حينما تصل إلى ساحة المحافظة في دمشق، قادماً من شارع بورسعيد الذي يحوي دور سينما ومقاهي بائدة وتنظر إلى الأمام، سيكون بإمكانك أن ترى في الأفق ساحة «السبع بحرات»، كما جرت تسميتها بين أبناء المدينة، أو ساحة التجريدة المغربية كما تسجلها دفاتر محافظة دمشق، وهي الساحة التي تضم مبنى البنك المركزي وبناء رئاسة مجلس الوزراء، ومبنىً آخر -أهم ربما- يختبئ وراء الأبنية الظاهرة، هو مبنى المجلس الأعلى للاستثمار، الذي أنشئ وفق المرسوم رقم 10 الصادر عام 1991، معلناً انطلاق سياسات التأقلم مع عصر ما بعد الاتحاد السوفيتي. ولكي تصل إلى هناك عليك أن تمشي في شارع 29 أيار، والتسمية آتية من تاريخ الحادثة التي حصلت عام 1945، حين تعرضت حامية البرلمان السوري للإبادة على يد قوات عسكرية فرنسية، بعد رفضهم تحية العلم الفرنسي، في إحدى آخر الصدامات المسلحة مع فرنسا قبيل خروج قواتها رسمياً من سوريا بعد ذلك بأقل من عام. وتمر في الشارع على المركز الثقافي السوفيتي، الذي كان قد غير اسمه في الفترة التي تدور فيها حكايتنا إلى المركز الثقافي الروسي. وفي أحد التفرعات التي تلي المركز الثقافي السوفيتي، ستجد مسرح القباني، المكان الذي قُدمت فيه مسرحية سهرة مع أبي خليل القباني لسعد الله ونوس للمرة الأولى منتصف السبعينات. في الطرف المقابل، يقع المبنى الذي كان يضمّ مشفى الدكتور الراحل نشأت كحالة (يُسمّى اليوم مشفى الشرق)، أحد آخر أبناء هذه العائلة التي هاجرت من دمشق منذ الستينات ولم يبقَ من أبنائها سوى الدكتور نشأت وقريب له يمتلك صيدلية في حي المهاجرين، بسبب قوانين التأميم التي أتت على معظم أملاك تلك العائلة. على هذا الجانب، وعلى بعد خطوات، ستجد باباً يعلوه مجسمٌ لطاحونة حمراء، هناك يقع ملهى الـ «مولان روج» أو الطاحونة الحمراء، والذي تسلمه قائد الشرطة العسكرية في دمشق، الضابط الحموي من آل المدني بعد تقاعده، بأمرٍ من حافظ الأسد مكافأةً على مساهمته في انقلاب تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1970، والمعروف باسم الحركة التصحيحية، إذ كان قد نفّذ معظم عمليات الاعتقال لمراكز السلطة في دمشق.

قبل أن تصل إلى ملهى المولان روج ستمر على محل حلويات الصدّيق، ذلك المتجر الصغير الذي عُرفت حلوياته في علبها المصدّفة باعتبارها هدية حافظ الأسد المعتادة لزواره من مسؤولي الخليج. 

تابع المشي باتجاه ساحة السبع بحرات، أو ساحة «التجريدة المغربية»، حسب اسمها الرسمي كما سبق القول. والتجريدة المغربية هذه هي فرقة عسكرية مغربية أرسلها الحسن الثاني لمؤازرة القوات السورية على جبهة الجولان، وتركها حافظ الأسد لتباد تقريباً تحت ضربات القوات الإسرائيلية دون أي غطاء جوي.

بجانب التفرع الأخير لشارع 29 أيار، وقبل الوصول إلى الساحة، ستجدين على بعد أمتار المركز الأقدم للمؤسسة السورية للأسواق الحرة، والتي كانت الذراع الأساسية للمخلوفَين، الأب والابن، في تهريب البضائع. وإن أردتِ التوجّه صوب ذلك التفرع، الذي يصل بين شارع 29 أيار ومنطقة عين الكرش، فلا بأس من أن تعلمي أن ذلك الحي الصغير يضم منزل نذير فنصة، عديل حسني الزعيم، حيث خطط الأخير لانقلابه على الرئيس شكري القوتلي عام 1949؛ كما يضم مكتباً متهالكاً من تركة اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا، الذي أعلن عنه رسمياً عام 1972، وانتهى مع توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد دون أن يعني يوماً أكثر من حبرٍ وقّع به كلّ من السادات والأسد والقذافي على ورق. ومنذ عام 2007 تضم المنطقة مكتب أول شركة طيران خاصة في سوريا، والتي أسسها رجل الأعمال عصام شموط الذي عمل كواجهةٍ لرامي مخلوف.

