تَستخدِمُ صورة الأرخبيل مراراً، مرة عند التحدث عن الثوريين العلمانيين، ومرة عن الجيش السوري الحرّ، اللذين افتقدا لمركز ثقل ولتلاحم ما. وكذلك في كلامك على مجتمعات السوريين اللاجئين الذين أُجبروا على أن يجعلوا العالم عالمهم، ثم عند الحديث عن أولئك الذين يساعدون اللاجئين حول العالم، حتى أنك ترى في هذا النموذج الأرخبيلي مشروعاً سياسياً جنينياً. هذا ما ورد في كتاب جوستين أوجييهAugier, Justine, Par une espèce de miracle, l’exil de Yassin al-Haj Saleh. Actes-Sud, 2021.. وتتسق هذه الفكرة مع أفكار سياسية كوزموبوليتية جديدة تحاول أن تعيد التفكير في العالم والسياسية من وجهة نظر الهجرة والمهاجرين، مثل أفكار إيتيين تاسان في فرنسا. كيف يمكننا أن نجد مركز الثقل في هذا الأرخبيل الجديد؟
ليتني أعثر على إجابة على هذا السؤال. أجدُ نفسي موزعاً بين الحاجة إلى رؤية أو مشروع جامع، بديل، لا يمكنه إلا أن يكون عالمياً، وبين الخشية من مشروع كبير، مركزي، يلعب في عالم اليوم الدور الذي لعبته الشيوعية السوفييتية كمركز لعالم بديل، مركزٍ أَجهضَ باستبداديته وخموله الفكري وأحادية صوته التطلَّعَ إلى عالم أفضل في النهاية. نحن اليوم في عالم يزداد على نحو مفارق تقارباً وتشظياً، توحداً وتمزقاً، وتبدو السياسة في كل مكان إدارة بلا رؤية لأوضاع تنفلت أكثر وأكثر من التحكم، هذا حين لا تكون تنظيماً للقتل والتعذيب. القانون الدولي في انهيار متسارع، والأمم المتحدة عاطلة عن الفعل. والغرب الذي صاغ المؤسسات الدولية منقسم بين الحِفاظ على ما لديه وبين ميل لاحتواء خصوم صاعدين، ولا يبدو أن له فرصاً حقيقية بالنظر إلى أنه لا يملك اليوم شيئاً إيجابياً يؤسِّسُ عليه أياً من الخيارين. ماذا هناك؟ الديمقراطية؟ خذلتها الحكومات الغربية حيثما ناسَبها ذلك، هذا حين لم تكن تلك الحكومات، والإدارة الأميركية بخاصة، سنداً لنظم متوحشة. والديمقراطية تتآكل في الغرب ذاته مع صعود التيارات الجينوقراطية. حقوق الإنسان؟ الشيء نفسه. فرنسا صديقة لنظام السيسي، وترى أن بشار عدوٌ للسوريين، فيما عدوها هي داعش. أي أن من يقتل محكوميه وحدهم هو مشكلةٌ لأولئك المحكومين، وليس لفرنسا أو للأمم المتحدة أو للعالم، وأن مشكلة فرنسا مع داعش أنها ربما قتلت عشرة أو عشرين فرنسياً، فيما ليس ثمة مشكلة في قتل ألوف السوريين والعراقيين وغيرهم، إن على يد داعش، أو خاصة على يد «الدولة». الغرب طليعي بالمقابل في «الحرب ضد الإرهاب» التي تُحوِّلُ الدول في منطقتنا إلى وكالات أمنية محض، وتقوّض الديمقراطية والحركات الشعبية في كل مكان، وتناسب أكثر أمثال بوتين ومودي والسيسي وبشار الأسد، وطبعاً إسرائيل. هؤلاء كلهم يجيدون لعب اللعبة الأميركية أكثر من الأميركيين المُقيَّدين جزئياً بمجتمع تعددي ونشط. ويبدو أنه يسود الظن في الغرب أنه يمكن الحفاظ على الأوضاع الحالية في بلدان الغرب دون انشغال بما بعد، أي دون تَوجُّه كوني، ودون رؤية لمزيد من الحقوق والحريات والمساواة على المستوى العالمي. لا، لا يمكن. في بيئة عالمية متأزمة، الحفاظ على ما هو قائم سيقود عبر الأزمات إلى نزعات محافظة نشطة، إلى نزعات قومية وسياسة حدود وهوية، إلى الفاشية أو ما يقاربها. ومنذ الآن تبدو مارين لوبّان خياراً سياسياً وجيهاً في فرنسا، وهي لم تكن كذلك قبل سنوات. تدني نوعية السياسيين الذين نراهم في الغرب متصل بالافتقار إلى رؤية، ثم بانحدار السياسة إلى منهج إدارة الأزمات. هذا المنهج الذي يهمل قضايا العدالة والحقوق هو، بالمناسبة، ما انتهجته القوى الغربية، وبخاصة الإدارات الأميركية المتعاقبة، في الشرق الأوسط على الدوام. فلسطين مثال عريق، ومنذ 11 عاماً سورية. فكأننا هنا نرى مفعول «البومرانغ»، انقلابُ السحر على الساحر مثلما نقول في العربية. الأقوياء الذين تمرَّسوا بمعاملة الغير تمييزياً في الخارج سيتعلمون أن يفعلوا الشيء نفسه في الداخل. هنا تأخذ عبارة سَريَنَة العالم دلالةً إضافية.
أخشى شخصياً النموذج الصيني، دولة بسكان يقتربون من مليار ونصف، تضيق بنشر مقالة في صحيفة هنا أو فيلم هناك، وتضغط لمنعهما. ويقف على رأسها بعد ذلك زعيم يحكم مدى الحياة، وتضع مليوناً من مسلمي الأيغور في «معسكرات إعادة تثقيف». ليست هذه بعدُ مصانعَ للجثث، على ما وصفت حنه آرنت معسكرات الاعتقال النازية مستعيرة من هايدغر، ولكنها مصانع لأَحياء منزوعي الروح، شكل مختلف بعض الشيء لـ«المسلمان» الذي وصفه بريمو ليفي في تلك المعسكرات وذكره جان آمري، يحدث هذه المرة أنه مسلم بالفعل، وليس ملقَّباً بالمسلم فقط. أخشى كذلك حاكماً مثل بوتين، مهووس بالعظمة والفرادة، عظمة روسيا وفرادتها كما عظمته هو وفرادته، طاغية قومي متطرف، يرى تفكك الاتحاد السوفييتي تراجيدياً من موقع قومي روسي إمبريالي، وليس من موقع سياسات اجتماعية أقل تمييزاً، ويستطيع أن يمارس سياسة عداء نشطة للمسلمين، ويصرح وزير خارجيته بأن روسيا لن تسمح لحكم سني في سورية، ثم يزايد على الغرب من مدخل الحرية بالذات، فينعي عليه إهانة مشاعر المسلمين بالتعريض بالنبي محمد! هذا مقزز.
أودُّ أن أؤمن بأن هذا تعدد مراكز مرغوب، أو طور تحول بين مركز غربي يأفل، ومركز صيني أو صيني روسي يصعد، طوراً يمكن أن يمتد لعقود، ويحمل معه فرصاً ومخاطر. لكن منطق الخبراء هذا يطبع كل ألم إنساني على مذبح إله اسمه التاريخ. والصاعدون الجدد لا يَعِدوننا بشيء، لا يقولون لنا شيئاً إيجابياً، ويجدون أنفسهم في كل موقف إلى جانب قوى الطغيان والموت في بلدنا وإقليمنا.
وأُقِّرُ بأن آمالي محدودة في أن يتغير هذا المنوال بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. أرجو أن تهزم روسيا وأن يدفع بوتين وفريقه ثمن الهزيمة، لكن لا يحق لنا أن ننسى أن الولايات المتحدة التي تقف ضد روسيا في أوكرانيا كانت روسيا أخرى في بلدنا.
