تكشفُ لنا مُحاكمة مِيتا في رواية الإخوة كارامازوف ما الذي يعنيه حُكمٌ جائر بُني على قرائن مغلوطة، عندما تدين الشهادات والأدلّة بريئاً أمسى قاتلاً من وجهةِ نظر القانون والمجتمع. لا تتناول رواية دوستويفسكي براءة ابنٍ عاقٍّ اتُّهم بقتل والده، ولكنها تلقي الضوءَ على انقلاب حياة عائلةٍ شكّلها مجتمعٌ أبوي فاسد، راح ضحيته الإخوة الثلاث. إليوشا: الجانبُ الروحيُّ (الديني) الساذج من روسيا، وإيفان: الجانب الفلسفيُّ الفكريُّ المعاصر، وميتا: الجانب الجامح والعنيف. أما الأب كارامازوف فهو طفيليٌّ ارتقى درجات السلّم الاجتماعي مُسلَّحاً بالدناءة، في سبيل تجميع ثروةٍ سيبدّدها على ملذاته ويترك أولاده نهباً لمشاعر متناقضة تصل حدَّ التفكير بقتله؛ إنّه الماضي بكامل تراثه العصيّ على التغيير أو التفكيك.
تطرح رواية الإخوة كارامازوف سؤالاً في غايةِ الأهميّة: كيف نستطيع تكوين «حُكْمٍ» ما حول مسألةٍ في غايةِ التعقيد تختلط فيها الرغباتُ والأهواء؟ كيف نستطيعُ إطلاق حكمٍ على ظاهرٍ لا يشي أبداً بالجوهر؟
تكشف إحدى فصول الرواية رغبة إيفان الابن الأوسط لكارامازوف بقتل أبيه، حاله كحالِ أبناء المجتمع الروسي الذين اعتملت في صدورهم تلك الرغبة، فمن قتلَ الأب يا ترى إذا لم يكن ميتا قد فعلها؟ يُشبّه مُحاميا الدفاع والادّعاء روسيا بعربة الترويكا في مرافعتيهما، وكلاهما يعتقدان أن حكم المجتمع على عائلة ميتا هو من سيدفع عربة الترويكا نحو مستقبلٍ عظيمٍ أو نحو الهاوية. فالمسألة لا تتعلق بمجرد جريمة، بل إنه حكم المجتمع على ذاته وعلى مساره الأخلاقي. لذا، نحنُ نعلم أن العائلة هي من تقود عربات الدول، وأن الأب في عربتنا نحنُ السوريين كان سبباً في انفلات عجلاتها، ابتداءً من الأب القائد للمجتمع وصولاً إلى الأب في أصغر عائلة.
* * * * *
يَنبعُ الحُكْم من الاختلاف، فهو صادرٌ عن وقَائعَ اختلف عليها الناسُ خلافاً شديداً ولم يهتدوا إلى علّتها، «فالله يَحكمُ بينهم يوم القيامةِ فيما كانوا فيه يختلفون» (سورة البقرة). ثم يأتي الحُكمُ بمعنى تقييم ظاهر الأشياء: «وقال الله: ليكن نور، فكان نور * ورأى الله النور أنه حسن» (سفر التكوين، الإصحاح الأول). ثم أطلق الشيطان حُكمَه على الإنسان: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» (الأعراف). ثم عرفت الملائكة جوهر الإنسان فأطلقت حكمها عليه: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة). يتداخل معنى الحكم في «الحاكمية»: سلطة الثواب والعقاب، مع الحكم بمعنى المعرفة، ففي معجم الوسيط يأتي تعريف الحكم: المعرفة والتفقه. ويرتبط الحكم ارتباطاً وثيقاً بتكوين الرأي، فلا يُمكننا إصدار حكمٍ حول مسألةٍ ما، دون تكوين رأيٍ حولها. فالحُكْم كما يرى كانط في كتابه نقد العقل المحض هو التمييز المنطقي بين الأشياء، ويختلف الحكم عن الإدراك الذي هو تمييزٌ طبيعيٌ للأشياء، فالتمييز المنطقي يختص به الإنسان وحده ويجعله قادراً على أن يتخِذ من تصرفاته موضوعاً لتفكيره. وهو يرى أن الاختلاف الجوهري بين الكائنات العاقلةِ وغير العاقلة يرجِع إلى مَلَكَةٍ تجعل من الحُكْم ممكناً.
