أعتقد أن تصوّرنا عن الواقع هو تصور مجزأ غير مكتمل، وفي أدب القرن العشرين، يبدو طبيعياً جداً ألّا نصف الواقع كشيء كلّي يمكن تماماً نقله وتفسيره. تم قبول ذلك في الروايات. لكن الأفلام ماتزال تدّعي تمثيل الواقع، تزعم أنّ الواقع قابل للنقل، ما يعني أنه قابل للتفسير.

-مايكل هانيكى

من شبه المستحيل على أي مخرج يقترب من حدود الموضوع الفلسطيني -أو أي موضوع آخر- بهدف الخوض المباشر فيه، أو لمجرد استخراج ثيمة إنسانية منه، أن ينجو من الانحيازات المسبقة عن هذا الموضوع، اجتماعية كانت أم سياسية. في الحالة الفلسطينية سيجد أمامه، لا محالة، حمولة صلبة من التاريخ، وقائمة شرسة من الانحيازات قادمة من خارج الكاميرا لتتدخل في فيلمه دون إذنه. ولن يصدقه أحد إذا قال إنه لم ينتبه لها.

ليست الأميرة النائمة التي انتظرت من يقتل التنين كي يخلصها من السحر

كما اسم الفيلم المنتقى بعناية، جاءت الصور للإعلان عن الفيلم. تَظهر الطفلة أميرة ببراءة متقنة في كل واحدة من هذه الصور في أوضاع نفسية كئيبة مختلفة، حزينة وقلقة وحائرة. أميرة في الفيلم  ليست هي ذاتها التي كانت الجدات في أوروبا يحكين قصّتها للأطفال قبل النوم، وإن حاولت تلك الصور إعطاء هذا الإيحاء. هي في نسختها الفلسطينية فتاة تحمل مسدساً، وتمضي خلف الحدود باحثة عن أبيها البيولوجي الذي رمى نطفته في رحم أعدائه.

لا يوجد تريلر رسمي يقدم الفيلم للمشاهدين، بل هناك إعلان تشويقي مدته دقيقة واحدة فقط، تم انتقاؤه من ست وتسعين دقيقة، هي مدة الفيلم، ليكون دعاية له في مهرجان البندقية. وستثير المغالطات المنطقية الموجودة في هذه الستين ثانية الغبار أمام مشاهد، يبدو أنه مُحدَّد سلفاً في خيال صنّاع الفيلم، لإغرائه بدخول عالم غرائبي لم يعرفه من قبل.

في هذا الإعلان التشويقي يُعلن الأسير لزوجته عن رغبته بطفل ثان بالطريقة نفسها: تهريب النطاف، ليحدث الحوار التالي بينهما:

– «إسرائيل رح تخليكم تعملوا هيك؟»، تسأل الزوجة.

– «بعد الإضراب الأخير خففوا الإجراءات الأمنيّة»، يُجيب الزوج.

– «والولد هاي المرة باسم مين رح يتسجل؟»، تسأل الزوجة.

– «باسل يا سعيد…مش فارقة»، يُجيب الزوج.

قد يسأل سائل: ولماذا لم يتم تجميد النطاف المهربة أول مرة لاستخدامها مرة ثانية؟ ثم إن فرضية الفيلم تقول أن أميرة هي الطفلة الثانية، ما يعني أن الزوجة قد مرت بهذه التجربة من قبل وتعرف أن عملية تهريب النطاف تجري بمعزل عن أي موافقة إسرائيلية، لكن يبدو أن طريقة صياغة السؤال والجواب هي فقط للتلميح بأن الإسرائيليين طرفٌ في هذه العملية.

الجزء الثاني من الحوار يشير إلى أن الأب لا يهتم بنسبة ابنه إليه. لا يوجد أي مبرر درامي في الفيلم لهذا الطرح، لكنه بلا شك سيزيد من جرعة الغرائبية المطلوبة. يجب التوقف هنا قليلاً، ليس فقط لأن هذا الكلام كذب، فالجميع يعرف أنّ الأطفال المولودين بهذه الطريقة يُسجَّلون بأسماء آبائهم في السجل المدني الفلسطيني، بل لأن الأسوأ أن هذا الكذب، ودون أي مبرر، ينكر على الأسرى الهدف الأصلي الذي خاضوا بموجبه كل هذه المعاناة، وأنجبوا أبناء ليحملوا أسماءهم وهُم يعلمون تماماً أنهم ربما لن يحصلوا على فرصة واحدة للمسهم. ثم يأتي الفيلم ليقول على لسانهم: مش فارقة باسم مين يتسجل!

