في روايته الوجوه البيضاء، يروي الكاتب اللبناني إلياس خوري ملابسات جريمة قتل مُتخلية ضحيتها خليل أحمد جابر، الموظف في قطاع الاتصالات والمقيم في منطقة المزرعة في بيروت الغربية، وذلك في ذروة اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية. تعرّض خليل لتعذيبٍ مرّوع، حيث وُجِدت على جثته آثار حروق وضرب مبرح. نتعرف على الأحداث من خلال راوٍ لا نعرف اسمه، ولكن نعرف أنه درس العلوم السياسية، ويعمل في مجال السفر والسياحة، ويقيم في بيروت زمن الأحداث، ونتيجة ملله من رتابة الحياة في بيروت تحت وطأة الحرب، يشغل نفسه بمتابعة جرائم القتل البشعة الباقية من دون حل.

يلتقي الراوي بخمسة أشخاص تتفاوت علاقة كل منهم بالضحية، ثم تُروى القصة من وجهات نظر هؤلاء الشهود: المهندس المدني، جار الضحية، وزوجة خليل التي شهِدت تدهور حالته الذهنية، وأرملة بوّاب المبنى المجاور التي قدّمت للمغدور الطعام خلال تجوله ذات مرة، وفدائي لم يكمل دراسته الجامعية جمعته الصدفة بالضحية لفترة قصيرة، وأخيراً، ابنة خليل، التي كان تتعرّضت للعنف المنزلي من قبل زوجها. يقدم كل من هؤلاء شهادةً معقدةً حول تعاملهم مع خليل، تقودهم إلى الخروج عن الموضوع والتحدث مطولاً عن أنفسهم، ليشكل مجموع الشهادات معلوماتٍ مهلهلة وأقاويل. وتبقى الجريمة من دون حل.

يعمد خوري إلى التكرار، ويستخدم عبارات تقود القارئ إلى مسارات غير مجدية وطرق مسدودة. ويبعث العنف في رواية خوري على الإختناق، فيعجز القارئ عن عقلنته أو فهمه. عبر جمع هذه الشهادات المتضاربة معاً، تشكل الرواية جُباً عميقاً تسقط فيه كل محاولة للتوصل إلى حل أو لتحقيق العدالة.

* * * * * 

إذا نظرنا اليوم إلى الصفحة المخصصة للحرب الأهلية اللبنانية على الويكيبيديا الناطقة بالإنكليزية وقرأنا جدول التلخيص، سنجد اختصاراً مُعلَّباً يُسمّي المنتصرين والمهزومين والنتائج وعدد الضحايا، إلخ. في قسم «الأطراف المتحاربة»، نلاحظ أربعة أعمدة مصفوفة بأناقة تُعَدِّد أطراف القتال. ويذكر قسمٌ أدناه الأسماء المعروفة عادةً، وعلى رأسها بيار الجميل وكمال جنبلاط وحافظ الأسد، إلخ. بعد التحديق لبضع دقائق في هذا التجميع للمعلومات، يمكن للقارئ أن يشعر بأنه يعرف ما جرى خلال الصراع الذي امتد على خمسة عشر عاماً، إذ تبقى السردية التقليدية حول الحرب كصراع بين الطوائف الدينية هي التفسير العام لهذه الحرب. إلا أننا، بقليل من التدقيق، نجد أن الملخص الوارد في الصفحة بعيد عن الدقة التاريخية.

على سبيل المثال، لا يذكر القسم المخصص للجبهة اللبنانية اقتتال المجموعات المسيحية فيما بينها على الأرض والنفوذ، كما لا يذكر أن الجبهة اللبنانية نفسها قد انتهت عندما قام بشير الجميّل، ابن زعيم حزب الكتائب المسيحي بيار الجميّل، بالقضاء على كافة الفصائل المسيحية خلال سعيه إلى «توحيدها» تحت راية «القوات اللبنانية» التي تزعمها. وتُغفِل المادة أيضاً أن كميل شمعون، الرئيس السابق وزعيم حزب مسيحي آخر، كان يسمح بوصول شاحناتٍ ممتلئة بالذخيرة إلى مقاتلي حركة أمل في المرحلة التي حاربت فيها أمل (الحركة الشيعية التي أسسها رجل الدين الشيعي المختفي موسى الصدر) المقاتلين الفلسطينيين في ضواحي بيروت الجنوبية.