أخيراً، بخصوص صورة الأرخبيل، يمكن أن نرى شيئين متناقضين. ففيها من جهة تعبير عن قوة انتشار الحياة، الخروج من العماء واكتساب الشكل، وكذلك المرونة والصمود، واحتمال التشكل في قارة، لكن من جهة أخرى التناثر والتشظي ونضوب الحياة، وتآكل القارة قبل عودتها إلى الغمر مثلما يفترض أنه حصل للأطلنطيد. يبدو الأرخبيل أوثقَ صلة بالبدايات والنهايات، بالظهور والاختفاء، بأوقات الولادة وما قبل الموت. الثمين في صورة الأرخبيل هو أنه يُحيل إلى الأفقية، أوضاع وعلاقات غير تراتبية، تقوم على التفاعل بين متساوين وجودياً لا على علاقات سلطة وطاعة.
لكن يبدو أننا اليوم في وضع أرخبيلي يغلب فيه التناثر والتشتت، وليس الولادة واكتساب الشكل. ويبدو أن حاجتنا إلى خيال سياسي «قارّي»، يجذب ويوحد، تزيد مع ما يبدو من أننا نسير نحو أزمة عالمية، وإلى جهد عالمي مُنسَّق للخروج منها.
يبدو أن تجربة غياب زوجتك جعلتك تعيد اكتشاف كلمات جوديث بتلر حول «الحيوات غير المستحقة للحداد»، كما أن تجربة حبسك في سجون الأسد لمدة 16 عاماً، جعلتك تختبر مفهوم «الحياة العارية» لأغامبن، من الداخل، أغامبن الذي قَرأتَه كما قرأتَ بتلر. إن التفكير من منظور تجربتك السورية يجعلك تعيد اكتشاف أفكار طُوِّرَت في الغرب في سياقات أخرى، ولكن هل تقودك تجربتك إلى التفكير أكثر، أو في أشياء أخرى؟ كيف يمكن أن تلخصها؟
الواقع أن معرفتي بالأعمال المذكورة تعود إلى ما بعد خروجي من سورية، وبصورة أساسية بعد الانتقال إلى ألمانيا في 2017. تجارب الثورة والحرب، وغياب سميرة، أعادت تفعيل مركزية تجربة السجن، في تفكيري، وبالتالي العنف والتعذيب والحيوات الضائعة والمُبَّددة التي لا يؤسى عليها، وهو ما يقود إلى بتلر وأغامبن، وفوكو ومبمبه، وكتابات الناجين من الهولوكست، وأدبيات الإبادة، وكذلك العمل الأميركي اللاتيني عن التغييب. هذه التجارب، الغياب والتعذيب والحيوات المستباحة والخسارة وحياة اللجوء المُعلّقة، هي ثيمات متكررة ومعززة في شغلي بفعل تمفصلها مع تجارب شخصية وعامة. بعد الهول الذي خبرناه، يبدو لي أن هناك شيئاً واحداً صحيحاً أقوم به ككاتب، هو إيجاد الكلمات الأنسب لتمثيل هذه التجارب. نحن هنا على الأطراف القصيّة للإنساني، على الحدود الخطرة بين المعنى والعنف، في جوار ما لا يقبل التمثيل.
في التاريخ الإسلامي يجري التمييز بين دار الإسلام التي تسودها قواعد الإسلام ورموزه وبين دار الحرب التي تنتظم العلاقة معها مبدئياً حول الحرب. ربما يجب أن نميز اليوم بين دار المعنى ودار العنف. المعنى هو اللغة المشتركة بين البشر التي يهدد زوالُها بانتشار العنف وتَعمُّمه. هاتان الداران ليستا منطقتين من العالم، بل ممكنان دائمان في كل منطقة وفي العالم ككل. ما خبرناه في سورية طول نصف قرن من الحكم الأسدي هو غياب المعنى العام، لغة نتفاهم بها ونتحاور بها ونشرح لبعضنا ما نشعر به. كانت سورية داراً للعنف بقدر ما تدهور المعنى فيها، أو هو قُتلَ من بين ما قُتلَ من سورية وأهلها. يمكن القول لذلك إن المعنى مِرفق عام بالغ الأهمية، وأن الاستثمار فيه مستحق لكل جهد. من لا نملك معهم لغة مشتركة نميل إلى التقليل من شأنهم، ربما نزع إنسانيتهم، وحتى استباحتهم. الاستباحة تعني إنتاج إنسان أغامبن المباح، المتروك بلا حماية، يضربه الجميع ويؤذيه الجميع دون عواقب، ودون أن يكون لموته قيمة قربانية، أي دون أن يكون شهيداً. أليس هذا بصورة ما حال السوريين خلال 11 عاماً؟ كانت حياة ما قد يتجاوز نصف مليون حياة لا يؤسى عليها، غير مستحقة للحداد في نظر القتلة. النظام منعَ بالفعل أُسراً كثيرة من إقامة مآتم لأبنائها حيث استطاعت أصلاً الحصول على جثثهم. والغالب أنها لم تستطع، وهناك مقابر جماعية في مواقع مجهولة مختلفة حول دمشق، من أناس غير معلومين، لا يُتحسَّر على حيواتهم. مثل ذلك فعلت داعش وفعل جيش الإسلام الذي خطف سميرة ورزان ووائل وناظم. عوملت حياة المفقودين كغير مستحقة للحداد، وحُرمنا نحن الأهالي من الحداد، فصارت حياتنا نيابةً مستمرة عن حداد غائب.
هل يمكن العمل من أجل أن يكون العالم دار معنى واحدة، أو دار معاني تقبل الترجمة؟ هذا أفق مستحق بدروه لكل جهد. وأعتقد أن الانكباب على التعذيب والاغتصاب والحرب والتغييب والخسارة يمكن أن يُكوِّنَ الأسس الأصلب لدارِ أو ديارِ معنى نصبو إليها عالمياً. المعنى أفق، تواصل يتسع وتفاهم يتحسن وإصغاء يتبادل، وليس نظاماً يتحقق ناجزاً في أي وقت. أحاول المساهمة في ذلك مستنداً إلى تجاربنا المزعزِعة وإلى الطاقات التعبيرية للغة العربية، ومستفيداً من كتابات غربية تتميز عن المتاح عربياً بحس فلسفي قلّما كان قوياً في ثقافتنا الحديثة بفعل غلبة الهموم العملية والتعبوية.
من بين قراءاتك الغربية الأبرز هناك حنّة آرنت التي كتبت عنها نصاً، وهي تأخذ موقعاً كبيراً في الكتاب الذي كرّسته جوستين أوجييه لك. هي يمكن أن تقول المزيد عنها؟ لماذا أصبحت «بطلتك»؟ هي التي كتبت أصول الشمولية وآيخمان في القدس وشرط الإنسان الحديث، والتي ترى في السياسة «حباً للعالم» (آمور موندي)، والتي كتبت الشعر طوال حياتها.
