في الثلاثين من آذار (مارس) 2012، نشر موقع الجمهورية مقاله الأول: مسح تحليلي مجمل لعام من الثورة السورية. كان قد سبق هذا المقال أسابيعُ قليلة من التداول ضمن مجموعة صغيرة التقت، كما يدل المقال الأول، حول الحاجة لإنشاء مكان للتفكير في شؤون الثورة السورية بعد عامٍ من انطلاقتها. تَقرَّرَ حينها أن يكون هذا المكان موقعاً الكترونياً ينشر مقالات تحليلية وتقاريرَ ودراسات، كما تَقرَّرَ أن يكون اسمه الجمهورية، تقوم عليه «مجموعة الجمهورية».
لماذا الجمهورية؟ لأننا رأينا حينها أن الاسم يعني تحدّياً لركنين جوهريين من أركان الأسدية: أولاً بوصفه يدلّ على امتلاك الفضاء العام من قِبل «جمهور» في مواجهة خصخصته عبر أجهزة البطش التابعة للنظام؛ وثانياً لأن الجمهورية بالتعريف متناقضة مع توريث الحكم. مع الوقت، تعلّمنا أن نُحب الاسم مع إقرارنا بعيوبه ونواقصه، سواء كان لأنه متمركز حول الدولة، أو لأنه مطروق بكثرة خصوصاً في بيئة الصحف الرسمية في الأنظمة العربية. نحبه أيضاً، لنعترف، لأننا حين نعود بالذاكرة نحو الأسماء الأخرى التي تم تداولها لتسمية الموقع قبل إطلاقه نجد أن الجمهورية، بالمقارنة، اسم بالغُ العظَمة.
ومنذ يوم الإطلاق مرّ عقد كامل، وليس أيّ عقد، بل عقد كامل سوري. عشر سنوات خاضت فيها الجمهورية رحلة متخبطة وصعبة، مستحيلة ككل الاستحالات السورية في شرط البلد وأهله القيامي. لم تتطرق مداولات تأسيس الجمهورية يوماً لما سيكون عليه المشروع بعد عشر سنوات، ولا بعد خمس، ولا حتى بعد عام. لم يُفكَّر حينها في مؤسسة ولا في استدامة ولا في خطط عمل استراتيجي. كانت مجموعة تطوعية، وبقيت كذلك لعامين قبل الشروع بعملية بطيئة ومُضنية من المأسسة وبناء فريق احترافي، ما زالت مستمرة حتى اللحظة الحالية. قد ترى مراجعةٌ قاسيةٌ في ذلك خطأً، وهي غالباً مُحقّة، لكنه كان خطأً ضرورياً. الرحلات المستحيلة مصنوعة من أخطاء ضرورية، وسوريا أفضل أكاديمية لتعلّم ذلك.
تشكّلت الجمهورية منذ لحظتها الأولى بفضل عمل جماعي تجاوزَ بكثير المجموعة المؤسِّسة، والفريق التحريري الذي تشكّلَ لاحقاً بالتدريج. أكثر من 600 كاتبة وكاتب ساهموا في بناء الجمهورية كشكل من أشكال «المثقف الجماعي»، الذي يسعى للتفكير في سوريا كقضية يُرى العالم عبرها. نسبة مئوية كبيرة من الكاتبات والكتّاب الذين نشروا مساهماتهم في الجمهورية خلال العقد المنصرم كانوا حديثي العهد بالكتابة، وعددٌ كبيرٌ منهم نشروا نصوصهم الأولى معنا. زمن الثورة كان منصة انطلاقات كثيرة، وكما الجمهورية، كثيراتٌ وكثرٌ قرروا أن لديهم ما يقولونه بشأن بلدهم. ولم يكن توسّع طيف الكاتبات والكتّاب عددياً فحسب، بل شكّلت طريقة الكتابة والانخراط في الشأن العام انطلاقاً من المُعاش والذاتي والمُعايَن موجة كبيرة الحجم وواضحة المعالم. كانت الجمهورية وما زالت جزءاً من هذه «الكتابة السوريّة الجديدة»، وجاءت عشرات المساهمات من كاتبات وكتّاب شابات وشباب، بمبادرة ذاتية منهم أو عبر زمالة الجمهورية للكتّاب الشباب، لتشكّل متناً مهماً من هوية الجمهورية، ومن سيرتها.
