كان اللون الأحمر يطغى على بورصة نيويورك ظهر الجمعة الفائت، 18 شباط / فبراير، مع الانهيار المستمر في سوق الأسهم الأميركية، الأكبر في العالم، بسبب ارتفاع التضخم أساساً، ولكن أيضاً مع التأثير النفسي السلبي المعتاد لاحتمال حصول أزمة جيوسياسية. وفجأةً، ظهر مؤشرٌ صاعدٌ باللون الأخضر لإحدى الشركات الأميركية. كان الأمر يتعلق بشركة الأسلحة الضخمة جنرال دايناميكس. وجاء صعود سهمها بعد خبرٍ مرَّ هامشياً يتمثل في إعلان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، ومن وارسو، موافقة الولايات المتحدة على بيع بولندا 250 دبابة من طراز أبرامز الفتاكة التي تصنعها الشركة العتيدة .

عملياً. كان الحدث في حقيقته يؤكد الحالة القائمة في العالم راهناً: كل الطرق تؤدي إلى أوكرانيا.

لماذا أوكرانيا؟

لا يكاد يوجد ارتباطٌ أقوى من الارتباط التاريخي بين روسيا وأوكرانيا. فكتبُ التاريخ تذكر أن أول دولةٍ سلافية وُلِدت في العام 988م، في مدينة كييف تحديداً، وكان اسمُها، Kyivan Rus، يجمع بشكلٍ واضح بين اسمي الدولة الروسية وعاصمة أوكرانيا الحالية.

من هنا، ليس غريباً أن تتكرر إشارة فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، إلى تلك اللحظة الفارقة في التاريخ، مع التعليق دائماً بنفس الجملة: «الروس والأوكرانيون شعبٌ واحد. إنهم وحدةٌ متكاملة». وبالتالي، لايبدو غريباً هوس بوتين بمنع أوكرانيا، حصراً عن غيرها من دول الاتحاد السوفياتي السابق، من الالتحاق النهائي بركب الغرب عبر عضوية حلف شمال الأطلسي، الناتو. تتأكد حساسية الخاصرة الأوكرانية حين نتذكر أن روسيا تغاضت عن انضمام جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا، إلى حلف الناتو قبلها بسنوات، وتحديداً عام 1999، علماً أن الدولتين الأخيرتين تملكان حدوداً مشتركة مع روسيا.

ما يُصبح مفهوماً في هذا السياق، بالمقابل، هو أن تُضحي أطلسةُ أوكرانيا هدفاً استرتيجياً للغرب، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص. وأن تزداد حساسية تحقيق هذا الهدف مع وضوح ملامح الصراع الحقيقي القادم مع الصين، القوة الحقيقية الوحيدة في العالم التي تؤرق صانعي القرار في واشنطن على المدى البعيد. وذلك من خلال إحكام قوس الحصار الشمالي على الصين، الذي يُصبح ممكناً عبر عملية ضعضعة روسيا، التي تبدو مطلباً آن أوانه في نظر الولايات المتحدة. وهو الهدف الذي سيكون فعالاً من المدخل الأوكراني على وجه التحديد، وبسبب المُعطيات التاريخية والاجتماعية والثقافية المذكورة أعلاه.

روسيا في المنظور الأميركي

ليس خفياً في هذا الإطار أن الولايات المتحدة لم تعد تنظر إلى روسيا، منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، على أنها قوةٌ دوليةٌ عظمى. هذا طرحٌ بات مُتداولاً في دوائر التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة منذ رسوخ حقيقة سيطرة بوتين، شخصياً كديكتاتور فرد، على مفاصل القرار في روسيا. والأهم، بما ترتبَ على ذلك من تجميد عملية البلورة لكمونٍ استراتيجيٍ روسيٍ هائل كان يمكن جداً أن تتولد عنه قوةٌ دوليةٌ عظمى، في حال امتلكت النخبة السياسية الروسية الإرادة والقدرة على تحويل البلاد إلى دولة مؤسسات.

ولو أن الولايات المتحدة سعت بنفسها لتفكيك ذلك الكمون من داخل روسيا، لما استطاعت أن تصل إلى هدفها بنجاحٍ يماثل إنجاز بوتين نفسه حين أفلحَ تماماً في سحق عملية المأسسة بشكلٍ يشمل كل قطاعات الحياة السياسية والاقتصادية في روسيا، وفي تحطيم أي طبقةٍ قيادية ضروريةٍ لاستمرار الدور الروسي، على مستوى الهياكل والأفراد كليهما، وفي تحويل البلاد فعلاً إلى ما هو أشبه بدولةٍ مافيوية بحتة. وتلك صيرورةٌ تاريخية تخصمُ كثيراً من احتمال أن يكون لأي بلد وزنٌ دوليٌ حقيقي يُعتدُّ به على المدى الطويل بفعل قوانين الاجتماع البشري. بغض النظر عن قدرة بوتين على المناكفة هنا وهناك، من خلال استخدام عوائد النفط والغاز.