نشرتُ في الواقع أربعة نصوص تتفاعل بصور مختلفة مع عمل آرنت الذي لم أطّلع عليه بصورة منهجية إلا في السنوات الأخيرة في ألمانيا، وبخاصة في 2018 و2019 وقت كانت جوستين تعمل على كتابها. آخر النصوص الأربعة يحاول الإجابة على سؤال لماذا الاهتمام بالمفكرة الألمانية الأميركية، ويجيب عليه بالتعريف بمن هي، ثم بما فعلت. هي لاجئة مرتين، في فرنسا وأميركا، يهودية، كان يمكن أن تُقتل لو لم تفرّ إلى فرنسا في وقت مبكر من الحكم النازي. أو لو وقعت بيد النازيين بعد ذلك بثماني سنوات إثر احتلالهم لفرنسا. المعطى الأول يتصل بالتالي باللجوء. ثم أني أجد نفسي منجذباً أكثر إلى أعمال المفكرات النساء والنسويات في السنين الأخيرة، ربما بأثر حلول سميرة فيَّ بعد غيابها. هذا معطى ثان. في أميركا صارت آرنت مثقفة مشهورة، وألَّفت كتباً مهمة وأصيلة، أولها جذور التوتاليتارية الذي كنتُ قرأتُ القسم المترجم إلى العربية منه، التوتاليتارية، بعد خروجي من السجن. ستلزم عشرين سنة قبل أن يتاح لي أن أقرأ الكتاب كاملاً. يشدني إلى آرنت كرامة الفكر في عملها، أصالة تفكيرها، شجاعتها الأخلاقية، وقدرتها على أن تكون وحيدة. أحب أفكارها حول الشر في آيخمان في القدس، ومفهومها للتفكير كحوار مع النفس يتكون الضمير من خلاله، وهو مفهوم مستعار من أفلاطون وتواتر وروده في الكتاب نفسه، وفي غير مكان من عملها. مركزية الحرية في تفكيرها تقرب منها بصورة طبيعية السجينَ السابق. وظلت فكرة حب العالم المستعارة من القديس أوغسطين مركزية في تفكيرها حتى بعد ما نالها من طعن وتشهير وتبرؤ إثر نشر آيخمان في القدس. تبدو هذه الفكرة تقدمية جداً في عالم اليوم الذي يكثر كارهو العالم فيه من قوى جينوقراطية، تبني سياسة اليوم على هويات متكونة في الماضي، وتخاف الاختلاط والتمازج والهجنة. السيادة الصلبة وعودة سياسة الحدود، وإنشاء أوروبا قوةً عسكريةً مولجة بحماية «حدود القلعة»؛ فرونتكس، والأسوار التي تبنى ضد حركة المُقتلَعين والضعفاء هذه المرة، وليس ضد الجيوش الغازية، كلها تعبيرات عن كره العالم الذي يتجسد بخاصة في المقتلعين والمهاجرين، أي الذين ينتمون إلى العالم بالضبط لأنهم لم يعودوا ينتمون إلى أي مكان محدد. ليس هذا شرطاً هنيئاً بحال، لكنه يمكن أن يكون خصباً للتفكير.
انتقادي الأساسي لعمل آرنت ينصب على فكرة التفكير ذاتها، وتحديداً على غياب الغائب من تفكيرها. فإذا كان التفكير حواراً لي مع نفسي، مرتبطاً بنظري إلى نفسي من موقع شخص آخر، على ما قالت آرنت مستندة إلى أفلاطون، فمن يحتمل أن يكون هذا الشخص الآخر؟ ليس المرأة، وليس العبد، وليس الأجنبي، كما نعلم بخصوص أثينا التي تَولَّد هذا التصور للتفكير فيها. وليس المهاجرين والمقتلعين المُعنصرين، وليس الأنواع الحية وإطار الحياة البيئي. آرنت أقصت المسألة الاجتماعية من تصورها للسياسة، واستخفّت بالنسوية، واعترضت على تدخل الدولة لفرض اختلاط الأعراق في المدارس. أراها مخطئة في كل ذلك. لا يستقيم حب العالم، وكل هؤلاء غائبون. ولا تستقيم السياسة ذاتها. لا يستقيمان إلا بقدر ما يتماثل الغائبون للحضور. مفهوم العلاقة الغربي ثنوي جوهرياً. أتصور أننا في حاجة إلى تصور ثلاثي للعلاقة، يشمل الغائب. أفكر في الثورات والحركات الاجتماعية كأشكال لحضور الغائب، للوجود في العالم، ولاستحقاق الحب فيه. الحركة الاشتراكية شكلٌ لدخول البروليتاريا، ومناهضة العنصرية شكلٌ لدخول المهاجرين وغير البيض، والنسوية لحضور النساء، والحركة البيئية لحضور البيوسفير. لكن التفكير لا يزال قائماً على الحضور، على الحوار الثنائي، وليس على الاشتراك مع الغائب. كانت حنه آرنت مركزية أوربية بقدر كبير، ولا تتصور شكلاً للفكر والسياسة خارج الإطار الغربي. اليوم هناك غير قليل من كُره العالم في الغرب، وكارهو العالم يبدون في صعود. ولا نشكو نحن من قلّتهم في مجالنا. الإسلاميون كارهون للعالم بتفاوت. تمفصل دين المسلمين مع كره العالم هو ما أنتج هذه الكائنات العدمية المستحيلة مثل داعش.
يمكن إعادة التفكير في مفهوم الثورة كتطلّع إلى عالم نحبه أكثر ونحب انتماءنا إليه.
تقول إنه حين يتعلق الأمر بالعنف السياسي، فإن خبراء الشرق الأوسط هم جزء من المشكلة (أوجييه 299)، وأن جزءاً آخر من المشكلة يأتي من «الإيديولوجيين» الذين لا يفاجئهم شيء، كما يقول ألتوسير، في نص بعنوان التفاجؤ. تقول إن القدرة على التفاجؤ بالواقع الذي يجري هو ما يتيح للمرء أن يكتب ويفكّر؛ هل يمكن للتفاجؤ أن يتيح للمرء الفعل؟
خبير الشرق الأوسط الغربي هو، في خلاصة مكثفة، باحث لا يحب أنظمتنا، لكنه يكره مجتمعاتنا. في أزمنة الثورات التي بدا فيها أن المجتمعات تملك الكلمة لأول مرة، ظهر كرجعي متعصّب، دولاني التفكير، يفضل لنا أمثال بشار الأسد والسيسي، رغم أنه كان أقرب إلى نقدهما في أوقات الرخاء. يتراوح هذا الخبير بين خطاب ثقافوي لا يكف عن الكلام عن الإسلام والسنة والشيعة، وعن المسيحيين والأقليات، التي يتعاطف معها تعاطفاً دوغمائياً ماهوياً بصرف النظر عن مواقعها الفعلية في هياكل السلطة والثورة في بلداننا حتى حين تكون هذه المواقع مميزة كما هو الحال في سورية، وبين خطاب جيوسياسي متمركز حول مصالح الغرب وإسرائيل، ويفضل «الاستقرار»، ولو قام على الجماجم. إنه وريث المستشرق كإداري معرفة استعماري بالمعنى الذي انتقده إدوارد سعيد.
هذا الخبير متعصب، ممتلئ بحس التفوق ويعتقد أنه يعرف بلداننا خيراً مما نعرف، وأنه عقلاني أكثر منا، وإننا انفعاليون ميالون إلى الغضب بينما هو موضوعي. قد يتفهمنا ويتعاطف مع ما نشعر به، لكنه لا يرانا بحال شركاء أو أنداداً. ثم إنه ينطبق عليه ما قاله ألتوسير عن الإيديولوجي من أنه لا شيء يفاجئه. يستنتج أوضاعنا استنتاجاً منطقياً من ذهنياتنا وعقائدنا، أو من جغرافيتنا السياسية، فيطور مواقف جبرية فيما يتصل بأنظمتنا السياسية، ويعطي في المحصلة شرعية للأوضاع القائمة. نيكولاوس فاندام الذي يدهشني استفتاء سوريين مناهضين للنظام له في شؤون كثيرة مثالٌ ناطق. وجوشوا لاندس مثالٌ من النوع نفسه. وأعتقد أن هذا هو التكوين النمطي للمبعوثين الدوليين من أمثال بيدرسون ودِمستورا قبله.
النظير المحلي لدينا للخبير الغربي في الشرق الأوسط هو الإسلامي. يعتقد أنه يعرف كل ما هو أساسي عن الغرب، ويرده كذلك إلى دين (المسيحية) وإلى علمانية أو مادية دون أن يشعر بالتناقض. وهو غربوفوبي تكوينياً، منذ ظهرت الإسلامية في سياق ما بعد كولونيالي قبل نحو قرن من الزمن. لا شيء يفاجئ الإسلامي كذلك. هو يعرف كل ما هو أساسي عن كل شيء مهم في عالم اليوم. هذا بينما هو في واقع الأمر لا يكاد يعرف شيئاً ذا قيمة.