تكثر المعلومات الخاطئة في الصفحة. فعلى سبيل المثال، يُختتم القسم المخصص لحملة زحلة، التي فرض فيها الجيش السوري حصاراً على المدينة ذات الأغلبية المسيحية في وادي البقاع وأجرى اشتباكات صغيرة مع مقاتلين لبنانيين، بجملةٍ لا يمكن أن يكون قد كتبها إلا أحد أتباع بشير الجميل المتعصبين: «مهّدت هذه الحملة الطريق أمام بشير للوصول إلى الرئاسة عام 1982». فالمعروف أن انتخاب بشير الجميل ارتبط بالاجتياح الإسرائيلي وطرد منظمة التحرير بعد حصار بيروت. أما القسم المخصص لمجزرة الدامور التي ارتكبتها قوات فلسطينية وميليشيات اليسار اللبناني العلماني بأهالي المدينة المسيحيين، فيصف المجزرة بعبارات طائفية، عبر إلقاء المسؤولية عن المجزرة على «ميليشيات سُنّية». وينقل المحررون في هذا القسم عن شاهد عيان ادعاءه: «جاؤوا بالآلاف يصرخون ‘الله أكبر!’».

ولا يختلف القسم المخصص لمجزرة صبرا وشاتيلا، الكارثي بدوره. يوم 16 أيلول (سبتمبر) 1982، ارتكب مقاتلو القوات اللبنانية مجزرة بحق نحو 4 آلاف فلسطيني في مخيّمَي صبرا وشاتيلا المحاصَرَين في بيروت الغربية بمساعدة جيش الدفاع الإسرائيلي. كانت القوات الإسرائيلية قد اجتاحت لبنان وسيطرت على بيروت وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من العاصمة. لاقت المجزرة تغطية إعلامية عالمية واسعة، أدت في المحصلة إلى إقالة أرييل شارون، وزير الدفاع في حينه والعقل المدبر للاجتياح.

إلا أن السردية المهيمنة لأحداث المجزرة هي أنها جاءت انتقاماً لاغتيال زعيم القوات اللبنانية بشير الجميل في انفجارٍ قبل يومين من وقوع المجزرة، وبعد أقل من شهر على أدائه اليمين الدستوري رئيساً للبنان. تلقي الروايات الإسرائيلية واليمين اللبناني باللائمة على عناصر خارجين عن السيطرة ومتعطشين للدماء من القوات اللبنانية، أرادوا الانتقام لاغتيال الجميل ورئاسته المجهضة. ولكن المؤرخ سيث أزنيسكا اكتشف في وثائق إسرائيلية نُشِرت بعد رفع السرية عنها أن الجميّل وشارون بحثا خططاً للتخلص بشكل «دائم» من المخيمات الفلسطينية في بيروت الغربية، وذلك قبل فترةٍ طويلة من انتخاب الجميّل رئيساً ومحاصرة جنود شارون للعاصمة اللبنانيةSeth Anziska, Preventing Palestine: A Political History from Camp David to Oslo (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2018), 224-225..م يكن ما حدث في صبرا وشاتيلا انتقاماً، بل كان تنفيذاً لخطة مدروسة.

هذه هي المشكلة الأساسية في التعامل مع ويكيبيديا كمصدر تاريخي. يمكن لأي شخص أن يكتب أو يحرر أو يغير الحقائق بشأن أي صراع بحيث تتلاءم مع انحيازاته، وبما يكرّس خطاباً إشكالياً. وسط هذه السرديات المتضاربة تضيع الحقائق.

* * * * *

يتعلم من يبدأ رحلة نيل شهادة الدكتوراه في التاريخ ثلاثة دروس أساسية: الأول، أنه لا يعرف شيئاً وأنه لا يستطيع أن يعرف كل شيء. الثاني، أن السيرورة التاريخية معقدة، ولكن ذلك لا يعني أنها عصيّة على التفسير والشرح، بل يعني أن ما يصنع التاريخ قوى وعوامل متعددة. والدرس الثالث أن على المؤرخ تجنّب فكرة الحتمية، فإذا كنا نعتقد أن وقوع ما وقع كان حتمياً، فما الفائدة من دراسة التاريخ؟

