20:15

كيف أقتل الوقت قبل وصول راني؟ استحممتُ في خمس دقائق، وأعدتُ ارتداء ملابسي في خمس دقائق أخرى، وجلستُ على السرير. قررتُ استكشاف المنطقة المحيطة بالأوتيل، فتأكدتُ من بطارية الهاتف ومن خدمة الـ3G، ونزلتُ.

بعد خطوات قليلة، اتضح لي أنَّ الأوتيل يقع في شارع مليء بالحانات. كلما فتح باب إحداها، انبعثت من داخلها موسيقى صاخبة. تقدمتُ في الشارع متعمداً عدم الدخول في شوارع داخلية كي لا أضيع طريق عودتي. رغم وجود تطبيقات الخرائط على الهاتف، كانت هذه دوماً طريقتي في اختبار الأماكن الجديدة: استكشاف المساحات القريبة أولًا، بسلوك الطرق المستقيمة والتخفيف من الالتفافات قدر الإمكان، قبل التوسع أكثر في المنطقة المكتَشفة.

بعد قرابة عشرين دقيقة من المشي، انتقيتُ حانة لاحظت أنّ مريديها الواقفين في الخارج في أوساط ثلاثينياتهم. سلكت طريقي باتجاه البار وسط كوم الناس المتلاصق. تحدَّث البارتندر معي بالعربية في البداية، فرددتُ عليه بالإنكليزية طالبًا قنينة بيرة. سألني عن نوعها فأجبتُه: «أي ماركة محلية». أراد النادل أن يصبَّ البيرة في كأس فأخذتُ منه القنينة كما هي، ونقدتُه السعر الذي طلبه ومعه بعض البقشيش فابتسم لي وأكمل عمله بينما انسحبتُ إلى الخارج.

لم يتحرَّج الواقفون في الخارج من الابتعاد عن الحانات وحمل كؤوسهم وقنانيهم علناً. بدا أن الأمر مسموح هنا، ففعلتُ مثلهم، وقطعتُ الطريق نحو الرصيف المقابل. وقفتُ في مكاني أكثر من ساعة، عدتُ فيها مرة واحدة إلى الحانة لشراء قنينة بيرة أخرى. كنتُ أنظر إلى الناس فقط وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض: كيف يتصرفون، وكيف يضحكون، وكيف يتكلمون.

ثمَّ قررتُ العودة إلى الأوتيل، والجلوس في مقهاه المتصل بباحة الاستقبال، وطلب قهوة. بعد وقت قليل على جلوسي، وصلتني رسالة من راني يعلمني فيها أنَّه سيصل خلال دقيقة. تركتُ ما تبقى من قهوتي، واتجهتُ إلى المدخل، فوصلتُ مع وصوله. «يوسف؟» قال الشاب ذو الرأس الحليق واللحية الكثة مبتسماً من داخل سيارته ال(BMW) السوداء. هززتُ رأسي إيجاباً وصعدتُ معه.

«أخيراً! عمرو حدثني كثيراً عنك. ماذا فعلت منذ وصولك؟ خرجت؟»، قال راني وهو يخفض من صوت الموسيقى.

– تجوَّلت حول الأوتيل. 

– هل تعرفتَ إلى أحد؟

– لا. كنتُ أشرب وأراقب فقط. 

– اممم. في هذا البلد، تحتاج إلى التعرف إلى كثيرين في البداية، ومن ثم تبدأ في فلترتهم. هل تشعر بالتعب؟

– نمتُ قليلًا بعد وصولي. طاقتي جيدة.

– ممتاز. سأعرفك إلى بضعة أصدقاء.

أخذ راني يسوق بسرعة. في البداية، ظننتُ أنَّنا تأخرنا عن لقائنا بالآخرين، ثم انتبهتُ إلى أن السيارات حولنا تتحرك بالطريقة نفسها: تتقدم بسرعة، وتتوقف بسرعة، وتنعطف يميناً أو يساراً فجأة بلا إشارات. فتحت هاتفي لأتتبع وجهتنا، فوجدت أننا ندور في منطقة الحمرا. أمضينا أكثر من نصف ساعة نلتفُّ في دوائر مفرغة سالكين الشوارع نفسها أو شوارع أخرى موازية للأولى. علقنا وراء سيارات تحاول أن تركن، وشاحنات تلم النفايات. 

