«الموسيقى لغة عالمية، هي خطاب الروح». لا شك أن جملاً كهذه قد اعترضتك مراراً، وعادة ما تُلقى على مسامعك انطلاقاً من رغبة قائليها في أن يُظهِروا شغفهم، أو ربما أيضاً ذوقهم «الراقي» وثقافتهم العالية. لكن الاطلاع على مجهودات الموسيقولوجيين وخصوماتهم الكثيرة عبر مراحل تطور هذا العلم – الموسيقولوجيا – كفيلٌ بجعل هذه الجمل جارحةً للأذن.

هي لم تكن يوماً موسيقى وحسب، وذلك ما دفع الموسيقولوجي الأميركي تيموثي رايس (T.Rice) إلى كتابة مؤلَّفه الإثنوموسيقولوجيا: مقدمة قصيرة للغاية عام 2014، والذي يتناول فيه تعريف هذا العلم الذي يعنى بدراسة الموسيقى من داخل الثقافة أو كثقافة.Rice,Timothy .Ethnomusicology: A very short introduction. New York. Oxford university press. 2014

ظهور الإثنوموسيقولوجيا كان مديناً لجملة من المراكمات التي سبقته، والتي حاولت فهم موسيقى «الآخر» من داخل النسق التحليلي الأوروبي. وإن شئنا اختيار نقطة ننطلق منها، فسنجد أن مجهودات الفيلسوف والموسيقولجي الألماني كارل ستامف (Carl Stumpf) ومدرسة برلين جديرة بالذكر، إذ بنت هذه الجهود على فرصة التطور التقني واختراع الفونوغراف في سبيل تجميع مكتبة صوتية ساعدت على التقدم خطوات عملاقة في مجال الموسيقولوجيا المقارنة. ولكن إن حاولنا وضع أنفسنا مكان مجموعة من الموسيقولوجيين الألمان في بداية القرن العشرين، واستحضرنا طُرُقَ التحليل و التدوين في بداية القرن، أمكننا أن نتخيل مشهداً قائماً على اعتماد الموسيقى الغربية وقواعدها النظرية والجمالية كمعيار لفهم موسيقى شعوب أخرى، مما خلق حالة من القولبة القسرية شبيهة بأفعال قاطع الطريق بروكرست في الأسطورة الإغريقية: حاملاً سريره الحديدي ومحاولاً مطابقة طول ضحاياه للسرير، بقطع أطرافهم أو إطالتها.

في مقال نشرته مجلة (L’Homme) اعتبر الباحثان برنارد لورتار جاكوب وميريام أولسن أن «هذه المدرسة في فهم موسيقى الشعوب الأخرى لم تكن مهتمة إلا بدراسة الموسيقى من داخل الشكل والنوتات، معتنقة موضوعية شكلانية منعتها من رؤية أنساق وقرائة معطيات من خارج النظام المفهومي الموسيقي للمحللين». ولكن هذا لم يمنعهما من الاعتراف بأن هذا المجهود كان مجهوداً إثنوموسيقولوجياً مبكراً رغم ذلك.Lortat-Jacob,Bernard & Rovsing Olsen,Miriam .Musique, anthropologie: la conjonction nécessaire. L’HOMME, « Musique et anthropologie»171-172 / 2004, pp. 7 à 26.

إذاً متى ظهرت عملية الربط بين الموسيقى والثقافة؟

لقد كان ألان.ب. ميريام من الأوائل الذين اقترحوا مصطلح الإثنوموسيقولوجيا كعنوان لدراسة الموسيقى في الثقافة (1960)، وقد اعترف في السياق نفسه بأنّ ما كان يقود الإثنوموسيقولوجيا في تلك الفترة هو الأنثروبولوجيا الثقافية.Merriam,Alan Parkhurst. Ethnomusicology :Discussion and Definition of the Field. Ethnomusicology, Vol. 4, No. 3 (Sep., 1960), pp. 107-114

إن ظهور الإثنوموسيقولوجيا كعلم كان لحظة نوعية تطورت فيها الموسيقولوجيا المقارنة، لتتحول إلى دراسة أنثروبولوجية للموسيقى في علاقتها بما هو ثقافي. وهو ما أخرج الموسيقولوجي من ترف الموضوعية الشكلانية نحو أسئلة حارقة لا علاقة لها حصرياً  بالقالب.

