نشر المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى كتابين عن الجسد في الواقع السوريّ الراهن: صور من لحم ودم، وكلمات من لحم ودم.شارك في الكتاب الأوّل عزّة أبو ربعيّة وسيسيل بويكس وعلاء رشيدي وحسّان عبّاس ونور عسليّة ونبراس شحيّد. وشارك في الكتاب الثاني إيمّا أوبان بولتانسكي وجولان حاجي ونسرين الزهر وعبدالله الكفري وكاترين كوكيو ونبراس شحيّد.يصوغ الكتاب الأوّل دعوةً إلى التفكير في صور أجسادنا. بدايةً الجسد المصوِّر والمصوَّر، جسد الشاهد الذي صار المطرح الأوّل لإثباتِ وسردِ «الحقيقة» ضمن سياقٍ احتدم فيه صراع التأويلات. ثمّ الجسد كما قاربته الفنون التشكيليّة: جسد الفنّان المعتقل حين يعود إلى تجربة اعتقاله السياسيّ، والجسد الجندريّ والثائر والملحميّ، وأيضاً التراجيديّ والعدميّ و «المطلق». لا تمثّل هذه الصور واقعاً نعرفه، وفقًا لبعض أطروحات هذا الكتاب، بل تحيلنا عليه بطريقةٍ مغايرة، فتجعلنا غرباء عن أنفسنا. لا بل تنزع إلى التأثير في شكل وجودنا عبر آخريّة الجسد المأساويّ الذي تُبرزه، وعبر الغرابة القصوى للجثّة التي تطرحها أمامنا، وتطرحها فينا. بعيداً عن محاكاة الواقع التي اعتدنا أن نختزل فيها وظيفة الصورة، تفتتح هذه حقلاً تجريبيّاً لحيواتٍ جسديّةٍ جديدةٍ في علاقاتها مع الوجود والموت. أمّا الكتاب الثاني فيتناول الجسد مكتوبًا من الرواية إلى الشعر، مروراً بالمسرح والشهادات الشفويّة والمدوّنة. لا نقصد هنا بكتابة الجسدِ النصوصَ التي يقوم فيها بدورٍ محوريّ فحسب، بل الكلمات التي يبثّها أيضاً على مسرحٍ أوسع، والأفعالَ التي يؤديها، إذ يشكّل هذا كلّه «نصًّا» مجازيّاً نؤوّله ونعيد تأويله من دون انقطاع. لكن أن نكتب الجسد في السياق الدمويّ السوريّ يعني أيضاً أن نجابه ما لا نستطيع وصفَه من مأساةٍ، حين يسائل المعيش الجسديّ مقدرةَ اللغةِ كتابةَ ما هو في جوهره تدميرٌ للغة، أي العنف المفرط. أن نكتب الجسد يعني إذاً أن نبحث عن شيءٍ متبقٍّ أفلت من العدم ليترسّب في اللغة، في هامشٍ ضيّقٍ تُخاض فيه معركة المعنى بين «اللاشيء» و«لاشيء» تقريبًا يحاول قول كلّ شيء.

شارك حسّان عبّاس في الكتاب الأوّل الذي صدر بعد رحيله بنصٍّ عنوانه «بين الجسد العدميّ والجسد المطلق». واختُتِم الكتاب الثاني الذي صدر هذا الأسبوع بنصٍّ ملحقٍ مهدى إليه، نعيد نشره هنا. ولكي نضع النصّ هذا في إطاره، نقدّم سريعًا في البداية مجمل نصوص كلمات من لحم ودم.