كذلك كان التيار الشيوعي الرئيسي، السوفييتي والتابعين له، من هذا الصنف الذي لديه إجابة «علمية» ناجزة على كل شيء. هذا لم يلغ المفاجآت، بل ترك المجتمعات والدول والأفراد نهباً لها، غير مهيئين للتفاعل مع الحدث والطارئ والمستجد.
إنكار المفاجئ قد يأخذ شكل تقريرِ أن كل الأشياء مفاجئة بالقدر نفسه، لأنها من فعل فاعلين مُغرضين أشرار، وهو ما يمحو الفارق بين العادي والمفاجئ. سورية عاشت حالة استثناء منذ عام 1963 باسم أوضاع طارئة دائمة، بفعل الحرب مع إسرائيل، جعلت حيواتنا نهباً للداهم والطارئ والمفاجئ طوال الوقت. لكن ليست الحرب الغنية بالمفاجئ تعريفاً هي سبب حالة الاستثناء أو الطوارئ. العكس هو الصحيح، تحويل البلد إلى فضاء استثناء دائم هو ما أنتج الحرب ووجهها نحو الداخل السوري، وهذا لأنها، حالة الاستثناء (أو الحصار)، هي البيئة المثلى لسلب الناس القدرة على التفكير والاعتراض، ووضعهم في موقع مُتَّهمين دائمين بالخيانة الوطنية، وإطلاق يد نخبة السلطة في المقدرات والموارد العامة. أي بالفعل إنتاج الحياة العارية التي تكلم عليها أغامبن، أو الحياة التي لا يُحد أو لا يُتَحسَّر عليها بحسب بتلر. وخلال ما يقترب من ستين عاماً من الاستثناء، جرت حربان ساخنتان كبيرتان في سورية خلال زمن الطوارئ الأسدي الذي هو عبارة عن حرب أهلية دائمة، تمتد اليوم إلى 52 عاماً، كامل نصف تاريخ الكيان السوري الحديث وضعف مدة الاستعمار الفرنسي لسورية. الحاضر الأبدي السوري مصنوع من حالة استثناء دائمة، أو بالأحرى من ديناميكية استثناء، وليس من حالة ركود و«تاريخ بارد».
وتتصل بديناميكية الاستثناء حالةُ «أنوميا» شاملة كتلك التي تكلم عليها دوركهايم؛ فوضى وامتناعٌ للتوقع وعُسرُ توجه، وتوتر في النفوس وانفعالات شديدة ومَنَازعُ انتحارية. لا أرى إلا أن الإسلاميين نتاجٌ لحالة أنوميا شاملة تتصل بالأزمة العامة للمجتمعات العربية المعاصرة، وتقترح لها حلولاً انتحارية تفاقمها.
«الاستثناء العربي» الشهير من الديمقراطية مكتوبٌ في كون الشرق الأوسط فضاء استثناء دائم، بحرب كبيرة كل عشر سنوات، نُهزم فيها كمجتمعات أمام الدول المنتدبة علينا، وكما نهزم كدول أمام القوة المدعومة غربياً، إسرائيل، وقت كانت دولنا محاربة للاستعمار (الجيل الأول أو ربع القرن الأول ما بعد الاستعمار). الدولة في مجالنا تطورت خلال نصف القرن المنقضي لتصير عكس نموذج الدولة في أوروبا: تنتخب شعبها الصحيح ولا ينتخبها الشعب، تحارب الشعب ولا تحارب المعتدين الأجانب، وتتعامل مع الداخل بعين السيادة الواحدية ومع الخارج بعين السياسة التعددية. لتصير كذلك نقيض ما كانته الدولة الاستقلالية، بما فيها الناصرية ذات السجل المختلط. إنها اليوم استمرارٌ للاستعمار بوسائل أخرى، محلية.
الشرق الأوسط العربي هو كذلك فضاء ترثيث يلتقي فيها تخريب الريع النفطي للهياكل الإنتاجية وتقويض العلاقة بين العمل والدخل، وشرط كولونيالي متجدد بفعل الدولة كاستمرار للاستعمار والواقعة الإسرائيلية المدعومة غربياً، والقادرة على هزيمة العرب دوماً، مثلما تكرر مراراً بالفعل، ثم إسلامية عدمية، فقيرة فكرياً وحقوقياً وأخلاقياً، تسهم في انغلاق هذه البنية من حيث هي يحفزها تطلّعٌ إلى الخروج منها. وتبدو البنية الشرق الأوسطية متجددة الشباب بعد الانتداب الروسي على سورية منذ 2015، وهو لم يُواجَه قط باعتراض أميركي أو أوربي مسموع أو غير مسموع. كل هذا يبني على منوال قديم، ينحدر إلينا من أيام المسألة الشرقية. خطاب روسيا بخصوص سورية مماثل لخطاب الإمبرياليات الغربية: حماية الأقليات، وبخاصة المسيحيين، مع فظاظة أكبر في اعتبار الإسلام، السني تحديداً، هو المشكلة. لا عجب أن يجد إريك زِمور نفسه قريباً من بوتين، وأن يدافع عن إعادة العلاقات مع بشار الأسد لأن البديل الوحيد له هو خلافة إسلامية، وأن يسهم بالتالي في تطبيع مارين لوبّان. كلاهما تعبير عمّا أسميه المنعطف الجينوقراطي، السياسة المتمحورة حول الجينوس لا حول الديموس، أي حول الأكثرية الثقافية الثابتة لا الأكثرية السياسية المتغيرة. ويحمل هذا المنعطف في طياته مخاطر الجينوسايد. كاره العالم زِمور، المحذر من سيناريو «إحلال كبير» في فرنسا وأوروبا، هو قوة حرب أهلية في فرنسا قد تأخذ شكلاً إبادياً، ولكن يبدو لي أن ما قاله يوم 24 كانون الأول 2022 يتضمن اللاشعور السياسي للمؤسسة الفرنسية التي فشلت في مواجهة تاريخها الاستعماري. هذا اللاشعور يظهر أكثر فأكثر إلى السطح اليوم، وقد يصير هذا الـ «Political unconscious» هو الـ «Raison d’etat» (علّة الوجود) بعد حين.
أعتقد أن تجدد الأفكار والمنظورات متصل بالتهيؤ للمفاجئ، بالاستعداد للتفاجؤ، وبالتالي لموقف معرفي مفتوح على ما هو عارض، وما هو غائب أو مغيب (كل غياب سياسيٌ اليوم)، وبتطوير قدرتنا على الانتباه لما ينبه وينبو وينبت وينبغ، ما يشق طريقه من الغياب إلى الوجود أو من الوجود إلى الغياب، من حياة تبزغ أو من فظيع مُحطِّم للحياة. هل في تطوير هذا التهيؤ ما يتعارض مع الفعل التراكمي الذي يقتضي أطراً سياسية واجتماعية مستقرة؟ أرى أننا اليوم في أوضاع أزمة عالمية، وما نحن مهددون به ليس الانفتاح على العارض والمفاجئ والطارئ، بل بالأحرى السير على المنوال القديم نفسه. نحتاج إلى ثورة في التفكير، وإلى ثورة في العادات والمؤسسات، وهذه تتوافق أكثر مع التأهب لملاقاة المفاجئ.