أحد هذه الأسئلة هي: هل يمكن للإثنوموسيقولوجي أن يفهم موسيقى شعب آخر دون فهم مجموعة المنظومات الثقافية والاجتماعية التي أحاطت بنشأتها وتطورها، وهل ما قبليات الباحث الغربي قادرة على الاجابة عن أسئلة تتعلق بالبنية الداخلية لنص موسيقي غير أوروبي؟

من البديهي أن الإجابة كانت النفي. ومن أبرز الأدلة على ذلك ظهور أدوات تحليل و مناهج جديدة طرحت التعامل مع النص الموسيقي، مهما كان مصدره، انطلاقاً من معايير أكثر شمولاً من الأدوات التحليلية التي ترتكز على المنطق الموسيقي الغربي. ولعل هذه الغاية بالذات هي ما أدّت مثلاً إلى ظهور سيميولوجيا الموسيقى وغيرها من المناهج.

والإثنوموسيقولوجيا، على غرار التحليل الموسيقي، كانت إجابتها على السؤال نفسه بالنفي. لذلك تحديداً كانت حريصة على توضيح الفرق بينها وبين الموسيقولوجيا المقارنة، دون نفي علاقتها بها في بدايتها. وهكذا سلكت طريقاً أبستيمولوجياً آخر، شاذةً على التقليد الأوروبي الذي يضع ثقافة الآخر كموضوع مُتخارج عنه للدراسة .

لنأخذ الفكرة الأخيرة، ولنفتح قوساً صغيراً.

في مقاله: الكولونيالية والحداثة/العقلانية (colonialidad y modernidad/racionalidad) الصادر سنة 1991، يناقش أنيبال كيجانو سؤال إنتاج المعرفة وحُكمه في التقليد الأوروبي:Quijano,Aníbal. Coloniality And Modernity/Rationality .Cultural Studies, 21:2-3/ 2007, 168-178

«يبدو إذاً أنه يمكن إثبات الترابط بين الفردانية/الإثنينية والصراعات الاجتماعية والثقافية الأوروبية في الوقت الذي كان فيه براديغم العقلانية الأوروبي قد تبلور. لكن داخل هذه الفردانية/الاثنينية هنالك عنصر آخر يتجاوز تأويلُه السياقَ الداخلي الأوروبي: ’الآخر‘ مفقود تماماً، أو موجود، يمكن إيجاده لكن بطريقة ’موضوعانية‘».

إن وجهة نظر كيجانو تنطلق من رؤية  الإنتاج المعرفي الأوروبي كنتيجة للحداثة الأوروبية، الحداثة نفسها التي يعتبر والتر مينيولو أن الكولونيالية جانبها الأكثر ظلمة.see .Mignolo,Walter.D . The Darker Side Of Western Modernity Global Futures, Decolonial Options .Durham & London .Duke University Press . 2011 كما أنه رأى في الباحث الأوروبي عن المعرفة – ومُنتِجها فيما بعد – غيابَ القدرة  على عزل تصوره، الذي يعتقد بشمولية ثقافته وقدرتها على أن تكون المعيار الوحيد للمقارنة والقياس مع آخر متخلف أو بدائي أو غير متحضر. إن هذا يطرح إشكالية أبستيمولوجية عملاقة تمس تطور المعرفة والعلوم في شتى المجالات والحقول، وقد طرحت المدرسة الديكولونيالية على لسان ممثليها هذه المسائل دون حرج. يجب أن تكون هنالك «إعادة تكوين أبستيمولوجية» للعقل المُنتِج للعلم. يجب أن نحرر القدرة على خلق ونقد وتغيير وتبادل الثقافة، أن نناقش «التداخل الثقافي» لا «التعددية الثقافية» التي تُسوِّقُ لها الحكومات النيوليبرالية في إطار محاولة إدماج الثقافات المختلفة في سياق رأسمالي .فهذه الأخيرة ليست سوى أحد الأعراض الكولونيالية للاعتقاد بالتفوق الثقافي.see . Mignolo.Walter D & Walsh Catherine E. On Decoloniality: Concepts ,Analytics,Praxis.Durham & London .Duke University Press . 2018 . p57