يجد ك، بطل رواية المحاكمة لفرانز كافكا، نفسه أمام دوامةٍ من القوانين والأنظمة والجلادين الذين يحاكمونه، فينصحه محاميه بأن يتكيف مع الأوضاع القائمة ويتجنّب انتقادها. وعندما يتوجه إلى قسيس السجن سائلاً إياه النصح، يأمره بأن لا يطرح سؤالاً عن الحقيقة: «لأنه ليس من الضروري قبول أيّ شيءٍ بوصفه حقيقة، على المرء أن يقبل كل شيء بوصفه ضرورة». يقول ك: «إنه لاستنتاجٌ كئيب يجعل من الكذب مبدأً عاماً».
كان الكذب مبدأً عاماً في سوريا، مارسناه أمام دوامة الأنظمة والقوانين ورعب الأفرع الأمنية التي كانت تحاصرنا في كل مكان. كان الكذب سبيلاً وحيداً للنجاة من قسوة آبائنا الذين قهرهم النظام خاصة منذ تولي حافظ الأسد للسلطة، حيث تحولت العائلة في عهده إلى مجرّدِ شيءٍ مسحوقٍ لا قُدرة لأفرادها على إصدار الأحكام. فالحَسَن والسيّئُ تقرره السلطة، ولا اعتراض على حكمها حتى لو رأت في الجريمة والقمع مسألةً حسنة. تحول الأب «الراضخ» استُخدم مصطلح الإنسان الراضخ في كتاب «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور» للدكتور مصطفى حجازي.إلى أداة قهر في العائلة، وغاب دور المرأة بالكامل عن المجتمع، وتحولت فيه أيضاً إلى «راضخة» لسلطة الأب والأخ والزوج. خلقَ ذلك الوضعُ جيلاً كاملاً غير قادر على إصدار أحكامه، وكان أسيراً لسلطة النظام الأمني وسلطة الأب في العائلة.
شهدت سنوات ما قبل الثورة متغيراتٍ سياسية وديمغرافية وحتى تكنولوجية، أتاحت أمام شريحةٍ واسعة من الشباب تكوين أحكامهم الخاصة، والخروج بداية عن سلطة الأب والعائلة، وهو ما كان من بين الأشياء التي مهدت لاندلاع الثورة، حيث اشتعل الصراع ضمن العائلة الواحدة، وبدأ سوريون كثيرون بتكوين آرائهم وإطلاق أحكامهم النابعة من انتمائهم الفكري والإيديولوجي والعقائدي، وحتى الطبقي والاثني. وقد حملت بدايات الثورة نقاشاتٍ حادة حول طبيعة التغيير القادم، إذ شهد اعتصام دوما الأول مثلاً، الذي شارك فيه عدد كبير من طلاب الجامعات من مختلف المدن والمناطق السورية، جدلات ٍحول طبيعة المطالب التي يجب أن تُقدَّم للنظام، وتشكلت مجموعات ناقشت مطالب رفع حالة الطوارئ وإلغاء المادة الثامنة من الدستور. كما شهدت مدينة درعا ذروة الانشقاق العائلي بعد دعوة القصر الجمهوري لاجتماع مع وجهاء درعا، وذلك بعد حدوث عدة مجازر في المحافظة. سافر إلى دمشق وفدٌ مؤلفٌ من كبار ووجهاء المدينة، والتقوا بشار الأسد الذي وافق على جميع مطالبهم بما فيها خروج جميع الأفرع الأمنية من درعا وعودة الجيش إلى الثكنات. سرى الخبر كالنار في الهشيم بين شباب درعا البلد، وخلال انتظار عودة اللجنة امتلأت ساحة التظاهر بالشباب. صعد ممثل اللجنة على خشبة مسرح نُصِبَت أمام المسجد، ثم تحدَّثَ عن تفاصيل الاجتماع وعن نتيجة المفاوضات، فاعترض المتظاهرون على التفاوض مع النظام، وخرج متحدثٌ باسمهم قائلاً إن أحداً لم يفوّض اللجنة، وإنهم فيما لو قبلوا مطالب النظام بتوقف المظاهرات فسوف تنتهي الثورة، وكانت تلك المرة الأولى التي يهتف بها مئات من المتظاهرين الشباب: الشعب يريد اسقاط النظام.