لا تطبّق صفحة ويكيبيديا حول الحرب الأهلية اللبنانية أياً من هذه المبادئ الثلاثة، فهي مصممة ومكتوبة بحيث تمنح القارئ شعوراً بأنه يعرف كل شيء حول الحدث، وأن الصراعات الطويلة والمعقدة التي تداخلت فيها عوامل متعددة يمكن أن توصَف بسرديات متسلسلة، مُغلّفة بأناقة وجاهزة للاستهلاك. يبدأ المقطع الذي يتناول «خلفيات» الحرب الأهلية بوصف الاقتتال الطائفي الذي اندلع في جبل لبنان منتصف القرن التاسع عشر، حين كانت المنطقة تحت الحكم العثماني. وتكثر الإشارات في بقية فقرات القسم إلى حتمية الصراع، بما يبرِّئ الأطراف المشاركة في إذكاء الحرب من ذنبها. يتكرر هذا التناول للحرب الأهلية، حيث توصَف بأنها حتمية، ويبدو لبنان محكوماً عليه بالصراع منذ نشأته. ولكن دولة بأكملها لا تنزلق نحو الحرب الأهلية، بل ثمة قوى فاعلة وعناصر وأشخاص اتخذوا قرارات ليُقصي أحدهم الآخر ويفرض هيمنته على البقية. كما لعبت الشروخ الجغرافية والطبقية دوراً هاماً. والأدهى أن ضحايا الحرب الأهلية من القتلى والمصابين بإعاقات والمختفين لا يحظون بالاهتمام، ولا تبدو معاناتهم إلا ملمحاً هامشياً لما كان صراعاً جيوسياسياً حتمياً بين قوى دولية تستغل اللبنانيين المنقسمين والراغب بعضهم في قتل بعض.

يغلف موقع ويكيبيديا الصراعات المحلية بأناقة، ويشرح الأحداث بالحديث عن فترات متتالية وفصائل وشخصيات تظهر تمييزاً حاسماً بين المنتصرين والمهزومين، بجداول زمنية وخرائط ونقاط قتال واضحة. ولكن هذه الصفحات، التي تُنشَأ وتُستَهلك بسهولة، تبقى رهينة الانحيازات السياسية، نظراً إلى أن أي شخص يمكن أن يكتبها ويحررها ويعدلها، أياً كان الطرف الذي ينتمي إليه. ولئن كانت إتاحة الأخبار والمعلومات للجميع أمراً مرحباً به، فإن ما أدت إليه في الواقع، هو في أحسن الأحوال، انهيار القراءة النقدية متعددة الزوايا، وفي أسوأ الأحوال، خلق منبر لكتابة ونشر المعلومات الخاطئة.

* * * * * 

تشكل الثورة السورية مثالاً آخر على دور ويكيبيديا ومنصات التواصل الاجتماعي في تشويش الواقع الميداني، وإخفاء المواطنين عن الأنظار، ومنح المجرمين والمعتدين مساحةً لتجنب العدالة. بدايةً، لدى إجراء بحث على غوغل عن «الثورة السورية»، فإن أول نتيجة تظهر هي «الحرب الأهلية السورية». وعند اختيار هذه النتيجة، يختفي تعبير «الثورة السورية» تماماً، لتحل محلها حرب أهلية طويلة تخفي أثر الضحايا والمدنيين. لا يعبأ محررو ويكيبيديا بأن النظام قمع بوحشية وعنف انتفاضةً مدنيةً طالبت بالديمقراطية والإصلاح والعدالة.

إلا أن ويكيبيديا ليست الجهة الوحيدة المسؤولة عن انتشار المعلومات الخاطئة على الإنترنت، فتويتر يلعب أيضاً دوراً مهماً في هذه العملية، فهو أشبه بثقبٍ أسود يشوه الحقائق ويصدّر أشكالاً من الخطاب هي أشبه بالهذيان.

حوّلتني الثورة السورية إلى مدمن على تويتر. حين كنتُ طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت، تحولت متابعة الأخبار السورية على تويتر إلى هوَس. اقتصرت متابعتي سريعاً على عدد محدود من الحسابات التي أثارت حماستي وغضبي. كانت الثورة السورية، إلى جانب نظيرتها المصرية، أول انتفاضة شعبية تُعرَض تفاصيلها دقيقةً بدقيقة على منصة للتواصل الاجتماعي أمام الجميع. وكانت لديَّ قائمتي الخاصة من الصحفيين المواطنين والمراسلين من مختلف المدن السورية، ينشرون يومياً تغريداتٍ على تويتر عن مجريات حياتهم. وكان ذلك وجهاً آخر من الثورة السورية يسهل الوصول إليه واستهلاكه، إلا أن الخطاب السائد سرعان ما أخمد هذه الأصوات وأخفاها.