إن هذا الطرح – على ما فيه من وضوح سياسي – أبستيمولوجي في عمقه، يناقش أُسس تشكل العلم في القرون الأخيرة ويخرجها من معبد الموضوعية العلمية المقدس، ليُسائل منطلقاته ويشكك في استنتاجاته.

لكن ما علاقة هذه الأبستيمولوجيا الديكولونيالية كما يطرحها المدافعون عنها بالإثنوموسيقولوجيا؟ من أجل توضيح الروابط، لنتناول بنظرة سريعة مثالين نموذجيين ونقارن بينهما. المثال الأول سيكون كتاب روز براندل: الموسيقى في أفريقيا الوسطى: دراسة إثنوموسيقولوجية الصادر في عام 1961.Brandel,rose .The Music of Central Africa: An Ethnomusicological Study .The Hague, Netherland .MARTINUS NIJHOFF 1961 أما الثاني فسيكون مقالاً في مجلة  (ethnomusicology) بعنوان السياسة والهوية والنوستالجيا في الموسيقى النيجيرية لبود أوموجولا، نشر في عام 2009.Omojola ,Bode . Politics, Identity, and Nostalgia in Nigerian Music: A Study of Victor Olaiya’s Highlife. Ethnomusicology, Vol. 53, No. 2 (SPRING/SUMMER 2009), pp. 249-276

في المثال الأول تمكنت الكاتبة من القيام بدراسة دقيقة للموسيقى في إفريقيا جنوب الصحراء – تحديداً في المنطقة التي تضم جمهورية أفريقيا الوسطى و الكونغو و التشاد والغابون – انطلاقاً من رسم خارطة إثنوغرافية للقبائل والشعوب الموجودة هناك. وقد عرجت في الجزء الأول على معطيات تخص الثقافات والتركيبات الاجتماعية للسكان. إذاً كان من الواضح منذ البداية أن الموسيقى سيتم تحليلها من منطلقات أنثروبولوجية  ثقافية. وقد بينت الكاتبة منذ البداية أن عملها لا يندرج ضمن الموسيقولوجيا المقارنة بل ضمن نطاق الإثنوموسيقولوجيا. يحتوي الكتاب على تحليلاتٍ للألحان والإيقاعات انطلاقاً من خريطة التواجد القَبَلي. أي أنّها تناولت في التحليل كل مجموعة على حدة. كما يحتوي الكتاب في جزئه الثاني على تدوينات لنماذج موسيقية وأمثلة تم نقلها على الورق عبر نظام الكتابة الموسيقية الغربية، أي باعتماد السلم الموسيقي ذي الخمسة أسطر. ونجد تحليلاً للآلات الموسيقية ونظام تعديلها عبر اعتماد قياس الذبذبات بوحدة السنت.

لكن ما يعترضنا منذ البداية هو الجدل الذي تخوضه الكاتبة مع نفسها في توضيح الحقل المعجمي الذي تستعمله. إذ أنها اضطرت لتفسير استعمالها  لثنائيات في عملية التوصيف على غرار «بدائي» كنقيض «لمتحضر»، و«بسيط» كمقابل لـ«معقد أو مركب».Brandel, rose .same reference . p8 كما أنها، وأثناء البحث في الخصوصيات اللحنية والإيقاعية للموسيقى، لم تخرج عن الوسائل المستعملة في الموسيقولوجيا المقارنة. وهو أمر مبرر ومفهوم بالنظر إلى أن هذا الكتاب صدر قبل أن يطور الباحثون مناهج تحليل جديدة في تلك الفترة.