بل إن الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، صاحب عقيدة «القيادة من الخلف»، عبّر بصراحةٍ عن نظرة بلاده حين قال في مؤتمرٍ يتعلق بالأمن النووي في مدينة لاهاي عام 2014: «روسيا هي قوةٌ إقليمية تشكل تهديداً لبعض جيرانها المباشرين، وهذا لا يتأتى من الشعور بالقوة بل على العكس من شعورها بالضعف». باختصار، كان بوتين، ولايزال، من وجهة النظر الاستراتيجية الأميركية أشبه بزعيمٍ فوضوي يمارس دور «الفتوة» أو «القبضاي» لإثبات وجوده، وفي محاولةٍ يائسة لأن يؤخذ بالاعتبار كشخصيةٍ لها دورها المؤثر في الساحة العالمية. فهو يشتري الولاءات، ويحرك عملاءه في أرجاء العالم ليسمم معارضيه. يمارس البلطجة والابتزاز داخلياً وخارجياً، شخصيا ومن خلال اختراق شبكات الانترنت في العواصم الدولية. يلعب لعبة توزيع الأدوار ويستخدم الفاسدين ويستعمل التهديد والوعيد.

هكذا، ترتسم عملياً في العالم صورةٌ لبوتين كزعيم عصابات قوي أكثر منها صورةً لقائدٍ سياسيٍ مُحترم. والمفارقة أن الرؤية الاستراتيجية الأميركية كانت لاتُمانع في أن يحاصر بوتين نفسه، وبلاده معه، في هذا النمط من الممارسة السياسية. بل وتشجعه، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، على الانغماس في هذا الدور.

أولوية المصالح الأميركية

لا يمكن، بطبيعة الحال، رؤية الصورة من تلك الزاوية إلا بالعودة إلى الفهم البراغماتي للسياسة، وخاصةً بتجليها الأميركي، الأكثر وضوحاً وبشاعةً في واقع السياسة الدولية. فالتحليل السياسي، العربي والغربي، الذي يرى في حشود بوتين على الحدود الأوكرانية، بل وفي إمكانية احتلالها بشكلٍ كامل، على أنه ضربةٌ لالولايات المتحدة، هذا التحليل يتعامل في جوهره مع السياسة على أنها تتضمن اعتبارات أخلاقية بدرجةٍ أو بأخرى. في حين أن هجوم بوتين على أوكرانيا هو أكثر ما تنتظره الولايات المتحدة اليوم، كخطوةٍ عمليةٍ متقدمة على طريق «تأديب» الولد الأزعر الروسي، بعد أن أصبح الوضع الدولي يتطلب تحقيق هذا الهدف. وبحيث يصبح ذلك مدخلاً لإنهاك روسيا عبر آليات القانون الدولي، وبمشروعيةٍ سياسية عالمية، قد تتضمن العقوبات الدولية والحصار، إلى غير ذلك من ممارسات معروفة في مثل هذه القضايا.

بوضوحٍ أكبر. لا مصلحة تعلو على، أو حتى توازي، المصلحة الأميركية حين يتعلق الأمر بالعلاقات الخارجية. هذا هو المستوى الأول والأعلى الذي يحكم كل قرارات المنظومة السياسة الأميركية، بمكوناتها العسكرية والأمنية. ثم تأتي كل درجات المصالح المشتركة الأخرى، التي يتم إدارة الأزمات المتعلقة بها بشكلٍ محسوب يستوعبُ تَبِعاتها على الشركاء من خلال التعويضات اللاحقة لهم، فضلاً عن تذكيرهم باختلاف موازين القوى حين يتعلق الأمر بالولايات المتحدة ونفوذها في العالم، وبضرورة القبول بهذا الأمر الواقع من ناحية. ومن ناحية ثانية، ضرورة التضحية الجزئية من قِبَلِهم في سبيل استمرارية التحالف الاستراتيجي القادر دائماً على تحقيق مصالح قادمة لهم، وربما حتى تعويض التضحيات السابقة.

من هنا، كانت الدلالات وفيرةً دائماً بأنه لن يهتز، عملياً، جفنٌ للإدارة الأميركية، في حال احتلال روسيا لأوكرانيا بالكامل، وتزامنِ ذلك مع سقوط آلاف الضحايا من العسكر والمدنيين الأوكرانيين. وهو ما يراه العالم عياناً هذه الأيام. هذا لايتضارب أبداً، بطبيعة الحال، مع حجم الضجيج السياسي والدبلوماسي والإعلامي الهائل الذي بدأ يصدر عن تلك الإدارة نفسها، بما فيه عقد اجتماعات لمجلس الأمن، واستصدار قرارات دولية تمتد على طيفٍ يبدأ بالإدانة المعنوية ولا ينتهي بفرض درجات متفاوتة من العقوبات، قد تصل لدرجة الحصار على روسيا. كل هذا تحت عناوين حق الدول في السيادة الذاتية، واحترام القوانين الدولية، وعدم جواز فرض أمر واقع إقليمي حساس بالقوة العسكرية!