يرسم النصُّ الأول صورة امرأةٍ تبحث عن معنى، امرأة تحارب العدميّة التي اجتاحت بلادها. تتعقّب إيمّا أوبان بولتانسكي خطوات أحلام التي انخرطت في استقبال المهجّرين نحو منطقة إدلب. ترابط أحلام على أطراف الطرق السريعة المؤدّية إلى المدينة، وتبثّ رسائلَ على شبكات التواصل الاجتماعيّ تخاطب فيها «العالم». تقارب الباحثة هذه الرسائل كمحاولات تجسّدٍ، فأحلام لا تكتفي بمناداة «جميع من سيسمعونها» أو «العالم كلّه»، ولكنّها تحوّل نفسها إلى عالم. إنّها تبلور فكرتها عن العالم بجسدها آملةً أن تمنح المهجّرين الذين اختُزلوا في حيواتٍ عاريةٍ الكرامةَ التي يستحقونها. تعمل أحلام إذاً على إعادة تسييس الأجساد المقصيّة، محاوِلةً أن تؤكّد على ذاتيّاتها الخاصّة. ومع أنّ العالم الذي ما زالت تؤمن به، إيمانها باللغة، يغرق في صممه، تبقى إرادتُها دون تثريب، إذ تستمرّ في بثّ رسائلها، وكأنّها تودعها عبابَ البحر في قوارير لا تعرف من سيقرأها، وتنفصل في هذا عن مبدأ الفعّاليّة الذي يقيس الفعل بناءً على نتائجه. تريد أحلام أن تقول كلّ شيء لعالمٍ أصمّ دفعةً واحدة، على غرار ذلك الطفل السوريّ الذي أصيب بجروحٍ بالغة، والذي أعلن قبيل موته أنّه «سيقول كلّ شيء لله».

تدرس نسرين الزهر تحوّلات صورة عمر الشغري الذي صادفتْه أيضاً على شبكة الإنترنت. من دون كللٍ، يقدّم هذا الشاب، الذي لجأ بعد أن نجا من معتقلات الأسد إلى السويد ثمّ إلى الولايات المتّحدة، شهادَتَه عن الأهوال التي حلّت به مقاوماً منطق الإبادة. تضع الباحثة نصب أعيننا تصميم هذا الشاب – الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة عندما زُجَّ به للمرّة الأولى في الزنازين – على تحويل المأساة التي عاشها إلى نقطة انطلاقٍ لمسيرةٍ نموذجيّة. عبر قراءة صورة الناجي في علاقتها مع مسألة الكرامة، تحلّل نسرين الزهر الطريقة التي تَستقبِل هي فيها صورتَه الديناميكيّة، بصفتها أيضاً سوريّةً تعيش في المنفى. إنّها تحلّل في هذه الصورة انعكاس أجساد السوريّين المحكومين – حتّى وإن كانوا بعيدين عن بلادهم – بنزاعٍ مستدامٍ مع منطق «الرذل» الذي خضعوا له ومع واقع الفظاعة الذي يريدون تقديم شهادةٍ عنه للعالم، مع أنّهم يسعون إلى محوه عبر جسديّةٍ أدائيّةٍ تُوائم بلدان لجوئهم.

يعالج عبدالله الكفري حضور الجسد على خشبة المسرح السوريّ ما بين 2006 و2015. يبدأ بتحليل السلطة الاجتماعيّة والسياسيّة لشخصيّة الأب، مظهراً أنّ الجسد هو المقام الأول لهذه الهيمنة التي خلخلتها الثورة. ويتناول من ثمّ تجاوز المحرّمات، فيُبرز أنّ عملية تسييس الجسد منذ 2011 تُسائل موضوعة الجنس التي طالما تمّ اختزاله فيها. وأخيراً يدرس ثيمة الموت التي فَقدت منذ 2011 الوظيفة الرمزيّة التي مارستها حين كانت تحيل على مسائل ورهاناتٍ اجتماعيّةٍ أخرى، كالعنف والسلطة البطريركيّة. إنّ الجسد الميت، الذي بات يعالَج لذاته، تَفَّهَهُ حضوره المهيمن، فامّحى كموضوعٍ استثنائيّ. ولكنّ سطوته تعاظمت على حياة السوريّين، على غرار العدم الذي يطبع وجودهم.

تخوض كاترين كوكيو في موضوع «الجسد السوريّ»، قارئةً كتابات سمر يزبك بعد 2011. وتتوقّف خصوصاً عند تجربة الإنسان الممحوق التي تقدّم الروائيّة شهادةً عنها، وهي تجربةٌ أليمةٌ للنساء والرجال الذين كانوا يؤمنون بالعالم، وانتهى بهم الأمر أن أدركوا أنّ المأساة التي يعيشونها بأجسادهم لا تعني شيئاً لهذا العالم. هذا ما عبّرت عنه الكاتبة قائلة: «الجسد السوريّ طعام العدم». تواجه سمر يزبك العدميّة متسلّحةً بـ «اللاشيء تقريباً»، أي بالكتابة. ولكنّ هامش المناورة، كما تحلّله كاترين كوكيو، ضيّقٌ حيث تدور معركة المعنى بين «اللاشيء» و«اللاشيء تقريباً»، فلا قيمة للحيوات في سوريا، لأنّها تعيش وتثور وتموت من أجل «لاشيء». انطلاقاً من هذه المعاينة، تحلّل الباحثة ما يعمل على تحرير الجسد المرذول في أدب الشهادة، وما يعمل في الوقت عينه على تحرير الكتابة من سجن الواقع عبر فتح منافذَ جديدةٍ، وإن بقيت تُطلّ على «العدم».

