مازالت نهلة ترفض إلى الآن إخبار عائلتها عمّا تتعرّض له  من عنف على يد زوجها، كي لا يلجأ شقيقها إلى ضرب زوجته، كنوع من رد الاعتبار المفترض حدوثه في حالات «زواج البدل». أجبرت نهلة على هذا النوع من الزواج عندما كانت تبلغ من العمر 17 عاماً فقط، بعد أن أراد شقيقها الزواج بإحدى الفتيات في المخيم، بلا أي تكاليف مادية؛ مقابل أن يقوم بتزويج شقيقته من أخ الفتاة، لتدخل نهلة فصولاً جديدة من الألم والعذاب، إذ أُرغمت على الزواج من رجل متزوج في الأصل، ويكبرها بحوالي عشرين عاماً.

حكاية نهلة ليست إلا واحدة ضمن حكايات كثيرة لنساء وفتيات  أجبرن على «زواج البدل»، فوقعن ضحية العنف أو الطلاق، نتيجة ازدياد حالات هذا النوع من الزواج بين النازحين في مناطق سورية مختلفة بشكل عام، وفي محافظة إدلب بشكل خاص، سيّما خلال السنوات الأخيرة.

تقوم فكرة «زواج البدل»، أو «زواج الشغار» كما يُعرف أيضاً، على مبدأ التبادل، فيزوِّج الأب ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، أو يزوِّجه أخته على أن يزوجه الآخر أخته، بحيث يسقط حق المرأتين بالمهر أو بالموافقة التامة على الزواج. وإذا تمّ هذا الزواج، فإن مستقبل نجاح إحدى الزيجتين يظل مرهوناً بنجاح الأخرى، دون أي اعتبار لعواقب الانفصال والطلاق بين الزوجين وتشتت الأبناء.

ولا تقتصر آثار هذا الشكل من الزواج المُجحفة على ذلك فحسب، بل تتعداه إلى تعرّض العديد من النساء والفتيات للعنف والأذى البدني، والذي قد يصل في بعض الأحيان حد القتل، إضافة إلى أنه يحرم النساء بشكل عام من حقهنّ في الاختيار، ويفرض عليهنّ الزواج في سن مبكر.

بدأ «زواج البدل» أو «نكاح الشغار» عند العرب قديماً في الجاهلية، وهو من الزيجات «غير الجائزة» في الإسلام، يُستشهد بذلك بما رواه مسلم عن ابن عمر نقلاً عن النبي محمد، الذي نهى عن هذا الزواج، إذ: «لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوج الرجل ابنته، على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق». وقد سُمي هذا الزواج شغاراً أخذاً من قولهم: «شغر البلد من السلطان، إذا خلا عنه، وهذا الزواج قد خلا أيضاً من المهر، فأشبه البلد الشاغر من السلطان».

وفي حين تقرّر بعض المذاهب الفقهية الإسلامية بطلان هذا الزواج لثبوت النهي عنه وخلوه من المهر، ترى مذاهب أخرى أنه جائز في حال ثبت لكل واحدة من المرأتين مهران وعقدان خاليان من التشارط أو المقايضة.

ويعتبر «زواج البدل» ظاهرة قديمة في المجتمعات السورية، حيث تركزت في المناطق الريفية السورية قبيل عام 2011، وخاصةً في  المناطق التي تهيمن فيها الأعراف العشائرية والعلاقات القبلية. علاوةً على ذلك، تبيّن بعد سؤال 4 من السوريين تتراوح أعمارهم ما بين 50-70 عاماً، من مناطق مختلفة من سوريا (مثل أرياف دمشق وإدلب ودرعا وحلب)، أنّ حالات من هذا الزواج كانت تحصل، وإن بنسبة قليلة مقارنةً بما أصبحت عليه بعد العام 2011، حيث كان يُعرف بين الأهالي باسم زواج «البدل» أو «المبادلة»، وليس «الشغار». وتركز انتشاره في مناطق مثل أرياف دمشق (الغوطة الشرقية وجنوب دمشق)، بالإضافة إلى ريف إدلب وحلب، وصولاً إلى مناطق شمال شرق سوريا.

