جيوبوليتيك

تشيع في الجدالات بشأن الحرب الروسية الجديدة مقولة أن «أوكرانيا محايدة» هي أفضل للشعب الأوكراني، وأنه ما كان ينبغي لأوكرانيا أن تتورط في تهديد الأمن القومي الروسي بطلب الانضمام إلى حلف الناتو. ينتهي أصحاب هذا القول إلى تحميل الجهات الحاكمة في أوكرانيا، وحلفائها الغربيين، مسؤوليةً لا تقلّ عن مسؤولية روسيا، باعتبار أنهم ورطوا الشعب الأوكراني في هذه الحرب. يستحق هذا القول النقاش طبعاً، لكن يلزمنا قبل النقاش، وكي يكون النقاش ممكناً أصلاً، أن نعرف ما الذي تعنيه عبارة «أوكرانيا محايدة» بالنسبة لروسيا. يبدو واضحاً من خطاب المسؤولين الروس أن أوكرانيا محايدة هي أوكرانيا تحت الهيمنة الروسية (بوتين تحدّثَ عن أوكرانيا بوصفها خطأً ينبغي إصلاحه)، وليس لدينا أي دليل يشير إلى أن روسيا كانت ستقبل بأقل من ذلك في أي وقت، ومن ثم فإنه لا دليل لدينا على أن أوكرانيا محايدة كانت أمراً ممكناً فعلاً.

ألا يجعل ذلك من رغبة الحكومة الأوكرانية بالانضمام إلى الناتو دفاعاً عن النفس؟ ألا يستحق هذه الاستنتاج نقاشاً جدياً قبل الذهاب إلى القول إن «أوكرانيا محايدة» كانت خياراً مُتاحاً فرّطت به الحكومة الأوكرانية؟ أما إذا كان القصد أنه كان على أصحاب السلطة في كييف القبول بالتبعية لروسيا لتجنّب الحرب، فهذا أمرٌ آخرُ لا يسع أحداً التقرير بشأنه سوى الأوكرانيين والأوكرانيات، إذا أمكنهم ذلك طبعاً. غير أن ما لدينا من معطيات يشير إلى أن إرادة أغلبية الشعب الأوكراني تتجه إلى رفض الخضوع لروسيا، وهذا هو بيت القصيد في الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أي حسابات جيوسياسية.

هل أخطأت القوى السياسية الفاعلة التي قادت الشعب الأوكراني في السنوات القليلة الماضية؟ ربما تكون قد أخطأت، فالشعوب تفرز قياداتها وبُناها السياسية، وقد تُخطئ هذه البنى وتزج نفسها وشعوبها في معارك وآلام كان يمكن تفاديها، ويصح أن نقول عندها مجازاً إن الشعوب نفسها قد أخطأت.

الشعوب ترتكب الخطايا الجيوسياسية إذن، ولكن هل يعني هذا تبرير استباحتها وإخضاعها بالحرب؟

الحرب العادلة

قد يبدو المصطلح غريباً بعض الشيء، خاصة بالنسبة لمن يرى تناقضاً جوهرياً بين الحرب والعدالة بحيث يستحيل جمعهما في مفهوم واحد، لكن مفهوم الحرب العادلة حاضر في الفلسفة والفكر السياسي منذ أرسطو، ولعلّ الفارابي كان أكثر من تحدّث عنه بين الفلاسفة والعلماء المسلمين، كما أن للحرب العادلة تعريفاً واضحاً يميزها عن العدوان في القانون الدولي الحديث. وعلى أي حال، يمكن اختصار الحرب العادلة نظرياً في أنها الحرب التي يتم شنّها لتجنب ضرر يبدو أكثر فداحة من الأضرار التي قد تسببها الحرب نفسها، وكي تبقى الحرب عادلة بعد إطلاقها فإنها يجب ألّا تتجاوز الحد اللازم لدفع الضرر الذي بدأت لدفعه أصلاً.

تزعم روسيا أن حربها عادلة، ذلك أنها بدأتها لدفع العدوان عن أمنها القومي وعن أقلية روسية يتم اضطهادها في الشرق الأوكراني. كان يمكن النظر في هذه الحجج لولا القصف الروسي على مناطق مدنية عديدة في أنحاء أوكرانيا، ولولا رغبة القيادة الروسية في إخضاع أوكرانيا ومحاولات قواتها الحثيثة لاقتحام كييف، ما يعني أن الحرب تتجاوز بكثير حدود دفع الضرر الذي تزعم القيادة الروسية أنها بدأت حربها لدفعه. ليست الحرب الروسية على أوكرانيا حرباً عادلة دون شك، والأرجح أنه لا وجود لحرب عادلة إلّا حروب المدافعين عن أنفسهم. كذلك، ليس مفهوم الحرب العادلة إلّا محاولة نظرية من فلاسفة وحقوقيين وسياسيين لتبرير الحروب حيناً، أو لعقلَنتها وترشيدها حيناً آخر. يشبه مفهوم الحرب العادلة في التطبيق الواقعي قوانين الحرب التي تمنع استهداف المدنيين مثلاً، والتي لم تحترمها أي جهة بشكل تام في أي حرب، لكنها ساهمت في تخفيف وحشية كثير من الحروب بعد الحرب العالمية الثانية.