في أول هذا التفرع الذي يحمل اسم الصحابي أبي ذر الغفاري، على زاوية الشارع بناءٌ يعود إلى حقبة الخمسينات، استولت عليه دولة البعث بعد عام 1963، ويمكنك أن تشاهد باب البناء الصغير الذي تعلوه لافتةٌ سوداء وبجانبه محرسٌ للشرطة العسكرية غالباً ما يكون فارغاً، وتقرأ مكتوباً على اللافتة «محكمة أمن الدولة العليا»، وهي محكمة استثنائية أسسها نظام البعث منذ عام 1968 كوريثةٍ للمحكمة العسكرية الاستثنائية.

إذا صعدت إلى الطابق الأول ستجد شقةً تمّ تحويلها إلى محكمة، وفي عمق صالة تشغل موقع الصالون الذي استقبل حفلات وسهرات أبناء البرجوازية الدمشقية خلال الخمسينات، منصةٌ جلس في صدرها منذ عام 1979 حتى عام 2008 رجل اسمه فايز النوري. هذه المقالة ليست عنه، بل عن اللواتي والذين سُرقت أعمارهم وحيواتهم في قفص الإتهام الموضوع بصعوبة أمام تلك المنصة، منصة محكمة أمن الدولة، حيث عرف المعتقلون السياسيون كم سنةً سيُحكم عليهم، أو في حالات أخرى إن كانوا سيعدمون دون أي قدرة فعلية على الرد على التهم السياسية الموجهة ضدهم. كان الحكم يُقرَأ، ومن ثمّ يقول فايز النوري للمعتقل: «انقلع».

في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1991، أصدر حافظ الأسد مرسوماً بالعفو شمل أعداداً كبيرة من المعتقلين السياسيين في السجون السورية، إلّا أنّ المعتقلين الذين بقوا في السجون بعد ذلك العفو، وكانوا مسجونين عرفياً من دون أحكام تحت سلطة قانون الطوارئ لسنوات (بعضهم منذ نهاية السبعينات) حُوّلوا إلى محكمة أمن الدولة الاستثنائية، التي أُعيد إحياؤها بعد أن استُخدمت لفترة بين نهاية السبعينات وبداية الثمانينات للحكم على المعارضين من التيارات الإسلامية بشكل رئيسي.

«دخل السجانون إلى مهجعنا في سجن حلب، وطلبوا من الجميع لملمة أغراضهم، إذ سيفرج عنّا. بعد إخراجنا من المهجع قُرأت قائمة من الأسماء وفجأة وجدنا أنفسنا من بين 16 سجيناً سيُعادون إلى المهجع. قال السجانون أنتم في الدفعة الثانية، فلم نخرج وقتها» يسترجع بكر صدقي، الكاتب الصحفي والمترجم والمعتقل السياسي السابق على ذمة حزب العمل الشيوعي السوري المعارض، ذكريات قاسية عن الظروف التي تمّ فيها تحويله ومعتقلين سياسيين آخرين إلى محكمة أمن الدولة العليا.

نُقل السجناء الباقون من الجناح السياسي في سجن المسلمية بحلب إلى سجن عدرا في شهر نيسان (أبريل) عام 1992، لتتم إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة وتبدأ متاهة جديدة من جلسات المحكمة التي ستفضي إلى سجن بعضهم لسنوات عديدة بعد تلك اللحظات.

في شهر أيار (مايو) عام 1992، نُقل الشاعر والمعتقل السياسي السابق فرج بيرقدار من سجن تدمر الصحراوي سيء الصيت إلى سجن صيدنايا، الذي أُنشئ لتطغى سمعته كمعتقل بالغ السوء على سجن تدمر ذاته، خاصةً في السنوات التي تلت انطلاق الثورة السورية. ومن معتقله الجديد في سجن صيدنايا بدأت رحلة جديد لفرج بيرقدار نحو محكمة أمن الدولة، بعد سنوات قضاها مسجوناً عرفياً بلا محاكمة.

