في مقال ريثما لا تتغير الآلهة لسانتياغو آلبا ريكو (ترجمه عن الإسبانية ياسين السويحة)، يقول الكاتب إننا «لو أردنا فعلاً حماية الديمقراطية، فمن الضروري ألّا نتوهم أي عدالة في منطق الامبراطوريات». ليس لديَّ ما أقوله اعتراضاً على هذه الخلاصة، ولا على القول «إننا نساهم في تأخير العدالة» عندما ننحاز إلى إحدى الامبراطوريات متوهمين أنها أكثر عدالة من الأخرى. لكن مع ذلك، ورغم الاتفاق التام مع هذه المقولة، تُرى ما الذي نفعله عندما يتصارع فيلان «امبراطوريان» في غرفتنا؟ خاصة عندما لا يكون لدينا غرفة غيرها.
قد يبدو هذا سؤالاً بالغ الخصوصية، إذ ينطلق من لحظات حرجة كتلك التي تعيشها أوكرانيا اليوم، حيث لا تملك أي جهة سياسية هناك أن تنأى بنفسها عن الانحياز لروسيا أو الولايات المتحدة. وطبعاً، يمكن لأي تيار أو شخص في أوكرانيا أن يقول إنه لن ينحاز إلى أي من «الامبراطوريتين»، أو أن يسعى إلى سياسة خارجية أوكرانية مستقلة عن روسيا وعن حلف الناتو في الوقت نفسه، لكن هذا الموقف يعني، ظرفياً على الأقل، الامتناع عن أي فعل سياسي مؤثر في اللحظة الراهنة. وفي الواقع، إن الكفاح الأوكراني ضد الهيمنة الروسية كفاح عادل، لأن روسيا تسعى إلى حرمان الشعب الأوكراني من حقه في تقرير مصيره بهدف الحفاظ على أمنها «الامبراطوري»، وهو يبقى كفاحاً عادلاً حتى عندما يقود أصحابَه إلى الاندراج في حلف الناتو الذي يدافع بدوره عن أمنه «الامبراطوري»: حتى إذا لم تكن المقاومة الأوكرانية للهيمنة الروسية مبنية على افتراض أن المنطق الامبراطوري الأميركي أكثر عدلاً، بل وحتى إذا تمّت مقاومة الهيمنة الروسية دون أي مساعدة أميركية-أوروبية، فإنها ستصبّ ظرفياً في صالح المنطق الامبراطوري الأميركي.
أيضاً، قد يبدو السؤال عن الفِيَلة التي تتصارع في «غرفتنا» سؤالاً سورياً صرفاً، إذ تحضر دول إقليمية وعظمى عديدة في سوريا بجيوشها وأتباعها، ويبدو مستحيلاً على أي طرف سوري أن يحافظ على وجوده دون الاحتماء بإحدى القوى الأجنبية ذات المنطق الامبراطوري. لكن رغم أن السؤال يبدو مرتبطاً بأوضاع استثنائية كما هو حال أوكرانيا وسوريا، إلا أنه يتجاوز زماناً معيناً في مكان معين، وذلك لأن الجميع مُعرَّضون في كل وقت للوقوع في أوضاع قصوى كهذه، ولأن المنطق الامبراطوري يحكم سياسات الدول العظمى تجاه جميع القضايا العالمية، بل وسياسات دول أقل نفوذاً مثل تركيا وإيران بمطامحهما الامبراطورية.
والمنطق الامبراطوري، كما عرّفه بيركليس في إحدى خطبه أثناء الحرب بين أثينا وإسبارطة، يقول إنه لا مكان للحديث عن العدالة والديمقراطية عندما تكون الامبراطورية في مواجهة امتحان البقاء. يشرح سانتياغو آلبا في مقاله كيف تم دفع هذا المنطق إلى أقصاه في سياق الحرب الباردة، ثم كيف أننا نعيش اليوم في إطار جيوسياسي «لا مكان فيه للديمقراطية والعدالة، ولا حتى على سبيل البروباغندا». هكذا يبدو أن المنطق الامبراطوري الراهن يعيش دائماً في امتحان بقاء، بحيث لا يجد أصحابه حرجاً في احتقار الديمقراطية والعدالة في كل وقت. ولهذا فإن إقامة العدل ونشر الديمقراطية ليست ممّا يمكن الرهان على الامبراطوريات لإنجازه، بل هي ممّا يجب أن نكافح لأجله نحن المواطنون، و«هذا يقتضي الضغط على الأطراف، دون بناء أي أوهام حول منسوبها السياسي والأخلاقي» على ما يقول سانتياغو آلبا في مقاله مُحقّاً.
