بعد يوم عصيب ومرهق، تقررُ استغلال الساعات القليلة المتبقية من ضوء النهار والخروج  للمشي في الشارع الهادئ القريب من بيتها والذي يشق الغابة، حيث تخاف المشي بعد أن تعتم العين وتصبح الغابة والأشجار العارية أكثر الأماكن وحشة وظلمةً.  تستعيد في ذهنها السؤال الذي أجابت عليه على أحد تطبيقات المواعدة، هل تريدين أطفالاً في المستقبل؟ سجلت حينها جواباً قطعياً. لا. تعيد التفكير اليوم بالسؤال، أو بالأحرى بجوابها القطعي، الذي قد لا يعكس إلّا ثقة مزيفة حاولت تأكيدها هي مناسبات عدة، دفنت وراءه فضولها بأن تجرب الأمومة ولو لمرة واحدة. تحاول تبرير إجابتها بعناوين عريضة، مثل: الحروب والمجاعات، الاحتباس الحراري والأوبئة والنيازك والانهيار الاقتصادي العالمي. ببساطة أكثر، تحاول استعادة أكثر صور العالم بشاعة وظلماً لتذكر نفسها بالواقع الكئيب الذي سيأتي الأطفال إليه. قد تشكل هذه الصور والأسباب المحقّة جانباً من حقيقة رفضها لفكرة الإنجاب، لكن أكثر ما يغيظها فعلاً، هو حالة عدم الاستقرار المهني والمادي التي تختبرها يومياً وبعد عمل مستمر لأكثر من اثني عشر عاماً في مجال الفنون والثقافة.

مثل ما حدث اليوم، حيث لم تستطع كبت الغيظ الذي شعرت به بعد محادثتها مع صديقتها التي تعمل مهندسة معمارية في أحد الشركات، والتي أخبرتها عن حملها ورغبتها بتأسيس عائلة وإنجاب طفل أو طفلين مع صديقها الإسباني. داهمتها مشاعر الغيظ والحسد والشك، تظن أنها اختارت عدم الإنجاب، إلا أنه في لحظات كهذه تدرك أن أكثر ما يثير الغضب داخلها هو الخوف من الانهيار المادي والاقتصادي على المستوى الشخصي، والفشل المهني مع كل عمل ومشروع جديد، وهما ربما السببان الأعمق لرفضها الإنجاب.

لحسن الحظ أنها ليست وحدها من يواجه من حين لآخر سؤال الإنجاب أو عدم الإنجاب في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية يحكمها انعدام الاستقرار واللايقين. مجموعة كاتبات وعاملات في المجال الثقافي والفني فكرنّ وطرحنّ سؤال الإنجاب والأمومة بالنسبة للنساء العاملات في مجالات الفنون والثقافة، وهنّ: الفنانة وصانعة الأفلام بسمة الشريف، والباحثة لارا الخالدي المهتمة بالعمل في المجال الثقافي بتركيزٍ على الدور الذي تلعبه المتاحف ضمن الصراعات، وماري جيرمانوس سابا وهي صانعة أفلام وعالمة جغرافية، ومي أبو الدهب وهي قيّمة فن معاصر ومحررة لعديد من الكتب، وميرين أرسانيوس وهي كاتبة ومُؤسسة ومحررة في مجلة مخزن، ونيكي كولومبوس وهي كاتبة ومحررة وقيمة فنية مقيمة في نيويورك. نشرت الكاتبات مجموعة نصوص طويلة عن واقع الأمومة والإنجاب في سياق العمل الفني والثقافي في كتاب واحد بعنوان عن أي وضع يتحدثون؟، يجمع الكتاب نصوصاً عربية وإنجليزية وصدر بالتعاون بين أرشيف بوكس في برلين ومؤسسة مفردات الثقافية. 