بنفس الطريقة، لا تهتم الولايات المتحدة بالضرر الاقتصادي الذي سيصيب ألمانيا، وباقي الدول الأوروبية، في حال انقطاع الغاز الروسي. أو الصعوبات التي يمكن أن يعانيها حلفاء آخرون مع اختفاء صادرات القمح الأوكراني. إلى غير ذلك من تحديات يمكن أن تمس العديد من حلفاء الولايات المتحدة، وفي كثيرٍ من المجالات. هذه مسائل تقع في خانة الأضرار الجانبية بالنسبة للولايات المتحدة، سيتم التعامل معها لاحقاً، ولن تؤثر الحسابات المُسبقة لإمكانية حصولها في قرارات الإدارة كما يعتقد بعض المحللين، حين يعتبرون تلك الإمكانية على أنه رادعٌ لالولايات المتحدة، وقبل ذلك، على أنها أوراق مهمة في يد بوتين.

استراتيجية التوريط: لماذا؟ وكيف؟

عوداً على بدء، وكشرطٍ رئيس للتفكير في الحدث الأوكراني الراهن من المنظور الوارد في هذا التحليل، يجب دائماً استحضار العصب الرئيس له، والمتمثل في الأهمية الاستراتيجية لاستكمال قوس الحصار الشمالي للصين، تزامناً مع العمل المستمر على بناء القوس الجنوبي والشرقي، من خلال تطوير التواجد الأميركي المتصاعد في بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن كوريا الجنوبية واليابان وتايوان والفلبين، وصولاً إلى تطوير شبكات التحالف العسكري التاريخي مع أستراليا ونيوزيلندا[8].

بهذا المدخل في النظر، يُمكن إبصارُ ملامح رؤيةٍ أميركية طويلة الأمد، وعلى مراحل، لتوريط روسيا فيما يمكن أن يصبح بؤرةً كبرى للرمال المتحركة في أوكرانيا.

تجدر الإشارة هنا إلى لبسٍ شائعٍ في تحليل السياسات الأميركية الخارجية يتمثل في الاعتقاد بأن قوتها تكمن في قدرتها، المبالغ في الحديث عنها غالباً، على صناعة الأحداث، وفي كثيرٍ من الأحيان بمنطق «المؤامرات» التي لايقف في وجهها شيءٌ بشري. لكن الوقائع تُظهر أن مكمن القوة الأكبر في سياسات الولايات المتحدة الخارجية يتجلى في قدرتها على استيعاب وتوظيف الأحداث التي تجري في معظم مناطق العالم. وهي أحداث تجري بانسجامٍ مع قوانين الاجتماع البشري، بمعنى أنها نتائجُ تنبني بشكلٍ منطقي على مقدمات معينة، ثم إن الحدث إما أن يمضي في اتجاهٍ أكثر عفويةً إذا كان لايحظى باهتمام قوىً إقليمية أو دولية، أو أن يصل إلى مفرقٍ يصبح فيه حساساً وبشكلٍ يؤثر في مصالح تلك القوى، مما يدفع بعضها على التدخل المباشر فيه بغرض توجيهه بما يخدم مصالحها.

يندرج في هذا ما تحدثنا عنه من قيام بوتين نفسه بتحويل بلاده إلى دولة مافيات، وإلى تجميد ثم قتل السياسة فيها بشكلٍ لم تكن تحتاج معه الولايات المتحدة سوى إلى «الفرجة». أما في أوكرانيا، فقد كان المسار «الطبيعي» الشعبي الغالب يميل إلى الاستقلال عن روسيا والتقارب مع أوروبا، وصولاً إلى لحظة توقيع اتفاق شراكة بين البلاد وبين الاتحاد الأوروبي أواخر عام 2013. بالمقابل، لم يكن بوتين يملك سوى العمل بمنهجه في الممارسة السياسية الغارق في القناعة بمنطق قوة الفرد الديكتاتور، فضغط على الرئيس الأوكراني، وقتها، فيكتور يانوكوفيتش، الذي أوقف توقيع الاتفاقية قسراً. كان ذلك بمثابة الشرارة التي فجّرت ما يمكن النظر إليه على أنه الموجة الثانية من الثورة البرتقالية التي أسفرت عن هروبه من البلاد إلى روسيا حاصلاً على اللجوء السياسي، وسيطرة التوجه السياسي المؤيد للتقارب مع الغرب على مقاليد السلطة في كييف.

يُجدي في هذا السياق التذكير بأن الحدث المذكور كان استمراراً لما يمكن وصفه بالصراع الاستراتيجي الروسي الأميركي على أوكرانيا. سيما وأنه كان بمثابة تكرار للسيناريو الذي حصل قبلها بعشر سنوات، حين تصاعد دعم الولايات المتحدة وأوروبا لما سُمي بـ «الثورات الملونة» في جورجيا وأوكرانيا، لأهداف لا يمكن حصرها في البراءة الأخلاقية وفي دعم الشعوب لتقرير مصيرها. نتج عن الثورة البرتقالية الأوكرانية يومها فوز الرئيس المعادي لروسيا فيكتور يوشينكو في انتخابات عام 2005، رغم محاولة تسميمه الغامضة التي كادت تودي به إلى الموت وأدت إلى تشويه وجهه بشكل ملحوظ ودائم، والتي تمت خلال حملة الانتخابات، وشاع الاعتقاد القوي بأن روسيا كانت وراءها.