ولكن كيف يمكننا فعل هذا بينما لا تترك الدول «الامبراطورية» مساحات فارغة في أي مكان؟
لدينا تجربة عملية في سوريا عندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع مطالبين بالحرية والعدالة، وتم إدراجهم رغم أنوفهم في سياق محاور وصراعات جيوسياسية كبرى. اتهمهم النظام بالتآمر لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وأمعنَ في حفلة القتل والتعذيب الرهيبة حتى حملت مجموعات من السوريين السلاح، للدفاع عن النفس في البداية ثم بهدف حسم المعركة. استعان نظام الأسد بإيران وروسيا، فيما استعان خصومه ومنافسوه على السلطة، الذين صاروا فصائل وتنظيمات متنوعة ومتصارعة أحياناً، بتركيا ودول خليجية وغربية. هكذا جاءت «الامبراطوريات» الكبيرة والصغيرة كلّها إلى بلدنا لتُدافع عن «مصالحها الجيوسياسية»، فساهمت في جعله مسرحاً مفتوحاً لاحتقار العدالة، بل وجاءت معها أطياف امبراطوريات مندثرة، حتى أن تنظيماً إجرامياً مثل داعش أعلن عودة الخلافة الإسلامية من الأراضي السورية.
ولكن ما الذي قاد إلى هذا الجحيم في سوريا؟
طبعاً لدى أنصار المنطق الامبراطوري الروسي الواثق من نفسه جواب جاهز: السبب هو المطالبة بالديمقراطية في بلد يعيش ظروفاً جيوسياسية غير ملائمة، والظروفُ غير الملائمة المقصودةُ هنا هي الخطر الداهم الذي يتمثّل في أن يصبح البلد حليفاً للدول الغربية. وهناك أجوبةٌ أخرى كثيرة تفوح منها رائحة الجيوسياسة والامبراطوريات، أغلبها يتعلّق بإسرائيل وتأثيرها على مآلات الأمور في البلد. وقد تحتمل أيٌّ من هذه الإجابات قليلاً أو كثيراً من الصواب إذا كان القصد منها تفسير ما حصل (الحفاظ أمن إسرائيل مثلاً كان على الأرجح عاملاً حاسماً في كل التفاهمات الروسية الأميركية بشأن سوريا)، لكن أصحاب المنطق الإمبراطوري لا يستخدمون هذه الإجابات للفهم والتفسير، بل لإلقاء اللائمة على أولئك الذين لم يدرسوا علوم الجيوسياسة جيداً قبل أن يطالبوا بحقهم في أن تتوقف عائلة الأسد ومحاسيبها عن نهبهم وإذلالهم. بالنسبة لبعض هؤلاء، يتم إخراج الطغيان والقمع والنهب من دائرة الأسباب التي قادت سوريا إلى هذا المصير، لتصبح المشكلة كلّها في خيارات وسلوك أولئك الذين تمردوا على هذه الأوضاع.
بعيداً عن الإجابات السابقة، ثمة إجابات أخرى متنوعة يحاول أصحابها تفسير ما حصل في سوريا، بعضها يُحيل إلى مشكلات في التكوين التاريخي للبلد، وبعضها إلى مشكلات في الثقافة السياسة السورية، وبعضها إلى تخلّي الثوار عن الكفاح السلمي ورهانهم على السلاح. ومن بين الإجابات الرائجة واحدةٌ تقول إن الخطأ كان في رهان المعارضين على مساعدة غربية، أي في الرهان على أن المنطق الامبراطوري سيدفع الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تدخّل حاسم ضد النظام وحلفائه.