كانت مجزرة الحولة أول حدثٍ يُنقَل على الإنترنت يبعث فيّ حالةً من الجنون المذعور. بدأت الصور بالظهور في وقتٍ متأخر من ليل 25 أيار (مايو)Robin Yassin-Kassab and Leila Al-Shami, Burning Country: Syrians in Revolution and War (London: Pluto Press, 2016)..2012 أظهرت الصور جثث الأطفال المسجاة على الأرض الإسمنتية مخضبةً بالدماء. أتذكر شعوري بالغثيان. هاجمت في المساء من ذلك اليوم ميليشيات مرتبطة بالنظام السوري بلدة تلدو، التي كانت بلا دفاعات، وقتلت 108 سوريين، بينهم 49 طفلاً. تُفرِد صفحة ويكيبيديا لرواية النظام السوري بأن تنظيم القاعدة هو من ارتكب المجزرة مساحةً تساوي مساحة الرواية الأصلية، متغاضية عن أن بلدة تلدو كانت محاصرةً بالفعل من قوات النظام ومحاطة ببلداتٍ موالية له. تريدنا رواية النظام على ويكيبيديا أن نصدق أن إرهابيين من تنظيم القاعدة، ممن كانوا موجودين مسبقاً في تلدو، ارتكبوا المجزرة ليصدّروا صورةً سيئةً عن النظام، وأن هذه مؤامرة أخرى على النظام السوري الصامد والنبيل. في تلك الليلة، تعلمتُ معنى اصطلاح «السلاح الأبيض».  

تحول تويتر إلى ساحة للصراع بين مناصري الثورة السورية وخصومها. نجح خصوم الثورة، وهم مجموعة من ناشطي الإنترنت الغربيين اليساريين الذين يعلنون العداء للإمبريالية، ومناصرو حزب الله اللبناني، والحسابات الإلكترونية الروسية، في الانتشار ببطء ولكن بفاعلية في المناسبات المخصصة للثورة على الإنترنت، وأغرقوا المدونين والصحفيين والمواطنين السوريين بالمنشورات. وانقلبت كل جريمة ارتكبها النظام السوري رأساً على عقب، وتحولت إلى عملية استخباراتية غربية تسعى إلى إسقاط نظامٍ معادٍ للإمبريالية، صامدٍ في وجه الضغط الأمريكي. وليست سهولة إنتاج ونشر المعلومات الخاطئة والكاذبة في يومنا هذا إلا نتيجةً لحروب الإنترنت بشأن الثورة السورية.

شكّل الهجوم بالسلاح الكيماوي على الغوطة، والمجزرة التي نجمت عنه، نقطة انقسام حاد، حيث أدى إلى انهيار شق اليسار الإنترنتي، وعزّز في الوقت نفسه قدرة النظام على التشويش والهروب من المسؤولية عن أفعاله ما دام موالوه يحافظون على نشاطهم على الإنترنت. في وقتٍ مبكر من صباح 21 آب (أغسطس) 2013، أطلق النظام السوري صواريخ محمّلة بغاز السارين على غوطة دمشق قتلت أكثر من 1500 سوري. لحظةَ نشر الخبر، بدأت الحرب الإعلامية حول هوية المسؤول عن الهجوم. كانت البيانات المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي كافيةً لإثبات أن النظام السوري كان وحده المسؤول عن هذه الجريمة، كما تظهر استقصاءات مثل الذي أجرته مجموعة بيلينغكات (Bellingcat) المستقلة. لم يكن لدى أيٍّ منّا، نحن أنصار الثورة السورية، أي شك في أن النظام هو المسؤول، فهو الجهة الوحيدة التي تمتلك أسلحةً كيماوية، وهو الجهة الوحيدة التي أظهرت استعداداً لقتل آلاف السوريين ليبقى الابن الفاشل لحافظ الأسد في عرشه. في البداية، جرّب بعض أنصار النظام على تويتر وفيسبوك الاحتفاء بالهجوم، ولكن، لدى اهتمام قوى دولية بالقضية، تحوّل خطابهم إلى الإنكار والإلهاء والتشويش على مسؤولية النظام عن الجريمة. تكرر سيناريو مجزرة الحولة نفسه بعد الهجوم بغاز السارين. حتى سيمور هيرش، المعروف بكشفه عن الفظائع التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام والعراق، تورّط في هذا الخطاب، مشوهاً سمعته بتصريحه بأن النظام لا يمكن أن يكون المسؤول عن الهجوم، وأنه، أي الهجوم، تنفيذٌ لمؤامرة بين الغرب والإسلاميين. تحول هيرش وصحفيون يساريون آخرون إلى مجموعة من البلهاء المفيدين للتغطية على فظائع النظام. وتستند صفحة ويكيبيديا حول مجزرة الغوطة إلى تقرير هيرش لنقل رواية النظام للأحداث. وتبقى الرواية على الصفحة، تحت الحقائق الميدانية المثبتة، لتبدو مساويةً لها في المصداقية، وتمنح إحساساً بأن كلتا الروايتين مقبولتان، وبأن لكلٍّ من الضحية والقاتل أن يقدم روايته لما جرى.

