تحب سلمى جسدها وشكلها، وتجد أن وجهها لا يتغير أبداً في الصور، وتفرح حين تقلّب صورها القديمة لتلاحظ أنها محافظة على ملامحها، لا تختلف أبداً عن صورها المنشورة منذ ثلاث سنوات بداية استخدامها لتطبيق إنستغرام. تستغلّ سلمى التطبيق للتعبير عن ذاتها، لتكتشف نفسها، وتراقب شكلها بينما تكبر، وتُعبِّرَ عن جسدها بالصورة المُشتهاة.
سلمى وبنات جيلها اللواتي لم يعرفن عن سوريا سوى الحرب، لا يجدن دمشق آمنة مثلما يُصدّرها الإعلام الرسمي للنظام السوري كمكان حيوي فيه حياة طبيعية. على العكس تماماً، انحسار الأماكن الآمنة التي تضمن لهنَّ نمواً طبيعياً ونشأة عادية يدفعهنَّ للبحث عن مساحات آمنة جديدة، ولو كانت افتراضية.
تعيش المراهقات في دمشق أسبوعاً روتينياً ممتلئاً بالدراسة والواجبات، بعضهن يتمكّن من سرقة ساعات لتصفيف الشعر، اختيار الملابس ولون أحمر الشفاه، والتقاط صورة في مكان ما يلفت انتباههنّ. كل تلك الساعات تنصهر وتختفي، الزمن يبدأ لحظة نشر الصورة على إنستغرام، لحظة الشعور بالجسد الثابت في صورة، لا ذاك المتحرك الذي جلس على كرسي لتصفيف الشعر، أو الذي غُلِّفَ بالملابس.
سلمى في العقد الثاني من عمرها، تقضي معظم وقتها باستخدام الموبايل، تحادث صديقاتها، وتستخدم إنستغرام لمشاركة صورها مع صديقاتها الكثيرات، وأصدقائها الذين يُعدّون على أصابع اليدين.
«بحب نزّل صورة وإيدي على خصري وعم ابتسم؛ بتطلع الصورة حلوة».
تجد سلمى أن ابتسامتها أكثر ما يميّزها وأجمل ما في صورها. تنشر صورها التي تحب دائماً، وبدون تفعيل خاصية إخفاء الصورة عن أحد، فهي تختار متابعيها بعناية. ومع أنها تستطيع ببساطة حذف التعليقات المسيئة أو الردّ عليها، إلّا أنها تلجأ مباشرة لاستخدام ميزة الحظر.
بعض المراهقات يخلقن المكان الافتراضي هرباً من السلطة المفروضة عليهنّ في الواقعي، في محاولات هروب من السلطة الأبوية والذكورية، التي يخضنَ حروباً أخرى جديدة معها حتى في مكانهنّ المرسوم، فكثيراتٌ منهن يتعرضن لمحاولات ابتزاز على صورٍ هُنَّ اللواتي اخترن نشرها، لكن تسريبها خارج نطاق المكان الافتراضي الآمن، يحوله إلى مجال يُخضِعهنَّ مجدداً لسيطرة السلطة الهاربات منها.
تعرضت إحدى صديقات سلمى للابتزاز. وقفت إلى جانبها وطلبت منها تجاهل الموضوع وعدم الرد على رسائل المُبتَزّ، في الوقت الذي حلمتا فيه سوياً أن تشتكيا؛ لكن سلمى تقول بسخرية: «أبوه واصل، وبيقدر يعمله واسطة بدقيقة ويطلع متل الشعرة من العجين».
تشعر سلمى بالخوف من طفولتها المبكرة، تقول عن بداية ذهابها إلى المدرسة: «كنت حسّ حتى وأنا بهالعمر الصغير ممكن موت». وهي تُصدّقُ كلمات أمها عن أن قصص الخطف حقيقية وموجودة، لذلك تتجنب الشوارع المعتمة والغرباء، ولا تمشي وحيدة إلّا فيما ندر.
على عكس سلمى، لم تقتنع ندى الأكبر عمراً بسنة واحدة بحقيقة حوادث الخطف إلّا موخراً، عندما اختُطف شابان صغيران من أصدقائها على طريق محافظة السويداء جنوب العاصمة دمشق، حيث تمّ استدراجهما لشراء موبايلات حديثة بأسعار رخيصة بشكل خيالي، ثم اختطافهما ومطالبة ذويهما بفدية مالية.
وقد ازدادت مؤخراً حالات خطف الأطفال لطلب الفدية، أو للثأر والانتقام، وبحسب توثيق المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإنه منذ بداية العام 2021 وحتى منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) منه، تمّ تسجيل 76 حالة اختطاف فقط في محافظتي القنيطرة والسويداء في جنوب سوريا، نفذّها مسلحون موالون للنظام، وفصائل مسلحة، ومسلحون مجهولون. بينما بلغ عدد حالات الاختطاف التي تمّ رصدها في كافة المحافظات على اختلاف مناطق السيطرة، ما يزيد عن 640 حالة، بينهم رجال ونساء وأطفال.