لا يمكن للعدميّة أن تنحصر في أطروحاتٍ فكريّة، لأّنها تتجذّر قبل كلّ شيءٍ في الجسد. هذا ما يُبرزه نبراس شحيّد قارئاً رواية خالد خليفة الموت عمل شاق (2015). في المقام الأول، تتكشّف العدميّة في نصّه كديناميّةٍ تقوّضُ القيم لدى الأحياء في علاقاتهم المتبادلة بعضهم ببعض، لكن خصوصاً في علاقاتهم بالموتى. فضلاً عن ذلك، تتجلّى العدميّة كضياعٍ عميقٍ للمعنى، وفي أحسن الأحوال كانحسار المعنى في مقولةٍ مثاليّةٍ غير قابلة للتجسّد. ثمّ تتبدّى العدميّة أيضاً كديناميّةٍ تنقلب فيها الحياة على نفسها، فالموت في الرواية يوقظ غيرة الناجين منه إزاء من رحلوا. لا بل تقيم الروايةُ مملكةَ «الجيفة» التي تسود العالم من خلال لامبالاتها، وأيضاً من خلال رائحتها. هكذا يقترح الكاتب أن تُقرأ هذه الرواية كنصٍ «يجيّف» كل شيء انطلاقاً من «عدميّةٍ شمّية». ويقصد بهذا المفهوم الديناميّات التي تجعل الحواس (الشمّ هنا) والأعضاء (الأنف في حالتنا) مكاناً لتهديم المعنى والقيم والشخصيّات ولغتها، فيوسّع تالياً مفهوم العدميّة نحو الجسديّة.

لَمْسُ ما لا يوصف من العنف بالإصبع، وكشف الجروح المرئيّة وغير المرئيّة التي ابتلي بها الجسد من دون ادّعاء الإحاطة بها، يدفع مشروعٌ كهذا نحو شكلٍ آخر للكتابة، يجرّبه جولان حاجي. في محاولته قول الجسد، يهتمّ الشاعر بعضوٍ وبحاسّة، بالتصادي مع مسعى نبراس شحيّد. وكجرّاحٍ، يقوم بتشريح العين بشكلٍ منهجيّ مستكشفاً امتداداتها الفسيحة: الرؤية، التذكّر، الخلق، الاختلاق، ولكن أيضاً تربّصها بظلّ الجفن، أي المراقبة والتحكّم والتسديد والقتل. يلتقط الشاعر برهافةٍ لافتة الأشباحَ التي تغزو أجسادنا، ويختار أن يسبكها بكلمات الفرار من بلدٍ مدمّر، والضياع في أماكن لا تكترث بالغرباء، والحرب والهلع والموت. هكذا يدعو القارئَ إلى بحثٍ لغويٍّ محمومٍ ومضطرب، ليصل أخيراً إلى رؤية الهاوية: «العينُ النابعة من الليل ينبوعُ الليل، ولا منبع لهذا النور. لا ذكرى. لا تاريخ. لا قواميس. لا وِجهةَ لهذا الوجه. لا قصّة في هذه القصّة. لا جدوى من أيّ شرح».

* * * * *

بين سرّين

الجسد في رواية الحرب السوريّة. كان هذا عنوان المخطوط. اتصل بي المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى كي أراجعه بهدف نشره. لكن، عندما اكتشفت أنّه ممهورٌ باسم حسّان عبّاس، وجدتُ أنّني غير مؤهّلٍ لذلك، تردّدتُ، رفضتُ، ثمّ قبلتُ. وبعد أن غُصتُ في النصّ كتبتُ تقريراً مغْفلاً أرسِل إليه. سألني حسّان عندما التقيت به لاحقاً: «هل أنت كاتب التقرير؟» هززت برأسي من دون إخفاء تعجّبي: «كيف تعرف ذلك؟» – «لأنّه مكتوب بكثيرٍ من المحبة»، أجابني. هكذا، تمّ اكتشاف الاسم من دون أن يباح به.

