صحيحٌ أن عالمنا لم يعرف ديمقراطيّة خالية من العيوب والنواقص، بل ثمّة ديمقراطيّات ارتكبت العديد من الفظائع في تاريخها، لكن الصحيح أيضاً أن أيّ مُقارنة جادّة لن تخطئ في ملاحظة الفارق الجوهريّ بين الحياة، السياسيّة والإنسانيّة، في بلدان تحكمها أنظمةٌ ديمقراطيّة وأخرى تحكمها سلطاتٌ تنبذ الديمقراطيّة بذرائع مختلفة. ولن يُفشي أحدُنا سرّاً بالقولِ إنّ السلطة الحاكمة اليوم في موسكو ليست ديمقراطيّة بحال، بل إنّها في جوهرها تقترب من أوتوقراطيّة شعبويّة تُحاربُ كلَّ بزوغٍ ديمقراطيٍّ بالقرب من حدودها، أو حتى بعيداً عنها إن أمكنها ذلك. لكن من غير الممكن أيضاً إنكار هشاشة المحاولة الديمقراطيّة في سنوات أوكرانيا المنصرمة، وربّما يصحُّ القولُ بأنّ ما تعيشه أوكرانيا راهناً هو، في المقام الأول، «هروبٌ» من اللاديمقراطيّة الروسيّة-البوتينيّة أكثر منه توجّه نحو الديمقراطيّة الغربيّة، بمعنى أنّ سعي أوكرانيا للتخلّصِ من قبضة روسيا هو أساسُ توجّهها غرباً قبل النزوع الديمقراطي.
ولأجل تفسير ما يمكن تسميته بإعراض القوميّين الأوكرانيين عن جارتهم الكبيرة، لا بدّ من العودة إلى تاريخ الحركة القوميّة الأوكرانيّة وسياقات تشكّلها في ظلِّ الهيمنة السياسية والثقافيّة الروسية. لكننا قبل ذلك نحتاج إلى معرفة رؤية فلاديمير بوتين حول أوكرانيا، وفهم خطابه الراهن بشأن وجودها وهويّتها، وطبيعة مُبرّراته ذات الخلفيّة السياسيّة والتاريخيّة للحرب الأخيرة.
فلاديمير بوتين «مؤرِّخاً»
منذ سنوات تمارسُ حكومةُ بوتين سياسةً دعائيّة شرسةً عمادُها الترويج لــ «تاريخ روسيٍّ ناصع»، يعجُّ بانتصارات عظيمة وأبطال أسطوريين ودولة عظيمة ذات نظام اجتماعيٍّ مُستقر تماماً. وكثيراً ما تكون فترة الاتحاد السوفيتي هي المرجع الأساس لهذه السياسة، من دون أن تغيب الحقبة القيصريّة أيضاً كلّما اقتضت الحاجة.
ولا تقتصر الماكينة الدعائيّة الروسيّة على الوسائل الإعلاميّة والمؤسسات الرسميّة فحسب، بل حاول بوتين نفسه غير مرّة المساهمة كـ «مؤرخ» عبر مقالات تتناول التاريخ وتعرضه كما يُحبُّ له أن يكون. وقد تبدّت هذه النزعةُ «التأريخيّة» لدى بوتين بصورةٍ جليّة أكثر منذ حربه الأخيرة ضدّ أوكرانيا، فنجده يلجأ في سياق تبرير هذه الحرب إلى ما هو أبعد من مجرد مخاوف استراتيجيّة، مُعتمداً سرديّةً «تاريخيّة» تنفي في جوهرها صفة الدولة المُستقلّة عن أوكرانيا، باعتبارها ليست إلا «روسيا الصغرى». هذه السرديّة تُقدّم أوكرانيا كابنة ضالّة ضيّعت بوصلتها، وانحرفت مع رفاق السّوء في غفلة من الزمن، وليس في وسع الأمّ (روسيا) سوى أن تهرع لنجدتها من الأشرارِ وتُريها طريق الحق القويم.