«مرحبًا بك في بيروت بالليل، حيث لا مكان لسيارتك. بيروت الـ..»، قال راني بالإنكليزية وأضاف كلمة أخيرة بالعربية بدت لي سماعاً أنَّها شتيمة. أخيراً، تحدث مع صديق له دله على مكان مجاور يمكن أن يجد فيه ركنات، فغيَّر وجهته فوراً واتجهنا إلى شارع على حدود مداخل الحمرا.

«سنمشي قليلاً»، قال راني بلهجة معتذرة.

«لا مشكلة»، رددتُ. 

* * * * *

أوقفنا جندي يسألنا عن وجهتنا، فتحدَّث معه راني بلباقة وذكر اسم البار الذي يقع آخر الشارع. نظر إليَّ الجندي نظرة غريبة ثم أفسح لنا المجال. مشينا وحاولت أن أتحدَّث مع راني.

– من أين تعرف عمرو؟

– كان هنا في إجازة في الصيف الماضي. التقينا في البار الذي نتجه إليه الآن، وأمضينا الوقت معا، ثم تعرَّف إلى أصدقائي الذين ستتعرَّف إليهم الليلة.

لم أسأله ما الذي عناه بـ «أمضينا الوقت معاً»، وفضَّلتُ أن أتحدث في مواضيع أخرى.

– ماذا تعمل؟

– غرافيك ديزاينر.

أراني الرسم المطبوع على تي-شيرته قائلًا إنَّه من تصميمه. عندها، لاحظت هيئته الرياضية. لم يكن راني يرتدي أي ملابس ملفتة، بنطال أسود وتي شيرت أبيض وحذاء رياضي.  بعد دقائق قليلة، وصلنا إلى مدخل رواق تجمَّع فيه بعض المدخنين. سلَّم راني على بعضهم ومضى قدمًا. في نهاية الرواق القصير، ابتسم لي وقال: (Welcome to Bardo). فتح الباب، فهبَّت في وجهي موسيقى أغانٍ من الثمانينيات. دخلت ولحق بي، ثم تقدمني باتجاه الزاوية التي جلس فيها صديقاه، وقدمني إليهما.

جوليان هذا يوسف. يوسف.. جوليان. وهذا جان يا يوسف.

جلستُ معهما على الطرائح الموزعة على الأرض.

«هل فاتنا فرَّان؟»، سأل راني.

«تعرفه، يتأخر دومًا. شرموطة اهتمام»، ضحك جان. 

«سآتي بالشراب. يوسف، تشرب ويسكي، ها؟ جايْمْسِنْ!»، نهض نحو البار من دون أن ينتظر ردي وتركني مع صديقيه. 

«أنت النيِّيك إذًا؟»، سألني جان.

«يا رجل، أعطنا فرصة لنتعرف إلى الشاب قبل أن ترفع الكلفة!»، نهره جوليان.

«ماذا قلت! عمرو قال إنَّه نيِّيك!»، تابع جان.

(Ah for God’s Sake)، تأفَّف جوليان.

«قل لي يا صبي، ألستَ نيّيكًّا؟ ألم تنِك عمرو في.. »، ردَّ جان.

«سأذهب لمساعدة راني»، قاطع جوليان جملة جان، وقام لاحقًا بصديقه.

حلَّت لحظة صمت أخذتُ أتأمَّل فيها الجدران التي يعرض عليها فيلم قديم بالأسود والأبيض بلا صوت، ثم نظرتُ إلى راني وجوليان عند البار. جوليان مختلف تماماً عن راني، نحيل للغاية وشعره طويل يربطه ويرفعه على شكل كعكة، ولحيته خفيفة متناثرة الشعرات. أما جان فجسمه مشابه لراني، لكنَّ رأسه ما زال محتفظاً بالشعر. ملابسه أقل رياضية وأقرب إلى الرسمية، فقد كان يرتدي قميصاً أزرق رفع كمَّيْه ليكشف عن وشم على أحد ساعديه، وبنطالًا غامق اللون.

«اسمع أنا لا أعرف شيئاً. عمرو لم يخبرنا شيئًا، ولكن طريقته في الإصرار على الاهتمام بك في غروب الواتسآپ جعلتني أفترض أنَّك نيِّيك جيد. ثم إنَّ هذه هي طريقتي في التعريف عن نفسي أمام الآخرين. فرَّان ليس الشرموط الوحيد الذي يحب الاهتمام في هذه المجموعة»، قال جان وهو يبتسم.

