تسلط رواية أشياء إنسانية للروائية الفرنسية كارين تويل Les choses humaines, Tuil, Karine. 2019 Gallimard. الضوءَ على قضية الاعتداءات الجنسية التي تستهدف النساء، وهي إحدى القضايا الأساسية التي تشغل الإعلام والرأي العام والمدافعات عن حقوق النساء. لكن اللافت في هذا العمل هو محاولة الكاتبة الوقوفَ في صف المعتدي، وإعطاءَه مساحةً للمرافعة عن نفسه. تبحث تويل في هذا العمل مفهومَ المنطقة الرمادية في العلاقات الجنسية، وتُمحص في سؤال الرضائية. ففي قضايا الاغتصاب التي تخلو من أدلة مادية، لا يبقى سوى كلام المعتدي في مقابل كلام المُعتدى عليها. وضمن هذه الجدلية، تعمل الروائية الفرنسية على تحدي ما تراه «ديكتاتورية ما بعد حراك Me-Too» Les choses humaines, Tuil, Karine. 2019 Gallimard.
وقد صدرت الرواية عام 2019 عن دار نشر غاليمار، وحصلت في العام ذاته على جائزة آنتيرالييه، وعلى جائزة مسابقة طلاب الثانوية. ومن اللافت أن الرواية قد أصبحت مادةً لفيلم فرنسي مقتبس عنها للمخرج إيفان آتال. وقد جسدت شخصيات العمل الرئيسية شارلوت غينسبورغ وسوزان جوانيه وبن آتال، ليبدأ عرضه في صالات السينما الفرنسية أواخر العام 2021، وما يزال مستمراً حتى الآن.
تختار تويل في روايتها إعادة معالجة قضية اغتصاب جرت أحداثها في حرم جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا الأميركية عام 2015، حين أقدم طالب رياضي يدعى بروك ترنر على الاعتداء على شابة اسمها شانيل مايلر، حين كانت فاقدة للوعي قرب مكب النفايات بعد خروجهما من حفلة في حرم الجامعة.
بينما تدور أحداث رواية أشياء إنسانية في باريس، وتتركز حول عائلة فاريل الثرية والمتأصلة في عالم الشهرة. فوالد المعتدي هو الإعلامي السياسي القدير جان فاريل، وطليقته كلير فاريل هي كاتبة ذات نشاط نسوي معروف، وابنهما ألكسندر شابٌّ رياضي ناجح يدرس في جامعة ستانفورد، وهي إحدى أفضل الجامعات في الولايات المتحدة. وبالرغم من ثرائها وسلطتها، تهتز العائلة مع فضيحة اغتصابٍ تطالها وتغير مجرى حياة أفرادها.
يقودنا الراوي، الضمير الحاضر في كل الأحداث، في الجزء الأول من الرواية لسبر تفاصيل الحياة اليومية لعائلة فاريل. وتبدأ الرواية مع انتقال كلير بعد انفصالها عن زوجها، الذي يكبرها بسنوات، للعيش مع صديقها آدم ويزمان، وهو من أصول يهودية محافظة. وتبدو علاقتها الجديدة علاقةَ حب وحميمية تعوضها عن برود زواجها السابق. وفجأةً تجد كلير نفسها وسط جدل إعلامي عقب تصريحات إدانة أدلت بها حول حالات تحرشٍ جنسي أبلغت عنها مجموعة من السيدات الألمانيات ضد لاجئين في مدينة كولن في عام 2016، وكان من بينهم سوريون. لا بد من الإشارة إلى أن القضاء الألماني قد برّأ اللاجئين السوريين في قضية اعتداء كولن المذكورة في الرواية تبين كلير في مقابلاتها الإعلامية أن الوقوف مع الضحايا أمرٌ لا مجال للتفكير فيه، وأن إدانة المجرم لا يمكن أن تعتبر عملاً عنصرياً قد يؤثر على الهجرة واللجوء. وهنا تتعرض كلير لهجوم جهات يسارية تتهمها بمحاباة اليمين، بينما تحصل على تأييد أعداء اللجوء والهجرة في المعسكر الآخر. في حين أنها تحاول، دون جدوى، أن تنفي ارتباطها بأجندة أيٍّ من الطرفين، وتستمر بالمطالبة بحق الضحايا بالعدالة بغض النظر عن هوية المعتدين.
على الضفة الأخرى، يتابع جان فاريل العيش في شقته الباريسية الفاخرة التي يتشاركها مع ابنه. ويستمر في سعيه للحفاظ على سلطته من خلال الإبقاء على برنامجه التلفزيوني، الذي ما زال يستقبل فيه كبار الشخصيات السياسية، رغم تقدمه في العمر ومحاولة المسؤولين عن القناة استبداله. وعلى مدار الرواية، يبدو الأب كشخصية متسلطة وأنانية أقرب للكليشيه، وتخلو من العمق الإنساني.