يفيضُ خطابُ بوتين حول هويّة أوكرانيا وتاريخها بكثير من الغطرسة وعدم الاكتراث. فنراه يُخبرُ الأوكرانيين بوسائل شتى كيف أنّهم مُخطئون في تحديد هويّتهم وتاريخهم، إذ أنهم في الواقع ليسوا أوكرانيين كما اعتقدوا طوال الوقت، إنّما «روسٌ صغار». بهذه الطريقة الباردة المُتعالية يتناولُ بوتين مسألة حسّاسة كهويّة شعب، مُقدِّماً نفسه كمُصحِّح لأخطاء تاريخيّة.
وحريُّ بالذكرِ أن هذا الخطاب القوميّ-البوتينيّ يتزامن مع «صحوة» قوميّة أوكرانيّة بدأت في الواقع منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنّها تجلّت بوضوح منذ العام 2014، وبلغت منذ الحرب الأخيرة ذروة غير مسبوقة، حتى بين فئة معقولة من الأوكرانيين الروس أو الناطقين بالروسيّة. ثمّة تحوّلٌ حقيقيٌّ حدث في أوكرانيا على الصعيد الشعبيّ، وليس عادلاً القولُ إنّ ما يحصلُ هناك الآن مجرّد صراعٍ بين روسيا والناتو، إذ ثمّة أيضاً نفورٌ شعبيٌّ أوكرانيٌّ مُتراكمٍ من «شرقٍ» تقوده وتمثّله روسيا. كما أن اعتبار بوتين أوكرانيا جزءاً تاريخيّاً طبيعيّاً من روسيا، أي أنّها في النهاية ليست إلا أرضاً روسيّة، لا ينبع فقط من مجرّد نزعة إمبراطوريّة أو غطرسة أو خوف من توسّع الناتو شرقاً، بل يقوم في جانب منه أيضاً على الطريقة التي تعامل بها الغرب عبر الزمن مع أوكرانيا، ثقافةً وكياناً، أي على صورة ومكانة أوكرانيا لدى الغرب. وهذا ما ستحاول المقالة التطرق إليه بشيء من الاقتضاب فيما يلي.
أوكرانيا في المنظور الغربي
عند الحديث عن صورة أوكرانيا في المخيّلة الغربيّة، لا مناص من التطرُّقِ لكليشيهات نمطيّة استعلائيّة، لا تقتصرُ بطبيعة الحال على أوكرانيا فحسب، بل تنسحبُ على معظم أرجاء أوروبا الشرقيّة. ولعلّه من الممكن في هذا السياق التحدُّث عن «استشراق غربيّ»، لجهة التنميط السلبيّ والتعميم الاختزالي والأحكام المسبقة المُقولِبة حول الأوروبيين الشرقيّين بصورة عامّة. لكن هذا الاستشراق يكتسي طابعاً مُضاعفاً حين يدور الأمر حول أوروبيين شرقيين مُهمّشين قليلي القوة والمكانة والحضور، كما كان حال الأوكرانيين لزمنٍ طويلٍ.
لطالما تمّ في الغرب النّظر إلى أوكرانيا بوصفها جزءاً من روسيا، أو باعتبارها كياناً نتج عن «سوء فهم تاريخي» و«مجتمع منقسم بعمق»، كما يذكرُ المؤرّخ والبروفيسور الأوكراني، روسيّ اللسان، أندري بورتنوف. هذا التصوّر الغربيّ لم يغب، أو يخفت بريقه، إلا مؤخراً، سيما منذ ضمّ القرم سنة 2014 وبشكل أوضح بكثير منذ بداية الحرب الأخيرة. بل حتى بُعيد ضمّ القرمِ من قبل الروس، دعا المستشار الألماني السابق هيلموت شميت إلى «تفهّم سياسة بوتين» بذريعة أن «وجود قوميّة أوكرانيّة ما زال موضوعاً إشكاليّاً لدى المؤرخين». قولُ شميت الآنف يُظهر تصوّراً مُتجذّراً في الغرب يُشكّك في أصالة أوكرانيا كقوميّة وثقافة ودولة مُستقلّة، ويُبدي كذلك أنّ دفاع الحكومات الغربيّة الراهن عن أوكرانيا ذو منبع سياسيّ-استراتيجي، أكثر منه إنساني أو حقوقي مؤمن باستقلاليّة أوكرانيا وشعبها. لكن هذه مسألة أخرى لا يتسع لها المقال هنا.