تُلخّص تلك الحادثة طرفي الصراع في العائلة، حيث مثلت سلطة الوجهاء والآباء والكبار في السن طرفاً مهادناً للسلطة، فيما كانت فئة الشباب رافضة لأيّ شكلٍ من أشكال بقاء السلطة بشكلها القديم. وهناك حادثةٍ أخرى في سياق مشابه أيضاً، شهدت تنحياً للسلطة الدينية بشكلها التقليدي أمام الأحكام التي بدأ الشباب يصدرونها حول طبيعة وشكل الثورة، حين سُئل الشيخ أحمد صياصنة عن رأيه في التظاهر ضد النظام، فأجاب قائلاً: هذه ثورتكم فلتمضوا فيها مباركين.
على مستوى النظام أيضاً كان هناك خلافات حول كيفية مواجهة الوضع، إذ انكسرت قاعدة «نفّذ ثم اعترض» التي كانت تسود النظام كمنظومة عائلية، وظهرت أحكام أخرى مختلفة داخل بنية النظام بشأن الكيفية الملائمة لقمع الثورة، وربما بشأن مستوى التغيير المطلوب. ويبدو أن النظام انقسم إلى فريقين متنازعين، ليبلغ هذا الخلاف ذروته مع تفجير خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي في تموز (يوليو) 2012، الذي يبدو أنه أسفر عن إنهاء الانقسام بقتل رؤوس أحد الفريقين، إذ لم يكن مسموحاً لأحد داخل النظام أن يمتلك رأياً آخر أو أحكاماً مختلفة عمّا يراه هرم السلطة.
بدا في ذلك الوقت أن البلد يعيش محاكمةً كبيرة على كافة مستوياته، تُكال فيها كل أنواع الاتهامات، وبدا أن هيبة النظام كـ «منظومة عائلية» تتعرض للتصدع والاهتزاز، ولعلّ هذا ما دعا كثيراً من الموالين للنظام إلى استعادة صورة حافظ الأسد كأب قوي كان يمكن له أن يحفظ العائلة لو كان على قيد الحياة.
وقد شهدت أغلب العائلات السورية انقسامات حادة في آرائها حول الثورة، وهو أمرٌ عايشته في عائلتي التي انقسمت على نفسها حين رأى بعض من أفرع العائلة الكبيرة أن الثورة هي أحد أسباب تدمير الوطن، وأن الخيار السياسي الأوسع لاصطفاف سوريا الجيوسياسي أهم من المطالب الاجتماعية والسياسية التي نادت بها الثورة. ستحدث انقسامات مشابهة لدى كثير من العائلات السورية، وستتخذ الجدالات الحادة في العائلة الواحدة طابعاً ترافعياً، وستنكأ الخلافاتُ الثوريةُ الخلافاتِ العائلية، وتتحول الثورة إلى ساحة لتصفية الخلافات العائلية، إما بالتموضع فيها أو من خلال الاصطفاف في الطرف المضاد. لقد خلقت الثورة في بداياتها واحداً من أكبر الأمثلة عن فقدان مركزية العائلة، وهي ردة فعل طبيعية بعد سنوات طويلة من سيطرة منظومة أبوية وسلطوية في المجتمع، وهي أيضاً أحد أهم الأسباب في غياب المركزية في الثورة كقيادة. ستشكل الثورة في مرحلتها الأولى واحدةً من أكثر التجارب فرادة في تغيير شكل المجتمع، حيث انخرط آلاف من الشباب في محاولة لتشكيل عقد اجتماعي جديد أساسه الكفاءة والفاعلية والانتماء والإيمان بفكرة العدالة والحرية.