في ظل برود الوالدين، يعيش ألكسندر نوعاً من الوحدة يسعى إلى كسره من خلال البحث عن الحب مع سيدةٍ تكبره بقليل، وتعمل في الوسط السياسي، إلا أنها تنهي علاقتها به مع رغبتها بالصعود في منصبها. يأتي الجزء الأول من الرواية ثقيلاً نسبياً، مع تقصد واضح لإعطاء الجزء الأكبر منه لعائلة فاريل، بقصد أنسنتها وإضفاء طابع بشري على دوافعها.
فيما بعد، تتركز الأحداث حول حادثة الاغتصاب التي ترسمها الكاتبة بحيث تبدو علاقةً جنسية عابرة غير عاطفية، لكنها لا توحي بعنف جنسي مقصود أو متعمّد. فبعد خروج ألكسندر وميلا سكارى من حفل طلابي، وبعد اتفاقهما على تدخين الحشيش في مكان معزول قريباً من مكب النفايات، يمارس ألكسندر الجنس مع ميلا التي لا تبدي أي رفض. ويخبرها قبل أن يغادر بحقيقة أن هذه العلاقة هي جزء من رهان بينه وبين أصدقائه، لتغادر المكان باكيةً.
يصاب ألكسندر بعدها بالصدمة حين يعلم أنه متهم بقضية اغتصاب أثارتها ضده ميلا. وتسعى الكاتبة إلى أن يتشارك القارئ هذه الصدمة مع شخصية الرواية الرئيسية، إذ أن طريقة السرد لم توح بأي عنفٍ تنطوي عليه العلاقة. ويتبين في التحقيق أن الضحية كانت تخشى سكيناً زعم المعتدي امتلاكها، على الرغم من عدم تهديده بها أو استخدامها. بالإضافة إلى ذلك، تظهر المزيد من التفاصيل التي لم يتضح للقارئ في السرد الأولي الذي تناول العلاقة الجنسية بين الطرفين أنها موجودة، كما لو كان العمل إعداداً لسيناريو فيلم مستقبلي.
يتحول العمل إلى محاكمة تقف فيها عائلة فاريل في صراع لإثبات براءة الابن ضد ادعاء عائلة ويزمان، وفي ظل غياب أية أدلة مادية حاسمة. ويتركز هنا الصراع ليعكس وجود روايتين ترتبطان باختلاف ثقافة بين الطرفين وتربيتهما: عائلة فاريل الثرية والمنفتحة فكرياً في مقابل عائلة ويزمان المتدينة والمحافظة، والتي تلتزم فيها النساء بعرف عائلي وديني صارم. وضمن المحاكمة، يتم الكشف عن تفاصيل شخصية ميلا الخجولة والمترددة، التي لا يوازي تحصيلها العلمي تميز ألكسندر وتفوقه. وكانت ميلا قد عانت من صدمة نفسية إثر تعرض مدرستها في السابق إلى هجوم إرهابي أطلق فيه معتدٍ أصولي النار على الطلاب، وهو ما سيزيد من انعزالها وحساسيتها في مواجهة الحوادث العنيفة المفاجئة. ويبدو في بعض الأوقات أن ضعف ميلا وحساسيتها المفرطة كانت عوامل جعلتها تتوهم تعرضها لاعتداء جنسي. ورغم التأكيد على معاناة ميلا خلال أجزاء الرواية، إلا أن ما سبق ذكره عن هشاشتها وضعفها يعزز الصورة السابقة لدى القارئ بأن الضحية توهمت الاعتداء عليها واغتصابها.
في الأثناء، تجد والدة ألكسندر أنها في مواجهة مع ذاتها، فهي النسوية المدافعة عن حقوق ضحايا الاعتداءات الجنسية، في حين أنها تسارع للوقوف في صف ابنها المعتدي. وتشعر بفداحة مصابها مع إدراكها لسوء تقديرها عندما أعلنت، فيما مضى، عن ضرورة الدفاع عن النساء دون أخذ أي اعتبارات أخرى في الحسبان.