«معاداةُ الروسيّة» ذريعةً للحرب ضدّ أوكرانيا
من اللافت سعيُّ فلاديمير بوتين الحثيث إلى إبرازِ أوكرانيا كياناً احتلّه «نازيون» مُعادون للروس. أي أنّه يبني سرديّته، في مكان ما، على ابتداع تَماثُلٍ بين وضعيّة روس مُستهدَفين من «النازيّة الجديدة» ووضعية اليهود الذين استهدفتهم النازيّة الأصليّة في القرن الفائت. وبالتالي يصبحُ كلّ من يعادي سياسات بوتين أو يُعارضها «نازيّاً مُعاديّاً للروس» بشكل تلقائي. غير أن ثمّة مُفارقة رهيبة تعترضُ درب هذا التماهي المنشود مع المظلوميّة اليهوديّة، فيهود أوروبا كانوا في مقتبل القرن البائد ضعفاء سياسيّاً واجتماعيّاً ومسلوبي القوّة على أتمّ وجه، بينما «روس بوتين» تحميهم دولةٌ نووية كبرى، تحتلُّ وتعتدي على أراض مترامية الأطراف في أنحاء العالم. كما أن بوتين ذا النزعة الإمبراطوريّة التوسّعية أقربُ لأدولف هِتلر بأضعاف ما يمكن لزيلنسكي أن يكون؛ وما الحديثُ المُبالغ فيه عن الــ«روسوفوبيا» والــ«آنتي روسيّة» كذريعة للحربٍ ضدّ الأوكرانيين إلا ضربٌ من الشعبويّة البوتينيّة.
لكن، ولسوء حظّ بوتين، فإن عالم اليوم قد غدا أشدّ ترابطاً وتواصلاً، ما جعل الناس أكثر درايةً بخبايا ما يجري على أرض الواقع. لذا أيضاً نجد أن كثيراً من الروس، خصوصاً البعيدين عن قبضة الــمخابرات الروسيّة، يرفعون صوتهم الرافض للحرب عاليّاً، مُعلنين تضامنهم الكامل مع الشعب الأوكراني مُحترِمين حريّته في تقرير مصيره.
هل حقاً الحركةُ القوميّة الأوكرانيّة نازيّة؟
لم يكد يمضي يومٌ من أيامِ الحربِ الروسيّة الأوكرانيّة دون أن نسمعَ من المسؤولين الروس، أو من مُعجبيهم حول العالم، بأنّ حربهم قائمةٌ لدحرِ نازيّة تحتلُّ بلداً مُجاوراً وتُشكّلُ تهديداً وجوديّاً للروس شعباً وثقافةً وكياناً. لكن هل ثمّة حقاً سلطةٌ قومويّةٌ نازيّةٌ في أوكرانيا، بالشكل الذي يعرضه فلاديمير بوتين؟
من المعلوم بالطبع أنّ علاقاتٍ مُريبةٍ، لا تخلو من نتائج إرهابيّة، جمعت في ثلاثينيات القرن المنصرمِ بين النظام النازيِّ المُعادي للاتحاد السوفيتي وبعضِ التيارات داخل الحركة القوميّة الأوكرانيّة، التي كانت ترى الاتحاد السوفيتي آنذاك كياناً مُحتلّاً للأرض والثقافة الأوكرانيّة.