وعبر مُعاينة المُعاش وتفحّصه، نواصل بالتعاون مع مساهِماتنا ومساهِمينا تَلمُّسَ الأبعاد المتجددة من القضية السورية وملامحها المتطورة والنامية، كما نتابع توسّع معنى أن تكون سورياً بما يتجاوز أطراً جغرافية محدودة، أو تقسيمات وتصنيفات لم تعد تتسع لتعقيدات «السوريانية»، التعقيدات التي تحملها محاولة تحديد «ما هو سوري»: لعلّه ذلك المزيج من الانتظار والسعي الدؤوب للنجاة، وتلك الحياة اليومية العامرة التي يصنعها السوريون والسوريات بينما يعيشون في مساحات الانتظار الذي يبدو لا نهائياً. ستكون محاولة الإحاطة بهذا الشأن محوراً رئيسياً في عملنا خلال الفترة المقبلة.
وخلال السنوات الماضية، شاركت الجمهورية في بناء وتمتين شبكة تواصل وتعاون مع مواقع ومؤسسات إعلامية من المنطقة العربية، تتشارك جميعها في القيم التحررية والتوجهات التقدمية، وهو ما كان إضافةً نوعية لعمل الجمهورية وانتشارها. فمنذ العام 2016، عملت شبكة المواقع العربية المستقلة على تبادل الخبرات والمهارات، وإنتاج الملفات المشتركة، وقد تبلوَّرَ هذا مؤخراً عبر مأسسته في شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة-فبراير. وكان تَوجُّه المجموعات الإعلامية نحو التأهيل والتدريب قد تضافر بمشاركة مجموعة من الخبرات الصحفية والأكاديمية، ما أسهم في تأسيس الأكاديمية البديلة للصحافة العربية، التي بدأت قبل أسابيع في العمل على المساقات التعليمية لدفعتها الثانية.
طوال العقد الماضي، كان الهدف الأساسي لعمل الموقع، وشعاره البارز، هو أن يكون مساهماً في معركة السوريين من أجل امتلاك كلامهم، ضمن معركتهم التحررية العامّة. كلام السوريين، حقّهم، مسلوبٌ بالأساس من نظامٍ خصخص كل ما هو عامٌ وجمعيٌ سوريٌّ لصالح الطغمة الحاكمة-المالكة؛ ولكن أيضاً من توجهات مُحافِظة وفاشيّات دينية لا تتورّع عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل سيادتها على صمت الناس؛ ومن ذهنياتِ خبراءِ الجيوسياسة، الذين لا يرون إلّا أنابيب نفط وغاز وخطوط إمداد عسكري ومربعات أمنية وقادتها. وفي طريقهم من أو إلى مجالسة الأمراء المديدين لهذه الحروب المديدة، لا يرى هؤلا الخبراء أناساً ذوي حيوات وكرامة وصوت. نؤمن أن الحق في الكلام هو الدفاع عن الندّية والأهلية، هو عملٌ من أجل وضع الحياة والكرامة والخبرة المُعاشة في مركز أي تداول سياسي، وهو خطوة أولوية وأساسية في سبيل أيّ نضال من أجل حياة ديمقراطية.
كانت عشرَ سنوات من محاولة الكلام، بالشراكة مع قرّاء وقارئات من سوريا والمنطقة العربية والعالم، ومع كتّاب وكاتبات وصحفيات وصحفيين وفنانين وفنانات، ومع شركاء متنوعين، ومع جهات داعمة عديدة لعبت دوراً مهماً في استمرار هذه المحاولة. لهؤلاء جميعاً شكرنا العميق المتجدد، ووعدٌ بأن نستمر في المحاولة.