هكذا، أظهر العقدان الماضيان أن رهان بوتين كان دائماً على الأفراد الفاسدين من الساسة، في أوكرانيا وغيرها، وعلى نمطٍ في الممارسة السياسية تغلب عليه باستمرار عقلية المافيا بكل تجلياتها المعروفة. على المقلب الآخر، كانت الولايات المتحدة، وبمساعدةٍ أوروبية، تستوعب صيرورةً شعبية أوكرانية واسعة القبول في البلاد، وتوظفها بمهارة، وبمرحليةٍ وتدرّجٍ ونفسٍ طويل، لتحقيق هدفها الاستراتيجي. جرى هذا، كما يجري في كثيرٍ من مناطق العالم الأخرى، عبر خلق حالةٍ من «تقاطع المصالح» التي تبدو «عفويةً» بين توجهات الولايات المتحدة وقيمها المُعلنَة عالمياً، وبين طموحات الشعب الأوكراني المشروعة.

ثمة قراءتان لما حصل بعد ذلك في أوكرانيا، ولممارسات بوتين تجاهها، قد تبدوان متناقضتين للوهلة الأولى. لكن السياسة في منطقها المعاصر تحمل فسحةً للتعايش بينهما، وتساعد المحلل على امتلاك قوةٍ تفسيريةٍ أكبر للظاهرة. خاصةً في معرض الحديث عن غزو أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم (مقاطعة كرايميا) وضمها للاتحاد الروسي.

فمن ناحية، يمكن القول أن بوتين فهم دلالات أحداث ثورة عام 2014، وشعر بالحاجة الماسّة إلى تصرفٍ حاسم يمكن اعتباره رداً على الغرب، وخلقاً لأمرٍ واقع مختلف يعطيه مزيداً من الأوراق التفاوضية في المستقبل.

ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن القول بأن بوتين ابتلع الطُّعمَ الأميركي. بمعنى إفلاح الولايات المتحدة في دفعه للتورط بشكلٍ أكبر وأوضح فيما سيصبح المستنقع الأوكراني، وهذه المرة بالقوة العسكرية الروسية، وعلى مرأى ومسمعٍ من العالم ومنظماته الدولية.

كان بوتين يحسَبُ أنه امتلك «مسمار جحا» في البيت الأوكراني، وأن هذا سيجعله مؤهلاً دائماً للتدخل في شؤون البيت حين تدعو الحاجة لذلك.

وكانت الولايات المتحدة ترى أن خطوة التدخل العسكري الفاقعة بحد ذاتها أعطتها «مسمار جحا» الخاص بها، والذي سيسمح لها منذ تلك اللحظة بشَرعَنة كل أنواع الاستفزاز لروسيا والتحرش المتصاعد بها، وبكل المداخل القانونية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية والإعلامية.

وتصديقاً لما تحدثنا عنه سابقاً من غياب العامل الأخلاقي حين يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية، جاء موقف الإدارة الأميركية محصوراً في استنكار احتلال القرم، مع الحرص على استصدار المزيد من العقوبات الدولية التي ستساهم في محاصرة روسيا تدريجياً. وتزامن هذا مع تضييقٍ كبير على روسيا من المداخل المذكورة أعلاه، خلال عامي 2015 و2016. وربما نسي الكثيرون اليوم أجواء تلك المرحلة وحجم الضغط الذي كانت تشعر به روسيا إلى درجةٍ دفعتها إلى أن تعيش داخلياً ما هو أقرب إلى حالة إعلان الحرب. وشاع الحديث في الإعلام الروسي آنذاك عن «مخططات جنرالات الحرب وأصحاب الرؤوس الحامية» في واشنطن الذين يسعون إلى إشعال فتيل حربٍ عالميةٍ ثالثة. 

فخلال النصف الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2016 بثت المحطة الإخبارية روسيا 24 تقريراً حول تحضير ملاجئ للحماية من ضربات نووية في موسكو. وتحدث موقعٌ إلكتروني واسع الانتشار في سان بطرسبرغ عن احتمال البدء بتقنين الخبز استعداداً لحرب مقبلة. وتزامن ذلك مع الإعلان عن تدريبات دفاع مدني تحشد 40 مليون متطوع على مدى أسبوع، يتدربون على إخلاء مبان ومواجهة حرائق. وانتشرت بشكلٍ ملحوظ تقارير تصدر عن مراكز بحثية روسية تعقد فيها مقارنات بين الموقف في تلك الأيام والوضع الدولي عشية اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما أوقف بوتين فجأةً، بأوامر رئاسية، العمل باتفاقيتين مع الولايات المتحدة تتعلقان بالحد من أبحاث البلوتونيوم واليورانيوم والأسلحة النووية، إلى غير ذلك من الظواهر.

