أعلن فلاديمير بوتين صراحةً عن قناعته بعدم وجود أساس تاريخي لاستقلال أوكرانيا، ووصل به الأمر إلى التصريح، يوم الاثنين 21  شباط، بأن أوكرانيا الحديثة هي «صنيعة روسيا بالكامل». تعبّر تصريحات بوتين عن استيائه من الزعماء الأميركيين والأوروبيين بسبب ما يراه سحب أوكرانيا غرباً منذ نهاية الحرب الباردة. ولكن ما يكمن وراء غضبه هذا هو رفض مشروع سياسي تجسد في الاتحاد السوفييتي. لسنوات، شكّك بوتين في شرعية الجمهوريات السوفييتية السابقة، زاعماً أن لينين قد زرع «قنبلة موقوتة» بمنحه هذه الجمهوريات حق تقرير المصير في سنوات الاتحاد الأولى. يبدو بوتين في خطاباته وكأنه يحاول إعادة الزمن إلى الوراء، لا ليرجع به إلى أيام الاتحاد السوفييتي في ذروته، بل إلى سنوات الإمبراطورية الروسية القيصرية.

تحدثتُ مؤخراً مع سيرغي بلوخي، البروفيسور المتخصص في تاريخ أوكرانيا وأوروبا الشرقية في هارفارد، وصاحب كتاب بوابات أوروبا، الذي يروي تاريخ نشوء الهوية الأوكرانية (ويصدر له قريباً كتاب جديد هو ذرّات ورماد: تاريخ الكوارث النووية حول العالم). ناقشنا أصول المخاوف الروسية بشأن اللغة والهوية الأوكرانيتين، والرد الممكن من الأوكرانيين على الغزو الروسي، وما يقوله لنا خطاب بوتين عن العلاقة المعقدة بين الدولتين.

إلى أي مرحلة تاريخية يعود نشوء شكل من الهوية الأوكرانية يمكننا التعرف إليه اليوم، حسب رأيك؟

تتوقف الإجابة على المكوّن الذي تتحدث عنه من مكونات الهوية. إذا كنت تقصد اللغة، فهي قديمة جداً. وإذا كان المقصود المكوّنات الدينية للهوية، فهي تعود إلى أكثر من ألف سنة. ولكن أول مشروع سياسي أوكراني حديث يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، كما هو الحال في العديد من المجتمعات. المشكلة التي واجهتها أوكرانيا هي أنها كانت مُقسّمة بين قوتَين: روسيا القيصرية وإمبراطورية النمسا-المجر. ولقد تنبّهت روسيا مبكراً إلى الخطر الذي يمثله وجود لغة أوكرانية منفصلة وأدبيّة على وحدة الإمبراطورية الروسية. لذلك، اعتباراً من ستينيات القرن التاسع عشر، جرى لأكثر من أربعين عاماً منع النشر والطباعة باللغة الأوكرانية، وهو ما حدّ من تطور اللغة الأدبية الأوكرانية. كان ذلك، إلى جانب الانقسام بين الإمبراطوريتين، عاملاً مساهماً في هزيمة الأوكرانيين الذين حاولوا نيل استقلالهم خلال الحرب العالمية الأولى وخلال الثورة، وهي المرحلة التي حاول فيها أبناء جنسيات أخرى تحقيق الهدف نفسه، وبعضهم نجح في ذلك.

ما التهديد الذي مثّلته الهوية الأوكرانية، ولا سيما اللغة، لروسيا؟ هل كانت المسألة سلوكاً إمبريالياً تقليدياً ناجماً عن عدم الثقة بالأقليات ولغاتها، والكراهية تجاهها؟

كان الروس يشاهدون ما يجري في أوروبا في تلك المرحلة، ولاسيما في فرنسا، حيث نشأت فكرة خلق لغة واحدة من لهجات أو لغات متعددة، وهو ما اعتُبِر مرتبطاً بوحدة الدولة. وهذا يعني أن الفكرة عالمية. أما الملمح المحدد والمرتبط بما يجري اليوم هو فكرة وجود أمة روسيّة، أو سلافيّة، كبيرة واحدة، لعلها تضم عدة قبائل، ولكنها أمّة واحدة. هذا هو المثال من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذي يتمثله بوتين اليوم حين يصرح بعدم شرعية أوكرانيا كأُمّة. ثمة اتصال مباشر بما يجري اليوم.