أصبح موقع تويتر منصةً لتضخيم ونشر أسوأ نظريات المؤامرة حول سوريا، وليس ذلك فحسب، فمع تقدم الحرب واشتداد دمويتها، بدأت حسابات المدونين والصحفيين المواطنين العديدة، التي أوصلت صوت المتظاهرين -وهي الميزة التي جعلت من تويتر منصةً جذابة لمتابعة الخبر في البداية- بالاختفاء من الموقع. ما زالت آخر تغريدة للصحفي أوستن تايس، التي تحدث فيها عن احتفاله بعيد ميلاده مع مجموعة من مقاتلي الجيش السوري الحر، موجودة. وتوقف أيضاً حساب HamaEcho، الاسم المستعار لشاب اسمه سامي من حماة، والذي كان مصدر أخبار من المدينة المنكوبة في وسط سوريا، بعد أن كتب في منشوره الأخير: «هذا الحساب سيتوقف عن النشر إلى الأبد. سنذهب إلى الغوطة قريباً. لستُ مرتاحاً لهذا القرار، ولكن ليس أمامنا إلا الشهادة أو النصر».

ومن الحسابات المنقرضة أيضاً حساب BigAlBrand من حمص. تابعتُ ذلك الحساب عن كثب. ذات ليلةٍ اشتدّ فيها القصف على حمص، أرسلتُ له رسالةً خاصةً ساذجة أعرض عليه الإقامة في منزلنا في لبنان إذا كانت له أو لعائلته حاجة لمكان للإقامة. وشعرتُ بالإحراج بعد لحظات لأنني لم أفكّر ملياً قبل إرسال الرسالة، فكيف لي أن أشرح لعائلتي الأمر إذا قبل هذا الشخص الذي لا أعرفه عرضي؟ اختفى «بيغ آل» عام 2013. نشر على مدونته بعد عام أنه اعتُقِل وعُذِّب في سجون النظام، ثم نشر بضع مراتٍ عام 2016 وعام 2019. آخر ما نعرفه عنه أنه لاجئ في إسطنبول، وأنه على قيد الحياة ولكنه يائس. أتساءل عن عدد أمثال بيغ آل ممن لم يخرجوا أحياء من سجون النظام. حين أنظر اليوم إلى هذه التغريدات كلها، يعتريني شعور بالعجز والجزع، وتنتابني القشعريرة لدى التفكير في ما قد يكون مصير أوستن أو سامي. ما زالت تغريداتهم منشورة على تويتر، مثل مقبرة دُفِنت فيها آمال شبابي. 

* * * * * 

في خريف عام 2014، انتقلتُ إلى لندن لمتابعة الدراسة. ومنذ وصولي، بحثتُ عن مجموعة سياسية في جامعتي يمكنني الانضمام إليها لننظّم فعاليات حول الربيع العربي. انضممتُ إلى مجموعة مناصرة لفلسطين. في أحد أولى الاجتماعات، اقترب مني طالبٌ أصوله من أمريكا اللاتينية، وعرفني بنفسه على أنه حليف قوي للشعوب المقموعة كافة، ثم سألني عن جنسيتي، فأجبتُه بأنني من لبنان، ليتحول موضوع المحادثة سريعاً إلى الحرب الأهلية اللبنانية. كان متلهفاً ليُحدّثني عن عزم الميليشيات المسيحية في ذلك الحين على تدمير الثورة الفلسطينية. ورغم أني هززتُ رأسي رغبةً في إظهار ميولي اليسارية، ذكرتُ له على استحياء بأن اليسار اللبناني، بل وبعض الفصائل الفلسطينية، مارسوا بشكل متساوٍ قتلاً طائفياً موصوفاً.Samir Kassir, La Guerre Du Liban: De La Dissension Nationale Au Conflit Régional, 1975-1982, Hommes et Sociétés (Paris : Beyrouth: Karthala ; CERMOC, 1994).بدا مصدوماً بما قلته، فكيف يمكن لي، أنا اليساري العربي، أن أنطق بمثل هذه الهرطقة؟ بعد بضع سنوات، وجدتُه ينشر على فيسبوك مزاعم بأن الثورة السورية لم تكن إلا مؤامرةً غربيةً كبيرة، تسعى إلى تدمير النظام العربي المناصر لفلسطين، مكرراً روايات شارك سيمور هيرش في نشرها. لم يعد هناك سوريون في سوريا، لم يبقَ إلا العوامل الجيوسياسية، كما أشار المعارض والكاتب السوري ياسين الحاج صالح. ولم يرَ اليسار المعادي للإمبريالية في الثورة السورية إلا صراعاً دولياً بين العدوان الأميركي الإمبريالي وقوى صامدة من العالم الثالث.Yassin Al-Haj Saleh, The Impossible Revolution: Making Sense of the Syrian Tragedy (Oxford University Press, 2017).