تحكي ندى: «خطف الصبيان يعني فدية أمّا خطف البنات فيعني اغتصاباً». هذا ما أججّ مخاوفها بعد اختطاف صديقيها، ثم عودتهما سالمين بعد دفع الفدية، إذ تبقى بنظرها حياة الشبّان آمنة أكثر.
تحاول التعامل مع خوفها عبر الظهور مع أصدقائها بملابس محافظة دائماً، فهذا بحسب تعبيرها هو ضمانها الوحيد لتحاشي الحكم عليها بأنها تستعرض جسدها، ولتتنجب النظرات المخيفة في الشارع، التي تشعرها بأن سوءاً سيحلّ بعدها حتماً، لكنها تؤكد على الرغم من ذلك أنها تتعرض للتحرّش اللفظي، وهو ما يعرف بـ «التلطيشات».
مثل سلمى، تستغلّ ندى تطبيق إنستغرام للتعبير عن نفسها. تقول إنها تهوى الكنزات المفتوحة من عند البطن، لكن لبسها في الشارع يُشعِرها أن عيون الشبان تقتحم بطنها تماماً، لذلك تنشر صورها بالثياب التي تحبّ على إنستغرام، مع اختيار مجموعتها المقربة التي تثق بها وتفعيل خاصية (close friends) التي تتيح فقط للأصدقاء المُقرَّبين رؤية الصور.
تختار صورها التي يَظهر فيها جسدها كاملاً، وتبتعد عن صور السيلفي التي تُظهر وجهها فقط، وتبتعد أيضاً عن استخدام الفلاتر. تقول إن الفلاتر للصور التي تضعها لمدة يوم واحد فقط على خاصيّة القصة، أمّا الصور الطبيعية فتلك للنشر.
تُشبِّهُ ندى الرسائل التي تصلها عبر بريد إنستغرام بالمشي في الشارع، تسلبها أمانها، فأي شخص قادر على إنشاء حساب وهمي ومراسلتها، وغالباً ما تكون هذه الرسائل «من الزنار وتحت» بحسب تعبيرها، أي مليئة بالكلمات والتلميحات الجنسية.
تشارك نور صديقَتها ندى حبَّ الكنزات المفتوحة عند البطن، وتجد في بطنها الجزء المفضل من جسدها الذي تحب أن تظهره: «بحس حالي حلوة، وحرة، وواثقة من حالي». تعتمد ارتداء الجواكيت الخفيفة وإغلاق سحّابها، لتستغني عن الجاكيت عند وصولها إلى المكان الذي ترغب بقضاء وقتها فيه.
بالنسبة لنور، تطبيق إنستغرام يتيح لها أن تكون على حقيقتها، تلبس كما تشاء، تتصور كما تشاء، وتستخدمه لنشر صورها بكثافة، وتبتعد تماماً عن استخدام الفلاتر التي قد تُغيّر شكلها؛ تخيفها فكرة أن تبدو مختلفة في الواقع.
تأخذ الصورَ في كل الأوقات حتى في المنزل، كل ما تحتاجه «كنزة حلوة بالصور»، وترتيب أحمر شفاهها.
تستعير موبايل أخيها لأنه حديث وكاميرته أكثر تطوراً، وتتصور أمام المرآة أو على شبّاك غرفتها في الشمس، فالصور تكون أجمل برأيها. ومع حبها لالتقاط الكثير من الصور، إلّا أنها تشعر بفقدان معنى الجمال في الصورة. الواقع يظهر التفاصيل الحلوة التي تخفيها اللقطة، فالصورة مجرد لحظة والجمال الحقيقي لا يُحصَر في إطار.
تلجأ أحياناً لإخفاء الصور عن أولاد عمها، فعلى عكس أُسرتها، أبناءُ عمّها أقل انفتاحاً ويسمحون لأنفسهم بالتدخل في مظهرها. ويتجاوز الموضوع التدخل، بل يجدون الخروج إلى المقاهي والمطاعم حكراً عليهم كشبان. تُوضح أنها لا تخاف منهم، بل تخشى أن يزعجوا والدها بتعليقاتهم، تتحدث عن والدها بكل حب وهي تصفه كيف يستمع لتلك التعليقات، ولا يشاركها معها حتى.
«ما بحب بابا يسمع ويحصر بقلبه، لأنه بأسوأ الأحوال ممكن يحكي لماما، وما بيخبروني ولا بيزعجوني».
تتحايل نور على واقعها لتعيشَ كما تحب وتكتشفَ نفسها وهي تتغير وتكبر. تستخدم إنستغرام منذ أربع سنوات، وتحتفظ بصورها القديمة لنفسها من خلال خاصية الأرشفة. تنظر إلى صورها القديمة وتضحك على نفسها أحياناً لأنها كانت تتصور بوضعيات مُضحكة وطفولية، وتحب أن تراجع الرسائل القديمة لتكتشف أنها نضجت، وأن أسلوبها في الكلام قد تَغيَّر.