اشتعال الأزمة الراهنة

هدأ الاستفزاز الأميركي المباشر بعدها عندما انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، رغم استمرار العقوبات التي كان الكونغرس بمجلسيه، وبأعضائه الجمهوريين والديمقراطيين، يحرصون على تجديدها وتطويرها. ثم عاد للتصاعد إلى أن بلغ ذروةً جديدة تمثلت في المناورات البحرية الضخمة التي قادتها الولايات المتحدة بالتنسيق مع أوكرانيا في شهر تموز/ يوليو الفائت، في البحر الأسود المتاخم للحدود الروسية. كان هذا تمريناً سنوياً يجري كل عام منذ سنة 1997، لكن حجم المناورات وطبيعتها لفتت هذه المرة انتباه الدوائر العسكرية والاستراتيجية في العالم. فقد شاركت فيها قوات مثلت 32 دولة من ستة قارات، وضمت خمسة آلاف مقاتل و32  سفينة حربية متنوعة الأحجام والمهمات، فضلاً عن 40 طائرة حربية و 8 فرق للعمليات الخاصة البحرية.

مرةً أخرى، استجاب بوتين للاستفزاز الأميركي وسرعان مابدأ بحشد عشرات الآلاف من الجنود حول الحدود الأوكرانية مع نهاية العام الماضي وبدايات هذا العام، بشكلٍ مثّلَ البداية العملية للأزمة الراهنة.

لم تكن الولايات المتحدة فقيرة الخيال إلى درجة أنها لم تتوقع رد الفعل الروسي الذي وصلَ إلى حد الاجتياح الفعلي منذ أيام، بل الأرجح أن تُثبت الوقائع أن رد الفعل ذاك يَدخل، بالضبط، فيما تريدهُ أن يحصل، وبحيث يكون عذراً لها في زيادة وترسيخ حضورها العسكري حول روسيا من كل جوانب الجبهة الروسية الغربية الأكثر حساسيةً على الإطلاق. هذا ما حصل عملياً، فخلال الأسابيع القليلة الماضية ضاعفت الولايات المتحدة وجودها العسكري في بولندا، وأرسلت المزيد من الطائرات المقاتلة لتتمركز في قواعد جوية في أستونيا، ودفعت مقاتلاتها من طراز F-16s من ألمانيا لتتمركز في رومانيا، بينما قامت بتعويضها عبر نقل مقاتلات من قاعدة عسكرية في ولاية يوتا الأميركية إلى ألمانيا.

واستكمالاً لاستراتيجية التقدم والتوريط، تزامن الحراك العسكري الأميركي، للمفارقة، مع عمليات تمويه إعلامي ودبلوماسي وسياسي مدروسة، ولئيمة للغاية، دون أي اعتبار لاستفزازها النفسي الكبير لأوكرانيا شعباً وقيادة.

فعلى مسرح الأحداث هذا، يظهر بايدن شارحاً الفرق بين «الغزو الكامل» و«الغزو المحدود» الذي يمكن أن تقوم به روسيا، وكيف أن رد الفعل العسكري الأميركي سيختلف تبعاً لذلك الفرق، فيحرص الرئيس الأوكراني على التصريح بأنه لا يوجد ثمة شيء اسمه «غزوٌ محدود». تطالب أوكرانيا الولايات المتحدة بإعلان عقوبات على روسيا وقيادتها قبل الاجتياح لتكون فعالةً، لكن بايدن، ومعه وزير خارجيته، يصران على الاكتفاء بالتهديد بالعقوبات، والقول بأنها ستُعلن وستكون قويةً بعد حصول الاجتياح عملياً. يخرج بايدن على شاشات التلفزة خلال الأسبوع الماضي مرةً تلو أخرى ليؤكد حصول الاجتياح في الأيام القادمة، فيرد زيلينسكي مؤكداً بأن «إشاعة الخوف والذعر بتلك الطريقة هي أفضلُ صديقٍ للعدو». تُطالب أوكرانيا الولايات المتحدة بتزويدها بأسلحةٍ نوعية تُمكِّنها من التسبب بأذىً حقيقي لأي قوات اجتياح روسية، وتصر الولايات المتحدة على تزويدها بأنواع معينة أقل فعاليةً في تحقيق ذلك الهدف. وقد لايصدق البعض، ونحن نتذكر الوضع في سوريا منذ سنوات، أن أوكرانيا تستجدي حتى الآن مجرد إمدادها بصواريخ ستنغر الفعالة في مواجهة الطيران الروسي، ولكن دون جدوى!

لايبدو غريباً مع هذا الحال أن يخاطر الرئيس الأوكراني بمغادرة بلاده قبل الاجتياح بأيام لحضور مؤتمر ميونيخ للأمن، وإلقاء كلمةٍ خاطب فيها الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، بنبرةٍ غاضبة قائلاً: «ماذا تنتظرون؟ لانحتاج إلى عقوباتكم بعد أن يحصل القصف على بلادنا، وبعد أن نكون قد فقدنا حدودنا، وخسرنا اقتصادنا، ماذا تنفعنا العقوبات حينها؟».