«لا عليك. من هو فرَّان بالمناسبة؟»، رددتُ مبتسماً.

«صديقنا. سيظهر بعد قليل»، أجاب.

عاد راني وجوليان مع الكؤوس وجلسا معنا. 

«ماذا فعلتَ اليوم؟»، سألني جوليان وهو يعطيني الكأس.

«وصل البلد قبل ساعات»، ردَّ راني عني.

«علي أن أصحوَ غدًا باكرًا»، قلتُ.

«لا. لا. أنت معنا، لن تنسى هذه الليلة»، قال جان وهو يرفع كأسه نحونا.  

«أما الاستيقاظ باكرًا، فهناك الكثير من الحلول للمسألة»، أكمل ضاحكًا.

مرَّ نادل وهمس شيئًا لراني في أذنه وأعطاه صينية عليها أقداح أربعة صغيرة من الشراب. وضع راني الصينية بيننا، وأخذ يعطي كلاً منا قدحاً، وقال إنَّ فران أوصى علينا أن نشرب التيكيلا قبل ظهوره.

«شرموط!»، صرخ جان.

ضربنا الأقداح بعضها ببعض وشربناها دفعة واحدة.

* * * * *

خفتت الأضواء حتى تسيدَّت العتمة المكان. ضمر صوت الموسيقى، وتجلَّت أصوات الحاضرين، كأنَّ المهمة السابقة للموسيقى انحصرت بغمر الكلام وإقصائه، وعاد كل شيء إلى أصله بتوقفها. فجأة، بدأت نغمة بعينها تتكرَّر، أولًا بتفرُّق، ومن ثم باستمرار حتى باتت امتدادًا. أحدٌ ما كان يضغط على مفتاح أورغ كنسيٍّ ويبقي أصبعه هناك. انكتمت الأصوات في المكان فوراً. في الزاوية، سقطت إضاءة حمراء فوق شاب انهمك في توضيب الموسيقى، ثم أضيئت بقعة أخرى على مقربة باللون البنفسجي، ظهر فيها شخص آخر أدار ظهره للحضور، وبدأ الغناء. 

«أنا لن أعودَ إليك 

أنا لن أعودَ إليك 

مهما استرحَمَت 

دقاتُ… قلبي»

صمت الناس. تحدَّدت الأصوات بقرقعة الأكواب. سيطرالغناء كليًّا على المكان. ثم التفت المغني ناحيتنا.

«Fuck Me!»، قال جان فوراً.

«ششش»، أسكته جوليان.

كان فرَّان يلبس فستانًا أسود بلا أكتاف، ويغطي يديه بقفازيْن أحمريْن امتدَّا حتى منتصف ساعديه. الشعر المستعار أسود طويل مصفَّف بعناية، الوجه مُمَكْيَج بكحل أسود وأحمر شفاه يتبع لون الكفين، الأذنان مزدانتان بحلق من الذهب الأبيض، أما العنق فيلتف حوله عقد يتلاءم مع أقراط الأذنيْن.

«أنتَ الذي

 بدأ الملالةَ والصُّدودَ 

وخانَ حُبِّي 

فإذا دعوتَ اليومَ 

قلبي للتصافي، 

لا لا لا

لن يُلبِّي!»

أخذ جان يهمس لي معنى الكلام في أذني، ملاحقاً لحن الأغنية. انتهى الكلام واستردَّت الموسيقى الإلكترونية سيطرتها، وصار فرَّان يلتوي معها ويقترب بإغواء من الجالسين، ويردِّد همهماتٍ وكلاماً متقطعاً، ثم كرَّر بعدها المقطع الأول، قبل أن يصمت، ويجمد في المكان الذي انطلق منه. 

صفَّق الحاضرون بحرارة، فحيَّاهم فرَّان بغنج، ثم اتَّجه نحونا.

«بونسوار يا قلاعيط»، قال وهو يسلِّم على راني وجوليان.

«أهلا بالست كارمن. مش شايف أحلى من هيك إلي فترة»، قال جان وهو يقبِّل كف فرَّان.

«أكذب واحد ببيروت وضواحيها. ومين هالوج الحلو الجديد؟»، نظر فرَّان إليَّ سائلاً.