وبالفعل، كنّا نقول إن «العالم» لن يتخلّى عنا، وكان «العالم» المقصود طبعاً هو أوروبا والولايات المتحدة وحلفاؤهما في المنطقة. لكن هل كان هذا رهاناً على عدالة كامنة في المنطق الامبراطوري الأميركي؟
في الحقيقة، كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض المعارضين والثائرين فقط، فيما كان التصوّر العام الأكثر شيوعاً يفترض أن المصالح الغربية في مواجهة روسيا وإيران ستدفع الولايات المتحدة وحلفاءها إلى التدخل، وأن هذه المصالح ستكون مدعومةً برأيٍ عامٍ نشط مناهض للطغيان في الدول الديمقراطية. سنعرف لاحقاً بأسوأ الطرق أن هذا التصوّر لم يكن صحيحاً، ولكن بصرف النظر عن هذا: ترىُ هل كان رهان خصوم النظام على مساعدة غربية واحداً من بين خيارات متعددة يمكنهم أن يختاروا بينها؟ وهل كان في وسع المعارضين السوريين ألاّ يراهنوا عليها فتنتهي المسألة عند هذا الحد؟ أخشى أن الأمر لم يكن كذلك في أي وقت، وأنه لم يكن هناك طريقة لتجنب الرهانات المتبادلة على دعم قوى خارجية سوى أن يسير النظام في عملية انتقال ديمقراطي تعفيه وتعفي خصومه من سفك الدماء، وهو ما لم يحدث.
وبعد ذلك، بعد أن جاءت التدخلات الأجنبية إلى سوريا وصارت أمراً واقعاً، ترى أين يقع الخط الفاصل بين الرهان على امبراطورية يمكن أن تدفع بعض الأذى عنا، وبين الرهان المُضلِّل على عدالة لا وجود لها في المنطق الامبراطوري؟ هل ساهمنا في تأخير العدالة عندما راهنّا على ضربات غربية بعد أن ارتكب النظام مذبحته الكيماوية في غوطة دمشق عام 2013؟ أم أن الذي داس العدالة هو الاتفاق الروسي الأميركي الذي اكتفى بخطة غير مضبوطة لسحب سلاح النظام الكيماوي، وسمح له بمواصلة حربه بسائر الأسلحة الأخرى بما فيها معسكرات الموت تحت التعذيب في صيدنايا وغيرها؟
في هذه الحكاية الكئيبة، يظهر المنطق الامبراطوري المناقض جوهرياً للعدالة والديمقراطية، وتظهر معه صعوبة الكفاح لأجل العدالة بينما يهيمن المنطق الامبراطوري على الخطاب والعمل السياسيَين في كل مكان من العالم، إذ شهدت سوريا حروباً طويلة متداخلة وانتهاكات وجرائم واسعة، برعاية «امبراطورية» من دول عديدة عظمى وإقليمية. لكن هذه الحكاية الكئيبة ليست حكاية سوريا وحدها، بل هي في بعض وجوهها حكاية عالمنا كلّه في الظروف الراهنة، حيث لا مساحات فارغة من الحضور الامبراطوري الطاغي، وحيث يصير العالم قرية ضيّقة بدل أن يصير قرية صغيرة وفقاً للتعبير الرائج.
في ملحمة الإلياذة، التي يُرجَّح أن هوميروس كتبها قبل الحرب بين أثينا وإسبارطة وخطاب بيركليس بعدة قرون، لم تكن الآلهة تكفّ عن التدخل وفرض إرادتها لتغيير مجرى الأحداث في حرب طروادة، ولم يكن المتحاربون يستطيعون مواصلة الحرب دون استجداء مساعدة الآلهة بين وقت وآخر. يبدو أن المنطق الامبراطوري الراهن عالقٌ هناك، حيث لا مساحات ممكنة للعمل السياسي والكفاح من أجل التغيير دون الخضوع للامبراطوريات ومنطقها ومصالحها. وبالفعل، لن تتغيّر الآلهة الامبراطورية «ما لم نضع، نحن الضحايا، عثرات في طريقها» كما يختم سانتياغو آلبا مقاله. ما يسعني أن أضيفه هو أن ما جرى في سوريا وبلدان كثيرة غيرها، وما قد يجري في أوكرانيا، يخبرنا أننا نحتاج حراكاً عالمياً واسعاً عابراً للحدود، يفرض نفسه على الامبراطوريات ومنطقها، ويقدم عوناً حقيقياً ملموساً لمن يجدون أنفسهم عالقين في غرفتهم مع فيَلة متصارعة. بدون تحالف عالمي واسع وفعّال كهذا، الأرجح أن الآلهة لن تتغير، وأن العالقين سيجدون أنفسهم مِراراً مضطرين للاحتماء بأحد الفِيَلة.