أقرّ مجلس الشعب التابع للنظام السوري، منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الفائت، مشروع موازنة العام 2022، بعد مرور شهرين على اقتراح مسودة الاعتمادات الأولية للموازنة من قبل المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي التابع لرئاسة مجلس الوزراء، في نهاية تشرين الأول (أكتوبر). ولم تُجر اللجان البرلمانية المُكلفة بدراسة الاعتمادات أية تعديلات على قيمتها الإجمالية خلال فترة مناقشتها، لتصبح قانوناً بعد التصويت عليها، ومن ثم إقرارها بتوقيع رئيس النظام.
ومن اللافت هذه المرة تأخر الحكومة في اقتراح الموازنة عن المواعيد المعهودة خلال شهري آب أو أيلول على أبعد تقدير. وهو ما يعكس، من جهة، قلة اهتمام النظام بالأرقام والتقديرات الواردة فيها نتيجة صعوبة تطبيق خططها بناءً على تقديرات الإنفاق والإيراد، وحرصه من جهة أخرى على اتباع النواظم الدستورية والإدارية التي يفترض بأي دولة اتباعها، في مراعاة للإجراءات الشكلية على حساب الانشغال بالمضامين.
ورغم أن المبلغ الوارد في الموازنة لهذا العام كان 13.325 ألف مليار ليرة سورية، بعجز يبلغ 4400 مليار ليرة، فإن مبلغها الإجمالي لا يتجاوز 5.3 مليار دولار، وذلك على أساس سعر الصرف الرسمي المُثبت حالياً عند 2512 ليرة مقابل الدولار الواحد، في حين أن سعر الدولار في السوق السوداء اقترب أمس الإثنين من 3600 ليرة.
وكانت الأرقام بالليرة السورية قد ازدادت في إجمالي بنود موازنة 2022، إلا أنها انخفضت بمقدار 1.5 مليار دولار عن موازنة العام 2021، التي بلغت 6.8 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي المثبت حينها عند 1250 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وبمقدار 3.7 مليار دولار عن إجمالي موازنة العام 2020 البالغ حوالي 9 مليار دولار.
ولم تبقَ أرقام هذه الموازنات على حالها خلال السنوات المتعلقة بها، بل تضاءلت قيمتها مع ازدياد معدلات التضخم واتساع الفروق بين القيمة الفعلية المتآكلة باستمرار لليرة السورية، وبين قيمتها المطروحة في الموازنات، ذلك أن الزيادة فيها تضخمية، ولم تأتِ من مصادر خارجية استثمارية وتجارية، وعنى ازدياد كتلتها مزيداً من معروض الليرات السورية، وبالتالي مزيداً من التضخم، بلغت نسبته خلال العام الماضي فقط ما يزيد عن 100 بالمئة مقارنةً بالعام الذي سبقه.
تراجع الدعم الحكومي
جرى تخصيص نحو نصف اعتمادات الموازنة المعلنة لما أسمته الحكومة «الدعم الاجتماعي»، وذلك بأكثر من 2.2 مليار دولار، بحسب وزير المالية كنان ياغي، على أن تشمل المحروقات والقمح والسكر والرُز بشكل أساسي. علماً أن الرقم المخصص تحت نفس البند في الموازنة السابقة بلغ 3.5 مليار دولار، أي إنه تقلص بمقدار 1.3 مليار دولار.
وبالنظر إلى تقديراتها للدعم الاجتماعي المتعلق بالمحروقات (حوالي 950 مليون دولار)، لا يبدو أن الحكومة قد أخذت في الاعتبار أن أسعار النفط العالمية ازدادت أكثر من الضعف بين العام السابق والحالي، مع ترجيح التوقعات بأن يصل سعر برميل النفط خلال 2022 إلى 100 دولار أميركي. ونشير هنا إلى أنها عندما خصصت ما يعادل هذا الرقم مقوماً بالليرات السورية، في موازنة العام الفائت، فإن قيمته أمام الدولار قد انخفضت إلى حوالي 450 مليون دولار خلال أشهر قليلة.
