حين نُشرت يوميات سميرة تحت الحصار في دوما، لم تكن لدي الشجاعة لقراءتها في بداية الأمر. هل كنت أنتظر عودة سميرة لقراءة يومياتها؟ على أنه كان بالغ الأهمية بالنسبة لي أن أقرأ وأترجم رسائل ياسين إلى سميرة، وهي تمثل في نظري وثيقةً تاريخية لا غنى عنها من أجل فهم ما قبل الحرب في سورية، وما بعدها، وما جرى خلالها. تُرى، هل علينا أن نتكلم على حرب أم حروب بالأحرى؟ إثر نشر الترجمة الفرنسية للرسائل، أدركت أخيراً أن عقداً طويلاً قد مر بعد حرب مروعة وقعت غير بعيد عن مقامي في أوروبا (التي لم تسارع إلى استقبال قلة من اللاجئين ممن تمكنوا من بلوغ سواحل «أوروبا القلعة»)، وأن سميرة وألوفاً غيرها لم يعودوا حتى اليوم. ماذا عساي أن أفعل بشعور بالذنب على عيشي في سلام بينما يموت ألوف السوريين؟
في النهاية كان يجب أن أواجه الواقع: أني كنت أهرب من هذه اليوميات المؤلمة، المؤلمة لأن كاتبتها، سميرة، لم تستطع أن تستمر في تغطية واقع الحصار في دوما. لكن كان عليّ أن أنقل إلى قرّاء الفرنسية هذه الملحوظات التي تم جمعها بعد اختفاء كاتبتها، أي باختصار، أن أقبل الفكرة التي كنت أرفضها: أنّ ترجمة كلمات امرأة غائبة لا يعني قلب الصفحة، بل بالعكس… أنا كذلك أنتظر سميرة ورزان.
في فرنسا، كفّت وسائل الإعلام عن الاهتمام بالمحنة السورية منذ وقتٍ طويل نسبياً، وأخذت قصص السوريين، مَن ماتوا ومَن نجوا والألوف من الغائبين، تتوارى وراء الضباب. أشعر بالأسى لأني لم أقم بهذه الترجمة من قبل.
إلا أني حين أفكر في الأمر، أقول لنفسي إنه لأمرٌ طيب أن تصدر هذه الترجمة الآن، هذا لأنها تنعش ذاكرة العالم. فعلينا ألا ننسى المسألة السورية التي لا تزال مستمرةً ومهمة. وهذا رغم أن عالم النشر في فرنسا يطرح مئات المطبوعات كل عام، وأن الكتب وموضوعاتها لا تكاد، بفعل هذه الغزارة، أن تحظى بغير فرصة محدودة، بل ضئيلة، لأن ترى.
ظهرت لي سميرة عبر ترجمة اليوميات، كما عبر ما عرفته عنها من نشر رسائل ياسين إليها، ثم عبر تواصلي مع وجدان ناصيف، صديقة سميرة ورفيقتها في السجن، أقول ظهرت سميرة كحلقة وصل أساسية بين الصراعات الماضية لشعبها في سنوات حكم حافظ الأسد وبين الثورة السورية في 2011.
ويجب لفت النظر إلى دار النشر iXe التي لا تطبع إلا نصوصاً نسوية كانت مهتمة جداً بنشر يوميات سميرة. وهذا مثلما كانت دار نشر lesieres قبلها قد اهتمت بنشر الرسائل إلى سميرة. دارا النشر هاتان على علم بالتزامي بالسوريين وقضيتهم العادلة ضد نظام الطغيان والتعذيب. لقد أردتُ أن تنشر يوميات سميرة عن طريق ناشرة نسوية، وهذا من أجل أن يكتشف قرّاء منشورات هذه الدار الالتزام الثابت لهذه المرأة السورية، سميرة، بشعبها ووطنها. وللترجمة الفرنسية لكتاب سميرة أهمية إضافية بفضل ملاحظات المحررين الذين لم يدّخروا جهداً أو وقتاً من أجل شرح بعض التفاصيل هنا وهناك، من أجل يكون سياق بعض المقاطع مفهوماً. ولقد اقتضى ذلك غير قليل من العمل البحثي عن الفترة المعنية من الحصار.
يبدو أن عدد ما طبع من كتب عن المسألة السورية في فرنسا قليل جداً بالنظر إلى هول محنة سورية، والجوار المتوسطي بين سورية وفرنسا، ثم الآن وجود اللاجئين السوريين في فرنسا وأوروبا. إن يوميات سميرة بما تشمله من رواية يومية لعمليات القصف بالقنابل، ومن نقص المواد الغذائية، ومن عواقب المجزرة الكيماوية، ومن يأس متصاعد، ومن موت يومي، هي بمثابة نافذة تطل على سجن كبير في الهواء الطلق. ومن المدهش أنها تقول عدة مرات أن سنوات توقيفها (في سجن دوما نفسها بالمناسبة)، على قسوتها، كانت ترفاً بالمقارنة مع الحصار الذي عاشته في دوما: الجوع، والخوف، والموت في النهار والليل…
تمثّل لي قصة سميرة الشجرةَ التي تحجب وراءها غابة مظالم، يتكون سوادها مما يضعه تحت انتباهنا أصدقاءٌ سوريون يثابرون على تذكيرنا بالمُغيبين بأعدادهم الكبيرة. وضمن هذه الغابة تطلعنا يوميات سميرة على جانب صغير من معاناة شعبٍ تُرك طويلاً بين أيدي جلاديه.