في كتابك بالخلاص يا شباب، تقول إن سوريا، بلد الأبجدية الإنسانية الأولى أصبحت مَنسى، أرض نسيان، وأن مأساة المنسى، المنساة السورية، لما تكتب ( ص. 243) و«أننا نملك تجربة شاسعة الأبعاد ولكنها صامتة»، وتنادي بإخراج الذاكرة من السجن، كي لا تصبح بركاناً حارقاً ينفجر تحت أقل ضغط. اليوم عام 2021، هل كُتبت هذه المأساة جزئياً، مع الثورة؟ أليس هذا «إرثها»؟ الثورة التي تؤرشف الثورة لأنها لم تستطع تغيير العالم؟ وماذا عن العالم؟ هل هو مصاب بالنسيان أم الأنوميا أم الاستنكاف الكامل نتيجة فقدان الأمل؟ في عام 2013 قلتَ إن العالم كله أصبح مَنسى، أشبه بسورية كمنسى أسدي منه بدولة ديمقراطية. هي نسي العالم نفسه؟
بلى، بعض سيرة النسيان السورية كُتبت ولا تزال تكتب. ليس هناك مجال للمقارنة بين قبل الثورة واليوم من حيث امتلاك سوريين كثيرين للكلام وتمثيل أنفسهم ورواية قصصهم والمساهمة في رواية القصة العامة. بدأ هذا الجهد قبل الثورة على نطاق محدود، تَمثَّلَ أساساً بـ«أدب السجون»، لكن شهدنا ثورة في الكتابة بعد الثورة، من حيث الكم وبقدر معقول من حيث الكيف. هناك اليوم العديد من المنابر السورية، تنشر عن سورية، وتعمل على الربط بين سورية والعالم. بمعنى ما، الثورة التي أخفقت سياسياً، مستمرة على مستوى امتلاك التعبير، لكن هذا محصور في سورية الخارجة، أرخبيل السوريين المتمادي، المنتشر في 127 بلداً.
ما ليس واضحاً اليوم يتصل بما إذا كان يمكن للإنتاج الفكري والفني والأدبي السوري في المنفى أن يعيش يوماً ما حياة سورية، أي ألا يكون مجرد أرشيف عن أزمة ينضم إلى النسيان بفعل قدوم أزمات أكبر أو بتمادي الأزمة ذاتها، وما تبثه في النفوس من شعور بعدم جدوى كل ما نقوم به. النسيان ليس آفة حارة نجيب محفوظ فقط، وإنما هو آفة العالم. يبدو لي الأوربيون نسّاؤون بامتياز، على ما تُظهِر ردود فعلهم على الغزو الروسي لأوكرانيا. كأن هذه القارة لم تكون دار حروب، بل دار الحروب المعمدة بالعالمية قبل ثلاثة أجيال فقط. وكأن الإبادة ليست اختراعاً أوروبياً. والنسيان دعوة للمأساة، لمعاناة هائلة، قد تؤسس لذاكرة جديدة ومعنى جديد ودار معنى جديدة. دار المعنى التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية تفقد بالنسيان معناها.
ومن التجربة الشخصية أعرف أن ما يُنسينا محنة سابقة هو محنة لاحقة أكبر منها. وفي بلد بلا وعود، يجتمع فيه الأبد والإبادة مثل سورية، هذا الضرب من النسيان خطر حقيقي. كل كارثة جديدة تضفي النسبية على كارثة أقدم، فتقلل من أهميتها، أو تدفعها خارج الذاكرة، ويجري تطبيع السيء بالخوف من الأسوأ. التاريخ الثقافي للمشرق العربي عموماً وثيق الصلة بالأزمات الكبيرة، الحروب والهزائم والحروب الأهلية والاحتلالات الأجنبية وما إليها. الشرق الأوسط مثلما تقدم القول هو نظام دولي فرعي بحرب أو أزمة كبيرة أو أكبر كل عقد من السنين منذ قيام إسرائيل وحرمان شعب فلسطين من كيان سياسي. وقد يكون ما تَقدَّم قوله كذلك، من قلة مراجعة ثقافتنا لذاتها وبالتالي من ضعف ذاتيتها، متصلاً بأن ما بالكاد يبدأ بالتشكل لا تلبث أن تعصف به أزمة عنيفة، فيتحلل ويفقد شكله ويضيع التراكم القليل المُحقَّق. تصير الذاكرة ذاكرة مآس وجروح جمعية، ويشحب أو ينسى ما بين مأساة ومأساة لاحقة.
التاريخ الفكري والفني في كل مكان وثيق الصلة بالصراعات الكبرى. أوروبا ليست استثناء من ذلك. لكن الثقافة في أوروبا ممأسسة بقدر كبير، الجامعات ومراكز البحث والمجلات ودور النشر والمراكز الثقافية والمبادرات الثقافية المستقلة الممولة حكومياً أو أوروبياً أو من تمويل خاص، ما يضمن قدراً من الاستمرارية والعمل الثاني، المراجعة والصيانة، على العمل الأول، الإنتاج الثقافي. الإنتاج الثقافي في مجالنا، الكتابيُ بخاصة، متمركز بقدر كبير حول المنتجين الأفراد، وهم معرضون لأزمات حياتهم الخاصة وللأزمات العامة، وبحكم الصفة العامة لعملهم يقعون عند تقاطعهما الذي قد يكون ساحقاً. وجهود المراجعة والصيانة التي تنظر فيما أنتجناه وبنيناه، فترعاه وتحميه من التآكل والضياع، تبدو محدودة في مجالنا، فكأننا نجري هاربين دون أن نلتفت وراءنا. مم نهرب؟ ليس إلا من أنفسنا في تصوري.
العالم ككل يشبه سورية أكثر مما يشبه بلداً ديمقراطياً لأنه فضاء غير محمي لأثر القوة/ القوى النافذة دولياً، ودون دستور يحمي الأضعف. القانون الدولي في أسوأ أحواله منذ الحرب العالمية الثانية، والأمم المتحدة بلا شخصية ولا إرادة، تستسلم لما تريده الدول، بما في ذلك النظام الأسدي على ما يُظهِر كتاب حديث لكارستن فيلاند، الأكاديمي الألماني والدبلوماسي السابق. معاناة الأضعف، وهي سياسية وعالمية في كل مكان، قلّما تجد سبيلها إلى وسائل الذكر العام التي لا تكف عن ذكر الأقوياء والنافذين وأفعالهم بالمقابل. العالم مَنسى بهذا المعنى، مثل سورية كبيرة. ليس عالم اليوم ذاتاً تفكر في ذاتها وتعي ذاتها وتراجع ذاتها، وتتذكر ماضيها وتنتفع به. هناك بالعكس تراجع على هذا المستوى متزامن مع ثورة وسائل الاتصال والتزامن الفعلي واسع النطاق وتجاور الأمكنة في كوكب يتقلَّص.
إن كان الأمر كذلك، بماذا تُعين سياسات الذاكرة التي بُنيت في الغرب، كردٍ على التجارب الإبادية والشمولية؟ هي هي فشل ذريع أم أنها تُشكل، رغم فشلها، عوناً قيّماً، بما في ذلك العون للسوريين في هذه اللحظة؟ أفكر في قراءاتك لبريمو ليفي، جان أميري، واليوم قراءتك لدانييل ماندلسون، كيف تعرف هذه المصادر وماذا تفعل بها؟ وماذا يمكن للسوريين أن يفعلوا بها؟
مثلما قلت في الإجابة على سؤال سابق، تساعدنا الكتابات الغربية وغير الغربية عن الذاكرة في تمثيل وتملّك تجاربنا الأحدث. وهي ساعدتني بقدر ما على ألا أشعر بالوحدة. أكثر من مرة في السنوات الماضي شعرت أني في العراء، لا أعرف كيف أولِّدُ معنىً لتجاربي خلال جيلين. تكرار التجربة القاسية لمرتين يشكك في صلاحية تمثيلها أول مرة، وفي إمكانية التمثيل أساساً. لكن بوجود صحبة تضم أمثال من ذكروا في السؤال، يتبيَّنُ المرءُ أن في العالم من كثرة التجارب القاسية ما يوفر عدةً أنسب لمقاربة حتى الأشد فرادة بينها. للأسف، الواحد منا لا يستطيع أن يطّلع على الكثير في عالم اليوم الذي ينتج الكثير مما يُقرأ ويُشاهد. لعلنا سنكون قريباً، أو منذ أمس، في حاجة إلى المجموعات القارئة، وعموماً إلى تغير في صور الفرد والذاتية، والتعبير، في اتجاهات أكثر جمعية، مؤهلة أكثر لاستيعاب ما يحدث في العالم.