تسعى تويل في هذا العمل للانحياز للفتى الأبيض الثري، الذي تجلب له امتيازاته كراهية الرأي العام، رغم إمكانية تبرئته. فأثناء المحاكمة يستمر الإعلام في إدانة ألكسندر دون وجود أدلة، وذلك لمجرد كونه يمثل طبقة ثرية ذات امتيازات خاصة. ضمن أحداث المحاكمة الجارية، تقوم ميلا ويزمان بكتابة مدونة تدين فيها ألكسندر، وتقول فيها إنه في عمق ذاته، وعلى عكس مايدعيه من براءة، يدرك أنه اعتدى عليها وآذاها. ستصبح هذه المدونة لاحقاً بمثابة وثيقة ضد ألكسندر، الذي لا يسمح له الإعلام بتقديم قصته في مقابل قصة ميلا. تستعير تويل هذا التفصيل من الجذر الواقعي للقصة، عندما قامت شانيل مايلر بتسجيل رسالة أدانت فيها فعل الاغتصاب، مبينةً حجم معاناتها كضحية لهذا الفعل. وبهذا تعمل تويل على إدانة الإعلام المصاب بهستيريا تجريم المُدان قبل أن تثبت إدانته.
كما يعطي خطاب تويل، في بعض المواضع، انطباعاً بأنها تسخر من النسويات المندفعات لإدانة الرجال مع غياب الأدلة. فعند البدء بمحاكمة ألكسندر، تتحول قاعة المحكمة إلى ساحة تتصارع فيها فئات المجتمع للتأثير في الرأي العام، وتظهر مجموعة من النسويات الغاضبات يهتفن لتجريم ألكسندر بوصفه رمزاً للرجل الأبيض المتنفذ، بحيث يبدو امتعاض تويل من تحويل حدث فردي ستحدد تداعياته مصيرَ شاب قد أخطأ إلى قضية رأي عام أمراً مشروعاً.
تطرح تويل أسئلةً تبحث في مفهوم العدالة وفي إمكانية رؤية الحدود بين السياسي والشخصي، كما تنتقد الإعلام الذي يخلو من أخلاقيات المهنة التي تنادي بحماية المتهمين بينما يندفع لتحقيق الأرباح من خلال البحث عن الفضائح والدسائس. لكنها تتناسى بذلك أن الشخصي سياسي، وأن الفردي ما هو إلا نتيجة خطاب عام كاره للنساء. فعند غضب النسويات واحتجاجهن ضد حوادث فردية، فإنهن يسعين لتغيير الخطاب الذي يبرر القتل ويستخف بمعاناة الضحايا.
كما تعمل تويل في حبكها لعناصر جريمة اغتصاب ميليا ويزمان وربطها بقضية اعتداء مهاجرين ولاجئين على نساء ألمانيات في كولن، للتأكيد على ضرورة التعاطي مع هذه القضايا كقضايا قضائية، وليس بوصفها قضايا رأي عام. فتركز في روايتها على وجهة نظر ترى في اختلاف الثقافات عاملاً يخلق سوء تفاهم ضمن العلاقات الجنسية.
تحاول تويل في عملها تذكيرنا بأنه، على الضفة الأخرى، هناك أمهات لهؤلاء الشباب المتهمين بالاعتداءات الجنسية، والذين يتم إساءة فهمهم مع وجود إعلام هستيري يتصيد بهم. وتسلط الضوء على الضحايا المحتملين إبان أحداث كبرى غيرت الخطاب، مثل حراك Me-Too. بذلك، تقف تويل ضد المنظومة التي تتحول تدريجياً، بحسب رأيها، لتصير دكتاتورية تتصيد بالرجال دون إعطائهم مساحة لتحقيق العدالة. ولذا تضيء على المساحات النفسية لكل من ألكسندر وميليا، وتحاول أن تدلل على أن الاختلافات النفسية والتربوية جعلت من وجود أرضية للتفاهم أمراً شبه مستحيل. من المهم الإشارة إلى أن تويل اجتهدت في عملها لإظهار حجم الضرر الذي عايشته ميلا، رغم أنها في الوقت ذاته أعطت لألكسندر مساحةً تبيّن معاناته هو الآخر. بذلك نرى أن تويل لم تستخف بمعاناة ميلا، ولم تستهن بحجم الضرر الواقع عليها، ولكنها لم تتردد في منح ألكسندر منصةً للدفاع عن نفسه، وذلك على عكس واقعة جامعة ستانفورد، التي أُدين فيها حتى القاضي الذي لم يُغلظ محكومية بروك تيرنر. أي أن تويل قد رسمت في عملها تلك المنطقة الرمادية التي تحتمل وجود روايتين مختلفتين للحدث عينه.
هنا قد يُعتبر الحديث عن المنطقة الرمادية في العلاقات الجنسية أمراً مشروعاً، لكن الطريقة التي اختارت تويل من خلالها عرض السياقات والمعطيات تعطي انطباعاً باستغلال الفرص، وبالانحياز إلى فئةٍ لطالما تملصت من العدالة بفضل امتيازاتها. وبناءً على ذلك تأتي مقولة الرواية التي يمكن تلخيصها بعبارة «من منّا قد لا يواجه ذات المصير» كاستهانة بمعاناة الضحايا، ومرافعةً غير عادلة مبنية على تبريرات تبدو سطحية. فالاغتصاب والاعتداء يتضمن حرمان طرف من إرادته والإساءة له، وليس مجرد سوء تفاهم ثقافي.