بعد انتشار خبر عُقم الأب، تتعرض أميرة للتنمر والتهديد بسبب أصلها الإسرائيلي المفترض، ما يدفع أهلها لمحاولة إخراجها من فلسطين خوفاً عليها، لكنها ترفض ذلك وتعبر الخط الأخضر حاملة سلاحا نارياً في محاولة لقتل السجان الإسرائيلي، الذي قدمه الفيلم على أنه والدها البيولوجي دون أي دليل على أنه بدّل عينة السائل المنوي. لكنها عندما تتوصل إلى صفحته الشخصية على فيسبوك، وتشاهد صوره مع أبنائه ثم تنتبه للتشابه بينها وبينهم، تَعدِل عن الفكرة وترمي المسدس، ليقتلها الجنود الإسرائيليون في النهاية.

ينتهي الفيلم تاركاً السؤال معلقاً في الهواء.

لماذا عَدَلَت عن فكرة قتله؟ هل منعتها جيناتها الإسرائيلية من ذلك؟

شكسبير في فلسطين

بحسب محمد دياب، كاتب الفيلم ومخرجه، فقد ظهرت الفكرة في خياله عندما قرأ خبراً عن ولادة أول طفل فلسطيني من نطاف مهربة لأسير معتقل عند إسرائيل، وقد كرَّرَ في أكثر من مقابلة أنّه وجد نفسه أمام فكرة تحتاج القليل من العمل لتصبح «دراما شكسبيرية» عالمية. استساغ المخرج تكرار هذا الوصف، بل إنه في إحدى مقابلاته شبّهها بالدراما «الإغريقية الشكسبيرية». هكذا نجد أنفسنا أمام مخرج يستسهل الحديث عن شخصيات أفلامه وعوالمها الصعبة.

لكن ما هو الشكسبيري في هذه الفكرة؟ أين هم الأبطال التراجيديون أشباه الآلهة الذين سيرتكبون خطأً يقودهم إلى نهايتهم؟ هل المقصود بالشكسبيرية هنا فقط التراجيديا التي ستحصل عندما يجد أحدٌ ما نفسه وقد تربى في أحضان أعدائه ومن ثم اكتشف هوية والديه؟ هل حقاً هذه هي المرة الأولى التي يصطدم فيها المخرج بهذه  الفكرة ولم يكن ليجدها في قصة أخرى؟

منذ زمن سحيق اعتاد المتحاربون سبي أبناء أعدائهم، ونسبهم لأنفسهم إمعاناً في إنزال الذل بأعدائهم. يفيض الخيال البشري بتلك الشخصيات الحائرة، من الجرو ابن كليب الذي نشأ وكبر في حضن قاتل أبيه، مروراً بأطفال منتصف الليل لسلمان رشدي حين تبدل الممرضة الشيوعية الطفل الفقير بالطفل الغني في محاولة لتحقيق عدالة ما، حتى فنتازيا صراع العروش التي حازت إحدى حلقاتها على مليار مشاهدة وبنيت بأكملها على الغموض في أصل البطل جون سنو. هل حقاً لم ينبته المخرج لكل ذلك قبلاً؟ أم لأن الموضوع الفلسطيني يهمّ المخرج كما قال في أكثر من مقابلة؟ لكن حتى فلسطينياً، تم تناول الموضوع كثيراً من قبل.

لحظة!

هل الجديد هنا هو وجود إسرائيل؟ بمعنى أن القصة ستكون عادية جداً إن حصلت في مكان ما آخر غير فلسطين، وهذا تحديداً هو سبب اختيار هذه البيئة بالذات؟

يجيب المخرج عن هذا السؤال في عدد من المقابلات التي جرت كلها تقريباً في وقت واحد وبأكثر من لغة:

في مقابلة مع الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، يجيب المخرج عن سبب اختياره لهذا الفيلم بكلام إنشائي، والاقتباس حرفي هنا: «أنا قمت بهذا الفيلم عن الأسرى الفلسطينيين، وهذا الموضوع شاغلني من زمان لأني كأي عربي نشأ وفلسطين في قلبه، وبالذات قضية الأسرى الفلسطينيين … شخصياتهم قوية جداً، وحيعيشوا مهما كان». وفي مقابلات أخرى مع  محطات عربية، تكلّم بالمفردات نفسها، من قبيل «الأسرى هم الزهرة التي نبتت رغم الصخور»، والفيلم هو تعبير عن البطولة الفلسطينية والوحدة العربية، حتى آخر ما ابتذل من شعارات.

في مقابلة مع الشبكة البريطانية Fred Film Radio باللغة الإنكليزية، يقلّص المخرج مساحة هويته ومعرفته قليلاً عند الاجابة عن السؤال ذاته بقوله: «أنا كمصري وجدت أن هناك أسرى يعتبرهم الفلسطينيون أبطال بينما يعتبرهم الإسرائيليون إرهابيين، لذلك حاولت أن أفهم الطرفين. ورغم صعوبة الأمر حدّ الاستحالة، لكن حاولت عدم التدخل في السياسة». وأضاف أن الفيلم يبعث رسالة للجميع عن الكراهية، وأن الإنسان ليس مسؤولاً عن الأصل الذي ولد عليه، حتى أنّ جميع المتنازعين في العالم سيجدون أنفسهم في هذا الفيلم.