هنا، يبدو فهم زيلينسكي المشروع للعقوبات، كسلاحٍ مُستَعجل يجب استخدامه فوراً لمنع الكارثة، بعيداً عن إدراك وظيفة العقوبات في ترسانة الفكر الاستراتيجي الأميركي كسلاحٍ نوعيٍ فريد لا يوجد له مثيل لدى دولة أخرى في العالم. وهي سلاح يُشهر في أي وقت، إما لإرسال رسائل أو لإحداث ضغط حقيقي، حسب كل حالة. أما وجودها فيهدف ليساعد الإدارة على استمرار العلاقات مع القوى الأخرى العالمية دون قطيعة كاملة، وبشكلٍ يبدو فيه انسجامٌ مع مبادئ الولايات المتحدة المُعلنة. هذا النوع من القوة الناعمة يثير الحيرة فيما يتعلق بأساليب الرد عليه لدى الدول التي تتعرض له، ويصيبها بالارتباك. فهو يُشعرها دائماً بالضعف تجاه الولايات المتحدة، لكنه لا يصل إلى درجةٍ تضطر فيها الدولة المعنية إلى مقاطعة الولايات المتحدة أو العداء معها. أما عندما يحتاج الأمر إلى مزيد من الحسم في نظر الإدارة الأميركية، فإن من الممكن دائماً التصعيد في استخدام العقوبات بشكلٍ يؤذي الدولة المعنية.

الاجتياح ودلالاته

تصاعدَ الاستفزاز لبوتين خلال الأسابيع التي سبقت اجتياح أوكرانيا بدرجةٍ غير مسبوقة. وأدارت الولايات المتحدة العملية بإخراجٍ مدروس يخاطب، تحديداً، مكونات شخصيته كزعيم مافيا معتد بنفسه، وكقبضاي لا يقبل الإهانة (ولو على قطع رأسه). لم يكن قد تغير شيءٌ في طبيعة الحشود الروسية حول أوكرانيا، والتي اكتملت بشكلٍ كبير منذ شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي. لكن آلة الدعاية السياسية والدبلوماسية والإعلامية الأميركية اشتعلت بالتصريحات اليومية التي حرصت على وضعه في «كماشةٍ» نفسية وسياسية. 

وبدءاً من تاريخ 13 كانون الثاني/ يناير، اليوم الذي ظهر فيه مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، والمتحدثة باسم البيت الأبيض جين باسكي، لتفعيل عملية الاستفزاز في مرحلتها الأخيرة، تم صياغة الحملة الأميركية المذكورة بحيث تتمحور حول الرسائل التالية الموجهة له شخصياً: نحن نعرف تماماً كيف تفكر، أنت على وشك إعلان الحرب في أي لحظة، لدينا استخبارات موثوقة تتعلق بكيفية إخراجك لقرار الهجوم، سيحصل ذلك على شكل عمليات تخريبية زائفة تستهدف القوات الروسية، نحذرك من التهور والقيام بذلك لأن روسيا ستواجه رداً غير مسبوق، إلى غير ذلك من التصريحات التي تعرف الولايات المتحدة أنها ستصبح عنوناً رئيساً يتصدر كل نشر أخبار في العالم وكل صحيفةٍ دولية.

بهذا، وُضِع بوتين، بكل مافي شخصيته من قوة «الأنا» العنيدة أمام خيارين أحلاهما مرّ. فإما أن يكتفي فعلاً بعملية التهديد والتفاوض للحصول على أقصى ما يمكن، ويمتنع عن إشعال الحرب، فيبدو في نظر العالم متردداً وخائفاً من الولايات المتحدة. أو أن يتجاهل كل الحسابات العملية التي توحي بإمكانية انزلاق بلاده إلى المستنقع الأوكراني، فـ «يُظهِرَ» للعالم أنه «القيصر» الذي ينفخ في غروره جزءٌ كبير من الإعلام الدولي على مدى سنوات.

وفي استجابةٍ مثاليةٍ، فيما يبدو، للاستفزاز الأميركي، انخرط الرئيس الروسي في الحرب بطريقةٍ تدريجية، توحي بالتردد من جهة، وتسمح للولايات المتحدة بتوظيف مسار الأحداث من جهةٍ ثانية. أخرج بوتين قرار الحرب بالاعتراف الرسمي بالمقاطعتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك، على أمل دفع قواته إليهما والاكتفاء بخلق أمرٍ واقع جديد، كما فعل قبل سنوات في شبه جزيرة القرم. حصل هذا في حين كانت الولايات المتحدة تخشى من اندفاعةٍ قويةٍ وشاملة للجيش الروسي تصل إلى احتلال كييف والسيطرة الكاملة والسريعة على أوكرانيا بما يحد من قدرتها على الحركة، ويضطرها لردود أفعال كبيرة لا ترغب بها حالياً. وهكذا، منحتها استراتيجية بوتين المترددة الفرصة لترتيب عملية استنزاف متدرج وطويل المدى لروسيا عسكرياً ودبلوماسياً.