هل يتضمن الفشل شيئاً ثميناً؟ أفضِّلُ أن أعتقد أن الشيء الثمين هو ما قد نولده من معنى رغم الفشل وضده، وليس بسببه. الفشل يسحق أحياناً، ويبدد برعونة حيوات بشرية وأعماراً عزيزة. لكن يحدث أن نستطيع النهوض من جديد، نشهد على أنفسنا وعلى العالم. هذا يمكن أن يكون ثميناً.
لدينا اليوم تجارب تشبه تجارب ليفي وآمري وأنتلمي، والعائلة التي أعاد دانيال مندلسون بناء قصتها ومصيرها بعد أكثر من ستين عاماً على قتل أفرادها جميعاً. التعرف على أعمالهم يساعد في تمثيل تجاربنا مثلما قلت، وفي ألا نشعر أننا وحيدون. لسنا وحيدين بحال إلا وفق إيديولوجية مظلومية يسهل في الواقع أن نستسلم لها.
على سؤال لجوستين أوجييه عن علاقتك بتجربة الإبادة اليهودية، الهولوكست، منفصلة عن النقد السياسي لإسرائيل، أجبتَ أن المعاناة تعطيك «الحق» في التدخل في أسوأ ضروب المعاناة في التاريخ. هل لك أن تعود إلى تناول هذا الحق هنا، وما يعطيك إياه من حرية؟
أشعر بانتماء طبيعي لعالم من خبروا ضروباً من التكسر في حياتهم أو مروا بتجارب الأقاصي. بعد غياب سميرة صار هذا موضع انتباه متزايد من طرفي، وما أرجو أن يدور حوله عملي هو المساهمة في تمثيل هذه التجارب على نحو مولِّد للمعنى. لكن هناك ما يُخشى منه كذلك، شوفينية المعاناة أو الألم، الاعتقاد بشرعية أكبر وجدارة أكبر بسبب الآلام الأكبر، وبالتالي توقعنا أن نلقى المساعدة والعطف، دون أن نفكر نحن بمساعدة الغير والعطف عليهم. ويبدو لي أن هذا وقع بقدر كبير فيما يخص الهولوكوست على نحو جعل من «Never again» هتافَ الأقوياء المعتدين، وليس صرخة الضعفاء المستباحين. إسرائيل هي دولة الأبارتهايد القائمة على شوفينية الألم، والتي تسببت بغير قليل من الألم المستمر لأجيال، للفلسطينيين أساساً، لكن كذلك لسوريين ولبنانيين وعرب آخرين.
بقدر ما أشعر بالانتساب إلى الهولوكست، فإني أعترض على لاهوت الفرادة الجوهرية فوق التاريخية الذي ينسب له. لقد تسببت الأديان سلفاً بغير قليل من الأذى، ولا حاجة إلى دين جديد، ليس باسم الضحايا على الأقل. كسوري، وبصورة ما كفلسطيني، تضعني شوفينية الألم في موقع من يتوجب عليه أن يستعير الهولوكست كي يستطيع الكلام، أو في موقع من يتعيّنُ عليه أن يُهوِّل من ألمه كي يُرى ويعترَف به. مملكة المعاناة هذه مملكة مطلقة وليست دستورية، تشبه السعودية، وليس هولندا، وهي تدفع بعض شعب المعاناة إلى الدخول في صراع على الألم، من تألَّمَ أكثر ومن تأذى أكثر، ومن له بالتالي حق الكلام أكثر. هذا استخدام سيئ للهولوكوست وللألم.
أتماهى ببريمو ليفي وروبرت أنتلمي، أتعاطف مع سخط جان آمري ولا أشارك فيه. لكن هذه يمكن أن تكون من صنف مخاصمات من كانوا في السجن معاً، هذا ما دامت لا تسلط الضوء على الألم كي تجعل ألماً آخر غير مرئي، مثلما فعل إيلي فيزل.
في الإطار العربي هناك إما إنكار للهولوكوست بسبب استخدامه لتشريع دولة كولونيالية عنصرية ومعتدية، أو اهتمام مستحق بالهولوكوست لا يرى سياسته، لا يرى النكبة الفلسطينية المستمرة طول ثلاثة أرباع القرن. أعتقد اليوم أننا في وضع أخلاقي وسياسي لمجادلة الأولين دون غفلة عن الآخرين، ونقد الآخرين دون مجاملة الأولين.
في نهاية كتاب جوستين أوجييه، تقول لها إنك بعد إقامتك البرلينية وبعد استغراقك في قراءات «العالم» الغربي الذي أصبح عالمك، تحب حالياً أن تعود إلى القراءات العربية, أحب أن أعرف إن كان لهذه العودة صلة بتجربة ما بعد كولونيالية ما. لا بد أنك على اطلّاع على السجال الدائر في فرنسا حول هذه المسألة حالياً، ما رأيك بهذا؟
أكتب أساساً بالعربية، ولم أنقطع عن القراءة بالعربية حتى أريد العودة إليها. لكن الصحيح أني لم أعد بقدرِ ما كنتُ من الإحاطة بتيارات التفكير العربية قبل الثورات. هذا ما أشعر بضرورة تداركه، وبخاصة من أجل تكوين فكرة مناسبة عن أثر الثورات على التفكير والكتابة. وهو ما أعتقد أني قلت لجوستين شيئاً عنه في كتابها الذي لم أستطع قراءته للأسف. قبل سنوات نشرتُ كتاباً بعنوان الثقافة كسياسة، يتفاعل نقدياً مع أعمال مثقفين ومفكرين عرب كنت على معرفة جيدة بأعمالهم. لم يعد هذا العمل ممكناً اليوم. الواقع أن اللاجئ لا يتحكم بما يستطيع متابعته، وليس صحيحاً أن المكان قد انتهى، وأن الأمكنة كلها تتجه لأن تكون متساوية من حيث حركية الأفكار والمعارف. أفضل الأفكار موجودة في كتب، وحركة الكتب ليست لحظية وليست بلا حسابات اقتصادية، حين تكون بلا حسابات سياسية. يجب أن يكون المرء لاجئاً، أي مقتلعاً من مكانه، حتى يستطيع الكلام على المكان وتغيراته.
وليس لأمر قراءتي وكتابتي بالعربية علاقة بما بعد الكولونيالية، فأنا لست مسلوبَ الصوت، ولم تُخمِد لغات المستعمرين السابقين لغتي الأم، التي أكتب بها وأخاطب قرّاءها أساساً. أشعر بالحاجة إلى مخاطبة قراءة الإنكليزية أكثر مما أفعل إلى اليوم، وأظنني سأفعل أكثر وأكثر.
والواقع أن لدي مشكلة مع المقاربة ما بعد الكولونيالية بمجملها. أعتقد أن مركزة تاريخ بلداننا حول تجربة الاستعمار يضع بين قوسين تاريخ هذه البلدان خلال عقود ما بعد التحرر من الاستعمار المباشر، فينكر الفاعلية «إيجنسي» على حكوماتنا وشعوبنا، ويشكل ضرباً مقلوباً من المركزية الأوربية والغربية. إلى ذلك يوفر ما بعد الاستعمار منظوراً مناسباً لتطلعات نخب أصلانية، قومية ودينية، لم يندر أن كانت أكثر وحشية حيال محكوميها من المستعمرين السابقين في عزّهم. لا يقارن ما فعله الحكم الأسدي بالسوريين الذين يحكمهم منذ 52 عاماً، هي كامل نصف تاريخ سورية ككيان حديث، بما فعله الفرنسيون خلال 26 عاماً من الانتداب هي نصف الحقبة الأسدية. قمع الفرنسيون ثورة سورية في عامي 1925 و26، وقتلوا الألوف وحبسوا ونفوا، وارتكبوا بعدها وقبلها جرائم، منها قصف دمشق عام 1945، واعتمدوا سياسة فرق تسد، وسوغوا احتلالهم برسالة تحضيرية وبحماية الأقليات. أما نهجهم في الجزائر فقد كان من الأشد وحشية في القرن العشرين كله. لكن في كل هذه الأشياء حاكاهم الحكم الأسدي «الوطني» وفاقهم إجراماً ووحشية، وهذا حتى قبل أن يسلم البلد لأجانب توسعيين يحمون عرشه.