لا تخلو لغة الرواية من عبارات سطحية وغير عميقة، مثل: «الانفجار الشديد، الاحتراق الأخير، هو الجنس- لا شيء آخر، نهاية الخدعة». فالجنس هنا فخ تصعب النجاة منه. ولا تفوت تويل فرصة الإشارة إلى قضية الرئيس كلينتون مع مونيكا لوينسكي، ضمن إطار يجعل من العلاقات الجنسية مكائد معقدة، ليبدو هذا السرد قادماً من حقبة أخرى تفصل بين الغريزة وبين المسؤولية الفردية وبين الخطاب السياسي والاقتصادي والأدوار الجندرية، وبين تداخلهم مع أي فعل إنساني.
وفيما يتعلق بالشخصيات، جرى رسم شخصية الأم بشكل متقن، فالصراع الذي تعيشه بين قيمها النسوية وقيم العدالة المطلقة، وبين واجباتها كأم، يضعها أمام مفترق يغير حياتها. كلير هي إنسانة ذات بنية معقدة تخلت عن زواجها الفاشل في سبيل الحب. وتخلت، فيما بعد، عن الحب في سبيل واجبها تجاه ابنها. في المقابل، لم ينجز الأب جان فاريل أي تطور أو تحول على الصعيد الوجداني. فعلاقاته مع النساء ظلت مبنيةً على الرغبة وغير مراعية لاحتياجاتهن، وعلاقاته بالآخرين تقوم على امتلاكه السلطة واستغلاله لمنصبه. يبدو الأب كشخصية نمطية للإنسان الذي استطاع التخلص من الفقر وتحقيق الشهرة والثروة، مما يحوله فريسةً للغرور والأنانية.
تفاوتت آراء النقاد حول الرواية، بشكل عام، بين متحمسين للعمل أو شاعرين بالخيبة تجاهه. فقد رأى جان كلود راسبينجياس، وهو صحفي وناقد أدبي، في الرواية عملاً يعكس روح العصر، وأثنى على إحساس تويل العالي في تقديم منتجها. في المقابل، عبر الكاتب الفرنسي فريدرك بيجبدير عن استيائه من الرواية، ورأى أنها تقترب من أن تكون سرداً قصصياً أكثر من كونها رواية، واصفاً إياها بـ«حلقة فاشلة من مسلسل يسرد قضية متهم». وبينت الكاتبة البلجيكية ايزابيل سباك أهمية الرواية التي نجحت في عكس تداعيات ما بعد Me-Too كسرد أدبي حيوي وعميق. بينما جادلت الناقدة نيللي كابريليان بأن الرواية خالية من المضمون، وبينت امتعاضها من تلاعب الكاتبة بالشخصيات وتحريكها بحسب رغبتها؛ أي دون وجود دوافع حقيقة.
يثير تقديم الفيلم في فرنسا التساؤل حول اختلاف الثقافة الفرنسية في رؤية تداعيات Me-Too عما يتم تداوله في الولايات المتحدة الأميركية. فبينما حظيت ضحية الاعتداء في الجذر الواقعي للرواية بتأييد الملايين، وأُدينت جريمة بروك تيرنرتم على مستوى الرأي العام، لم تتردد تويل بعد استعارتها لكثير من الأحداث الحقيقية التي حصلت في قضية الاعتداء الأصلية، في أن تدافع عن المتهم.
قد يعتبر البعض أن الفكرَ الفرنسي أكثر انفتاحاً على الجدل في قضايا النسوية، وأن هناك حالة من التعصب المحكوم بالصوابية السياسية في الولايات المتحدة. في المقابل قد يرى البعض ميوعةً في موقف القائمين على إنتاج فيلم Les ChosesHumains، لا سيما أن الرواية قائمة على قصة مُغتصب مدان ذات جذر واقعي، في حين ارتأى فريق العمل أن يرافع عنه.
إن من الأهمية بمكان مراعاة أخذ العدالة لمجراها في حالات دعاوى الاغتصاب، ومن دون انحياز إلى أحد الطرفين أو إطلاق أحكام مسبقة. ولكن على المستوى الأدبي، لا تمنح رواية «أشياء إنسانية» القارئ لذة البحث والاكتشاف، وفي مراجعتها كعمل أدبي نحن أمام قراءة لأدواتها الأدبية والجمالية، وليس تمحيصاً لشرعية مقولتها العامة.