«يوسف. رفيق عمرو»، قال جوليان.

«يا أهلا. يا أهلا.  كل معارف عمرو هيك حلوين؟ مذكَّرة من وقت كنا هون، ما كنَّا ملحقين. فقدناه لأول واحد، وما عرفنا مع كم واحد فقدناه»، أكمل فرَّان وهو يغمز راني.

«كارمن..»، قال راني.

«لأ إذا عيَّطلي صديقنا هون كارمن، معناتا عصَّب مني. لروح عند العالم اللي بتحبني أحسن»، ردَّ فرَّان.

«لا، ما معصَّب. اعطيني بوسة. مش ح انزعلِك الحُمرة»، ردَّ راني وهو يمسك بذراع فرَّان ويقبِّل عنقه.

«يي هلأ بتقطعلي برزقي»، أزاحه فرَّان بحركة مسرحية، وهو يومئ برأسه ناحية شخص يجلس إلى البار.

«شو في هلأ يا مدام كارمن؟ شو ح تغنيلنا؟»، سأل جان.

«ح نغني للنيل»، نهض فرَّان وهو يحمل الميكرفون، ويتجه نحو البار. 

«عكروت! ضلُّو لعمل اللي براسه! الجالس إلى البار اسمه نيل»، شرح جان.

«أنا وحبيبي يا نيل

غايبين عن الوجدان

يطلع علينا القمر

ويغيب كأنّو ما كان

بايتين حوالينا نسمع

ضحكة الكروان

على سواقي بتنعي

ع اللي حظو قليل

يا نيل

يا نيل

يا نيل»

جلس فرَّان قرب نيل، وغنَّى له وهو يداعب خصلات شعره. وبينما كان الجمهور يتابع على مقربة، كان نيل يدفن رأسه بالشراب، غير آبه لما يجري حوله.

* * * * *

خلال اتجاهنا للخروج من باردو، اقترب راني من فرَّان وطلب منه الانضمام إلينا لنكمل سهرتنا في مكان آخر.

«الليلة لنيل. كارمن تغني لنيل، وفرَّان يعود إلى المنزل مع نيل»، ردَّ فرَّان موجهاً الحديث إلي.

«تحتاج إلى ساعات لإزالة ماكياجك. اترك نيل وتعال معنا»، قال جان.

«كارمن ليست الماكياج فقط. كارمن أعمق من هذا. كارمن حالة، ونيل معتاد فرَّان الملوَّن. استمتِعوا يا حلوين»، ردَّ فرَّان وهو يعود إلى البار.

ساق بنا راني. اضطلع جان بدور منسِّق الأغاني، وجلس جوليان قربي في المقعد الخلفي يتفحَّص هاتفه، فشغلتُ نفسي بمتابعة الطريق. وصلنا عند الواحدة والنصف إلى مكان واسع، ولكن مزدحم بالسيارات. ترك جوليان هاتفه، وقال: «مرحباً بك في المجزرة».

«آه بحق الجحيم لا تُخِف ضيفنا، ولا تحمِّل كل شيء أبعادًا سياسية. المسائل أبسط من هذا»، ردَّ جان بحدَّة.

«لا أفهم شيئاً»، قلتُ باقتضاب.

«تفضَّل. اشرح له يا صاحب نظرية كل شيء هو سياسة»، أكمل جان موجهاً حديثه لجوليان ونحن نترجَّل من السيارة التي ركنها راني متبعًا تعليمات رجال الأمن.

«هنا حدثت مجزرة»، قال جوليان ونحن نمشي وراء مجموعة من الشباب.

«لم تقع هنا، بل على مقربة. في المنطقة يعني»، صحَّح له جان.

«المجزرة لا تقع. المجزرة تحدث»، صحَّح له جوليان.

«لا بالإذن منك ومن دقَّتك اللغوية، المجزرة تصعد وتخيِّم فوق رؤوسنا»، ردَّ جان.

«نحن هنا لننبسط، لا لتتخانقا خناقاتكما اليومية»، أوقفهما راني.

«هل انزعجتَ من كلامي؟»، سألني جوليان.

«لا. أحاول فقط أن أفهم»، رددتُ.