أتصفّح اليوم بشجنٍ الكتابَ الناجز الذي صدر قبل وفاة حسّان بأيامٍ وأقلّبه قائلاً: قد يكون هذا الكتاب الوليد يتيماً وصيّتَه. قد يحمل ربما سماتَ سرٍّ ثانٍ، غير السر البسيط المرتبط باسم قارئٍ مغْفلٍ، فضحته محبّته أمام عيني المؤلّف: الجسد كَسِرٍّ مكنون. وما السرّ سوى ما يصمتُ بعد موت صاحبه؟ نعم، ولكنّ السرّ أيضاً يخترق بظلاله وسكتاته بوحَ القول، تاركاً بين الكلمات راسباً في هاويةٍ متعاظمة. هو شيءٌ لم يردْ قولَه ذاك الذي سيرحل أو لم يستطع أن يفضي به عندما كشفه. هو حفنةُ صمتٍ تبقى عصيّةً، تزعزع نظام الأشياء. إنّ فعل secerno اللاتينيّ الذي اشتقت منه كلمة secret (سرّ) يعني «وضْع أمرٍ ما جانباً»: فسابقة الكلمة se، التي هي أداة فصل، ترتبط بفعلٍ ذي دلالةٍ زراعيّة، إذ يحيلُ الفعل  cerno على عمليّة غربلة الحبوبArnauld Lévy, « Évaluation étymologique et sémantique du mot secret », Nouvelle revue française de psychanalyse, no 14, 1976, p. 117-129. قد يمكّننا هذا التأثيل من أن نرى في كلمة «سرّ» راسباً في غربال المعرفة يمتنع على كلّ انخراطٍ في منظومةٍ معيّنة. وقد يكون المطرودَ من كيانٍ ما، أو المنبوذَ مما يُعْلَم، وقد يكون انفلاتاً يخصّ الجسد في سياقنا هنا، وقبل كلّ شيءٍ الجسد المأساويّ، ذاك الذي يخلخل كامل حيواتنا الهشّة. السرّ الذي بدا لي نافلاً في تجلّيه الأوّل، سرّ الاسم المفضوح، يصبح هنا سرّ جثمانٍ، أيّ ذاك الراسب الصامت الذي تناوله كتابُ حسّان عبّاس الأخير: اللحم والدم عندما ينسلّان من اللغة.

عمل الغلاف: فادي يازجي

هذا السرُّ هو موضوع الملحق هنا، نصٌّ لا يمكن اعتباره قراءةً أمينةً لكتاب كلمات من لحم ودم، فضلاً عن أنّه ليس تقديماً لكتاب حسّان عبّاس. يندرج هذا الملحق بالأحرى في «بين بين» يكاد لا ينفتح على شيءٍ، بل يسعى – بالضبط ومن دون بلوغ الهدف – إلى استقبال اللاشيء.

«العدميّة» كلمة أخيرة

كما يشرح حسّان في كتابٍ آخر، صورٌ من لحمٍ ودم، ثمّة ديناميّتان أساسيّتان يظهر عبرهما الجسد في سوريا. الديناميّة الأولى ملحميّةٌ، تكلّلها صور المظاهرات التي اندلعت عام 2011  في العديد من المدن السوريّة، وفيها تتوحّد الأجساد الثائرة في كيانٍ جامعٍ وسرديّةٍ مشتركة. أمّا الديناميّة الثانية فعمليةُ تذويتٍ يشرع من خلالها الجسد الفردانيّ في سرديّته الخاصّة التي تنفصل عن المنظومة الجامعة.

