسد عن صعود الجهاديين في سوريا.
7- الجانبان الأوكراني والروسي ليسا سواسية:
هوية المُعنِّف معروفة بالنسبة للجميع في أوكرانيا. إذا كان هجوم بوتين يستجيب بطريقة ما لضغط الناتو، فهو قبل كل شيء استمرارٌ للسياسة الإمبريالية والمضاد للثورة. بعد غزو شبه جزيرة القرم، وبعد أن ساعد في سحق الانتفاضات في سوريا (2015-2022)، وفي بيلاروسيا (2020)، وفي كازاخستان (2022)، لم يعد فلاديمير بوتين يتسامح مع رياح الاحتجاج داخل البلدان الواقعة تحت نفوذه، والتي نجحت في طرد الرئيس المؤيد لروسيا من أوكرانيا خلال ثورة الميدان. إنه يرغب في سحق أي رغبة تحررية تضعف قوته.
في سوريا أيضاً، لا مجال للشك في تحديد المسؤول المباشر عن الحرب. إن نظام بشار الأسد، من خلال إصدار أوامره للأجهزة الأمنية بإطلاق النار على المتظاهرين وسجنهم وتعذيبهم منذ أيام الاحتجاج الأولى، قرَّرَ بنفسه شن حرب على السكان.
لابد أن يكون الأشخاص المدافعون عن الحرية والمساواة مُجمِعين على موقفهم ضد هؤلاء الطغاة، الذين يشنون الحروب ضد الناس.
وبالتأكيد، فإن الدعوة إلى إنهاء الحرب ضرورية، لكن يجب أن تأتي دون أي غموض حول هوية المعتدي. لا في أوكرانيا ولا في سوريا، ولا في أي مكان آخر، يمكن لوم الناس العاديين على حمل السلاح لمحاولة الدفاع عن حياتهم وحياة أُسَرهم.
على الأشخاص الذين لم يتعرّضوا للقصف، ولم يعايشوا الديكتاتورية (حتى لو أن السلطوية تتصاعد في الدول الغربية)، الامتناعُ عن مطالبة الأوكرانيين -كما قال البعض بالفعل للسوريين أو لسكان هونغ كونغ- بعدم طلب المساعدة من الغرب، أو عدم السعي إلى الديمقراطية الليبرالية أو التمثيلية كنظام سياسي. العديد من هؤلاء الأشخاص، الذين قد يدركون بالفعل عيوب هذه الأنظمة السياسية، ليست الأولوية بالنسبة لهم هي الحفاظ على موقف سياسي لا تشوبه شائبة، بل النجاة من تفجيرات اليوم التالي مثلاً، أو عدم التعرض للاعتقال والتعذيب والسجن لعشرين عاماً مقابل كلمة قيلت أو رأي سياسي تم التعبير عنه.
يُظهِرُ هذا النوع من الخطاب رغبة أصحابه في فرض وجهة نظرهم على سياق لا يمسّهم، ما يشكل انفصالاً حقيقياً عن أرض الواقع، وامتيازاً غربياً للغاية. يجب بدلاً من ذلك الاستماع إلى كلمات الأصدقاء في أوكرانيا، الذين قالوا الأسبوع الماضي: «نعتقد اعتقاداً راسخاً أن أكثر الجمهوريات نقصاً هي أفضل ألف مرة من النظام الملكي الأكثر استنارة».
8- في داخل المجتمع الأوكراني كما في سوريا كما في فرنسا؛ تتقاطع تيارات مختلفة:
أصبحت الاستراتيجية التي تتمثل في خلق عدو، أو تهديد كبير، بهدف إخافة من يمكن أن يُقدِّموا أي دعم وتضامن، مكشوفةً. وكما في حالة خطاب «الإرهاب الإسلامي» في السياق السوري، الذي استخدمه بشار الأسد منذ الأيام الأولى للثورة، يُلوِّحُ بوتين وحلفاؤه اليوم بـ«النازية» و«القومية المتطرفة» في السياق الأوكراني.