أخذت هذه الظاهرة تبرز مرة أخرى اليوم، حيث ساهم كلٌ من الفقر وظروف النزوح، بالإضافة لقلة الوعي المجتمعي والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع السوري، في نمو هذه الظاهرة في مناطق مختلفة في سوريا، على اختلاف القوى المسيطرة عليها. لكن يبدو أنها برزت بشكل أكبر ضمن النازحين، وخاصةً في المخيمات الواقعة في ريف حلب الشمالي (مثل مخيمات إعزاز والباب) وتلك الواقعة بريف إدلب الشمالي (مثل المخيمات الواقعة على الحدود السورية التركية كمخيمات حارم)، حيث يُقدم العديد من النازحين على زواج البدل نتيجةً لعامل الفقر وقلة الوعي المجتمعي، وذلك حسب ما أخبرتنا به هبة العلي إحدى الناشطات من محافظة إدلب، والتي أخبرتنا:

لا شكّ أنّ هذه العادة تقوم بتسليع المرأة وجعلها ملكاً للرجل، حيث يقوم بإبدالها لأجل الحصول على زوجة له دون مهر. إضافة لذلك فإنه أيضاً يربط الحياة الزوجية للعائلتين ببعضهما، وللأسف لا يوجد قانون في سوريا، باختلاف القوى المسيطرة، يمنع هذه العادة، بل على العكس فإنّ بعض هذه القوى تشجع عليه كنوع من تكريس الذكورية، وفي ريفي إدلب وحلب يتم التغاضي عن الموضوع من قبل الجهات المسيطرة هناك.

قبلت كي لا أخرّب فرحة أخي

لم يكن في حسبان نهلة، كما تكمل قصتها، أن يُقدم شقيقها ووالدتها على ضربها من أجل إجبارها على «زواج البدل»، ما اضطرها في نهاية المطاف للقبول بهذا الزواج رغماً عنها، حيث أخبرتنا:

كان جلّ ما أريده هو متابعة تعليمي لذا رفضت هذا الزواج، لكنني وافقت أخيراً، وتحت الضرب، على الزواج برجل متزوج يدعى جابر، فسكنت في خيمة مجاورة لخيمة زوجته الأولى، وبسبب فارق السن لم يكن هنالك أي تفاهم بيننا، فتفاقمت الخلافات مع مرور الوقت، إلى حد وصل به لضربي لاحقاً.

تسترجع نهلة كيف قام زوجها بضربها ضرباً مبرحاً بلا أي سبب سوى أنه عاد إلى الخيمة وهو غاضب، حيث أقدم على ضربها بيديه، كما استخدم أداة حادة في ضربها على رأسها، ما استدعى لاحقاً نقلها إلى المشفى، حيث روت قائلة:

كنت قد فقدت وعيي من شدّة الضرب والخوف، وعندما أخبرت عائلتي بما حدث، ما كان منهم إلا لومي وتقريعي، حتى أنّ الأمر وصل بشقيقي إلى ضرب زوجته هي الأخرى رداً على ضرب شقيقها لي، وهو ما دفعني لاحقاً إلى كتمان ما أتعرّض له من تعنيف على يد زوجي، حتى لا تتعرّض زوجة أخي للضرب بلا أي ذنب سوى أنها تزوجت مثلي زواج بدل.

أمّا سميحة.م، 25 عاماً، والتي كان زوجها  قد قُتل بقصف جوي على ريف إدلب الجنوبي، ما حملها على النزوح وعائلتها لمخيمات حارم، فقد كانت هي الأخرى ضحية أجبرت على زواج «البدل» من قبل عائلتها، بلا أي سبب سوى أنّ شقيقها أراد الزواج بإحدى النساء في المخيم، مقابل أن يقوم شقيقها بالزواج من سميحة:

في البداية رفضت الزواج به، ثمّ قبلت كي لا أخرّب فرحة أخي، إضافة إلى أنّ الأوضاع المعيشية السيئة التي نعاني منها في المخيم جعلتني أتقبّل هذا الزواج آخر الأمر، وقد كنت بحاجة إلى محرم، وكان لا بدّ لي من اتباع نهج الحياة المفروض علينا كنساء في المخيم. كانت حياتي الزوجية هادئة إلى حد ما في البداية، ورزقنا الله بطفلة فيما بعد.

لم يكن قد مضى على إنجاب سميحة سوى أشهر قليلة حين وجدت نفسها مطلّقة وأم معيلة لطفلة رضيعة، وبلا أي أسباب سوى أن شقيقها أقدم على الطلاق من زوجته لوجود خلافات بينهما، فكان من الواجب أن تتعرّض سميحة للطلاق هي الأخرى كنوع من رد الفعل، حيث علّقت على ذلك قائلة:

تطوّر الخلاف لاحقاً بين العائلتين إلى حد وصل درجة القطيعة التامة، وهو الأمر الذي اضطرني لاحقاً للبحث عن أي مصدر للرزق، كي أعيل طفلتي بعد أن تخلى والدها عنها، فليس بمقدور عائلتي أن تساعدني، ولا سيّما أنهم يعانون في الأصل أوضاعاً مادية سيئة.