سرعان ما بدأت مرحلة العقوبات لحظة دخول الجنود الروس إلى المقاطعتين. وسنرى كيف تتبلور وتتطور بشكلٍ انتقائيٍ ومدروس، ينسجم مع منطقها المذكور أعلاه في هذا التحليل. أوقفت ألمانيا الترخيص لمشروع نوردستريم 2 العملاق الذي كان يؤرق الولايات المتحدة إلى درجةٍ كبيرة، لأنه سيضع جزءاً كبيراً من أوروبا رهينةً للغاز الروسي في المستقبل. وفيما أسماه بايدن «الدفعة الأولى» من العقوبات، تم استهداف شخصيات مقربة من بوتين شخصياً وتمثل جزءاً من أركان حربه، فضلاً عن بنوك وشركات معينة تخدم بوتين، أيضاً شخصياً، ومعه آلته الاقتصادية والعسكرية، لكن الانتقاء تمَّ بحيث يشعر الطرف الروسي بدرجةٍ من الألم في جسده، يعرف معها الكمون الموجع الحقيقي الذي يمكن أن يحصل مع تصعيد العقوبات كمياً ونوعياً، فيكون هذا سبباً للمزيد من التوتر والارتباك.

ثمة وجهٌ آخر حساس للانتقائية في العقوبات يتمثل في صرف النظر عن كل مايمكن أن يتسبب بمزيدٍ من التضخم في الولايات المتحدة، حيث تمَّ بشكلٍ مُعبّر، مثلاً، استثناء صناعة الطاقة الروسية بأسرها، والتي تمثل عصب الاقتصاد الروسي، بما فيها مجهودها الحربي، من العقوبات حسب تقارير وزارة الخارجية الأميركية.كان هذا يهدف لمنع ارتفاع أسعار الطاقة التي تُنهك المستثمر الأميركي حالياً. والواضح أن سوق الأسهم الأميركية، بحساسيتها المُرهفة للأحداث العالمية، استوعبت دلالات الحدث فعادت للارتفاع بشكلٍ قياسي مع أول إعلانٍ للعقوبات في أول يومٍ للاجتياح، وأكملت الصعود في اليوم الثاني.

خاتمة

لا ينبع هذا التحليل من قناعةٍ اختزالية تفترض سيطرةً كونيةً مُطلقة للولايات المتحدة على ما يجري في العالم أو ماستفعله روسيا، وإنما يتعلق باستشراف طريقةٍ ومستوى من الفكر السياسي في الولايات المتحدة، فريدٍ من نوعه، يتعايش فيه التخطيط الاستراتيجي طويل المدى مع الأخطاء والخطايا التي كثيراً ما تحصل، وبالتناوب مع عمليات الاستدراك والاستيعاب والتوظيف، آنياً أو لاحقاً، للأخطاء نفسها، في كسب أوراق تكتيكية أو استراتيجية جديدة. والأهم أن كل نوعٍ من الأخلاقيات تغيب فيه، إلا عندما يتطلب الحال استعمالها بشكلٍ وظيفي، ويكون هذا بحد ذاته جزءاً من ذلك الفكر السياسي.

وإذ تتصاعد الأحداث مع كتابة هذه الكلمات، وتبدو المتغيرات أسرع من القدرة على مواكبتها فيما يتعلق بالتفاصيل المستجدة. لكن عناصر الصورة الاستراتيجية التي تمثل صُلب الفرضية الأساسية الواردة في التحليل تكتسبُ باضطراد شواهد إضافية.

القوات الروسية على أبواب العاصمة كييف. رغم هذا، تفعل الولايات المتحدة المستحيل بحيث لا تُمنى روسيا بوتين بهزيمةٍ سريعةٍ في ميدان العمليات. فالهدف الرئيس هو تورط روسيا قدر الإمكان عسكرياً في الداخل الأوكراني لأطول فترةٍ زمنيةٍ ممكنة، وبما يسمح بتصعيد العقوبات ومعها كل أنواع الاستنزاف، وتحديداً في الداخل الروسي. حين يصل تأثير الوضع الاقتصادي المتردي إلى عموم المواطنين، وتبدأ صيحات المعارضة الروسية في الظهور والازدياد، مع دعمٍ كبير، بطبيعة الحال، من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية لتوجهاتها الديمقراطية ومطالبها المُحقّة المتعلقة بالحرية ومحاربة الفساد والبحث عن لقمة العيش ودولة القانون! يصبُّ في ترسانة الولايات المتحدة هنا خزينٌ من الصبر الاستراتيجي الذي لا يدفعها إلى استعجال الأمور على الإطلاق. ذلك أن تطور الأحداث وفق مسارها الراهن يمثل أفضل سيناريو يمكن توظيفه لتحقيق هدفها الاستراتيجي: توريط روسيا وإنهاكها داخلياً تمهيداً لتحويلها، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إلى الجزء الأخير والأكثر أهمية من قوس الحصار الشمالي للصين.

أما الآن، فالطائرات الروسية، ومعها الحوامات، تسيطر على أجواء أوكرانيا، وتساهم في التقدم الروسي بشكلٍ لافت. رغم ذلك، يغيب عن الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا، الذي صمّت الولايات المتحدة أذن العالم بخصوصه، أجهزة دفاع جوي تتضمن صواريخ فعالة مضادة للطائرات والحوامات. 