«إذاً حضرتك، لا تتدخل. عندما سينزعج من كلامي، سأصمت»، وجَّه جوليان الحديث لجان الذي أشاح بيده دلالة على عدم اهتمامه، وتقدَّمنا ليقف وراء الجمع الذي صار صفًّا.

«في الحرب اللبنانية حدثت مجزرة بالقرب من هنا سموها مجزرة الكرنتينا تبعاً لاسم المنطقة. هذا المكان الذي سننزل إليه كان ملجأ من القذائف، بعد نهاية الحرب بأقل من عشر سنوات، حولوا الملجأ إلى هذا النادي»، شرح جوليان.

نظرتُ حولي لأجد رجال الأمن يلبسون الأسود ويحيطون بنا من كل ناحية. بعد نحو عشر دقائق، وصلنا إلى مدخل النادي الذي كان عبارة عن فوهة تفضي إلى درج يكمل نزولاً. دفعنا أجرة الدخول، وختم العامل على أيدينا، ونزلنا الدرج ببطء.

«مثل جثث تعود إلى قبورها»، علَّق جوليان.

«ارحمنا يا ألله من المثقفين، عبدة الذاكرة الجماعية»، ردَّ جان ضاحكاً، فدفعه جوليان من الوراء اعتراضاً، ما جعل أحد رجال الأمن يزجرهما مهدِّدًا بإخراجهما.

وصلنا إلى الأسفل، لتستقبلنا الموسيقى التكنو. أكملنا مرورنا بين طاولات واطئة محاولين الاتجاه نحو البار، فحالت بيننا وبينه جموع من الناس كانت ترقص بلا كلل على الطاولات وفي الممر. 

«سأُحضر بعض المشاريب، لن نستطيع الوصول كلنا إلى البار، حاولوا أنتم احتلال مساحة فارغة»، قال راني وهو ينطلق لتنفيذ مهمته. 

بعد جهد، وجدنا مساحة فارغة، فبقينا واقفين فيها. وبينما انشغل جان بالحديث مع صديق التقاه، أكمل جوليان يشرح لي عن المكان ويبدي امتعاضه من السردية المسوَّقة عن المكان:

«يتذاكى اللبنانيون دائماً. يتفادون خوض النقاشات الحقيقية، ويمضون قدماً. يظنون أنهم بذلك يعالجون المشكلة، لكنَّ الأمر ينتهي شبيهاً بإدمان مزمن لتأجيل النقاشات. هناك خوف حقيقي من كل شيء يشتم منه رائحة العودة إلى أي مكان وأي زمن سابقين. هناك هرب دائم يختفي تحت طبقة من النكران اليومي. هناك موت دائم، وعنف دائم. هذا المكان مثلاً، عندما بنوه، خرجوا علينا بنظريات عن الإعمار المينمالي، وعلاقة المكان بالحرب، بالمجزرة تحديداً، وبالتحوُّلات والإسقاطات. انظروا ما أجمل التحوُّل المرتكز على الإسقاطات، قالوا لنا. انظروا إلى الأجساد تنبعث راقصة، أضافوا. لكن البعث ملازم للعودة وللوعي. أما هنا فماذا ترى؟ عودة؟ وعياً؟ أم أجساداً مكسورة ومغيَّبة؟ هل يشبه هؤلاء، ونحن منهم، الفقراء الذين ماتوا هنا قبلنا؟ هل نحن بالفعل نرقص للجثث وللذاكرة وللمكان وللزمن، أم نرقص فوق كل ذلك، ظانين أنَّنا نحاول طمره؟»

* * * * *

عاد راني، بصينية عليها ثمانية أقداح من التيكيلا، وقال إنَّ على كل منا شرب اثنين منها. «واحد، اثنان، ثلاثة»، واجترعنا أول قدح ثم مَصَصْنا شرحات من الحامض. «من جديد.. واحد، اثنان»، واجترعنا القدح الثاني.

بعد دقائق، نظرتُ إلى الجمع الراقص، والواقفين الذي يتحدثون ويضحكون، وأحسستُ بزهزهة في رأسي فاستندتُ إلى الحائط.

«هل أنت بخير؟»، سألني راني. 

رددتُ عليه، فوجدتُهم يضحكون ويقولون إنِّي أجيبهم بالألمانية. 

«قلتُ لك أن لا تستمع لأطروحات جوليان السياسية»، ضحك جان وهو يحيطني بذراعه.