هذا العمل على ما فيه من مجهود و دقة، يتضمن الإشكال الأبستيمولوجي الذي طرحه أنيبال كيجانو. إن الكاتبة بصدد دراسة موسيقى شعب آخر، وهو «الآخر» في مقابَلة للأنا الأورومركزية. ويبدو ذلك واضحاً في أدوات التحليل وفي المصطلحات المستعملة، وعلى الرغم من التبريرات التي سيقت بهذا الصدد.

لنمر الآن إلى بود أوموجولا ومقاله حول الموسيقى النيجيرية والسياسة والنوستالجيا في دراسته لأعمال فيكتور أولايا وموسيقى الهايلايف في الغرب الإفريقي.

منذ البداية، أوضحَ كاتبُ المقال ما يقصده بمصطلح نوستالجيا، مبيناً الفرق بين دلالات المصطلح في الثقافة الأوروبية وارتباطه بسياق الحداثة و التحولات الاجتماعية في أوروبا، وبين الحنين الإفريقي الذي يريد العودة إلى ثقافة الأجداد وإلى ما قبل اغتراب تسبب فيه الاستعمار الاوروبي بشكل رئيسي. أثناء تحليله للموسيقى ولبعض أغاني فيكتور أولايا ولخصائصه الأسلوبية، رأى الباحث أن ما يجعل موسيقى الهايلايف النيجيرية فريدة هو ارتباطها لحنياً وإيقاعياً بالحقل الثقافي النيجيري عموماً، وباللغات المستعملة هناك بشكل خاص. إذ أن الخلايا الإيقاعية لتلك الموسيقى كانت مرتبطة بإيقاع اللغة المستعملة بحد ذاتها. ولم يعزل المقالُ العملَ الفني عن التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها نيجيريا خلال فترة التحرر الوطني وما بعدها. كما أعاد ربط ظاهرة العودة والحنين إلى موسيقى الهايلايف في بداية الألفية الثانية بحدث إعادة البناء السياسي الذي شهدته نيجيريا بعد دكتاتورية عسكرية.

يستخلص الكاتب في النهاية أن فيكتور أولايا و موسيقاه كانا في قلب هذه التقلبات الرمزية، ونتيجةً ثقافيةً لمرحلة استعمارية وما بعد استعمارية.

الفرق بين البحثين يتمثَّل تحديداً في  الهدف من البحث. ففي حين كان الهدف من كتاب روز براندل هو رسم خريطة للنماذج الموسيقية المختلفة الموجودة في ميدان البحث، كان هدف أوموجولا هو فهم موسيقى نيجيريا من داخل الديناميكية الثقافية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية التي حكمت الفضاء في ميدان البحث. وفي حين حاولت الأولى نقل صورة دقيقة عن الموسيقى لقارئ غربي بأذنها الأوروبية، قام الثاني بإدخال القارئ نفسه إلى محاولة فهم البنى والقوانين الداخلية للموسيقى وطرق اشتغالها ودوافع تطورها.

إن وضعنا بعين الاعتبار تاريخ صدور العملين، أمكننا أن نقول إن البحث الإثنوموسيقولوجي وضع خلال كل تلك السنوات لنفسه أهدافاً جديدة ومنهجيات تحليل موسيقي جديدة، كما أنه بصدد «إعادة تكوين أبستيمولوجية» في سعيه لمزيدٍ من فهم الموسيقى من داخل الثقافة أو كثقافة.

يعطينا كل ما سبق الحق في طرح السؤال التالي: هل يمكننا الحديث اليوم عن وجود إثنوموسيقولوجيا ديكولونيالية؟