فيما يتعلق بمظهرها في الشارع، تتعامل نور بحسب مزاجها. لا تشعر أنها جاهزة دائماً لما قد يحصل في الشارع، تحكي عن نظرات الشبان الذين في عمرها أنها قد تكون نظرات إعجاب طبيعية، لكنها لا تستطيع فهم تصرفات رجال من عمر والدها، وتخشاها.
في المرة الأولى التي دافعت فيها عن نفسها كانت في مواجهة رجل أربعيني. بحجة الازدحام حاول لفَّها ووضع يده على ظهرها، وعلى الرغم من دهشتها صفعته على وجهه، وبدأت بالصراخ ليلتم عليه جميع من في الشارع.
بالتأكيد نور من القليلات اللواتي يتمكّنَ من الدفاع عن أنفسهن، لكنها ليست الوحيدة التي تتعرض لهذا نوع من التحرش، فقد أصدرت لجنة الإنقاذ الدولية تقريراً اعتبرت فيه أن سوريا واحدة من أصعب خمسة أماكن لتكبر فتاة فيها، بسبب ما تتعرض الفتيات له من قضايا السلامة، والتي كان أحدها العنف الجنسي.
كل ذلك يدفع نور لاختيار أماكنها بعناية، فهي تقضي معظم وقتها في حيّ المالكي، أو ساحة المطاعم، حيث تدفع ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما تدفعه في أماكن أخرى، لكنها ترتاح أكثر، ففي المرة الوحيدة التي جلست فيها في مطعم وسط دمشق، عرضَ عليها وصديقاتها صاحب المطعم شرب الكحول، وسألها إذا ما كانت قد جربت الفودكا مع الليمون من قبل. تسترسل نور في وصف التجربة: «أول ما دخلنا حكا لرفيقتي: حلو الأحمر عليكي، بعدين صار يسأل باستغراب إنه عنجد نحنا صف تاسع، ضل واقف عند طاولتنا عأساس عم يخدمنا، بس أنا ما كنت مرتاحة».
تعتبر تجربتها تلك بمثابة انتقالها إلى مرحلة أخرى من الوعي، اكتسبت معها مخاوف تمنعها من دخول مطاعم ومقاهي غريبة، أو حتى المشي في حارات لا تعرفها في دمشق وغير معتادة عليها. تَحجَّمَ مفهوم الأمان منذ زمن بالنسبة لنور، إذ تجده نقيض الموت. أكثر ما أرعبها في حياتها فكرة أن عائلتها قد تختفي وكأنها لم تكنّ، وذلك عندما حاصر عناصر تنظيم داعش مدينتها الواقعة شمال شرقي سوريا، قبل أن تستطيع العائلة كلُّها الهرب إلى دمشق: «انحبست كل العيلة ببيت واحد. فكرة إنه نموت كلنا كانت الوحيدة ببالي والضرب شغّال».
هروب نور من مدينتها لم يكن الوحيد، فمثله هربت من أحياء تجهلها في دمشق، إلى المألوف حيناً وإلى ذاك الافتراضي الذي ترسمه مع صديقاتها ليصبحَ المكانُ الواقعيُ بكل بهرجته بلا معنى أمام المكان الافتراضي، الذي من خلاله يقلن: نحن هنا، وكأن الجسد يَلجُ عوالم جديدة ويتفاعل معها متجاوزاً الحيّز المكاني. المراهقات في سوريا مثلهن مثل النساء السوريات، يعشنَ بشكل يومي مع صراع الحصول على مُلكيتهن لذواتهن، ويتعاملنَ مع إشكالية الجسد والقوة التي تحاول السيطرة عليه وقمعه.
تتذكر سلمى كنزتها البيضاء مفتوحة الأكتاف التي تحب. كانت تمشي وهي راضية وتشعر بكامل جسدها، حتى أوقفها شاب يرتدي زياً عسكرياً وحاول التودد إليها. لم تستطِع تمييز ما إذا كان عسكرياً في الجيش أم عنصر شرطة، لكنها كانت واثقة أن مهمته حمايتها، وواجهته بذلك بقلبها الصغير الصلب. تقول إنه غيّرَ طريقه يومها، لكنها اقتنعت أن شيئاً يؤذيها يمكن أن يحصل في أي لحظة.
نشرت سلمى صورتها بالكنزة البيضاء التي تحبّ، هي من صورها المفضلة، ونَشرُها أعاد لها ثقتها باختيارها لملابسها. كل تعليقات الصديقات كانت مُشجِّعة، على عكس ما شعرت به في الشارع.
تحاول سلمى تَخيُّل شكل الحياة قبل الحرب، وتكاد تبكي. في رأيها أن كل المضايقات قد تكون موجودة قبل الحرب، لكن الحرب وغياب سلطة القانون جعلاها تتفشى. تميل للتعامل مع كل ما يجري بطبيعية، فهي كأغلب السوريات تشعر بالعجز حيال ما يجري، تسمع عن الاغتصاب وتشعر أنه موجود وحقيقي، لكنها تؤمن أنها ستأخذ حقها بنفسها مهما حصل، حتى لو كان الأمان يعني مكاناً تستطيع فيه أن تشتكي للقانون وتحصل على حقها، عكس ما يحصل تماماً في دمشق.