هاجسٌ مستمر هو الذي يشعر به أي ناشط، بغض النظر عن جنسيته ولغته؛ هاجسٌ ومسؤولية يلاحقانه دائماً، هُما نقل حقيقة قضيته أو قضية يتبناها إلى مواطني البلد الذي يعيش فيه، إلى إيطاليا أو أي بلد آخر، حيث لا تزال محاولات التضليل وطمس الحقائق وتشويهها وتجاهل المأساة السورية مستمرة منذ بداية الثورة حتى الآن. وتختلف الأساليب والسبل لتحقيق ذلك وإيصال الرسالة، وفي مقدمتها الكتابة التي تتحول إلى أداة للإدلاء بالشهادة، لنشر المعرفة، للإدانة، للنضال والمقاومة. هذا ما نشعر به عند قراءة «يوميات» سميرة، وهو ما ينقله إلينا صوتها الثابت الذي يهتف باتهام النظام السوري وحلفائه الدوليين وأقوياء هذا الكوكب، وبإدانة كل من أدار ظهره متجاهلاً كارثة كتلك التي يعيشها الشعب السوري. وقد تكون الترجمة وسيلة نضال أخرى، فالترجمة كأي نشاط فكري، ونضالي خاصةً، لا بد أن تكون نابعة عن اختيار واعٍ؛ اختيار للعمل ومؤلفه بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي مسألة اللغة والأسلوب. هكذا تتحول الترجمة إلى خيار للتعبير عن موقف نضالي مرتبط بهوية الكاتب والقضية التي يمثلها أو يحملها، وسميرة خليل كما يقول زوجها ياسين الحاج صالح «تتماثل مع سوريا لأن مسار حياتها وثيق الصلة بما يحدث في بلدها».
يشعر الناشط عندما يخوض تجربة ترجمة يوميات الحصار بأن سميرة استطاعت، بكلماتها البسيطة الصادقة، التعبيرَ عمّا كان يريد أن ينقله لو كان له أن يكتب. فهو من جهة مطالب كمترجم بالحفاظ على أمانة الترجمة، ومن جهة أخرى يشعر أنه منخرط في نصّ نضالي يدرك ما تعنيه كل كلمة منه، لأنه يعبر بشكل ما عن نضاله الشخصي؛ يسمعُ أزيز الرصاص ويشم رائحة الخوف والموت ويرى الألم المرسوم على الوجوه، يشعر بأنه مسؤول عن إظهار ما وراء كل حرف وكل كلمة من بُعد نضالي وإنساني، لكنه يواجه أحياناً عجز لغة الترجمة عن التعبير عن كل ذلك. وما يزيد الأمر تعقيداً أنه يتعامل مع نص كاتبتُهُ شخصيةٌ غير عادية، فسميرة مناضلة، امرأة عرفت السجن وعانت من الحصار ونجحت في نقل الملامح الإنسانية حتى في أبشع الأوقات والظروف، ودحضت الصورة النمطية السائدة في الغرب غالباً، والتي ربطت الثورة السورية بالتيارات الإسلامية والإسلاميين. سميرة مناضلة اختُطفت على يد المسلحين الإسلاميين المتسلقين على الثورة السورية، وهي شخصية مُغيَّبة، يرمز تغييبها إلى محاولة تغييب القضية السورية بأسرها، تغييب كل السوريين، بمن فيهم المترجم نفسه كناشط يشعر بأن ترجمته لهذه اليوميات جزءٌ من نضاله ضد محاولة تغييبه هو نفسه وتغييب قضيته. حافز مؤرق ومؤلم يرافق المترجم خلال كل مراحل ترجمة اليوميات، والبحث عن دار النشر، والتعريف بالكاتبة والكتاب. والمسألة الثانية التي جعلت من ترجمة اليوميات فعلاً نضالياً هي أنها تتحدث عن أشخاص من لحم ودم، أطفال ونساء ورجال عاشوا وحوصروا وناضلوا، غُيِّبوا أو هُجّروا أو قُتلوا، وكأن نقل تفاصيل حياتهم مساهمة، ولو من حيث الترجمة فقط، في نقل صورة نضالهم ووقائع حياتهم اليومية بكل ما فيها من إنسانية وحيوية وألم وفرح طفولي أحياناً، والحفاظ عليها وعلى أصواتهم وملامح وجوههم ملونة تضج بالحياة. هي مساهمة بسيطة في الحفاظ على الذاكرة الجماعية، ذاكرة شعب وقضية من خلال الكلمات. لقد استطاعت سميرة أن تنقل إلى الورق رائحة الدم وغاز السارين، كذلك البرد، وصوت القنابل وصرخات اليأس والألم. هذا هو التحدي الذي قَبِلَهُ كل من قام بترجمة كلماتها. فكلمات سميرة تُدين وتتهم وتُدلي بشهادتها حتى يومنا هذا. وبِلغات متعددة، توصل كلماتها إلى أبعد بقاع الأرض.