مرّت الحركةُ القوميّةُ الأوكرانيّة مطلع القرن الفائت، لا سيما بعد انهيار الإمبراطوريّة النمساويّة-المجريّة وانهيارِ الإمبراطوريّة الروسيّة، ومن ثمّ تشكّل الاتحاد السوفييتي، بسياقاتٍ تطرّفيّة مختلفة. ولعلّ تأسيس منظّمة القوميين الأوكرانيين (ONU) شتاء 1929 في فيينا من أبرزِ تجليّات هذا النزعة القومويّة المتطرّفة، لكن الصورة الأشدُّ تطرّفاً ظهرت إلى العلنِ بُعيد انشقاق المُنظّمة سنة 1940 إلى كيانين: أولهما (ONU – M) وأُطلِقَ على أعضائه لقب «الميلنكيّين» نسبة لزعيمهم آندريه ميلنيك المُعتدِل نسبيّاً، أمّا التنظيمُ الآخر، الأشدُّ تطرّفاً وشباباً، فسُمّي (ONU – B) وكان أعضاؤه يُعرفون بــ «البانديريين» نسبة لزعيمهم المعروف ستيبان بانديرا. ويمكنُ القولُ إنّ التنظيم البانديري كان ذا نزعةٍ فاشيّة دمويّة مُعاديةٍ للروس واليهود، وبالتالي كان البانديريّون قريبين جداً من الإيديولوجيا النازيّة. وقد ارتكب التنظيم فظاعاتٍ عديدة، لا سيما بحقّ الأوكرانيين المُعتدلين، الذين كانوا في نظره «خطرين على فكرة قيام الدولة الأوكرانيّة المُستقلّة». إذاً، مُعاداةُ النازيّة الهِتلريّة للاتحاد السوفييتي من جهة، والنزوع اللاساميُّ المُشتركُ من جهة أخرى، قرّبا تنظيم بانديرا من النازيّة إلى حدّ بعيد وحصل نوعٌ من التحالفِ بينهما، ما جعلَ أعضاء التنظيم على قائمة المُلاحقات السوفييتيّة.
بعد هزيمة هِتلر وانتصار السوفييت، تمّت مُلاحقة الزعيم الدمويّ ستيبان بانديرا في ألمانيا، وتمكّن العميل السوفييتي بوغدان شتاسينسكي من اغتياله سنة 1959 في ميونيخ بطريقة مُرعِبة، حيث رشّ على وجهه غاز الهيدروسيانيك بواسطة مُسدّس مُطوّرٍ.
لكن مع تسليم شتاسينسكي وزوجته الألمانيّة الشرقيّة نفسيهما، في يوم قيام جدار برلين، إلى سلطات برلين الغربيّة، طرأ تحوّل أساسيٌّ على قضيّة قتل بانديرا ومكانته في وجدان الكثير من القوميّين الأوكرانيّين. حيث اعترف العميلُ السوفييتي السابق باغتيال لبانديرا بتلك الطريقة المروّعة بطلبٍ من السلطات السوفييتيّة، وفي خريف 1962 تمّت محاكمة ستاشينسكي في كارلسروهه الألمانيّة وحُكِم عليه بالسجن لثمان سنوات، باعتباره مجرّد أداة للمجرم الأساسي مُتمثّلاً بالقيادة السوفييتيّة. لم تمر محاكمة ستاشينسكي مروراً عاديّاً، بل جذبت اهتماماً عالميّاً بالغاً، وأثّرت بشكلٍ ملحوظٍ على صورة الإتحاد السوفييتي. ونتيجة لهذا الجوّ المُرافِقِ لمحاكمة العميل السوفييتي السابق، راحت صورةُ بانديرا تأخذُ بُعداً تقديسيّاً لدى كثيرٍ من القوميين الأوكرانيين، خاصّة في غرب البلاد، حيث اعتُبر رمزاً وطنيّاً رفيعاً وزعيماً تحرريّاً.