وفي حين يردد بايدن ومساعدوه بشكلٍ مملّ مقولة استعداد بلادهم للدفاع عن كل شبرٍ من أراضي دول الناتو، تبدو الرسالة فاقعةً للرئيس الروسي لإلغاء أي تخوفٍ يمكن أن يراوده من أي تدخل عسكري فعلي غربي في أوكرانيا.

وبينما يتداول الخبراء الاستراتيجيون جملة عقوبات اقتصادية يمكن أن تشلّ الدولة الروسية، وتجفف موارد الدعم للتواجد العسكري الروسي في أوكرانيا، وفي غضون أيام. لا تبدو الولايات المتحدة في وارد الاستعجال لإعلان ذلك النوع من العقوبات عل المدى المنظور. يكفي مثالاً على ذلك منع روسيا من استخدام نظام SWIFT المصرفي العالمي، الذي يُطلِق عليه مراقبون وصف «الخيار النووي»، بسبب تأثيره الخطير في إمكانية عزل روسيا، بكل مؤسساتها اقتصادياً عن العالم بأسره. 

هذا نموذجٌ مثاليٌ آخر على توظيف الصراع المؤطَّر (Contained Conflict) الذي كثيراً ما تستعمله الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها داخل حدود بلدٍ معين، ومن خلال توريط قوةٍ أخرى خارجيةٍ فيه. هكذا، تغرق روسيا في الرمال المتحركة الأوكرانية، ويتم ضبط آثار الصراع العسكري بحيث لا يُسمح لها بالامتداد إقليمياً مع ما يمكن أن ينتج عنه من فوضى غير محسوبة ولا مضبوطة. وبالمقابل، تدفع أوكرانيا الثمن، ولكن في خضمّ تصريحات التضامن الدولي الإعلامية، وبعض الممارسات المتسقة معها، دون أن يكون لها تأثيرٌ فعلي في موازين القوى العسكرية. الأمر الذي تدرك الولايات المتحدة تأثيره المعنوي السلبي الكبير في صفوف الأوكرانيين قيادةً وشعباً!

المفارقة أن أكثر من يدرك اليوم هذه الحقائق هو الرئيس الأوكراني نفسه. وهذا مايُعبر عنه بشكلٍ مُعلَن يُظهر استياءه المتصاعد مما يراه عمليةَ نفاقٍ عالمية تشهدها بلاده. ففي تصريحاته صباح الجمعة، اليوم التالي لبدء الاجتياح الروسي، أكد زيلينسكي لمواطنيه أنه تواصل مع كل الدول الغربية طلباً للدعم، وأكد أنهم جميعاً «خائفون»، وأن بلاده تُركت لتقاتل وحدها. ومصداقاً لحالة اليأس التي يعيشها، مع أركان حكومته، ناشد الرجل بوتين داعياً إياه للسلام، متحدثاً عن الضحايا المدنيين ومذكراً بحياد أوكرانيا، فعرض عليه الكرملين مباحثات في مدينة مينسك عاصمة روسيا البيضاء الموالية كلياً لروسيا، بينما عرضت أوكرانيا التفاوض في عاصمة بولندا، وارسو.

ثمة احتمال قوي جداً بألا تسمح الولايات المتحدة، ابتداءً، باستمرار هذا التوجه الذي قد يُخرج الأمور من يدها، والراجح بأن تضغط الإدارة الأميركية على زيلينسكي لوضع شروط تعجيزية تمنع إمكانية انطلاق المسار. وسيتزامن مع هذا إعلان ترتيبات فيها درجات من الإيحاء لأوكرانيا بنية الدفاع الجدّي عنها، وبتصعيد العقوبات بشكلٍ يؤذي روسيا. والأهم، تقديم وعود مستقبلية تدخل في إطار الدبلوماسية السرية، يمكن أن تصل إلى حد التعهد باتخاذ الاجتياح الروسي ذريعةٍ لضمّ أوكرانيا إلى الناتو في أقرب وقت.

على مستوى تفاصيل الأحداث، يبقى الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات خلال الأسابيع، وربما الشهور، القليلة القادمة. لكن الصورة بأجملها لا تغير كثيراً في حقيقة وجود مكاسب استراتيجية أميركية تحصّلت من الأزمة الراهنة، على طريق تحقيق أهدافها البعيدة. قد لاتكون ثمة مفارقة في أن شركات الأسلحة الأميركية العملاقة، مثل ريثيون ولوكهيد مارتن أرسلت خطابات تفاؤل للمستثمرين خلال الأيام القليلة الماضية تُبشرهم فيها بكمون زيادة الأرباح طرداً مع تزايد سوء الأوضاع في أوكرانيا. لكن المفارقة تتمثل في ألا ينتبه الكثيرون إلى مؤدى صراحة وزير الدفاع الأميركي نفسه حين أشار بوضوح إلى جوهر المكسب الاستراتيجي الأميركي، عندما قال في معرض الإعلان عن صفقة دبابات أبرامز لبولندا: «ما لم يكن السيد بوتين يريده هو وصول حلف ناتو أكثر قوةً إلى خاصرته، وهذا هو بالضبط ماحصل عليه اليوم».