يرسم كتاب الجسد في رواية الحرب السوريّة الانسحاب التاريخيّ للديناميّة الأولى المتزامن مع تكثيف الأخرى. ويعجّ هذا التكثيف بصور الجسد المذوَّت مأساويّاً إلى أن يُباد، فتَحلّ صورة «الشهيد» مكان صورة «الجماعة» الثائرة. يدرس حسّان عبّاس بزوغ هذا الجسد الجثمانيّ في المشهد الروائيّ السوريّ منذ 2011، بعد النظر في بعض سماته حيّاً. من هذا المنطلق، يسلّط الضوء بخاصةٍ على المعاني التي تأخذها الصفات الفيزيائيّة للجسد عبر قراءة خمس عشرة رواية نُشرت ما بين 2012 و2017، منوّهاً بالموقع المركزيّ الذي تحتلّه بعض الصفات الفيزيائيّة على حساب ملامح أخرى، وبإحالاتها على واقعٍ ثقافيّ وسياسيّ مركّب. وفي الختام، يتناول المسارات التي أودت بالجسد الفردانيّ إلى الانخراط في صميم السرد الروائيّ، ويقارب هذا الجسد كمجازٍ يحيل على الوضع في سوريا وعلى حالات القوى المتصارعة فيها. هكذا ترتسم لوحة الأدب السوريّ الجديد جسديّاً.

«تبدو هذه الملاحظات المستنتجة في ختام هذه الدراسة “طبيعية” بالنسبة إلى أدبٍ مكتوبٍ على خلفيّة الحرب، غير أنّها تشير باعتقادنا إلى ملامح تشكّلِ ثقافةٍ جديدةٍ حول الجسد»حسّان عبّاس، الجسد في رواية الحرب السوريّة، بيروت، المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى، 2021، ص 136.. لا شيء يبدو مفاجئاً إذاً في هذه الدراسة المُثرية والثاقبة، يقول الكاتب. ومع ذلك، هناك جملةٌ أخيرةٌ تخلخل هذا الانطباع، إذ تدشّن فكرة العدميّة على اعتبارها الأساس الفلسفيّ الجديد لكتابة الجسد. في هذه «العدميّة»، لا يقول حسّان إلا القليل أو لا شيء تقريباً. ولا تظهر الكلمة إلا مرّةً واحدةً في كتابه، تحديداً في الخاتمة. يبدو أنّ كلّ شيءٍ يقود إلى هذه «الفلسفة»، ولكنّها ما أن تبزغ في النصّ حتّى تصمت. لقد أُضيفت سطور الكتاب الأخيرة لاحقاً إلى المخطوط الأوّل، كما لو أنّ المؤلّف وجد من الضروري إلحاقها من دون أن يشاء قول المزيد، مخلّفاً وراءه سرّاً مفتوحاً يطلّ على العدم الذي ينال من اللحم والدم.

«عذراً لأنّي لم أشأ القول»

نجهل هويّة مُطلِق هذه الكلمات. في مقاله عن البنوّة بين الأدب والنصّ المقدّس، «الأدب في السرّ»، يحيط جاك دريدا هذا القول بعلامتي تنصيص فيحوّله إلى استشهادٍ مُغْفَل. ويغامر الفيلسوف بأن يضع هذه الكلمات على لسان إبراهيم أثناء التضحية بإسحق، مقارباً موضوع السرّ على نحوٍ جديد. من بين «جميع من حملوا سرّاً مطلقاً (وهم لا يُحصَون في التاريخ)، سرّاً رهيباً، سرّاً غير محدودٍ»، يختار دريدا أن يعود إلى الشخصيّة البدئيّة للأديان الإبراهيميّة، التي هي أيضاً «أصل هذه الأرومة التي بدونها لما استطاع ما نسميه الأدب أن يظهر كأدبٍ تحت هذه التسمية»Jacques Derrida, Donner la mort, Paris, Galilée, 1992, p. 163..

بالنسبة إلى إبراهيم، السرّ مزدوج. فمن جهة، لا ينبس «أبو المؤمنين» بأيّ كلمةٍ حول الأمر الإلهيّ بالتضحية بابنه، بذبح «العهد» المقطوع و«الوعد» المستقبليّ؛ فبين الله وبينه يجب ألا يكون هناك أيّ طرفٍ آخر، أيّ شاهد. ومن جهةٍ أخرى، تفضي هذه العلاقة مع المطلق إلى «سرّ الأسرار» الذي يخصّ السبب الكامن وراء أمر الله بنحر إسحق. وبسبب غياب الإجابة على هذا السؤال السحيق وانعدام معنى هذا الفعل الأضحويّ، يبقى إبراهيم وحيداً أمام الهاوية التي ستبتلعه. نرى في ملامح هذا الأب، القاتل في طور التكوّن، حارساً أميناً لتدمير المعنى، إذ يبقى وفيّاً لهذا التدمير حتّى النهاية، أي حتّى رفع سكينه لذبح ابنه، لذبح الوعد والعهد. لن نخون دريدا كثيراً إذا اعتبرنا إبراهيم وجهاً للعدميّة واللامعنى، هذا اللامعنى الذي ينهش جسدَ أعزّ الناس إلى روحه. ومنذ تلك اللحظة، يصير جسد الابن المكان القصيّ لظهور السرّ، لكن تحديداً حين يفقد هذا الأخير مضمونه، معناه ومغزاه.