لكن ما سلف لا يعني بحالٍ حصر القضيّة القوميّة الأوكرانيّة بشخصِ بانديرا وتنظيمه الدمويّ في سياقِ حربٍ عالميّة دمويّة. فالأمر، بطبيعة الحال، أشدّ تعقيداً من هذا التصوّر الاختزاليّ السهل. وللتقرّب من ذلك أكثر يمكنُ العودة إلى تاريخ أسبق للحركة القوميّة الأوكرانيّة وإلقاء الضوء على سياقات تشكّلها وطبيعة نضالِها.
اللغة والحركة القومية الأوكرانية
من شأن معاينة تاريخيّة لمسيرة الحركة القوميّة الأوكرانيّة أن تُضعضع كلام بوتين عن الدولة الأوكرانيّة بوصفها وهماً نتج عن خطأ تاريخي ارتكبه زعيم البلاشفة، لينين، في مطلع القرن العشرين.
ثمّة بطبيعة الحال تداخلٌ تاريخيٌّ عميقٌ بين كلٍّ من روسيا وأوكرانيا من نواح عديدة، دينيّة وثقافيّة وجغرافيّة، لكن هذا لا يعني بحال غياب تمايز أوكراني، قوميّاً وثقافيّاً ولغويّاً، أفضى في أواسط القرن التاسع عشر لنشوء حركة قوميّة أوكرانيّة جذريّة في سعيها للتحرّر من السطوة الروسيّة.
لقد كان الجزء الأكبر من أوكرانيا الحاليّة خلال القرن التاسع عشر في قبضة الإمبراطوريّة الروسيّة متعدّدة اللغات والإثنيات، وكانت الغالبية العظمى من الأوكرانيين فلاحين أميين يتحدّثون الأوكرانيّة بلهجاتها المختلفة لكن المُتمايزة، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن الروسيّة. وقد كان ذلك بالطبع قبل تَبلور حركة قوميّة أوكرانيّة وتشكّل لغة أوكرانيّة جامعة.
بالنسبة للطبقة الحاكمة المُتعلّمة ذات اللسان الروسيّ، والمتمركزة في المدن الكبيرة، كان هؤلاء الفلاحون «روساً صغار» ومُتمّمين طبيعيين للشعبِ الروسي رغم تمايزهم الثقافيّ واللغويّ الجليّ. أمّا بالنسبة لطبقة النبلاء ومالكي الأراضي المُتحدّثين بالبولونيّة في الجزء الغربي، فكانت اللهجاتُ الأوكرانيّة أيضاً محلّ ازدراء باعتبارها «لغة فلاحين». ولأجل الاختصار، يمكن القول إنّ معظم الأوكرانيّين كانوا في تلك الحقبة فلاحين بسطاء غير قادرين على إثباتِ أنفسهم، إلى أن بدأت تظهرُ في أواسط القرن التاسع عشر ملامح حركة قوميّة أوكرانيّة مُتعلّمة: «الأوكرانوفيليّة». حيث راح روادها يطالبون بتحرير اللهجات الأوكرانيّة المختلفة من سجنِ الشفاهة، ودمجها في لغة مكتوبة شاملة. وفي هذا الجوّ النّشط للحركة القوميِّة الأوكرانيّة دعا المؤرخ والفيلسوف ميخائيل دراماهونوف (1841 – 1895) إلى الاعتراف باللغة والثقافة الأوكرانيّة، قائلاً لرفاقه إن كلّ «أوكرانوفيليّ» لا يتجذّر في مطالبه ليس إلا أوكرانوفيلاً سيّئاً. وفي ظلّ تنامي النزعة القوميّة الاوكرانيّة من جهة، وتصاعد ضغط السلطات على استعمال اللغة الأوكرانيّة، أقدم كثير من الأوكرانوفيليين