فرج بيرقدار (F. Alesi- Internaz on Flikr)

منذ تلك اللحظات ستبدأ جولات لمحاكمة قرابة 600 معتقل سياسي لم يتم الإفراج عنهم في عفو عام 1991، ليمثُلوا على مدى عام أو عامين أمام محكمة أمن الدولة التي كان يترأسها حينذاك فايز النوري، معلم الرسم من مدينة دير الزور الذي استطاع الوصول إلى حاشية رفعت الأسد، والذي قدّمه سريعاً في حزب البعث نحو مكاتب القيادة القطرية، ومن ثم إلى رئاسة محكمة أمن الدولة عام 1979.

من سجن عدرا كانت سيارات نقل السجناء، التي يُطلق عليها المعتقلون «سيارة اللحمة»، تنقلهم عبر شوارع دمشق التي يمكنهم أن يروا منها القليل عبر فتحات شباكٍ صغير في قفص السيارة التي تحملهم نحو شارع 29 أيار؛ بينما كانت سيارات الزيل العسكرية وأخرى مشابهة لتلك التي في سجن عدرا تنقل المعتقلين من سجن صيدنايا، في منطقة القلمون في ريف دمشق. في إحدى تلك السيارات بدأ فرج بيرقدار بالتنقل بين سجنه ومحكمة أمن الدولة.

«كان يقرأ التهم الموجهة ضدنا بناءً على القانون 304 حسبما أذكر، والذي يجرّم الانتماء لمنظمة سرية هدفها قلب نظام الحكم، وأحال للقانون رقم 306 في قانون الجنايات الذي يشمل القيام بأعمال إرهابية. حاولت مجادلته بأنّ هذا القانون لا ينطبق علينا، صاح بي وقال ‘انقلع’». هكذا يتذكر بكر صدقي أولى لقاءاته بفايز النوري في محكمة أمن الدولة.

كان المعتقلون يصلون في سيارة السجن ويُقادون بجنزيرٍ واحد نحو أدراج بناء المحكمة، التي يصعدون خلالها نحو الطابق الذي يضم شقةً استُخدمت كمقر للمحكمة. في ذلك الصالون، الذي يضم منصة أعضاء المحكمة ورئيسها النوري، يُجمَع المعتقلون في قفصٍ صغير. وعلى الرغم من أنّ القانون الذي أنشأ المحكمة كان قد اعترف بحق المعتقلين في الحصول على محامي دفاع أمامها، إلا أنّ ذات القانون لم يُلزم هيئة المحكمة باتباع قانون أصول المحاكمات السوري، ما يعني عملياً أنّ وجود المحامي في تلك المحاكمات كان بلا أي قيمة فعلية، وأن قرارات تلك المحكمة غير قابلة للاستئناف أو النقض أمام المحاكم الأخرى، ولا سلطة عليها سوى لحافظ الأسد من الناحية القانونية.

«كنت من الأشخاص القلائل الذين ردّ فايز النوري على أسئلتهم. سألته إن كان باستطاعتي أن أكتب مرافعةً للدفاع عن نفسي وأن أضمها لأوراق المحكمة، فوافق النوري بشكلٍ مفاجئ». يقول الشاعر فرج بيرقدار، الذي كتب إحدى المرافعات القليلة التي سُمح لمعتقلٍ أن يقدمها أمام تلك المحكمة الاستثنائية، وكانت ترجمةً لتلك المرافعة قد سُرّبت عبر المحامين الذين أتوا للدفاع عن المعتقلين ونشرت في الصحافة الفرنسية؛ «باسم الحرية، هذه الكلمة الموسيقى، هذه الروح القُدُس، أعلن أن اعتقال أي شخص، سلاحه الكلمة و ليس البندقية، هو بالمعنى الأخلاقي ممارسة إجرامية صافية السلالة، هو خرق لإنسانية الإنسان بإطلاق، قبل أن يكون خرقاً بالمعنى الحقوقي لقوانينه ودساتيره». هذه الكلمات جزءٌ من تلك المرافعة التي انتشرت خارج سوريا بشكل كبير، وساهمت بلفت الأنظار إلى وضعها الاستثنائي وغير القانوني، ليُمنع المعتقلون على إثرها من كتابة المرافعات وتقديمها للمحكمة، التي لم يكن يُسمح في الحديث ضمنها حتى لمحامي الدفاع الذين كانوا يمثلون أمام القاضي مثل المعتقلين، في انتظار الحكم الصادر عن محكمة فايز النوري، قرارات لا يختمها بالصيغة المعروفة عن القرارات القضائية في سوريا «صدر وأفهم علناً»، بل بكلمة «انقلع».