كتبتَ مؤخرًا: «تأسس الاتحاد السوفييتي بين 1922 و1923 كدولة شبه فدرالية، عوضاً عن دولة مركزية موحدة، ليستوعب أوكرانيا وجورجيا، الجمهوريّتين الأكثر ميلاً للاستقلال». هل لك أن تتوسع في هذا؟

سيطر البلشفيون على معظم أراضي الإمبراطورية الروسية بالاعتراف، على الأقل شكلياً، باستقلال الجمهوريات المختلفة التي كانوا يضمونها. وحتى عام 1922، كانت أوكرانيا دولة مستقلة. حين وقّع البلشفيون معاهدة رابالو مع ألمانيا عام 1922، طرح بعض الأوكرانيين أسئلة حول أحقّية ممثّلين روس بتوقيع الاتفاقيات نيابة عنهم، ما أوصلهم إلى الإيمان بوجوب إقامة دولة موحدة. اقترح ستالين الوحدة بين الجمهوريات المختلفة المنضمة إلى الاتحاد السوفييتي، أما لينين فاتخذ صف الأوكرانيين والجورجيين الذين احتجوا على الوحدة، وقال إن الواجب إنشاء «دولة اتحاد» لأنه كان يتطلع إلى ثورة عالمية.

هل لك أن تعرّف اصطلاح «دولة اتحاد» بشكل أوضح؟

رسمياً، تبنّى الاتحاد السوفييتي المساواة بين الجمهوريات، من روسيا الكبيرة إلى إستونيا الصغيرة. السبب وراء لعبة الاستقلال هذه هذه هو إعلان هذه الجمهوريات استقلالها أو نضالها لتحقيقه، ولكن البلاشفة نجحوا في السيطرة من خلال تقبّل بعض التطلعات القومية والثقافية، بما في ذلك منح الجمهوريات الحق في استخدام لغاتها.

كيف تغيرت العلاقة الروسية الأوكرانية بعد وفاة لينين واستلام ستالين السلطة؟

لم تتغير فور وفاة لينين لأن ستالين استمر في تنفيذ سياسات لينين أول الأمر، حيث أطلق حملة من أجل تقبل الأوكرانيين وغيرهم، وتقبل لغاتهم وثقافاتهم، فكان الجورجيون ينطقون بالجورجية والأرمن يتحدثون الأرمنية، ولكن الفكرة كانت تقبّلهم ما داموا يؤمنون بالفكرة الشيوعية وينتمون إلى المشروع الشيوعي.

وبعد ذلك، في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ ستالين بتغيير سياسته. يمكن تتبّع الإحياء التدريجي لأهمية اللغة الروسية والثقافة الروسية، التي كانت تُعتَبَر قبل تلك المرحلة إمبريالية ورجعية. ولكن، حتى في ذلك الحين، لم يشجّع الروس اللغات الأخرى ولكنهم لم يهاجموها في الوقت نفسه، وذلك حتى المجاعة في أوكرانيا بين عام 1932 وعام 1933. هذه المجاعة مثّلت نقطة تحوُّل من جوانب متعدّدة، لأن الروس عندها لم يستهدفوا الحبوب فقط بل استهدفوا اللغة الأوكرانية أيضاً.

سيرغي بلوخي (Mykola Swarnyk- ويكيميديا)

في مرسوم صدر عام 1932، أوقف ستالين دعم تعليم اللغة الأوكرانية في أماكن إقامة الأوكرانيين خارج أوكرانيا، سواء كانوا في روسيا أم في جمهوريات أخرى. بذلك، منع الروس التعليم أو النشر باللغة الأوكرانية خارج جمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية. ونفّذت روسيا سياسات فرضت سيطرة أشد على الأنشطة الثقافية الأوكرانية داخل أوكرانيا، وذلك لمواجهة احتمال نشوء نزعة قومية أوكرانية. بعدها، استهدف الروس أبرز شخصيات الحزب الشيوعي الأوكراني والمؤسسة الثقافية الأوكرانية، حتى انتهى الأمر باثنين من هذه الشخصيات، على الأقل، بالانتحار عام 1933. لم تكن مجاعة فحسب، بل ظاهرة أوسع. وقد قال رافائيل ليمكين، الذي وضع مفهوم الإبادة الجماعية، إن الإبادة الجماعية في أوكرانيا لم تحدث بالمجاعة وحدها بل بالهجوم الأوسع على المؤسسات واللغة والثقافة في أوكرانيا.