المُتعلّمين، الطليعيين إذا جاز التعبير، على الزواج من فلاحات أوكرانيّات بغية أن ينشأ أبناؤهم على اللغة الأوكرانيّة المُهدَّدة. وبلغ الأمر بزميل دراماناهوف، المؤرخ والبروفيسور في جامعة كييف فولوديمير أنتونوفيتش (1834 – 1908)، حدَّ الإعلان عن أن «التزاوج بين الأوكرانيين والروس محكومٌ بالفشل لأسباب آنثروبولوجيّة». وبذلك أخذت الحركة القوميّة الأوكرانيّة تُشكّل تهديداً مُتصاعداً وملموساً للقيصريّة الروسيّة، ما جعل الأخيرة تُضيّق الخناق بلا رحمة على مُناصري الحركة والداعين إليها. وفي هذا السياق أقدم القيصر الروسي إلكسندر الثاني على نفي الناشطين القوميين الأوكرانيين، ليعقب ذلك بإصدار «مرسوم باد إس» سنة 1876 الذي يحظر النشر والتعليم باللغة الأوكرانية في أرجاء القيصريّة الروسيّة. وبقي النشر باللغة الأوكرانيّة محظوراً حتى العام 1905. ولم تنته معاناة الأوكرانيّة حتى أواخر القرن العشرين، كنتيجة للقمعِ القيصريّ الطويل والسياسة السوفييتيّة الداعمة بشكل ممنهجٍ للثقافة الروسيّة وترسيخها كلغة المدن والعلم و«الكارير». فقط أولئك الذين ولدوا في نهاية الثمانينيات نشأوا ثقافيّاً باللغة الأوكرانيّة، التي أصبحت منذ 1991 لغة إلزاميّة في المدارس. وفي هذا السياق تذكر الكاتبةُ والمؤرخة الأوكرانية أولها مارتينيوك أنّها حين جاءت في بداية الألفية من مدينة لفوف الغربيّة إلى كييف كانت تشعرُ بالخجل من التحدّث بالأوكرانيّة، هذه اللغة التي كانت لاتزال موصومةً إلى حد بعيد ومُزدراة بوصفها «لغة الفلاحين وغير المتعلمين».
وبالاستناد لما سلف، نلحظُ أن تاريخ العلاقة الروسيّة الأوكرانيّة – قبل النازيّة الجديدة- ليس ورديّاً قطُّ كما تُحاولُ السلطات الروسيّة إظهارها، وأنّ الحركة القوميّة الاوكرانيّة، بوصفها حركة تحرّر، كانت قد تشكّلت ونشطت قبل ثورة أكتوبر ووصول البلاشفة ومن ثمّ النازيّين للحكم في روسيا وألمانيا، وأنّ التمايز الإثني واللغوي والثقافي المرفق بنزعة استقلاليّة، مهما تباينت درجاته، كان على الدوام قائماً وليس وليد «خطأ تاريخي» يجبُ تصحيحه كما يُشدّد الرئيس الروسيُّ. والخطأ التاريخيُّ الفادحُ الذي يقصدُه بوتين هنا هو إقامة كيان أوكرانيٍّ من قبل لينين وأصدقائه، «بشكلٍ فجّ ضدّ مصالح روسيا، من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخيّة وتمزيقها إرباً» كما يقول في أحد خطاباته.
ويمكنُ أيضاً الذهاب أبعد من ذلك وإبرازَ الدور الذي يلعبُه الرئيس الروسيُّ في تمتين دعائم البانديريّة، وتحفيز الناس على الالتفاف حولها، أو التغاضي عن تاريخها، سبيلاً لمواجهة مُشتركة ضدّ عدوٍّ هائل مُتمثّل بروسيا بوتين.