عام 1993 قُبض على الطبيبة والناشطة السياسية تهامة معروف مع زميلات لها بين من كانوا آخر أعضاء حزب العمل الشيوعي خارج المعتقل، وتمّ تحويلهنّ بعد فترة قضينها في سجن دوما للنساء إلى محكمة أمن الدولة العليا.

تهامة معروف خلال مشاركتها في برنامج “يا حرية”- تلفزيون سوريا

وفي أولى جلساتهن أمام المحكمة، وصلت السيارة التي تنقلهن من السجن إلى المحكمة ووقفت في الشارع الفرعي ذاك، وصنع عناصر الشرطة العسكرية طوقاً حول السيارة كي لا يستطيع الأهالي الاقتراب من المعتقلات. نزلن من السيارة وبدأن الصعود نحو المحكمة، وكانت مجموعة من المعتقلين الشباب المشدودين إلى جنزير واحد تنزل أدراج المحكمة بعد انتهاء إحدى جلساتهم هناك. التقى المعتقلون على الدرج، وبينهم بكر صدقي وتهامة معروف، اللذان سيتزوجان بعد سنوات من خروجهما من المعتقل.

بعد محاكمة تهامة معروف بسنوات، سيكتشف دياب سرية، الناشط في مجال حقوق الإنسان، أن سوريا أسوأ بكثير ممّا يتخيل، فقد اعتُقل مع مجموعة كانت قد أسست تجمعاً شبابياً يسمى شمس، اعتقلت المخابرات الجوية هذه المجموعة، وتمّ تحويلها إلى سجن صيدنايا عام 2007، لتمثل أمام محكمة أمن الدولة. «لا زلت أتذكر الطريق من صيدنايا التي نقلونا من سجنها في سيارة اللحمة نحو محكمة أمن الدولة. أتمنى أن أنسى تلك التفاصيل»، وتابع سرّية طالباً مني أن أبدأ مقالتي بشتم فايز النوري، الذي يتذكّره وقد كبر في السن مقارنةً بشهودنا من العقود السابقة، وأدت شيخوخته وأمراضه إلى ضعضعة قدرته على السمع بشكلٍ صحيح أو الرؤية بشكلٍ واضح، ورغم ذلك لم يكن يستقبل المعتقلين بأقل من السباب والشتائم وإثبات الاعترافات التي قدموها تحت التعذيب، ورفض أي طلب منهم بالتراجع عنها.

«عندما قرأ الحكم علينا، لم يقرأه بشكلٍ صحيح، بل خلط أسماءنا وكنياتنا. بعد خروجنا من قاعة المحكمة أتانا ضابط أمن دولة كان حاضراً للمحكمة، وأعاد علينا الأحكام التي لم نكن استطعنا معرفتها في قاعة المحكمة».

تخرج سيارة «اللحمة» عبر شارع 29 أيار حتى تصل إلى ساحة السبع بحرات، ومنها تنعطف يميناً إلى منطقة العدوي نحو طريق دمشق-حمص. على هذا الطريق، بالقرب من بلدة عدرا، يقع سجن عدرا المركزي. أما إذا أردت التوجه نحو صيدنايا فإن السيارة ستتجه عبر منطقة الفيحاء وركن الدين إلى برزة، ومن ثم بلدة التل، لتنطلق على طريق بلدة صيدنايا التي يقع سجن صيدنايا الرهيب قبلها. هي طرق سلكتها تلك السيارات من وإلى محكمةٍ سرقت أعمار وحيوات آلاف السوريين قبل عام 2008. ليس هذا العام هو تاريخ إلغاء هذه المحكمة، بل تاريخ نقل مقرها إلى مكانٍ آخر بالقرب من المجمّع العدلي الجديد على أوتوستراد المزة شمال غربي العاصمة دمشق.

أُلغيت محكمة أمن الدولة في شهر نيسان عام 2011، إلّا أنّ النظام السوري أنشأ محكمة الإرهاب كبديلةٍ عنها بعد قرابة العام، وتمتلك هذه المحكمة هي الأخرى صلاحياتٍ استثنائيةً على غرار ما امتلكته محكمة فايز النوري، وفيها قضاة يصنعون سمعتهم الوسخة هذه الأيام، كي نتذكرهم كما تذكرنا فايز النوري عندما توفي قبل أيام في منزله بدمشق.