ثم إن الإطار ما بعد الكولونيالي لا يوفر أدوات مناسبة لشرح وفهم الأوضاع السورية، لا بعد الثورة ولا قبلها. الواقع أن بعض داعمي النظام هم من يتوسلون هذا الإطار، مثل الجناح اليساري والعلماني اللبناني والعربي الداعم لحزب الله التابع لإيران. وتقديري أن تشومسكي فشل في أن يقول شيئاً ذا معنى عن سورية لأن مقاربته المتمركزة حول الإمبريالية الأميركية لا تتيح رؤية شيء من وضعٍ أكثر تركيباً في سورية. موقع القضية السورية الهامشي في أوساط اليسار الدولي متصل في رأيي بصورة وثيقة بهيمنة منظور ما بعد الاستعمار، أو بلغة تقليدية أكثر، المناهضة الفوقية للامبريالية الموروثة عن سنوات الحرب الباردة. القضية السورية تحوز طاقة على تثوير الفكر التحرري العالمي لأنها بالفعل معقدة على ما يُقال ويُكرَّر في كل مكان. معقدة بمعنى أنها تستعصي على السيطرة التحليلية التي يوفرها أي إطار نظري واحد بعينه. وهذا التعقيد دعوة لتفكير معقد، يتجاوز السلفيات اليسارية الموروثة. نحن في العملية التي يؤمل أن تسهم في ثورة في النظرية، إن لم يكن في نظرية في الثورة.
المكان الوحيد الذي يبدو أنه لا يزال لنظرية ما بعد الاستعمار شيء من الطاقة التحررية هو فرنسا، البلد الذي لم يلقَ تيار التفكير هذا ترحيباً فيه، والذي تميل بعض نخبه إلى اشتباه مسعور بما يسمونه الإسلاموغوشيزم، شيء يقارب أو يطابق مع بعد الكولونيالية. هذا مؤسف. ما بعد الكولونيالية مستحقة لنقد ليس منه نقد اليمين الفرنسي. السجل الاستعماري لفرنسا مشين بقدر ما يمكن لأي سجل استعماري أن يكون، ومع ذلك لا يبدو أنه فتح أو أثير نقاش عام مستقيم بشأنه. هناك مقاومة عنيفة لذلك في فرنسا. بدل من ذلك هناك قلب للواقع يتكلم على «إحلال كبير» وعلى أسلمة فرنسا.
لقد خلقت الثورة السورية شرخاً في الشرق الأوسط وفي العالم العربي، جزئياً لأن بشار الأسد قدّم نفسه كبطل القضية الفلسطينية وبطل العداء لإسرائيل، بينما هو يمارس سياسات رهيبة تجاه الفلسطينيين في سوريا؟ هل بدأ سوء الفهم المقصود هذا يزول برأيك؟
لا أعتقد أن هناك شخصاً نزيهاً واحداً يمكن أن يتكلم على الحكم الأسدي كداعم للقضية الفلسطينية. فلسطين مفيدة كأداة، عملَ النظام على امتلاكها، وعادى ياسر عرفات بالضبط لأنه قاوم أن يكون أداة إضافية. لكن بنية النظام إسرائيليةٌ من حيث تعامله مع السوريين الذي تعرضوا لفلسطنة جذرية، بما فيه التطهير العرقي والمذابح، وبمن فيهم الفلسطينيون السوريون. كان وضعُ اللاجئين الفلسطينيين في سورية من الأفضل عربياً، لكن هذا سابقٌ للحكم الأسدي. بعده عومل معارضو النظام من الفلسطينيين بالقسوة نفسها التي عومل بها السوريون، وقتل مئات الفلسطينيين والفلسطينيات تحت التعذيب في سجون النظام.
نعم. مرة ثانية الصراع السوري معقد، ولا يوفر العتادُ النظريُ المتاح السيطرةَ التأويلية عليه، مثلما أشرتُ في الإجابة على سؤال سابق. هذا يضعنا في وضع صعب بالمقارنة مع القضية الفلسطينية التي تُشرَح دونما صعوبة كبيرة ضمن إطار المقاربة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. وعسر السيطرة التأويلية هو ما يكمن وراء علاقة التجنب بين كثيرين والقضية السورية. يشعرون أنهم لا يفهمون، لا يستطيعون تكثيف «جوهر» القضية السورية بجملتين أو ثلاثة، تقول الأساسي عنه.
وأنا أتراوح عند التأمل في هذا الوضع بين موقفين: الأول أن سورية قضية بلا شكل، وهو يدرجها ضمن مفهوم الفظيع، أي الفقدان العنيف للشكل، وهذا تحدٍّ مستمر للتمثيل، لإنتاج الأشكال والمعاني. ومن هذا المنظور يكون التجنب كعلاقة بسورية أشبه بالنفور مما فقدت شكلها من أجساد بشرية تعرضت للفظاعة، شعور بالقلق من انفصام العلاقة بين الكائن والشكل، إلى درجة أننا لا نعرف ما هذا الذي نراه أو يقع ضمن ساحتنا البصرية. أو نعرفه، لكنها معرفة مثيرة للقشعريرة بفعل الانفصام المذكور. أما الموقف الثاني فيميل إلى وجوب تطوير تمثيل فوضوي غير موحد أو أرخبيلي، ما دام يتعذر تطوير مقاربة كبرى تحيط بوضع تجتمع فيه شروط من الكولونيالية ومن الطغيان الدولتي ومن العدمية الدينية العنيفة ومن عسكرة الجماعات الأهلية، ومن تجزء متعدد المستويات. سورية، قد لا تكون مهمة بذاتها، ولكنها، ولعلني قلت ذلك كثيراً، في هذا الوضع الغريب العجيب الرهيب تُمثِّلُ أقاصي الممكن الإنساني، وما دام هذا الممكن قد وقع هنا، فيمكن أن يحدث هناك وهنالك، وبخاصة في زمننا الجينوقراطي هذا. في كل ذلك دعوة لأن نتخلل بالمعرفة وبالإحساس هذا الشيء المعقد الذي هو بلدنا. هذا إن شئنا، وأعني السوريين، أن لا ندمن على السخط والغضب من العالم الذي لا يفهمنا ولا يتعاطف معنا، مما يغري كثيرين منا، ويستسلم له كثيرون كذلك.
الأكيد في رأيي هو أنه ليس هناك مخارج من هذا الوضع في الماضي. تجاربنا الأحدث أشد قسوة من الحساسيات المتاحة اليوم، عربياً ودولياً. وهي تطلب التمثيل ولا تجده ضمن المتاح.