غير أن ما يستحق التوقّف عنده هو حديث كثيرين عن «حق» روسيا في شنّ هذه الحرب، إذ يرون أن الحرب الروسية عادلة لأن انضمام أوكرانيا المحتمل إلى حلف الناتو يهدف إلى تقويض أمن روسيا وإضعافها، ما يجعلها دفاعاً مشروعاً عن النفس أكثر منها حرباً هجومية. ولكن إذا كان صحيحاً أن انضمام مزيد من دول محيط روسيا إلى الناتو يهدف إلى إضعاف روسيا سياسياً، وأن تفاهمات سابقة بين روسيا والغرب كانت تقتضي عدم تمدد الناتو إلى جوار الحدود الروسية، فإن هذا لا يجعل الحرب الروسية حرباً عادلة بأي حال، أولاً لأن الدافع الرئيسي الذي قاد تحالفات وتيارات واسعة في دول أوروبا الشرقية للانضمام إلى الناتو كان الذعر من الوقوع (أو البقاء) تحت الهيمنة الروسية، وثانياً لأن الحيلولة دون استخدام الأراضي الأوكرانية لتهديد أمن روسيا لا يمكن أن يتطلب، في أي تفسير معقول لمفهوم الحرب العادلة، اجتياح الأراضي الأوكرانية ونزع سلاح الجيش الأوكراني وتغيير السلطة في كييف بالقوة (يسميه بوتين نزع النازية) وربطها عنوةً بالسياسة الروسية والاقتصاد الروسي والمتطلبات الأمنية الروسية.

تُدافع روسيا عن أمنها القومي وموقعها الجيوسياسي، وبالمقابل فإن شعوبَ دول عديدة في شرق أوروبا قررت في استفتاءات نزيهة أنها تحتاج حماية الناتو تحديداً في مواجهة متطلبات الأمن القومي الروسي. تُرى هل نوافق على أن «الحق» الجيوسياسي للدول الأقوى يعلو على حقوق شعوب الدول الأضعف؟

علينا أن نكون حذرين قبل الموافقة على خلاصة كهذه، لأنها تفتح الباب لتبرير حروب عدوانية كثيرة، من حرب الولايات المتحدة في فيتنام وصولاً إلى الحرب السعودية المستمرة في اليمن والمعارك التركية في الشمال السوري والانخراط الإيراني في الحرب السورية، مروراً بأعمال عدوانية مريعة مثل هيمنة المخابرات السورية على لبنان بعد الحرب الأهلية فيه والانقلابات المدعومة من واشنطن ودول غربية أخرى في أميركا الجنوبية وإفريقيا؛ كل هذا يمكن تبريره باسم الأمن القومي والمتطلبات الجيوسياسية، وكل هذا يمكن اعتباره حروباً عادلة إذا اعتقدنا أن الأمن القومي للدول، كما يحدّده أصحاب السلطة فيها، أهم من حقوق الإنسان في الحياة والسلام والعيش الكريم، وأهم من الديمقراطية أيضاً.

الديمقراطية

يقول أنصار روسيا إن الديمقراطية في الغرب أكذوبة أصلاً، وإن الشعوب الغربية لا تحكم نفسها، وإنه يتم استخدام شعارات الديمقراطية كوسيلة لتقويض أمن الشعوب واستقرارها كما في الربيع العربي، وكوسيلة لتطويق روسيا كما في الثورات الملونة في أوروبا الشرقية. يشيع بالمقابل قولٌ مناقضٌ مفاده أن قوات الحكومة الأوكرانية تحارب دفاعاً عن الديمقراطية وقيَمها وعالَمها، وأن في هذه المعركة أخياراً هم أوكرانيا وحلفاؤها وأشراراً هم روسيا وحلفاؤها.