تتشابه قصة سميحة مع حكاية لانا.هـ، 20 عاماً، وهي نازحة في مخيمات ريف إدلب الشمالي، حيث وقعت ضحية للعنف الزوجي ثمّ الطلاق بعد أن أرغمتها عائلتها على زواج «البدل» هي الأخرى، حيث  أخبرتنا قائلة:

تزوج شقيقي إحدى النساء في المخيم مقابل أن يزوجوني أنا الأخرى بشقيق العروس، فلم أستطع التأقلم مع زوجي، سيّما أنه كان دائماً ما يضربني لأتفه الأسباب. وأذكر أنه في إحدى الليالي قام بضربي وطردي من المنزل، فعدت حينها للمخيم الذي تتواجد فيه عائلتي، فألقوا اللوم علي، وقالوا أنني خربت بيتي بيدي. وعلى إثر ما حدث، أقدم شقيقي على الطلاق من زوجته كنوع من رد الاعتبار.

أصيبت لانا بكآبة حادة عقب ما جرى معها، فلم تجد خياراً أفضل من الخروج نهائياً من المخيم على حد قولها، لكنّ عائلتها منعتها لاحقاً من ذلك، كي لا يحملوا عارها مرتين بحسب ما قالت، مرة أولى في الطلاق ومرة أخرى في الخروج من خيمة عائلتها.

في حكاية أخرى، كانت صفية.ع، 23 عاماً، وهي نازحة في مخيمات ريف إدلب الشمالي، قد رفضت محاولات عائلتها إجبارها على زواج «البدل»، فما كان منها إلا الفرار من المخيم، حيث روت قائلة:

حين وجدت أنّ رفضي هذا الزواج لن يأتي بأي نتيجة فكرت بالفرار من المخيم، وخاصةً أنه كانت تجمعني علاقة حب بأحد الشبان المتواجدين في تركيا، ولطالما انتظرت أن يتم زواجي به، لكن لصعوبات عدّة تأخر هذا الزواج، وما زاد رغبتي في الهروب هو إصرار شقيقي على الزواج من هذه الفتاة وتهديده لي بالقتل في حال رفضي ذلك.

اضطرت صفية لسلوك طرق التهريب المحفوفة بالمخاطر إلى تركيا هرباً من عائلتها، حيث نجحت آخر المطاف من تحقيق مرادها والزواج بمن أحبت، لكنّها أشارت إلى أن خلافات حادة وقعت بينها وبين عائلتها لاحقاً على إثر ذلك، وصلت حد القطيعة التامة، دون أن تقتصر على ذلك فحسب، حيث أنّ شقيقها كان قد بعث لها عدّة تهديدات بالقتل تحت حجة «غسل العار»، ومازالت صفية تعيش حتى اليوم حالة خوف كبيرة جرّاء ما حدث.

بالإضافة إلى كل الحالات السابقة، أقدم أب سوري في شهر أيلول (سبتمبر) 2021، بحسب ما ورد على موقع أورينت الإخباري، على حرق ابنته في مدينة أورفة التركية، لرفضها زواج «البدل». حيث أورد الخبر أنّ محمد. د أقدم على حرق ابنته أمارا.د، 13 عاماً، حتى الموت بعد صبِّ الزيت عليها داخل حمام منزلهم، حيث قام الأب بضرب ابنته بشدة قبل أن يقوم بحرقها، وذلك بحجة رفضها لزواج البدل، إذ ينوي تزويجها لأحد الأشخاص مقابل أن يقوم هذا الشخص بتزويجه ابنته. وتم إلقاء القبض على الأب لاحقاً من قبل السلطات التركية.

«زواج البدل» انتهاك لحقوق المرأة، مرتبط بحرمانها من حقها في القرار بخصوص زواجها، وغالباً ما يكون مرتبطاً بزواجات مبكرة. عدا ذلك، يفتح هذا النوع من الانتهاك الباب مشرعاً لانتهاكات أخرى، من سوء معاملة وعنف، أكان بشكل مباشر أو بالوكالة عن الطرف الآخر من المبادلة. لعرفهم ومنطقهم، قد تنجح المقايضة للرجال أو لا، لكنها خاسرة للنساء، وبشكل مزدوج، حتماً ودوماً.