أود الانتقال إلى تفكك الاتحاد السوفييتي بعد ستين عاماً واستقلال أوكرانيا. كيف تنظر إلى ما جرى عام 1991 وتلك السنوات الأولى من استقلال أوكرانيا؟

كان هناك اختلاف هائل بين تلك الفترة والفترة بين 1917 و1918. في الفترة الأولى، ارتبطت فكرة قيام دولة أوكرانية أو اندلاع ثورة أوكرانية بالبعد القومي، رغم وجود العديد من الأقليات على الأراضي الأوكرانية، ومنها الروس والبولنديون، الذين نظر كثير منهم إلى فكرة استقلال أوكرانيا بعين القلق والشك. ولكن، بحلول عام 1991، تغيرت فكرة الأمة الأوكرانية وصلتها باللغة والثقافة، وأصبح قيام الدولة الأوكرانية في المخيلة العامة عملية إقامة دولة مدنية ناشئة. في ذلك الوقت، كان سكان المدن الصناعية الكبيرة يتحدثون الروسية، ورغم ذلك بلغت نسبة المؤيدين للاستقلال أكثر من 90 في المئة في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1991. كان للقومية واللغة أهمية، ولكنها أهمية ثانوية، وعبّرت أغلبية السكان في المناطق الأوكرانية كافة عن تأييدها للاستقلال. 

كيف تتجلى الانقسامات اللغوية بين السكان، عدا عن الانقسام بين الغرب والشرق؟

تاريخياً، كانت اللغة الأوكرانية هي لغة الأرياف. شهدت البلاد، خلال القرن العشرين، عملية تحديث وتمدين، ودمج الفلّاحين وسكّان الأرياف السابقين في الثقافة المدينية من خلال اللغة الروسية. أدى ذلك إلى نشوء مجموعة كبيرة من الناس يرون في اللغة الأوكرانية لغتهم الأم وينتمون إلى الهوية الأوكرانية رغم أنهم كانوا ينطقون بالروسية.

يُخيّل إلي أن هذا قد تغير إلى حد ما، أعني اللغة التي يتحدث بها الناس في المدن الكبيرة.

وقع هذا التغير خلال السنوات الثماني الماضية. لعل بعض التحركات بهذا الاتجاه وُجِدت قبل ذلك، ولكن تبني اللغة الأوكرانية كان، في الواقع، رد فعل على الحرب التي اندلعت عام 2014. كانت ذريعة روسيا حماية السكان من القمع الثقافي وغيره من أشكال القمع. نتيجة ذلك، اتّخذ الشباب، ولا سيما طلبة الجامعات، في المدن الكبيرة قراراً واعياً بالتحدث بالأوكرانية. لم يكن ذلك صعباً على الذين تعلّموا اللغتين في طفولتهم، فازداد عدد من يستخدمون اللغتين، أو يفضّلون اللغة الأوكرانية ويرسلون أطفالهم إلى مدارس تُدرِّس باللغة الأوكرانية.

هل لخطاب بوتين هذا الأسبوع علاقة بالمحادثة التي نخوضها؟

ما نراه في خطاب بوتين هو رفض سياسات الحقبة السوفييتية، فقد حمّل الاتحاد السوفييتي المسؤولية عن كل شيء، حتى إنشاء أوكرانيا. ما نراه اليوم هو عودة إلى فهم الهوية الروسية كما كان قبل الثورة البلشفية، وهي فكرة إمبريالية للغاية عن الأمة الروسية، التي تضم الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين. يكاد الحال اليوم يكون كما كان عليه في منتصف القرن التاسع عشر، حين حاول مسؤولو الإمبراطورية الروسية تعطيل نمو وتطور الثقافة والأفكار الأوكرانية.