قُبيلَ نهاية العام الأول للثورة ستبرز معضلة أخلاقية، وستنقسم الأحكام حولها. كانت مسألة حمل السلاح غاية التعقيد، ومنذ تلك اللحظة ستتخذ مسألة الأحكام بُعداً جديداً في المعضلة السورية، إذ كيف يمكن الحُكم على قضية القتل في سبيل الدفاع عن النفس؟ ستبدو هذه الفكرة في غاية التطرف بالنسبة لشريحة آمنت بالعمل السلمي حتى النهاية، فسلمية الثورة شكلت جزءاً أساسياً من تكوينها ونجاحها من جهة، ومن جهةٍ أخرى مثّلَ العنف المفرط للنظام تجاه بيئات أهلية بعينها مسألة لم تعد معها قدرة على مواجهتها بشكلٍ سلمي. ومع بروز السلاح في الثورة السورية سُمِحَ لأطوار العنف التقليدي بالعودة، لتتخذ الانقسامات الأخلاقية والأحكام منحىً جديداً، وتحدث المواجهة بين القوى التقليدية التي حاولت استخدام السلاح تبعاً للانتماء العائلي والعشائري بهدف فرض السيطرة، وبين القوى التي آمنت باستخدام السلاح في سبيل الدفاع عن النفس. شهدت غوطة دمشق ومدينة حلب بعضاً من أكثر الساحات تجسيداً لذلك الصراع. ففي حلب، التي قام عدد كبير من الضباط الشباب بتحرير جبهات فيها بالتعاون مع القوى المدنية والثورية، ستتحول تلك الجبهات نفسها مكاناً لتصفيتهم. بعدها برزت مرحلة «الحجّي» التي شكلت عودة شكل السلطة التقليدي، وينطبق ذلك على الغوطة الشرقية أيضاً، إذ انقلبت مجموعة من القوى التقليدية الدينية التي تشكلت، مثل جبهة النصرة وجيش الإسلام، على المجموعات الشابة المؤلفة من ضباط وصف ضباط وشريحة واسعة من الشباب المتظاهرين المنخرطين في حمل السلاح.
شهدت الثورة انقساماً يذكّر بالانقسام الذي شهده النظام حول الطريق الأفضل للتعامل مع الوضع المتفجّر، وربما تكون عملية «ساعة الصفر» لحظة فارقة على جبهة الثورة كمان كان تفجير مبنى الأمن القومي لحظة فارقة على جبهة النظام، وذلك عندما عزمت كثيرٌ من الفصائل على تنفيذ خطة تشمل دخول دمشق من عدة محاور، بهدف نقل المعركة إلى معقل النظام وإنهائه بالكامل. عند تلك اللحظة ستنقلب المنظومة التقليدية على عمل الفصائل عبر الانسحاب من العملية، وترك عدة فصائل صغيرة تتورط بالدخول إلى دمشق. أعلنت يومها الجبهة الإسلامية (التي كان جيش الإسلام منضوياً فيها) تكفير الجيش الحر، والقتال تحت راية لا إله إلا الله.
برزت مسألة الهوية الدينية كمسألة ملحة في تحديد شكل وطبيعة الثورة، وعند هذا الطور اشتدَّ الانقسام العائلي داخل وخارج الثورة. فمع تمظهر المشروع الإسلامي اتخذ الانقسام مجرىً حاداً في مساحات الثورة، فالعائلات التي يشكل الإسلام خلفيتها الفكرية سوف تقف أمام سؤالٍ أخلاقيٍّ وعقائدي بخصوص مشروع «الحاكمية» الذي نادى به الإسلاميون. سيزداد الشرخ في العائلة الثورية، وسنجد إخوة ينتمون إلى تيارات إسلامية مختلفة، وستحصل العديد من الاصطدامات في ساحات الثورة، وسيعني صعود الإسلاميين عودة السلطة المركزية الأبوية من خلال حكم المشايخ والمفتين. ستأخذ سلطة «الأمير» مكان سلطة «الأب»، وسيُفتي للناس بشأن ما هو واجب وما هو غير واجب.
هكذا برزت مسألة الفتوى كملمح في تحديد شكل السلطة وإصدار الأحكام، فقد شهد قتال «إخوة المنهج» سيلاً من الأحكام والفتاوى الشرعية المستندة إلى القرآن والسنة في سبيل تحديد شكل الحاكمية. كما برزَ التكفير كحُكْم قاتل في المعارك الحادة التي شهدتها ساحات الثورة. مثّلَت الفتوى عقدة أمام آلاف من الشباب الذين لم يعد لديهم قدرة على تكوين أحكامهم الخاصة التي نشطت في بداية الثورة، وذلك أمام سلطة الفتوى التي لا يمتلكها إلا أولو الأمر والشرعيون. سيأخذ الشرعي مكان الأب في هذه المنظومة، فهو من يقرر الحرام والحلال، والشرعيُ عند داعش هو من أفتى بقتال جميع فئات المجتمع السوري. هكذا تورط الآلاف من الشباب، ممّن خرجوا في بداية الثورة كمتظاهرين يطالبون بالحرية والعدالة، في سفك دماء أصدقائهم وشركائهم في الثورة. في تلك الفترة سيطرت «المرحلة الشرعية» على جميع مفاصل الحياة في مناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
هكذا وجد كثيرون من الأصدقاء، الذين كانوا يقاتلون في الخندق نفسه، أنفسهم في معارك دامية ضد بعضهم بعضاً، ابتداءً من خطوط القتال العريضة وصولاً الى المساحات العقائدية والفكرية. سقط مئات وربما آلاف الناشطين والمقاتلين في هذه المعارك دفاعاً عن أحكامهم الخاصة، وأبيدت عائلات كاملة لأنها أصدرت أحكامها حول خطورة الفتوى والجهاد.