«تعال نرقص لتنسى هراء الذاكرة الجماعية الذي جعلك تعاود التحدث بلغتك الأم»، أضاف وهو يصطحبني إلى مكان قريب، لنرقص على إيقاع الموسيقى التي تعالت فجأة، كأنَّها لحظت دخولنا.

جاريتُ جان في الرقص. وبعد دقيقة، انضمَّ إلينا الشباب الباقون. رقصنا جميعاً خالقين مساحتنا الخاصة في بقعة شديدة الازدحام. اقترب شاب من جان وهمس له في أذنه ودار بينهما حديث مقتضب لم أسمعه، ثم أومأ برأسه إيجاباً، ومال على راني وقال له شيئاً مشيراً إليَّ. هزَّ الأخير برأسه، فاقترب جان وطلب مني الانضمام إليه. 

لم أجادله. تركتُه يمسك بيدي ويجرُّني وراءه. اجتزنا رواقاً مزدحماً، كان الناس فيه متكئين على الجدار يدخنون ويتحدثون، أو يعوقون مسيرة الداخلين بالوقوف في منتصف الرواق أو بالتحرك فجأة من أماكنهم. استغرقنا خمس دقائق للوصول إلى آخر الرواق. وهناك، انتظرنا دقيقة أخرى حتى فرغ أحد الحمامات، وخرج منه شابان. لبط جان الباب برجله، ودعاني بإيماءة من رأسه إلى الدخول.

بالكاد اتسع الحمام لنا. كان جسمانا يحتكَّان بعضهما ببعض كلما استدار أحدنا في حركة مباغتة. توقَّعت أن يكون جان قد شدَّني وراءه لأنَّه يشعر بالإثارة. انسقت لأوامره، رغم انعدام رغبتي بعد حادثة الفندق، لكنَّ الشاب، بلحم جسمه الطافح والمتماسك في آن، يولِّد عند الناظر إليه شعوراً بأنَّه ماكينة تيسترون لا تفرغ من النياكة، ومن يضيع فرصة كهذه في ليلته الأولى في بلد غريب؟

لكنِّي اكتشفتُ بعد لحظة أنَّ هذا لم يكن مقصد جان، فقد أخرج من جيب جاكيته السري بطاقة بلاستيكية متوسطة الحجم، وطلب مني حملها بشكل أفقي والمحافظة على مستواها. ثم أخرج من جيبه الآخر علبة دائرية صغيرة فتحها ليظهر فيها بعض البودرة البيضاء.

«Super K.. K ع شرفك»، قال جان بهدوء وهو ينثر حفنة على البطاقة التي أحملها، وأعاد العلبة إلى جيبه بعد إغلاقها، ثم قسَّم الـ (K) المتروك على البطاقة إلى حفنتين بمساعدة بطاقة مصرفية أخرجها من بنطاله، وأعاد ترتيب الحفنتين حتى باتتا سطرين. وعندما انتهى، طلب مني أن أسلِّمه البطاقة، وأن أشدَّ أحد السطرين بعد أن أعطاني ورقة مالية ملفوفة لأجل هذا الغرض.

نفَّذت ما طلبه، وشددتُ السطر، وأخذتُ منه البطاقة ليشدَّ هو السطر الآخر. بعد أن انتهينا، أزال الآثار الباقية على البطاقة بأصبعه ولحسه، ثم نفض البطاقة ومسحها بجاكيتته وأعادها إلى جيبه السري.

استغرق عبور الرواق عشر دقائق أخرى، أمسك فيها جان بيدي كما في السابق. وعندما وصلنا وجدنا جوليان وراني يقفان مع أناس آخرين وقد غلبهم الضحك. كان السكر قد بدأ يتملَّك من الجميع. رمى جوليان نكتة علينا، فما كان من جان إلا أن ردَّ بتقبيلي قبلة سريعة على شفتيَّ ورفع أصبعه الأوسط لجوليان قائلًا: «المسخرة تنتصر على الثقافة».

«هل…؟» سأل جوليان بدهشة وهو يشير إلينا، فلفَّ جان ذراعه حول عنقي وأومأ رأسه إيجاباً.

ضحكتُ. 

ضحكتُ كثيراً. 