يعتبر الأولون أن الديمقراطية خدعة غربية شريرة، ويعتبر الأخيرون أن الديمقراطية طريق مضمون باتجاه واحد إلى الخير والرفاه، لكن الديمقراطية ليست هذه ولا تلك. الديمقراطية ليست وصفة سحرية لإصلاح العالم، وليست ديانة مقدسة كي تكون معياراً للتمييز بين أخيار وأشرار، وليست نتاج نزعة خير كامنة في نفوس حُكّام الدول الديمقراطية. بل هي إتاحة المجال للتداول في الشؤون العامة والتنافس على السلطة بلا سفك دماء، وهي نتاج التطوّر التاريخي للفكر السياسي ومعه كفاح الشعوب لتحسين أوضاعها وقبول قطاعات من النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم بها كوسيلة لبناء السلطة، ومن ثم فإن أنصارها ودُعاتها لا ينحازون لها لأنهم «أخيار» أو «طيبون» كما تحاول ثنائيات شائعة أن توحي، بل لأنهم يرون فيها الطريق الأمثل للازدهار ومراكمة الثروات وضمان عيش أقل عنفاً وبؤساً وأكثر استقراراً وقابلية للنمو. لدينا أمثلة كثير على مجرمين يؤمنون بالديمقراطية، فيدافعون عنها في بلدانهم بينما يشنون حروباً متوحشة خارج بلدانهم، لكن هذا لا ينبغي أن يكون باباً للارتياب في الديمقراطية، بل ينبغي أن يكون باباً للكفاح من أجل تعميم الديمقراطية بحيث تصير قيمة كونية وحقاً ثابتاً لسائر شعوب الأرض.

على أي حال، يرفض بوتين وأنصاره الديمقراطية من حيث المبدأ، وتلك حقيقة لا يمكن إغماض العين عنها عند التفكير في حرب أوكرانيا، إلا إذا كان الشخص يغمض عينه لأنه يشارك بوتين وأنصاره رفضهم للديمقراطية، أو ارتيابهم في مقاصدها على الأقل. وبالمقابل ليس لدينا ما يشير إلى إيمان راسخ بالديمقراطية لدى التحالف الذي يمثّله زيلينسكي في أوكرانيا، خاصة إذا عرفنا أن كتيبة آزوف ذات التوجهات اليمينية المتطرفة جزءٌ من هذا التحالف. لكن مع ذلك، إذا تذكرنا أن الديمقراطية تُبنى بالتدريج وليست وحياً إلهياً يهبط على الناس من السماء فيصيرون «مؤمنين بعد كفر»، وإذا تذكرنا أن الديمقراطية ليست ديانة يؤمن بها الطيبون بل هي اقتراحٌ لشكل حكم أكثر عقلانية وقابلية للازدهار، يمكن لنا أن نفهم كيف يدافع هذا التحالف واقعياً عن الديمقراطية عندما يتصدى لروسيا، ذلك أن في أوكرانيا احتمالات ديمقراطية سيؤدي انتصار بوتين إلى دفنها، وأن في أوروبا مكتسبات ديمقراطية سيؤدي انتصار بوتين إلى تقويضها. رغم ما يحمله الحديث عن دفاع أوكرانيا عن أوروبا ومشروعها وديمقراطيتها من مبالغات شاعرية، فإن له نصيباً من الصحة إذا تذكرنا أن لبوتين حلفاء يمينيين في أغلب الدول الأوروبية سيكون انتصاره انتصاراً لهم، وسيكون انتصارهم كارثة على الدول الغربية واستقرارها وربما أمن مواطنيها وحرياتهم المدنية.

ترى هل تستخدم الدول الغربية أوكرانيا كمستنقع لإغراق البوتينية؟

التوريط الجيوسياسي

يشيع القول إن حلف الناتو قد ورَّطَ أوكرانيا في هذه الحرب، ثم تركها لوحدها في مواجهة بوتين وجيشه. ويتم تقديم هذا القول أحياناً بصورة بالغة الكاريكاتيرية، خاصة من قبل كارهي الغرب الذين يجدون حرجاً في تبني الموقف الروسي في الوقت نفسه، فيذهبون إلى تصوير قادة أوكرانيا على أنهم ضحية بلهاء لعملية توريط قام بها الناتو، عندما دَفَعهم إلى استفزاز روسيا ثم تَرَكهم يخوضون المواجهة بدعم محدود سيؤدي إلى تدمير أوكرانيا وإلحاق أذى بالغ بروسيا. بالنسبة لدوائر وقطاعات كثيرة حول العالم، باتت هذه الرواية حقيقة ثابتة تضاهي كروية الأرض. لكن مع ذلك، ليس لدينا أدلة جدية على صحة هذه الرواية.