«عذراً لأنّي لم أشأ القول»، تستطيع هذه الكلمات أن تكون إذاً ترجمةً لردّ إبراهيم على نظرات إسحق المتسائلة القلقة: «الله يرى لنفسه الحمَلَ للمحرقة يا بنيّ» (سفر التكوين: 22، 8). هو قولٌ دون قول، وصمتٌ تهجسُ به المقاطع الصوتيّة الجريحة، يطعن الكلمةَ في عمق كيانها. عذراً لأنّي لم أشأ القول، أو لأنّي لا أستطيع أن أفشي السرّ، سرّ أسرار موتك الوشيك بلا غاية، سرّ جريمتي الجاهزة للاقتراف، سرّ جسدك المأساويّ الذي سيهمد جثةً عمّا قريب. في هذا التخييل الأدبيّ، يختلط الصمت المنبثق من الكلمات مع استحالة القول كاستحالةٍ مؤسِّسة لفعل القول.

إنّ سرّ الأسرار الإبراهيميّ ينضوي على عدم. ورأى دريدا في هذه السرديّة التوراتيّة عمليّةً تلغي طابع القداسة عن الكتاب المقدّس الذي انتزعت منه: «لم يعد ثمّة شيءٌ مقدّسٌ في العالم عند إبراهيم، لأنّه مستعدٌ للتضحية بكلّ شيء. وهذه المحنة قد تكون تالياً مساراً لنزع طابع القداسة عن العالم. وبما أنّ السرّ فَقَدَ مضمونه، لا نستطيع القول إنّ السرّ المكنون هو سرٌّ مقدّس»المرجع السابق، ص 203.. في صميم النصّ التوراتيّ، ومع إعدام الوعد المستقبليّ الذي يمثّله إسحق، يُتفتّح إذاً أدبٌ دنيويٌّ يفضي إلى انحلال النصّ المقدّس نفسه.

هو سرٌّ مُغرِقٌ في هاويته، لا لأنّه يخفي شيئاً، بل لأنّ لا شيء نخفيه في هذا السرّ الذي به نسكن عالماً فقدَ قدسيّته. عالمٌ من دون مطلق، عالمٌ يستدعي فيه أمرُ الله أخيراً تفكيكَ ذاته الإلهيّة. في هذا السياق، ينفتح طلب الغفران على ما لا يُغتفَر. «عذراً لأنّي لم أشأ القول». قد يوجّه إبراهيم هذا الطلب إلى الله، لا لأنّه رفض طاعة أمره، بل لأنّه بالأحرى خضع لهذا الأمر «المستحيل مرّتين». مستحيلٌ أوّلاً لأنّه يرتبط بالأفدح، ولأنّ الله ثانياً قد أوقف تنفيذه. هكذا وجب على طلب الغفران أن يخرج ربما من فم الله بالذات، كما لو أنّ طلب الغفران كان في المحصلة عهداً يعقده الإله مع نفسه، ويحقّقه في الجسد المائت لإبراهيم الذي تفترسه لواعج الندم. «يتحقّق الغفران كعهدٍ يقطعه الله مع الله عبر الإنسان. ويتمّ عبر جسد الإنسان، وعبر انحرافات الإنسان، وعبر شرّ الإنسان»المرجع السابق، ص 196..جسد إبراهيم هو مكان اهتداء الله الذاتيّ حين يفقد مطلقيّته، حين يتراجع، وهو مكان العدميّة الإلهيّة التي يحيل عليها سرٌّ بات غير مقدّسٍ في عالمٍ فقدَ مستقبله المتمثّل بإسحق. يغدو هذا الجسد مكاناً للاشيء يهلك فيه كلّ مشروعِ معنى. عندئذٍ يلتحم في هذه العدميّة مطلقٌ سَقَط، وجسد إبراهيم القاتل بجسد إسحق المقدّم للذبح.