* * * * *

تسقط الأضواء علينا كأنَّنا الوحيدون في المكان. تصحو الجثَّة. تنضم إلى جثث أخرى. تملأ المساحات بين الحاضرين. الجثث ملوَّنة، يسهل تمييزها. الجثث تتمايل بين الحاضرين ومعهم، بيننا ومعنا. وكلما لمستُ إحداها، تعاظمت ثقتي بنفسي، وفاضت عندي الحاجة إلى الكلام.  لكن هل من يسمع حديثي وسط هذا الضجيج؟ في لحظة، أنظر حولي، فلا أجد غير الجثث. وفي لحظة، أصير وحدي. أين ذهب الآخرون؟ هل ماتوا؟ أين جان وجوليان وراني؟ مع من كنتُ أتحدث قبل دقائق؟ ولمن هذا الجسد الذي يرقص معي، هذا الذي لا أستطيع رؤية وجهه؟ أنتحي جانباً، وأستند إلى جدار وأُخرِج هاتفي، لأجد تنويهات برسائل واتسآپ. أفتح الرسائل وأحاول قراءتها لكني لا أفهمها. تزوغ عيناي، وتخرج الأحرف من الشاشة، وتتحوَّل. تنقلب أحرفًا غريبة -هل هي أحرف عربية؟- تتَّصل وتنفصل، تؤلف كلماتٍ وجملًا، ثم تنتقي كل منها جثَّة ملونة لتظلِّلها، وترافقها في تحركاتها. أهزُّ رأسي، وأغمض عينيَّ، محاولًا الخروج. «أنا أهلوس. أنا أهلوس ويمكنني الخروج من هنا»، أقول لنفسي. أفتح عينيَّ لأرى المشهد على حاله. الجثث نفسها، والألوان نفسها، والعبارات الطائرة نفسها. أين أنا؟ وإلى أين انتقلت؟ أسمع ضربات قلبي تتسارع، ثم تتعاظم، فتتسارع أكثر. يتفرَّق الجمع كلما تقدمتُ. يفسحون لي المجال للمضي، كأنَّهم يعرفون وجهتي. أمشي، لا لسبب، إلا لأنَّ خياراتي، بخلاف البقاء، معدومة. أواصل المشي، وتتَّسِع مساحة البار فجأة. أو لعلِّي أنا الذي كنتُ أمشي ببطء رهيب. أصل إلى زاوية وُضعَ فيها تلفاز، وقبالته رأس يطير فوق مقعد. على التلفاز، نشرة أخبار لبنانية. ألتفُّ إلى الأمام مقترباً من الشاشة. أبتلع ريقي متحضِّراً للذي سأراه. أعرف أنَّه سيكون هو. لا دهشة، ولا اكتشاف. مجرد رعب حقيقي. يلتفت رأس أبي إليَّ، ويرحِّب بي ضاحكًا. أشهق ما إن أشعر بلمسة يد باردة على كتفي. «يوسف، يوسف، انهَض»، يقول الصوت. أفتح عينيَّ فيستقبلني وجه جان، وأجدني جالساً على الأرض في زاوية. يمدُّ يده إليَّ، فأمسك بها وأنهض. «فتشنا عنك طويلًا»، يقول وهو يمسك يدي ويسحبني وراءه تمامًا كما المرَّة الأولى. نخترق الجمع بصعوبة، بينما أفتش على الجثث التي اختفت. نصل إلى حيث الآخرين: جوليان وراني وشباب يبدو أنهما تعرَّفا إليهما. يكون راني مشغولاً بالتحدث مع أحد الشباب في أذنه والضحك، وما إن يراني، حتى يقترب سائلًا: «إلى أين ذهبت؟». يلقي جوليان على مسامعنا شعراً عن الذهاب والمجيء والغياب والعودة، وأشياء أخرى لا تسعفني حالتي على التفاعل معها. ثم أسمع صوت جان يطلب منا النظر إلى الأعلى. أرفع رأسي لأجد السقف يُفتَح ببطء، وزحمة من الأضواء الملونة تصوَّب عليه. ينحسر المشهد عن سماء سوداء صافية إلا من النجوم. تضيع الأضواء في الأعلى. ونستطيع أن نرى رجال الأمن يقفون فوقنا، وأتفاجأ، رغم الشرح السابق لدخولنا، أننا بالفعل تحت الأرض.

في باطن بيروت.

في أسفلها تماماً.

* * * * *