بوتين و«النازيّة» في أوكرانيا
إنّ إظهار البانديريّة جزءاً عضويّاً من النازيّة، ومن ثمّ اعتبار أنصارها «نازيّين جدداً» ليس أمراً صحيحاً تماماً. فالنازيّةُ الأصلُ لم تكن راضيّة قطّ عن النزعة الاستقلاليّة الأوكرانيّة، ومن دلائل ذلك الزجّ بـ بانديرا في معسكر اعتقال نازي إثر إعلانه قيام دولةٍ أوكرانيّة مُستقلّة بالتزامن مع الغزو الهِتلريّ للاتحاد السوفييتي، واحتلاله مدينة لفوف في غرب أوكرانيا الحاليّة. فبالنسبة للنازيين، لم يكن بانديرا وتنظيمه سوى أدوات قد تخدم مصالحهم في شرق أوروبا، من دون أن تُشاركَها جوهر خطابها القائم على «تأسيس كيان قوميّ أوكراني مُستقل». بل اعتُبرَ تأسيس هذا الكيان الأوكرانيّ تعدّياً على المصالح والمخططات النازيّة في أوروبا الشرقيّة، وتمّ على إثره الزجّ بـبانديرا في المعتقلِ النازيّ، حيث مكث وصولاً للعام 1944. وخلّفت هذه الفعلة النازيّة نوعاً من العداوة بين القومويين البانديريين والنازيّة، لكن من دون أن يكون لذلك أثر جوهري على استمراريّة «النضال» القوميّ الأوكراني. ولم تنقضِ حالة الصراع الدمويّ بين القوميين الأوكرانيين والسلطات السوفيتيّة باعتقال بانديرا ولا بانقضاء الحرب العالميّة الثانيّة ودحر النازيّة. وقد بلغ عددُ الأوكرانيين الذين قُتِلوا على يد السلطات السوفييتيّة بين عامي 1944 و1952 قرابة 150 ألفاً، أمّا عدد المعتقلين والمُرحّلين قسراً فضاهى الــ 300 ألفاً.[1] لكن، ومهما يكن من أمرٍ، ليس منطقيّاً اعتبار كلّ نزعةٍ استقلاليّة أوكرانيّة «بانديريّةً» بالضرورة. فثمّة من بين المُناهضين لأوكرانيا الروسيّة والمؤيّدين لأوكرانيا الأوروبيّة العديد من المُعارضين لتمجيد بانديرا واعتباره رمزاً قوميّاً معياريّاً. وليس ثمّة علاقةٌ وجوديّةٌ بين النزعة الأوكرانيّة المُعادية للسطوة الروسيّة وبين الانتماء ليمين بانديري أو نازي. بالطبع هناك الكثير من مُمجّدي بانديرا في أوكرانيا، خاصّة في أجزائها الغربيّة، لكن هذه مسألةٌ شائكةٌ تحتاجُ معاينةً لسياقاتِ تحوّل تاريخيّة ولا يمكن اختصارها بأنّ كلّ القوميين الأوكرانيين نازيون وكفى. هذا التبسيطُ البوتينيُّ لمُناهضيه من الأوكرانيين، بوصفهم نازيّين كارهين للروسِ، يُشكّلُ جزءاً هامّاً من سرديّته وخطابه في الداخل الروسيِّ؛ فاعتبار العدوّ نازيّاً، والسعي لإظهارِه كذلك بوسائط دعائيّة شتّى، يُقوّي من مكانة بوتين بين الروسِ، سيّما العاديين غير المُهتمّين أو غير القادرين على قراءة ما يحدثُ بعيداً عن سلطة الخطاب الرسمي المهولة.