في 4 شباط (فبراير) من العام الماضي، عُثِر على جثة لقمان سليم في سيارته قرب صيدون في جنوب لبنان. كان سليم باحثاً ومؤرخاً وناشطاً لبنانياً شيعياً. لم أكن أعرف لقمان، ولكني كنتُ قد اطلعتُ لماماً على عمله في أمم للتوثيق والأبحاث، المنظمة التي أسسها لتوثيق ذكريات الحرب اللبنانية والحفاظ عليها. من خلال عمله في أمم، أجرى سليم مقابلاتٍ جمع فيها شهادات من مقاتلي القوات اللبنانية ممن شاركوا في مجازر صبرا وشاتيلا. كان يحمل إيماناً راسخاً بأن تحقيق العدالة الانتقالية في لبنان لا يمكن أن يتم من دون توثيق الأحداث بدقة، وبأن الطريق إلى العدالة والانتقال إلى مرحلة جديدة يستند إلى قدرتنا على توثيق وأرشفة ما كان، والاعتراف به.

قُتِل سليم بأربع طلقات بعد فترة قصيرة من بدئه العمل على الاجتماع بمعارضين شيعة آخرين وتنظيمهم. بعد مقتله ببضع ساعات، بدأ من عارضوا عمله، من اليساريين الرجعيين المعادين للإمبريالية وأنصار حزب الله، بنشر خطابٍ واضح وموجز. استند هذا الخطاب إلى ركيزتين: الأولى أنه يقيم في منطقة نفوذ حزب الله منذ زمن بعيد، فما الذي قد يدفع الحزب لقتله الآن؟ والثانية أن إسرائيل هي من قتلته لتثير الفتنة والفرقة في البلاد. لم يكن ذلك إلا تكراراً للسيناريو القديم نفسه، الذي يلجأ إليه هؤلاء كلما ارتكب حزب الله جرماً، مثل غزو بلداتٍ سورية أو قتل معارضين آخرين في لبنان. لدى هؤلاء المناصرين لحزب الله استعدادٌ للإنكار والتعتيم والتشويش بما يكفي لنفي المسؤولية. وسوف يستغرق ظهور الملابسات الحقيقية وقتاً أطول مما يجب بسبب كثرة وتشتت المعلومات على الإنترنت، وبسبب توفر الأدوات اللازمة لكل من يسعى إلى التلاعب بالحقائق.

يغرق الشرق الأوسط اليوم في حالات الموت والاختفاء القسري، وتغيب المحاسبة والعدالة غياباً تاماً. تساهم منصات الإنترنت في استمرار غياب العدالة. وتجري الحسابات الإلكترونية التابعة للأنظمة جولاتٍ مستمرة على ويكيبيديا وتويتر، ويساعدها المغفّلون على إنكار مسؤولية حُكّامنا عن جريمة قمعنا. في التأبين الذي أُجرِي له في منزله في حارة حريك، وقفت أم لقمان فوق صورة لابنها مبتسماً، وحثّت الموجودين على متابعة عمل ابنها. إذا كان لنا أن نتابع الطريق بعد لقمان وأن نحفظ إرثه ونكرم ذكرى آلاف ضحايا الأنظمة العربية القمعية، فأقل ما يجب علينا فعله هو أن نوثق ونؤرشف قصص الضحايا، ونعيد روايتها، على أمل أن يأتي اليوم الذي يُحاسَب فيه القتلة.