لوحة الغلاف: يوسف عبدلكي

من وجهة النظر هذه، يجب على نشأة الأدب أن يرفدها طلبُ الغفران الذي يعترف بانحلال المطلق وبنزع طابع القداسة عن النصّ المقدّس، لا بل يدعو إلى تفكيرٍ أعمّ في وضع «كينونتنا-نحو-الموت» (Sein zum Tode / être-pour-la-mort) التي فلسفَها هايدغر. يصير الأدب هنا «المكان الحقيقيّ للكائن-نحو-الموت، كما لو أنّه يجب علينا أن نفهم الأدب، انطلاقا من الموت، كحيّزٍ يقبع فيه سرٌّ ما […]. كينونة الأدب كالكينونة-نحو-الموت أو على العكس من ذلك»Derrida, Répondre du secret, séminaire à l’École des Hautes Études en Sciences Sociales en 1991-1992, conservé à l’IMEC. Cité par Richard Pedot, « Attendu que la littérature : de Job à Abraham via Bartleby », Le tour critique, no 1, 2013. [En ligne] consulté le 30 avril 2021 : letourcritique.u-paris10.fr/index.php/letourcritique/rt/. وإذا كان لاوعينا يُغْرقنا، كما قال فرويد، في إنكار موتنا بالذات، تصبح المناورة الأدبيّة التي يقوم بها الخيال السرديّ عندئذٍ مكاناً نستعيد فيه كينونتنا-نحو-الموت، كياننا المجبول من لحمٍ ودمٍ، وسرّه الذي يفضي إلى اللاشيء.

باسم الجسد، السرّ

في الجزء الأوّل من هذا العمل الجماعيّ، صور من لحم ودم، طُرحت مسألة الكائن الذي يحاول أمام مرآةٍ أن يدرك نفسَه في صورة جسده بعد كلّ هذا الدم المسفوك في سوريا. وقبل أن تتكشّف هذه الصورة كسجدٍ مأساويّ، كانت انعكاسات المرآة في الماضي تعطيه انطباعاً بأنّ «أناه» موحّدة. والحال أنّ أطياف الجثث الممزّقة التي اجتاحته قد كسرت هذا التناغم، فحوّلتِ المرآةَ إلى انعكاسٍ أقصى لتشتّت الأنا، لتفتّتها الهاجس بالأشلاء. في الكتاب الثاني، كلمات من لحم ودم، أردنا أن نتناول الكلمات التي تريد قول شيءٍ عن هذا الجسد، شيء يعود في النهاية إلى استحالة الإحاطة به.

بالتوازي مع المرآة، يدرك الإنسان نفسه كفردٍ عن طريق اللغة التي هي دائماً لغة الآخر لأنّها لغةٌ تسبق تشكّل الأنا، لا بل تشترط إمكانيّة ظهورها بالمصطلحات اللغويّة والبنى النحويّة. يولد الجسد أيضاً من لغة الآخر هذه عندما يسمَّى. ولكنّ الواقع المركَّب الذي تسعى كلمة «جسد» إلى جَوهَرَته يفلت منها. ونعلم، مع نيتشه بخاصة، أنّ محاولة قول «الجسد» هي تزييفٌ له: عندما نُدخله في البنى اللغويّة فإنّنا نخضعه إلى مفاهيم تأتي لتعمّم مجموعةً هائلةً من القوى المأزومة، والمتمايزة بعضها عن بعض. يتناول الفيلسوف الجسد كـ«معجزة المعجزات»، «فهذه المجموعة المذهلة من القوى الحيّة [التي تشكّله] […] تمكّنت من أن تعيش وتنمو وكأنّها تعود إلى شيءٍ واحدٍ، ومن أن تستمرّ كذلك مدّةً من الزمن»Nietzsche, Fragments posthumes : automne 1884 – automne 1885, Œuvres philosophiques complètes, tome XI, traduit par Michel Haar et Marc de Launay, Paris, Gallimard, 1982, 37[4], p. 310..هذه المنظومة الحيّة هي التي ترمَّز بكلمة «جسد». ولكن أن نسمي «جسداً» هذه التعدّدية التي تسكن اللحم والدم، والتي هي لاواعية بطبيعتها ولا يمكن الإحاطة بها في نظر نيتشه، فإنّنا نخاطر بأن نختزل هذه التعدّدية في دالٍّ مجرّدٍ يغرّبها عن واقعها.