هل هذه الفكرة حول روسيا التي تشبه الإمبراطورية، والتي لا تسمح بوجود هوية أوكرانية إلا داخلها، تجذب عدداً كبيراً من الأوكرانيين وإن لم يكونوا الأغلبية؟

لاقت هذه الفكرة رواجاً، بالتأكيد، في القرم عام 2014، حيث كان معظم سكان المنطقة من أصل روسي، وهؤلاء رفضوا فكرة الهوية الإقصائية، الأمر الذي مهّد الطريق لمقولة: نعم، لعلنا أوكرانيون، ولكن المجال يتّسع لدور أكبر لروسيا. 

هل ترى أن هناك بعض الشوفينية داخل روسيا، حتى بين مَن لا يؤيدون بوتين، إزاء المسألة الأوكرانية؟ أم تستشعر انقساماً أكبر في روسيا؟

كان كثيرون يشعرون بأن القرم تنتمي إلى روسيا، حيث كانت نسبة تأييد بوتين مرتفعة بعد ذلك. أما فيما يتعلق ببقية الأراضي الأوكرانية، فثمة بعض الغموض، حيث ازدادت المسافة بين روسيا وأوكرانيا في نظرة كل شعب إلى الآخر منذ اندلاع الحرب. لستُ عالم اجتماع، ولكني أشعر بأن تبنّي السردية الروسية لتاريخ أوكرانيا في تراجع. بدأ التاريخ الروسي في كييف، وهذا ما يتعلمه الأطفال في المدارس، وهذا مؤثر، ولكن الواقع يزيد من التشكيك في السردية التاريخية.

يبدو أنك ترى بأن بوتين، بشنّه هذه الحرب على أوكرانيا، قلّل من الشعور الشعبي الروسي بأنّ الجانبين دولة واحدة.

نعم، هذا هو انطباعي، ولقد ساهم الخطاب الروسي المقاوم للهوية الأوكرانية في ذلك. إذا واصل بوتين الحديث عن الفاشيين وما شابه، فهذا لا يساهم في تعميم شعور بالوحدة بين الشعبين. وصفت البروباغاندا الروسية المتظاهرين في ساحة ميدان بأنهم قوميون متعصبون. عندما تُصوّر مواطني دولة أخرى بهذه الصورة، فإن ذلك لا يعزّز خطاب الأخوة والوحدة.

إذا أقدمت روسيا على غزو معظم الأراضي الأوكرانية أو كلها، ما حجم المقاومة الذي تتوقعه؟ هل تشعر بأنه سيصعب قمع هذه المقاومة حتى إذا هُزِم الجيش الأوكراني رسمياً؟

نعم، هذا هو شعوري. وقد يختلف الأمر من منطقة إلى أخرى. قد لا يصل بوتين أبداً إلى غرب أوكرانيا. أعتقد أنه سيلقى مقاومة شديدة في وسط أوكرانيا. لم تقتصر نتائج هذه الحرب على تعزيز الهوية الأوكرانية وازدياد الارتباط بالثقافة الأوكرانية، فهناك شرائح كبيرة من الشعب الأوكراني لم تعد ترى في حمل السلاح للدفاع عن وطنها فكرة راديكالية. وقد خضع الآلاف للتدريب العسكري، ولسوف يقاتلون. لا أعلم متى وكيف، ولكن لا ريب عندي أن الروس سيواجهون مقاومة أوكرانية.

ما رأيك في تعامل الرئيس زيلينسكي مع ما يجري؟ تَحَوُّله من محاولة تهدئة المخاوف والذعر إلى السفر إلى ألمانيا للحديث عن الترضية لافت للنظر.

امتدت حالة الإنكار لفترة طويلة جداً. لا أعرف الأسس التي استند إليها في إنكاره ذلك، ولكنه كان منسجماً مع المجتمع الأوكراني الذي لم يكن يريد هذه الحرب، ولم يكن مستعداً لها، وبالتالي لم يرد التفكير فيها. وساد اعتقاد في أوكرانيا بأن بوتين لن يجرؤ على فعل شيء لأن العالم يراقبه عن كثب. ولكن هذا تغير في الأسبوعَين الماضيَين وأدرك الأوكرانيون أن الغزو حقيقة، وهذا هو سبب التغير في سلوك القيادة.