هنا لا بد من الإشارة إلى الأسلوب الأدبي المُختار، فاليوميات بشكلها الواقعي المباشر نجحت في اختزال الكلمات وتخطي الأبحاث الأكاديمية والمداخلات الجيوسياسية، وأثبتت أنها وسيلة ناجعة لترميز قضية مأسوية هائلة لا يستطيع أحد أن يعالجها بالكامل، وليس بمقدور أي قارئ أن يستوعبها لِهولها، إذ يسهل فهم اليوميات بفضل طابعها الإنساني وواقعيتها التي تتغلغل في قلب القارئ وعقله.
كما أن أسلوب اليوميات يلائم إلى أبعد حد أسلوب إيصال الأفكار السائد في وقتنا الراهن، إذ أثبتت القصص والصور مثلاً قدرتها على التعبير وإثارة الاهتمام والتفاعل مع القضية بشكل أفضل وأنجع من مئات الأبحاث والمداخلات. واليومياتُ ليست إلا رسماً بالكلمات لواقع الحصار الذي أصبح بدوره رمزاً لشعب، ولقضيته التي حُوِّلت إلى مسألة لجوء ولاجئين لا أكثر. فاستطاعت اليوميات إثارة اهتمام القراء، والقراء الشبان خاصة، وهذا ما لوحظ بشكل ملموس خلال تقديم الكتاب لطلاب بعض المدارس الإيطالية، وقراءة مقاطع قصيرة منه والاطّلاع على بعض الأحداث التي روتها سميرة في يومياتها. إذ أظهر الشبان والشابات اهتماماً لافتاً باليوميات، ومن خلالها بقضية لم يتفاعلوا أو يتعاطفوا معها من قبل إلا بشكل سطحي، باعتبارها قضية من القضايا السياسية أو الجيوسياسية التي تعصف بالعالم، أو مأساة من ضمن مآس كثيرة تحدث في مناطق قريبة أو بعيدة عنهم، أو قضية لاجئين يطرقون أبواب بلادهم ويحاولون التسلّل عبر حدودهم. فجاءت اليوميات لتعطي السوريين، لهؤلاء النساء والرجال والأطفال المجهولين بالنسبة للقارئ الإيطالي، وجوهاً وملامح وأسماء حقيقية، وواقعية مؤلمة إلى أبعد حدود الألم، وتدفع القارئ إلى التفاعل معهم ومع قضيتهم. سميرة المُغيَّبة نجحت فيما فشل فيه كثرٌ من الحاضرين والمتواجدين هنا وهناك، نجحت بفضل أسلوبها الواقعي البسيط والمؤثر بصدقه وبُعده عن المظلومية، فروَت قصصاً مفصّلة، والقصص المفصّلة كما يقول ياسين الحاج صالح « تصلح أرضية لإعطاء قضيتنا وجهاً وملامح وكياناً إنسانياً».