نعتقد أن هذه الدعاية مبالغ فيها عن عمد، وأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال نقلها كما هي. لكن مع ذلك، فإن التجربة في سوريا تشجع على عدم الاستهانة بالمكونات الرجعية في الحركات الشعبية. في أوكرانيا، لعب القوميون الأوكران، وأحياناً الفاشيون، دوراً مهماً في احتجاجات ميدان والمواجهة مع روسيا. علاوة على ذلك، استفادت مجموعات يمينية مثل كتيبة آزوف من ذلك وانضمّت إلى الجيش النظامي. هذا لا يعني، مع ذلك، أن المجتمع الأوكراني بأكمله (ولا حتى الأغلبية) قومي متطرف أو لديه ميول فاشيّة. لقد فاز اليمين المتطرف بنسبة 4٪ فقط في الانتخابات الأخيرة، وانتُخب الرئيس الأوكراني، اليهودي والناطق بالروسية أيضاً، بنسبة 73٪.
في الثورة السورية ثمة حالة مشابهة. بدأ الجهاديون بشكل هامشي، ثم أخذوا أهمية متزايدة (جزئياً بفضل الدعم الخارجي)، مما سمح لهم بفرض أنفسهم عسكرياً على حساب الحركة المدنية والجهات الأكثر تقدمية.
يمثل اليمين المتطرف في كل مكان (كما هو الحال في فرنسا اليوم دون أدنى شك) تهديداً لتمدد الديمقراطيات والثورات الاجتماعية. في فرنسا، حاول هذا اليمين المتطرف فرض نفسه خلال انتفاضة السترات الصفراء، لكنه فشل في ذلك نتيجة وجود مواقف مساواتية ونشطاء تحرريين ومناهضين للفاشية على الأرض، وليس من قبل المنظرين.
إن الدفاع عن المقاومة الشعبية ضد الغزو الروسي لا يمنع من انتقاد النظام السياسي الذي نشأ بعد ثورة ميدان، إذ لا يمكن القول إن سقوط يانوكوفيتش أدى إلى امتداد حقيقي للديمقراطية المباشرة، ولا إلى مجتمع قائم على المساواة، نتمناه في سوريا وروسيا وفرنسا، وفي كل مكان في العالم.
كما هو الحال في سوريا، يطلق بعض النشطاء الأوكرانيين على ما بعد ميدان تسمية «ثورة مسروقة». النظام الأوكراني، بالإضافة إلى منح مكانة مهمة للقوميين المتطرفين، أُعيدَ بناؤه من قبل الجهات الفاعلة، ولا سيما الأوليغارشية، للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية وتوسيع النموذج الرأسمالي والنيوليبرالي لعدم المساواة. نعتقد أنه ينبغي أخذ هذه النقاط بعين الاعتبار، وأنه من الصعب تصديق أن النظام الأوكراني لا يتحمل أي مسؤولية مطلقاً عن تفاقم التوترات مع المناطق الانفصالية.
في سوريا، لا يمتنع الثوار المنخرطون في الميدان بأي حال عن الانتقاد العنيف لخيارات المعارضة السياسية المجتمعة في اسطنبول، لا سيما بشأن تحفّظ هذه المعارضة المؤسف على بعض المطالب المشروعة للأقليات مثل الأكراد.
إن النيوليبرالية والمكونات الفاشية موجودة في أوكرانيا، وفي جميع الديمقراطيات الغربية، ولا ينبغي الاستهانة بها، لكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى عدم تأييد المقاومة الشعبية للغزو الروسي. على العكس من ذلك، يتوجب دعم المكونات التقدمية ذاتية التنظيم، كما كنا نتمنى أن يكون الحال خلال الثورة السورية.
9- دعم المقاومة الشعبية في أوكرانيا وروسيا:
كما أثبتت الثورات العربية أو السترات الصفراء أو الميدان، فإن انتفاضات القرن الحادي والعشرين ليست، ولن تكون، إيديولوجية «نقية». ورغم أنه من المريح والمحفّز أكثر الاتحاد مع الفاعلين الأقوياء (والمنتصرين)، فإنه لا يجب خيانة المبادئ الأساسية. على اليسار الراديكالي خلع نظارته المفاهيمية القديمة لمواجهة مواقفه النظرية بالواقع، المواقف التي يجب تعديلها دائماً بالاعتماد على الحقيقة وليس العكس.