يشقّ الواقع الهارب للجسد طريقه في اللغة كراسبٍ صامتٍ يفلت من الدوال (signifiants). وهذا العجز عن قول الجسد صار عجزاً مضاعَفاً في واقعنا الدمويّ. فآثار التدمير في الحرب السوريّة تثير انقلاباً جذريّاً في وجودنا، وتُحدثُ شبه طلاقٍ بين اللغة والعالم الذي تسعى إلى إدراكه. ذلك أنّ الكلمات عن الأجساد الممزّقة والأجساد المعذّبة تعكس هذا الفشل في إدراكٍ لغويٍّ لتجربة المريع وللهاوية التي تحدّد حياة الجسد وموته.

يبدو أخيراً أن السرّ يكمن في بزوغ هذا الواقع العصيّ على الإدماج في النظام الرمزيّ، وهو ما يُلقي الضوء على التمزّق الذي يؤسِّس اللغة. أن نقول وأن نقول الجسد بخاصة، من هذا المنطلق، يستلزم إذاً طلب المغفرة: أي أنّنا نعتذر عمّا لا يمكنّنا قوله على الرغم من كلّ ما نحاول قوله. وقد يكون هذا الاعتذار هو ما همستْ به صامتةً السطورُ الأخيرة من كتاب حسّان عبّاس.

اعترافات

يسعنا في النهاية أن نتفكّر في كتابنا كمحاولاتٍ متعدّدةٍ لصياغة طلب المغفرة. ولا يرتبط هذا الطلب بخطيئةٍ ارتكبت، فهو لا يعود إلى فعلٍ أو إلى قولٍ، بل يعود إلى اللاشيء الذي يخترق الفعل والقول، ولا سيّما عندما نتطرّق إلى مسألة الجسد المأساويّ.

يمكننا قراءة نصّ إيما أوبان بولتانسكي كطلب مغفرة، يتفوّه به عالَمٌ أصمّ أذنيه كي لا يسمع كلمات أحلام، كي لا يعاين النصّ الذي تصوغه بجسدها: عذراً لأنّنا لا نستطيع الإصغاء. يمكننا أيضاً اعتبار دراسة نسرين الزهر طلباً آخر للمغفرة على النزعة، اللاواعية، شبه الواعية أو الواعية، التي تسكن شهادات السوريّين، النزعة إلى إنكار الجسد المرذول الذي تدور حوله، وللمفارقة، سرديّاتهم: عذراً لأنّي لم أشأ القول على الرغم من كلّ ما أقوله. أمّا بالنسبة إلى نصّ عبدالله الكفري، فقد يستقبله القرّاءُ كوعيٍ لتعاظم العدميّة في المسرح السوريّ: عذراً لتسييد العدم على قولي كلّه. ويمكن كاترين كوكيو، التي تموضع نصّها في هامش المناورة الضيّق حيث تدور معركة المعنى بين «اللاشيء» و«اللاشيء تقريباً»، أن تضيف: عذراً من جديد لجعل اللاشيء يحتلّ كلماتي كلّها، تقريباً. قد تُصاغ مساهمتي أيضاً عن الجسد والعدميّة كطلب غفرانٍ آخر: عذراً لترجمة العدم في رائحةٍ تُفلتُ من اللغة، لا بل تهدّدها. أخيراً، يختبر جولان حاجي شعريّاً إملاق الكلمات أمام الدمار الذي يحلّ بالجسد: «اللغة أمٌّ ميتة، والمحسِنون، عبر القرون، ساعون لإغاثة اليتامى بغبار حليبها»، عذراً لأنّي لا أستطيع إلا قول كلماتٍ من غبار.

من الشهادة إلى الشعر، ومروراً بالرواية والمسرح، وأيضاً بقواعد لغة الرذل، يتأمّل هذا الكتاب في الجسد تكريماً لحسّان عبّاس الذي ربما كان ليضيف: عذراً لأنّي لم أتمكن من إنهاء ما أردت قوله. طلبات عفوٍ لا تحصى لحِدادٍ لا يمكن أن ينتهي…