لم يكن نشر ترجمة إيطالية لكتاب سميرة مهمة سهلة، فالكاتبة مُغيَّبة وغير معروفة للقراء الإيطاليين، والقضية السورية مُغيَّبة وغائبة عن النقاش السياسي العام. وهي إن تمت معالجتها أحياناً فمن وجهات نظر صحفية أو جيوسياسية مرتبطة بأغراض ومصالح معينة. وقد يكون هذا الشكل الأدبي بالذات، أي اليوميات، هو الذي ساعد على تخطي صعوبة العثور على دار نشر لإصدار العمل، بغض النظر عن معايير السوق التي تتبعها دور النشر الكبيرة غالباً، تحدوها الرغبة في إرضاء تطلعات وتوقعات القراء، على عكس دور النشر الصغيرة التي لا تنضبط بهذه المعايير عادة، والتي لعبت دوراً ريادياً في حالات كهذه على الدوام، فهي لا تتقيد بشعبية الكاتب، وما إذا كان معروفاً أم لا، ولا بمدى ربحية المشروع. تبقى المشكلة أن دور النشر هذه، وبسبب إمكانياتها المادية المحدودة، لا تنجح في الوصول إلى المعارض الكبيرة وسوق الكتاب وترويج هذه الأعمال المميزة وإيلائها ما تستحقه من اهتمام. لقد أثارت يوميات الحصار الاهتمام لأنها تتجاوز كل أنواع الكتب المنشورة في إيطاليا عن القضية السورية، وتمتع بخصوصية لا تتوفر في أي عمل مترجم أو مُؤلف عن هذا الموضوع حتى الآن. وتجدر الإشارة هنا إلى صدور العديد من الكتب المميزة عن الثورة السورية باللغة الإيطالية مترجمة عن العربية لكتاب سوريين أو كتاب إيطاليين، تناولوا القضية بأسلوب موضوعي ومنصف للشعب السوري وآلامه ونضاله، إلا أن معظم هذه الأعمال لا تحتوي رغم جودتها على الشهادات الإنسانية، باستثناء بعض الأعمال التي تحدثت عن معاناة لاجئين سوريين في المخيمات. كما صدرت مقالات بالإيطالية عن الثورة وتناقضاتها، وعن قمع بشار الأسد، ولكن ما بقي غائباً هو تجسيد الثورة وربطها بأشخاص من أجل فهم أفضل لتفاصيل ما يحدث في سوريا منذ إحدى عشرة سنة. أما الصحف الرئيسية الإيطالية، فجزءٌ كبير منها لا يهتم بسوريا إلا نادراً، ويسلط الضوء على بعض الأنباء المثيرة للضجة والمرتبطة بالنظام خاصة، متجاهلاً قصف النظام وحلفائه للمدنيين، وملايين اللاجئين، ومنهم مئات الألوف المقيمون في مخيمات بائسة. ذلك فضلاً عمّا كُتب في مدح النظام السوري، وله جمهوره وقرّاؤه خاصة بين ما يسمى باليسار المعادي للإمبريالية، المعروف بقدرته على تحويل الدكتاتوريين العالميين إلى ركائز لاشتراكية مجهولة، وتصويرهم وكأنهم أعداءُ الاستعمار الغربي وإسرائيل، وأصدقاءُ الشعب الفلسطيني. لسنا بصدد نقاش هذه النظريات التي انتشرت في الأعوام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لو قورنت هذه المواضيع بيوميات سميرة وتم فهمها بشكلها الصحيح لتبخرّت أكاذيب كثيرة.
كل ذلك يبين أهمية ترجمة هذا الكتاب، خاصة بالنسبة لمن لا يعرف عن سوريا شيئاً أو يعرف القليل فحسب، خاصة جيل الشباب. وفي هذا الإطار تندرج محاولات إيصال يوميات الحصار ككتاب مطالعة مُعتمَد في بعض المدارس الإيطالية، فهو مدخل رائع وسلس لفهم ما ارتُكب من جرائم بحق الشعب السوري، خاصة وأن الترجمة تنقل كلمات امرأة تعلم أن ثمن شجاعتها قد يكون باهظاً، كلمات تجسد القضية السورية وتُعرِّف بها، وتخترق ظلام الغياب الطويل ضد من أراد أن يُغيّب شعباً، وأن يجعل من سميرة ومن آلاف المغيبين السوريين أسماء مجهولة.