الأمرُ ليس أبيض أو أسود كما يحب الرئيس الروسي إظهاره. فثمّة أوكرانيّون قومويّون بانديريون، بل وحتى أوكرانيّون «نازيّو الهوى»، وهذا ليس موضع إنكار. لكن يجب في الوقت عينه عدم إغفال وجود أوكرانيّين رافضين للهيمنة الروسيّة وللبانديريّة على حد سواء. وتحديداً هذا ما يُقلقُ الرئيس الروسيّ. فحربُهُ الأخيرة موجّهةٌ في جزءٍ أساسيٍّ منها ضدّ هؤلاء المُناهضين له ولبـانديرا. وليس عصيّاً إدراك إلى أيّة درجةٍ يُساهمُ بوتين بــ «سعيه لإزالة النازيّة عن أوكرانيا» في تمتين التطرُّفِ القوميّ فيها. فهل ثمّة أساساً مصلحةٌ بوتينيّة في «غياب النازيّة» عن أوكرانيا؟ أعتقدُ أنّ العكس هو الصواب. فقوّة أيِّة نزعة متطرّفة، كما هو حال البوتينيّة، تستندُ بدرجة أساسيّة على قوّة النزعة المتطرّفة المُعادية، والمتمثّلة في هذه الحالة بالبانديريّة. كلُّ تطرُّفٍ مُحرّكٌ للتطرُّفِ النقيض. وبتعقّبِ مسارِ البانديريّة في أوكرانيا، خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفيتيّ، نجدُ أنّها تزدهرُ بجلاءٍ منذُ ضمِّ القرم، وتظاهرات ميدان، وبشكل مُتزايدٍ مع احتدام الخطاب البوتيني الأخير. وربّما أمكن اختصار الأمرِ بالقولِ إنّ نموّ البانديريّة من أبرز مكاسب فلاديمير بوتين في حربِه الراهنة؛ فكلّما اشتدّ عودها هناك، مَتّنَ خطابُه في الداخل الروسيّ وقُويت مُبرّراته الأوتوقراطيّة الحربيّة.
لا شكّ أنّ أوكرانيا تعيشُ، أسوةً بالعديد من دول أوروبا الشرقيّة، أزمة تطرّف قومويّ مُتزايدٍ، وهي في حاجةٍ ماسّة لمُعالجة هذه المشكلة بشكل جذري. لكن من أجلِ تخليص أوكرانيا من القومويّة المتطرّفة لا يمكنُ اللجوء لخطاب متغطرسٍ يستهزئ بها ويشكّكُ في أصالتِها، ومن ثمّ يُعلنُ حرباً على أرضها وبين شعبها. على العكس، هذه خدمةٌ كبيرةُ للقومويّين المُتشدّدين وحملةٌ دعائيّة لا تُقدَّر بثمنٍ لهم. فأوكرانيا المُحارَبة والمُهدّدة والخائفة لا تستطيعُ مُجابهة تاريخ حركتِها القوميّة بعينٍ نقديّةٍ. بينما أوكرانيا المرتاحة ستكونُ قادرةً على ذلك، وجليٌّ أن هذا تماماً ما يتفاداه الرئيس الروسيُّ، لأنّ أوكرانيا المُتحرّرة من إرث القومويّة التعس والمنفتحة على العالم ستُشكّلُ تهديداً لعرين «بانديرا روسيا».
وفي ختام هذه المقالة أودّ أن أستعينَ بتساؤلاتٍ دوّنها عالم النفس والروائي الأوكراني سيرجي غيراسيموف في أحدِ نصوصِه حول يوميات الحرب الراهنة في مدينته خاركوف:
أعرفُ تماماً ماذا جرى لحديقة Ecopark. تم قصفها. وقد هربت بعض الحيوانات، لكن معظمها بقي في الأقفاص، دون عناية، يموت من الجوع والعطش. (…) بعد أيام قليلة عاد اثنان من موظفي الحديقة لإطعام الحيوانات المُحتضرة. لكن بعض الروس قاموا بتمزيقهما بالأسلحة الآلية. (…) فهل كان هؤلاء البشر الذين حاولوا إطعام الحيوانات المُحتضرة نازيون؟ أو ربّما كانت القرود الجائعة أيضاً نازيةً؟ أو ربما كان أطفالها حديثو الولادة، الذين لاقوا حتفهم جوعاً وعطشاً، نازيين؟
كان في خاركوف ذات مرّة أقدم وأطول نظام ترام في أوكرانيا، أو ربما حتى في العالم. حينما أرى عربة ترام مُحترقة، مثقوبة بالقذائف، وبنوافذ محطمة، لكن واقفةً بعدُ على سكّتها، أتساءلُ إن كان كلّ الركاب في داخلها نازيين، أم السائق لوحده؟