أثناء قراءتها الكتاب شعرت وكأنّ الرسائل المنشورة في هذا الكتاب مكتوبة لها خصيصاً وموجهة إلى عنوانها البريدي بالتحديد، ربما لأن رسائل الأمهات وحواراتهنّ المنشورة حول واقع الأمومة والعمل الفني والثقافي تطمئنها بأن إحساسها العميق بانعدام العدالة الإنجابية بين فئات متمايزة من النساء، والشعور بالقلق والتوتر الدائمين حيال حياة الأطفال المستقبلية وأمهم الفنانة أو الكاتبة أو الباحثة في مجال الثقافة، ليست مشاكل شخصية أو مظلومية فردية، كما أنها ليست أسئلة تخص النساء وحدهنّ. بالطبع هي أسئلة نابعة من صميم التفكير النسوي في شكل العلاقات الإنتاجية والفنية في سياق العمل الفني والثقافي، لكنها أسئلة تتعلق بتنظيم الحياة العائلية وتفاصيل معيشية في عائلة تعمل فيها الأم كاتبة أو رسّامة أو باحثة في الدراسات الثقافية وما إلى ذلك. وأيضاً بشكل وبنية مؤسسات تدعم العمل الثقافي والشروط الضامنة لحياة كريمة للعاملين فيها واحتياجاتهم وفي الوسط الثقافي نساءً ورجالاً؛ أسئلة قد تبدأ من: «أين يمكنني أن أشفط الحليب أثناء ساعات العمل؟» وصولاً إلى سؤال مصيري فعلاً بالنسبة لبعضهنّ وهو «من يدفع إجازة الأمومة في عقد عمل حر؟».

تهم هذه الأسئلة شريحة كبيرة من النساء، لا الفنانات أو الكاتبات أو صانعات المسرح وحسب، لكن ما تمكنت الكاتبات من فعله في أربع رسائل وحوار هو التقاط حساسية الموقع الفردي للأمهات العاملات في مجال الشأن الثقافي العام ونسجها مع الواقع اليومي لهنّ وصعوبات الأمومة التي تؤثر بشكل دقيق على إنتاجيتهنّ الفنية والوقت المخصص للعمل الإبداعي، لتكشف النصوص عن طبقات ومستويات متشابكة من عدم الاستقرار والإحساس بالتهديد المستمر على مستويي المهنة والأمومة والحالات النفسية والمشاعر التي تمر بها النساء. على سبيل المثال: معرفتهنّ جيداً أنه قد لا يوجد أي نوع من الضمانات أو العقود التي تحمي الأم من خسارة مصدر الدخل أو فرصة العمل في حال ارتفعت حرارة الطفل ليلاً أو تقلب مزاجه في ساعات الظهيرة، ومن جهة أخرى الإحساس بالذنب الذي تواجه الأمهات ما أن تقدم احتياجاتك وأعمالها على احتياجات الطفل.

أحس بأن صبري بدأ ينفذ سريعاً في الفترة الأخيرة، فأتركه يبكي، بينما أنهي تجهيز الغذاء أو كتابة الإيميل. يؤنبني ضميري على ذلك، ويخجلني أن أكتب ذلك على الملأ. هذا الإحساس بالذنب يلازمني منذ ولادته

– من كتاب عن أي وضع يتحدثون، ص20

كثيرٌ من التفاصيل التي تذكرها الأمهات الفنانات والكاتبات تشي بصعوبة الظروف التي تحيط بالأمومة وتحدياتها في مجال عملهن، في ظل غياب إجازات الأمومة المدفوعة وعدم وجود ما يسمى بالعطلة الأسبوعية، وأحياناً عدم القدرة على تحمل تكاليف طلب المساعدة لمجالسة الأطفال في ساعات غياب الأم. لكن ربما أكثر المشاهد الجارحة التي ذكرها الكتاب هي استبعاد النساء الحوامل من المجال الفني ما أن تبدأ علامات الحمل بالظهور عليهنّ، فقد واجهت الكاتبات تحذيرات جدية من إعلان خبر الحمل وتأثيراته على فرص العمل أو المشاركة في عروض أو حضور اجتماعات ومناسبات ثقافية.

ما الذي يحدث للمرأة العاملة في مجال الفن بعد أن تلد طفلا؟ عفوياً، يمكنني أن أسرد بعض النماذج عن الأزواج العاملين في مجال الفن، من الرجال والنساء، حيث اختفت المرأة لبضع سنوات في حين انطلق الرجل في مساره المهني. كما يمكنني أن أذكر بعضاً آخر، فوجئت بأن لديهم أطفالاً، إذ نجحوا ببراعة في إخفاء وجودهم. كما أعرف أيضاً مجموعة محدودة للغاية من النساء يشكل أطفالهنّ جزءاً من حياتهنّ العامة.

– من كتاب عن أي وضع يتحدثون، ص30

استحضرت من ذاكرتها قصصاً مختلفة لنساء حوامل أخفينّ خبر حملهنّ في مقابلات عمل من أجل إقناع أرباب العمل بتوظيفهنّ أو تخبئة البطن المنتفخة وراء طبقات من الثياب الفضفاضة، أما الاحتفاء بخبر الحمل يظل في الصور، وعلى أغلفة المجلات والملصقات الإعلانية. 