ويبدو أن تثبيت بند المحروقات عند نفس الرقم يمهّد لرفع دعم جديد عن أسعاره، بعد زيادة سعر البنزين 4 مرات خلال العام الفائت، ومضاعفة سعر المازوت بمعدل 250 بالمئة في تموز (يوليو) الماضي، من 180 ليرة إلى 500 ليرة لليتر. وهو ما يضاف إلى حرمان عشرات آلاف الأسر السورية في تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي من الدعم المقدم للسلع الاستهلاكية الأساسية بموجب البطاقة الذكية، وفق تعديلات جديدة أقرها وزير التجارة الداخلية عمرو سالم، وبما يتناقض مع تصريحات وزير المالية كنان ياغي المشددة على أن «الدعم الاجتماعي سياسة ثابتة لن يتم المس بها».
نوع الدعم الوارد في الموازنة | كلفة الدعم (مليارات الليرات السورية) |
المشتقات النفطية | 2700 |
الدقيق التمويني (الطحين) | 2400 |
السكر والرز | 300 |
صندوق دعم الإنتاج الزراعي | 50 |
صندوق المعونة الاجتماعية | 50 |
صندوق الري الحديث وصندوق الجفاف | 30 |
تغطية العجز
بلغ العجز المقدر في موازنة العام الحالي نحو 4118 مليار ليرة، ستتم تغطيته من خلال 600 مليار ليرة تطرح للاقتراض كسندات خزينة، ونحو 500 مليون هي عبارة عن موارد خارجية، والباقي سيتم تغطيته كاعتمادات من احتياطي مصرف سوريا المركزي. وهنا سيجبر النظام البنوك الخاصة والعامة ورجال الأعمال وبعض الشركات الكبرى على شراء الأذونات المقومة بالليرة السورية قسراً، ذلك أن فوائدها، مهما بلغت، لن تغطي الخسائر الناتجة عن التضخم وانهيار سعر الصرف.
كما أن الحديث عن تغطية القسم الأكبر من العجز من خلال احتياطيات المركزي غير قابل للتصديق، وذلك لأن المركزي بدد جميع احتياطاته بالعملات الأجنبية خلال السنوات السابقة. وإذا كان المقصود بالاحتياطيات ضخ كميات جديدة من النقد السوري فحسب، فذلك سيزيد من معدلات التضخم وتسارع انهيار سعر صرف الليرة بشكل كبير، بما يجعل الموازنة غير كافية لتغطية سوى أجزاء قليلة من بنودها، لا سيما في ما يتعلق بالدعم الاجتماعي الموجه نحو سلع مستوردة بالقطع الأجنبي.
ولكن المشكلة الحقيقية لا تتعلق فقط بتغطية العجز، بل تطرح السؤال عن آليات تمويل الموازنة في ظل تعطل حوامل الاقتصاد وندرة العوائد الحكومية وتوقف إيرادات مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والزراعية والاستثمارية وتراجع حجم الصادرات إلى معدلات كبيرة جداً. هنا يذكر وزير المالية السوري أن تغطية نفقات الموازنة ستتم عبر الإيرادات العامة، وحجمها 9200 مليار ليرة سورية، مُقسمة إلى 4400 مليار ليرة اعتمادات جارية، و4800 مليار ليرة إيرادات استثمارية، بيد إنه لا يذكر شيئاً عن طبيعة الإيرادات العامة والاستثمارية وبنودها، لا سيما أن آخر التقديرات التي نشرها البنك الدولي عام 2019 لا يتجاوز فيها الناتج المحلي السوري الإجمالي حدود 715 مليار ليرة. ومنذ ذلك الوقت لا يزال الاقتصاد السوري يزداد تعثراً.
يعني ذلك أن الموازنة برمتها غير مبينة على أسس حقيقية قابلة للتطبيق، ولا تعدو كونها مجرد إجراء بيروقراطي أنجزته أذرع النظام التنفيذية والتشريعية، وبما لا يعكس تحت أي شكل من الأشكال تقديرات خطط الإنفاق والاستثمار والعائدات للعام 2022، تماماً كما هو الحال في موازنات الأعوام الماضية، والتي بينت النتائج أنها كانت بعيدة عن الواقع. لذا فإن الحديث عن وجود موازنة سورية عامة، يمكن أن تنعكس على الأداء الاقتصادي العام أو على معيشة السوريين، لا قيمة فعلية له.