إن تقديم الدعم للمبادرات التي تأتي من الأسفل كأولوية لمساعدة الأوكرانيين، مثل مبادرات الدفاع عن النفس والتنظيم الذاتي التي تزدهر حالياً، يُمكِّننا من اكتشاف أن الأشخاص الذين ينظمون أنفسهم في كثير من الأحيان يمكنهم في الواقع الدفاع عن المفاهيم الراديكالية للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حتى لو لم يدّعوا «اليسارية» أو «التقدمية».
أيضًا، كما دعا العديد من النشطاء الروس، يمكن أن تساعد الانتفاضة الشعبية في روسيا على إنهاء الحرب، كما حدث في عامي 1905 و1917. لا يمكن التغاضي عن القمع في روسيا منذ بداية الحرب؛ عشرات الآلاف من المتظاهرين المسجونين، والرقابة الإعلامية، وإغلاق الشبكات الاجتماعية وربما الإنترنت قريباً، وما إلى ذلك. نتمنى أن تحدث أن ثورة أو حراك يؤدي إلى سقوط النظام، لوقف جرائم بوتين بشكل نهائي في روسيا وأوكرانيا وسوريا وأماكن أخرى من العالم. دون إلقاء اللوم على الشعوب في إيران وروسيا ولبنان، يمكن لسقوط نظام بوتين أن يعيد الأمل بانتفاضات هذه الشعوب، وبسقوط بشار الأسد. أمنية التغيير هذه تنطبق على بلدان أخرى كالولايات المتحدة أو فرنسا، أو أي بلد آخر يبني سلطته على اضطهاد الشعوب الأخرى أو جزء من سكانها.
10- بناء أممية جديدة من الأسفل:
إن معارضة جميع الإمبرياليات وجميع الأشكال الحديثة للفاشية بشكل جذري، والاقتصار على ذلك، تُخاطر بحصر النضال الثوري في رؤية سلبية واختزاله في حالة من ردّة الفعل.
لذلك، إن تقديم اقتراح إيجابي وبنّاء متمثل بالأممية لا يزال أمراً لا غنى عنه، وهذا يعني ربط الثورات والمقاومين من أجل المساواة في جميع أنحاء العالم.
هناك طريق ثالث بين حلف شمال الأطلسي أو بوتين، وهو طريق الأممية من الأسفل. على الأممية الثورية أن تدعو اليوم للدفاع عن المقاومة الشعبية في أوكرانيا، كما كانت تدعو إلى دعم المجالس المحلية السورية، ولجان المقاومة في السودان، والجمعيات الإقليمية في تشيلي، ومظاهرات السترات الصفراء أو الانتفاضات الفلسطينية.
بالتأكيد، نحن نعيش في حقبة ما بعد الأممية العمالية، التي كانت مدعومة من دول وأحزاب ونقابات ومنظمات الكبيرة، التي كان لها ثقلها في الصراعات الدولية حقاً، كما كان الحال في إسبانيا في العام 1936، أو فيتنام أو فلسطين في الستينيات والسبعينيات.
اليوم وفي جميع أنحاء العالم، سواء في سوريا أو فرنسا أو أوكرانيا، هنالك حالة من الافتقار لقوى تحررية واسعة النطاق، تتمتع بقواعد مادية كبيرة. بانتظار نشوئها، نستطيع أن نتعلّم مثلاً ممّا يحدث اليوم في تشيلي من منظمات ثورية ترتكز على مبادرات التنظيم الذاتي المحلي. لا بدّ من الدفاع عن أممية تدعم الانتفاضات الشعبية، وتستقبل جميع المنفيين. أممية تتمكن أن تطرح من جديد، بطريقة مسموعة وجيدة الصياغة، صوتاً بديلاً لأشكال الديمقراطيات الرأسمالية الغربية والسلطوية الرأسمالية الروسية والصينية.
من المؤكد أن مثل هذا المفهوم كان من شأنه أن يساعد الثورة في سوريا على الحفاظ على لون ديمقراطي قائم على المساواة، وحتى أن يساهم في النصر.
الدفاع عن الأممية لا يأتي فقط من منطلق المبدأ الأخلاقي، ولكن أيضاً من منطلق الاستراتيجية الثورية، من منطلق الدفاع عن الحاجة إلى إقامة روابط وتحالفات بين القوى المنظمة ذاتياً، التي تعمل من أجل تحرير الجميع دون تمييز، وهذا ما يسمى الأممية من الأسفل: أممية الشعوب.