هناك دائماً صوت تحاول محقةً إخراسه لكنه ينجح أحياناً بالسيطرة عليها، فتغرق في لوم ذاتها على حالة عدم الاستقرار المادي التي تعيشها، وتوجيه الغضب نحو داخلها ونحو موهبتها المحدودة وضيقة الأفق، خاصة عندما تقارن نفسها بنماذج أخرى قليلة من النساء اللواتي تفوقنّ في مجال الفن واستطعنّ تحقيق أمان مادي واستقرار مهني في الوسط الثقافي، لكن مقاطع عدة وردت في الكتاب تحاول فيها الكاتبات تفكيك أسطورة «العبقرية الفنية» كـشرط ضروري لتحقيق العاملين في الفنون والثقافة الأمان المادي والمهني. أسطورة العبقرية الفنية هي تواطؤ ذكوري كولونيالي يتجلى في شبكة علاقات وشكل إنتاج يكرّس صورة الفنان العبقري، والتي تتوافق غالباً، وليس من قبيل الصدفة، مع نماذج من الرجال أصحاب الامتيازات، محدودي العدد مقارنة بمجمل عدد الفنانين والفنانات المتواجدين والمتواجدات في مجالات الفنون والثقافة، وفي المسارح والمتاحف والتصميم.

القبول بأسطورة العبقرية الفنية، قد يكون مدخلاً للقبول بالاستغلال وانعدام شروط المساواة في الدخل و التفاوت الحاد في فرص وحظوظ الانتشار والظهور بين الفنانات الحوامل والنساء وأصحاب الهوّيات الجندرية المختلفة، ومن هم من غير البيض أو ليسوا بأصحاب امتيازات تعليمية ومادية. في حين أن «سبب كوني من محدودي الدخل هو أن المجتمع لا يقدر عملي كما يجب، وأيضاً لأن البنية التحتية الفنية النيوليبرالية التنافسية تخلق طبقة دنيا من العاملين في مجال الفن والثقافة، ممن يؤمنون بالأسطورة التي تدعي أن النجاح التجاري والاستقرار المادي متاحان لفئة قليلة من الموهوبين.»، بحسب ما ورد في الكتاب. بالنسبة للأمهات الفنانات والكاتبات والممثلات بشكل خاص، فأي حديث مكرّس عن العبقرية الفنية يبدو وكأنّه تجاهل صارخ لمتطلبات الأمومة الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية واحتياجات الطفل المولود، التي تؤثر بشكل مباشر على صيرورة العمل الإبداعي والمساحة التي يمكن أن تخصصها الأمهات للاستغراق في كتابة نص أو رسم لوحة فنية دون أن تتهم بالأنانية والغياب عن الطفل وعدم إحساسها بالمسؤولية.

تكمل ساعة المشي في الغابة وتستسلم لمشاعر مختلطة أصابتها بعد تذكر مقاطع عديدة من الكتاب، مشاعر مختلطة تجمع بين الكآبة والكراهية لواقع العمل الفني غير العادل والمهين أحياناً، ومن جهة أخرى تستمع بإيفوريا تصيبها أثناء القراءة والفهم الذي يليها مثل لوحة بزل تكتمل تدريجياً. فالوضع الذي يتحدثون عنه هو بالغ التعقيد، ولا يقتصر على كون مسألة الأمومة والإنجاب مسألة نسوية تخص النساء وأجسادهنّ، بل يتحكم فيها الشرط الاقتصادي والسياسي لإنتاج العمل الفني والإبداعي بشكل جوهري ويضغط على اختيارتهنّ الحالية والمستقبلية. أما التنويه في مقدمة الكتاب عن أن الكاتبات في هذا الكتاب هنّ من المحظوظات، إذ أن هناك من شاركهنّ في خوض التجربة، وهنّ يتمتعنّ بمسار مهني ناجح، سحب ذاكرتها إلى الماضي القريب ووجه نظرها إلى الطرف المقابل من المشهد، لتفكر بعدد لا بأس به من الصديقات والفنانات والأمهات اللواتي أجبرن على الإجهاض أو على القبول بعدم الإنجاب بسبب غياب الضمان الاجتماعي والحماية القانونية أو أي شكل من أشكال عدم الاستقرار المهني والمادي. بمجرد وصولها إلى البيت تراسل صديقتها الحبلى حديثاً وترسل لها صورة من الكتاب، صورة تتضمن قائمة المشتريات الضرورية لحقيبة الولادة في المشفى، قبل أن تتورط صديقتها بشراء ما هبّ ودب من الأغراض والأشياء التي لا ضرورة لها.