حسناً، لعلّ من مصلحة دول حلف الناتو أن يغرق بوتين اليوم في أوكرانيا فلا يستطيع الخروج منها إلّا بعد سنوات طويلة، لكن القول إن أوكرانيا وحكومتها والدوائر الرافضة للهيمنة الروسية فيها مجرد ضحايا سلبيين لاستراتيجية توريط غربية هو قولٌ ينزع الأهلية عن هؤلاء جميعاً، ويصورهم كحمقى تابعين لا إرادة سياسية لهم، ويوحي أنه لا أحد في أوكرانيا يرفض فعلاً الهيمنة الروسية. فوق ذلك، يفترض هذا القول مجدداً أن أوكرانيا محايدة كانت أمراً ممكناً لولا التحريض الغربي، وأن روسيا ما كانت لتحاول إخضاع أوكرانيا لولا طرح مسألة الانضمام إلى حلف الناتو، وهذه كلها افتراضات لا دليل قاطعاً عليها. بل لعلّ بعض التمحيص يقودنا إلى رواية أخرى تماماً، إذ يبدو أن من يخوض صراعاً يريد استدراج الناتو والاتحاد الأوروبي إليه هو زيلينسكي وجماعته، عبر إصرارهم على مطلب الانضمام للناتو قبل الحرب (بدا أكثر من مرة أن الناتو يتمنى أن تتراجع أوكرانيا عن طلبها ذاك)، وعبر إصرارهم المتكرر بعد الحرب على مطلب فرض الحظر الجوي، الذي يعني حرباً نووية في أوروبا بشكل حتمي.

وعلى أي حال، لا يزال مبكراً القول إن أوكرانيا باتت مستنقعاً لبوتين، وإن الغرب قد نصب شراكاً محكماً للقيادة الروسية في أوكرانيا، حتى أن كثيراً من سياسات الغرب رداً على الحرب البوتينية تبدو عاجزة ومرتبكة، أو أنها تهدف إلى رفع العتب في مواجهة «المسؤولية التاريخية» لا أكثر.

لكن ما ليس مبكراً الحديث بشأنه هو أولئك البشر في أوكرانيا، هو الحياة الحقيقية التي يتم دفنها وراء خطاب الجيوسياسة والأمن القومي وصراع القوى الكبرى على رقعة الشطرنج.

دفاعاً عن الحياة

أوكرانيا بلدٌ عانى كثيراً من الويلات في تاريخه، وأغلب هذه الويلات كانت بسبب موقعه الجيوسياسي. وفي أوكرانيا ملايين البشر المتنوعون الذين يرغب بعضهم أن يعيش تحت حكم روسيا الكبرى، فيما يرى بعضهم الآخر نفسه أوكرانياً بطموحات استقلالية قومية. يحتمي الاستقلاليون القوميون بالديمقراطية كمبدأ لأنها تنفعهم في مواجهة البوتينية وفي مواجهة ذاكرة الاستبداد السوفييتي الثقيلة (لا نستطيع الشقّ على صدورهم جميعاً كي نعرف من يؤمن منهم بالديمقراطية فعلاً ومن يستخدمها استخداماً فقط)، كما يحاولون الاحتماء بالدول الغربية كحلفاء مفترضين في مواجهة روسيا. فيما يحتمي خصومهم بما يعتبرونه وطنهم ومن يعتبرونهم أبناء أمّتهم؛ يحتمون بروسيا الاتحادية وقيادتها. ولا شك أن الانتصار لحق الناس في الحياة وتقرير مصائرهم يقتضي احترام رغبات الطرفين، ولعلّه كان يمكن الوصول إلى صيغة معقولة تحقق طموحات الجانبين بالتفاوض الجاد والديمقراطية وصناديق الاقتراع والاستفتاء، لكن متطلبات الجيوسياسة جلست بكل ثقلها فوق هذه الإمكانية، وصولاً إلى طحن البلد وحياة أهله بنيران الحرب البوتينية.

وقد لا يملك أحدٌ شيئاً اليوم لانتزاع الحق في الحياة من أنياب الوحش الجيوسياسي، لكننا نملك أن نضع حياة البشر العاديين في مركز التحليل بدلاً من رغبات بوتين وأحقاده الشخصية ومصالح نظامه الاستراتيجية، وبدلاً من مخططات حلف الناتو الاستراتيجية التي لا نعرف شيئاً موثوقاً عنها. وأن نضع حياة البشر العاديين في مركز الحكاية، يعني أن نفكر في ملايين الناس الذين أرادوا الخلاص من هيمنة روسيا ومخابراتها ورجال أعمالها، ويعمل جيش بوتين اليوم على تحطيم إرادتهم تلك بكل ما أوتي من قوة. وطبعاً، ينبغي أخذ حياة سكان دونباس الراغبين بالالتحاق بروسيا بعين الاعتبار أيضاً، لكن هذا يأتي بعد أن يكفّ جيش زعيمهم المتوحش عن تدمير الحواضر الأوكرانية وتشريد أهلها.