زيادات الرواتب من خارج الموازنة
وبالتزامن مع إقرار الموازنة من مجلس الشعب، وبحضور وزير المالية، طالب أعضاء لجنة الموازنة والحسابات في المجلس بزيادة الرواتب والأجور بنسبة 300 بالمئة، إلا أن بنود الموازنة لم تشمل بنداً يغطي أي زيادة في هذا السياق، علماً أن رئيس النظام قد أصدر منتصف كانون الأول(ديسمبر) الماضي مرسوماً ينص على رفع الحد الأدنى للأجور إلى 92.970 ليرة سورية شهرياً، بعد مرسوم مشابه في منتصف تموز (يوليو) من العام الفائت. وجرت تغطية الزيادة الأخيرة من خارج موازنة العام الماضي، وذلك من خلال الضرائب والرسوم التي حصّلها النظام من كبار المكلفين وعبر رفع أسعار بعض السلع، إضافة إلى تحديث بعض القوانين الضريبية، بحسب ما نقلته صحيفة الوطن عن مصدر حكومي. ومع تواصل انخفاض القيمة الشرائية لليرة وارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، لا بد أن يلجأ النظام إلى إصدار مراسيم بزيادات مشابهة خلال العام الحالي، دون أن تكون كفيلة بتحسين الوضع المعيشي.
إيرادات الدولة الفعلية
تأتي اليوم معظم إيرادات الدولة المُدرجة في الموازنة من الضرائب وفوائض القطاع العام وإيرادات استثمار الأملاك العامة. وقد بلغت حصة الضرائب 3500 مليار ليرة، أي ربع الموازنة، وهو ما يتسق مع مراسيم وقوانين، صدرت خلال العام السابق، تقضي بفرض مزيد من الضرائب على قطاعات عقارية واستثمارية واستهلاكية، فضلاً عن تحصيل ضرائب تتعلق بالأعوام العشرة السابقة، بما يشمل ضرائب الدخل والأرباح ورسوم النظافة والمياه والكهرباء واستخراج الوثائق الحكومية وغيرها، وذلك حتى في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام لسنوات.
يضاف إلى ذلك ابتزاز رجال الأعمال وأصحاب المنشآت التجارية والصناعية، تحت عنوان تحصيل الضرائب «من كبار الملاك»، وهو ما يفضي غالباً إلى تسويات بمليارات الليرات، أو إلى خروج المُلاحقين من البلاد وتصفية أعمالهم، أو السيطرة على أملاكهم واستثماراتهم أو أجزاء منها عبر المكتب المالي والاقتصادي التابع للقصر الجمهوري. وإزاء الموارد المحدودة التي يمكن للنظام تحقيق إيرادات منها، لجأ أيضاً، وعلى نحو واسع، إلى تصنيع المخدرات والاتجار بها خارج الحدود، وبأرقام تقدر بمليارات الدولارات.
أخيراً، طوّر النظام، من خلال الأسعار التفضيلية للحوالات الخارجية، وملاحقة وتجريم عمليات التحويل وتداول القطع الأجنبي خارج المنافذ المُسيطر عليها، من مقدار استفادته من تحويلات اللاجئين السوريين لذويهم في الداخل، وصار يعتمد عليها بشكل أساسي في ضبط سعر الصرف والحد من التزاماته تجاه شرائح سكانية كبيرة.
إن القسم الأكبر من إيرادات موازنة سوريا الحقيقية ليست تلك الواردة في الأوراق الرسمية المُعتمدة نهاية العام الفائت، ولكنها تتشكل من حصيلة أموال الضرائب الحالية وضرائب السنوات السابقة والاتاوات وعمليات الابتزاز الممنهجة والاتجار بالمخدرات وتحويلات اللاجئين. أما النفقات المطلوبة، فستعرّفها الحكومة حين استحقاقها على أنها أزمات اقتصادية من واجب المواطن مجابهتها بالصمود، ذلك إنها لا ترتبط بالفساد وسوء التخطيط وتجيير مقدرات الدولة في خدمة النظام، ولكنها جزءٌ من الحرب الاقتصادية التي بدأها أعداء سوريا بعد فشلهم في الحرب العسكرية.