دفع آلاف الناشطين والمقاتلين حياتهم ثمناً لأحكامهم التي واجهت أحكام التكفير والتخوين، وسيبدأ إخوة المنهج بتصفية هؤلاء الناشطين والمقاتلين، تماماً كما عمد النظام إلى تصفيتهم في بداية الثورة عن طريق الاعتقال أو الاغتيال المباشر مثلما حدث مع الشهيد معن العودات في بداية الثورة. في حلب، ستقوم داعش بنصب حاجز قرب مشفى الأطفال في حي الشعار وتصفية عشرات الناشطين والمقاتلين فيما سيعرف لاحقاً بمجزرة مشفى الأطفال.
في دول الجوار والمنافي خلقت الثورة مجتمعاً لها، وبرزت معضلات أخلاقية حول عمل منظمات المجتمع المدني. حلت بعض المنظمات محل السلطة الأبوية المركزية في تحديد ما هو حسن وما هو قبيح، وتراجعت قدرة كثيرين على إطلاق الأحكام لصالح التمويل والدعم. وحتى الساحة الفنية التي اكتسبت في بداية الثورة قدرة على التحرر من السلطة الأبوية المركزية، عادت لتكون واحدة من أكثر الساحات مركزية وأبوية في تعاطيها مع القضايا الثورية، حيث سيعود الفن والأدب إلى نوع من التنميط الذي يستغل الشعارات الأساسية للمأساة، دون أن يكون لديه أي قدرة على تكوين أحكام خاصة حول طبيعتها المعقدة، ولا تقديم وجهة نظر جديدة حول طبيعة ما حدث. سيبدو النقد وإطلاق الأحكام المختلفة حول صوابية قضية ما كما لو أنه مساسٌ بمقدس، ليعود المقدس الثوري إلى الواجهة كنوع من أنواع السلطة التي لا يمكن معها تكوين أحكام خاصة، إذ سيصبح إطلاق أحكام ناقدة حول بعض المنتجات الثقافية والفنية مسألة محرمة ثورياً.
مع الخسارة الكبيرة التي لحقت بإمكانية إصدار الأحكام كنوع من المعرفة خلال السنوات العشر الماضية، عاد العنف المجتمعي الموجه ضد النساء والفئات الضعيفة إلى الواجهة، كما لو أننا عدنا بالزمن الى ما قبل عام 2011 حين كانت الانتهاكات تحدث على نطاق واسع وتحرم الفئات الضعيفة من النساء والأطفال حقوقهم. هناك فارقٌ بسيطٌ الآن، هو ارتفاع بعض الأصوات التي تطالب بوضع حد لهذه الانتهاكات، لكن الكذب عاد ليكون مبدأً عاماً أمام أنواعٍ مختلفةٍ من السلطات التي تُقيّد قدرتنا على الفهم وتكوين أحكامنا الخاصة. حتى في دول اللجوء، وجدنا أنفسنا أمام مجتمعات لا ترغب بأكثر من ممارسة الطبطبة على المأساة السورية، وهو ما يعطّل بدوره إمكانية تكوين الأحكام الخاصة. لقد خلقت الثورة مأزقاً وجودياً ما زلنا نحاول التخلص منه، حتى أنه يبدو من المرهق الآن إطلاق الأحكام على الذات أو على الآخرين.
أصدر المجتمع الذي تكونت منه هيئة المحلفين حكمه على مِيتا بأنه مذنب في الإخوة كارامازوف؛ يعنون دوستويفسكى هذا الفصل من روايته: «هكذا انتصر فلاحونا». هكذا ينتصر المجتمع الأبوي رغم الهزات العنيفة التي يتعرّض لها، فهو مجتمع راسخ الأركان يمتد في جميع أنحاء العالم كما لو أنه طيطان أسطوري متعدد الرؤوس.