في كتاب بالخلاص يا شباب، تقول إنه لترويض وحش السجن، كان عليك أن تقلع عن إرادة قتل الوقت وأن تتوسل على العكس كسبه، وبالنسبة لك كان ذلك عبر المعرفة التي تتيحها القراءة، التي «تُعدِّد الحياة». كذلك تُعطي نصيحة ذهبية للتوقيف العرفي: «عش سجنك وكأنك تعيشه أبداً، وفكر بحريتك كأنك ستخرج من سجنك غداً». اليوم، ما هي النصيحة الذهبية التي تقترحها على نفسك لتروض الوحش الحالي، وحش هزيمة الثورة وغيبوبة البلد التي يمثلها غياب سميرة الصامت؟
إن كان من قاعدة ذهبية اليوم فلها علاقة باليأس والأمل، وهذا موضوع ظل يتردد في نفسي منذ سنوات السجن. أفكر اليوم أن الأمل يقع بعد اليأس، وليس في الجهة المعاكسة من الطريق، أي أننا لا نبلغ الأمل دون المرور باليأس وأخذه معنا. أو أن اليأس جزء من الأمل، الجزء الأكثر أمانة لأن الآمال قد تكون خادعة. قرأت مؤخراً كتاب علاء عبد الفتاح، الناشط والكاتب المصري المعتقل منذ نوفمبر 2013، أي بعد شهور قليلة من انقلاب السيسي. علاء، وهو في الأربعين اليوم، غاضبٌ من الأمل، يقول إنه خداع. علاء يصارع ضد اليأس، لكنه منذ أكثر من ثماني سنوات في شروط اعتقال تزداد سوءاً. سخطه مفهوم وعادل، وأظن أني شاركته الانفعال في سنوات سجني. بدا لي وقتها أن المرء لا يتحرر من اليأس إلا بأن يتحرر من الأمل. هذا قاسٍ كفاية. هل نتحرر فعلاً من الأمل، ومن اليأس؟ لا أزال أُعوّل على أن يكون لعملي آثر ما، أن يخاطب جيلاً أصغر، أليس هذا إذن من خُطط الأمل؟ ولا أزال أشعر بقلة جدوى كلِّ ما فعلت بينما غياب سميرة مستمر، أليس هذا هو اليأس؟ ربما، لكن آمالي بعد المرور بكل هذه التجارب أشد يأساً من أن يقوضها أي يأس، ويأسي أشد عمقاً من أن يستسلم للأمل. القاعدة الذهبية بالتالي يمكن أن تكون: عليك أن تيأس جيداً كي تأمل، ثم عليك أن تودع اليأس والأمل معاً، وتستمر.
أي أن نترك اليأس والأمل معاً وراءنا، أن نستمر لأننا تحررنا منهما معاً. أشعر أني سلفاً في هذا الموقع، وأن ما بعد اليأس والأمل، الاستماتة بحسب تعبير عربي تقف الحياة فيه على حافة الموت، هو الموقع الأنسب للنضال في مجالنا من العالم، وربما في كل مكان من عالم اليوم.
هذا بدوره موقف قاسٍ في حياة قاسية.
ما هو الوحش الذي يُروَّض اليوم؟ أظنه النفس، أشد الوحوش استعصاء على الترويض وأكثرها مراوغة وخداعاً. وهذه معركة لا تُكسَب أبداً، ولا ينتهي خوضها، بخاصة في زمننا النيوليبرالي هذا. قد تتحقق مكاسب هنا وهناك، لكن عالم اليوم بيئة قليلة الصلاحية لخوض معارك ناجحة ضد الذات. لعلّ من الأسئلة المهمة اليوم كيفية تطوير أشكال دستورية من الذاتية، نستوعب فيها ونتجاوز تقليد الذات السيدة المطلقة الذي يبدو لي سائداً في الغرب، وفي أوساط النخب المتعلمة من الطبقة الوسطى العلمانية في كل مكان، ويستوعب من وجهٍ آخر مصير أشكال نكران الذات التي ظهرت في كنف التقاليد الجمعية الصلبة، كالشيوعية، وكالإسلامية. تغيير نظام الذات باتجاهات أكثر جمعية هو وجه أساسي للصراع الاجتماعي والسياسي والفكري في عالم اليوم.
لقد كان السجن بالنسبة لك فقداً للخصوصية وانكشافاً، وقد أخبرتنا فيه أن واحداً من كوابيسك هو أن تكون عارياً أمام أعين الناس. غير أنك اليوم تأخذ تأخذ جانب الانكشاف المعنوي وتظهر هشاشتك إلى حد ما، تقول إن هذا التغير له معنى سياسي: «أصبحت المعاناة علنية وسياسية»، وأنه على السياسة أن تولِّد أقلَّ ما يمكن من المعاناة، وما هو عام تصنعه حيوات لها أسماء ووجوه.
كسوري، لا أستطيع أن أشكو من الانكشاف وقلة الخصوصية. كان رد السوريين جميعاً إلى أشخاص خاصين، لا سياسيين ولا عامين، منهج حكم للنظام الأسدي. الحرمان من الخصوصية في السجن، وأقصاه هو ما يمثله التعذيب من استباحة ونزع ملكية المرء لجسمه، يتكامل مع فرض خصوصية معممة خارجه. كي تحتفظ بجسمك عليك أن تقبل أنك لست إلا جسماً، آلة عيش فحسب، «حياة عارية». في العربية لدينا ثنائية العيش والحياة. العيش يبدو كأنه الشكل التنفيذي والاقتصادي للحياة، أقرب إلى البيولوجيا، بالتالي إلى «Zoo»اليونانية، فيما الحياة أقرب إلى «Bio»، شيءٌ أكثر امتلاء مع أبعاد سياسية وروحية. العيش خاص فيما الحياة عامة. بعد الثورة السورية، رفع موالون للنظام شعار: كنا عايشين! وهو يضمر تدهور الحياة وانتشار الموت بعد الثورة وبسببها. الحقيقة أننا كنا عايشين بالفعل، لكن لم نكن نحيا. في صغري سمعت مراراً تعبيراً شاكياً من أشد الناس فقراً في بيئتنا، يصفون أنفسهم بأنهم: عايشين من قلة الموت! أي «عايشين» لأننا لم نمت بعد. هذه ليست حياة، ولا «حياة كالحياة».
من كانوا أحياء هم شريحة من السوريين، ربما 5%، لا يقيدهم شيء على الإطلاق، ولا يعيش حتى أفراد الطبقات العليا في أوروبا وأميركا حياة حرة مثل حياتهم، لكنها حرية بهيمية وليست حرية إنسانية، حرية من يعتبرون البلد ملكاً لهم، ولهم الحق في استباحة كل شيء دون عواقب. ومن يعترض يمت. هذه هي باختصار قصة سحق الثورة السورية: قُتلَ من يطلبون الحياة ولا يكتفون بالعيش.
لذلك يشبه إصرار الواحد منا على أن يحيا، أي أن يصير عاماً وسياسياً، فعلاً بروميثيوسياً مثل اقتباس النار الذي عاقب عليه زيوس كبيرُ آلهة الأولمب بروميثيوس بنهش كبده إلى الأبد. هذا الجهد للعمومية يبقى جهة واجبة للنضال السياسي في سورية طالما السوريون غير مُعترَف بهم كمواطنين، مراكز مبادرة وتفكير وفعل في بلدهم، ولهم «الحق في أن تكون لهم حقوق».
ومنذ بداية الثورة السورية، وبخاصة بعد تغييب سميرة، أتقبل شعار النسويات الذي يقول إن الشخصي سياسي، وأنه لم يكد يبقى لدي شأن شخصي في منأى عن تدخلات متنوعة. العمومية تحولت مع هزيمة الثورة إلى انكشاف، والانكشاف يشجع على الاستباحة، مثلما يشجع عليها وضع الإنسان المستباح «Homo saccer». وجدت نفسي مراراً في السنوات الأخيرة في وضع مزدوج: عمومية وانكشاف، قبول واستباحة، ظهور وهشاشة، وجهان للسياسة لا تستطيع تجنب أحدهما دون تجنبهما معاً. وقد فات الوقت على أي تجنُّب.
هناك شيء إيجابي مع ذلك. فدون أن نكون مجتمعاً، أعتقد أننا أسهمنا في صنع مجال عام، سوري، في المنفى. نحن سوريون وسوريات مشتغلون بالشؤون العامة، نعمل على بناء قضية سورية، ونجازف بالاحتراق ونحن نفعل.
في النهاية ما يهم هو أن ما يفعله الواحد منا يمكن أن يسهم في بناء مساحة عامة، يمكن أن يجد فيها غيرنا ما يُبنى عليه وما يُستأنف. فإن تَحقَّقَ قدرٌ من ذلك، كان ذلك ثمناً مستحقاً في نظري للانكشاف.