 في مقابلة مع محطة فرانس 24، يضع المخرج نفسه في موقع أعلى قليلاً، وقد بدا أكثر وضوحاً بقوله إن ما يهمه وما دفعه لهذا الفيلم، وأي فيلم، هو القصة ذاتها وليس المكان الذي حدثت فيه أو أي شيء آخر. ثم يضيف أنه اكتشف عند صناعة الفيلم أن الفلسطينيين ليسوا مجرد أرقام مثل ما كان يعتقد قبل صناعة الفيلم، بل هم مثل أي بشر آخرين يحبون الطعام اللذيذ ويحبون الذهاب إلى البحر.

 في مقابلة مع Screendaily باللغة الإنكليزية، قال إنه وجد قصةً وكأنها قصة خيال علمي (لم يذكر شكسبير هنا، يبدو أنه يتركه للمستمعين للعرب) عن بشر يكرهون بعضهم، ولكن ما يهمه منها هو فقط الدراما والأسئلة الوجودية التي ستخرج من هذه القصة، وقد اشترط منذ البداية على المخرج والمنتج الفلسطيني هاني أبو أسعد أن يكون معه وإلا لن يمضِ في هذا المشروع، وأضاف أن الفيلم يحتوي عقدة درامية ستثير الجدل في العالم العربي وهو جاهز للتداعيات التي ستنتج عن الفيلم.

التلون في الخطاب ظاهرة موجودة ولن تنتهي ولا داعي للتوقف عندها، ولكن لماذا تبرز هذه الظاهرة أكثر ما تبرز عند الخوض في موضوعات تمس علاقة العرب بالغرب، وفي القلب منها قضية فلسطين؟ أليس من المفارقة أن الأعمال الإبداعية الغربية التي تحصل على جوائز يكون عليها إجماع في مجتمعاتها الأصلية، في حين أن الأعمال الإبداعية العربية التي تصل إلى محافل غربية تكون في الغالب محلّ خلاف في مجتمعاتها.

من المفهوم أن يبحث المبدع عن قضية يستطيع بواسطتها الذهاب نحو الأضواء، وهذا حقه، وفلسطين وسيلة في متناول اليد بالنسبة لمبدع عربي يعرف كل مفردات الصراع ويتكلم العربية. ولكن ألا يستطيع أن يفعل ذلك دون تلك الجرعة الهائلة من الغرائبية التي تحرم المشاهد الغربي من متعة التطابق والتماهي، وهي شرط النجاح في تقديم هوية إنسانية عامة وشرط الحصول على الجوائز، أم أن هذا الشرط لا ينطبق على المبدعين العرب؟

لندع قليلاً الأذى الشخصي الذي سبّبه الفيلم لعوائل الأسرى؛ هل حقاً يسيء هذا الفيلم للحق الفلسطيني؟

بعيداً عن كلام الشعارات الذي قاله المخرج عن فيلمه، كيف يجب أن نفهم عبارة عدم اهتمامه بالسياسة التي كررها وكأنها براءة ذمة من تهمة ما، ماذا يعني هذا؟ إن عدم التدخل في السياسة هو سياسة في حد ذاتها. هل القصد هو عدم التدخل بالسياسة بشكل مباشر، والتركيز على حياة الناس العادية؟

هذا حقاً ما نشاهده في الفيلم، حيث يظهر الفلسطينيون في صورة أي مجتمع متحضر، يحلمون بأشياء بسيطة ويحبون ويفرحون ويحاولون الاستمتاع بالحياة التي يستحقونها، ولا يتكلمون كثيراً كلام السياسة.

المخرج الذي «أزال الغموض» باكتشافه أن الفلسطينيين ليسوا أرقاماً، وأنهم يحبون الطعام اللذيذ والذهاب إلى البحر كما قال في مقابلته، ترى هل اكتشف ما الذي يمنع الفلسطينيين من الذهاب إلى البحر؟ هل بوسعه أن يزيل لنا الغموض هنا أيضاً؟ وهل سنجد في اكتشافه هذا اختلافاً عن الشهير أفِخاي أدرعي عندما يقول أن الشعب الفلسطيني يحب الفرح ويستحق حياة أفضل، سوى أن الأخير يضيف على جملته أن السبب هي المقاومة التي تحرم الفلسطينيين الحياة في حين أن المخرج يقول جملته ويصمت لأنه لا يهتم بالسياسة.

ثم ماذا تعني الدعوة للتوقف عن الكراهية في السياق الفلسطيني؟ ومن قال له بأن الفلسطينيين أو غيرهم يكرهون بناء على مورّث جيني يحملونه؟ وماذا يعني أن يطالب البشر في السياق نفسه بأن يتخذوا خياراتهم بموجب قناعاتهم وليس بناء على ما ورثوه من آبائهم؟ هل يقصد أن الفلسطينيين يكرهون أعدائهم لأنهم عرب مسيحيون ومسلمون، بينما الاسرائيليون يهود؟ هل ثار الناس في مصر على نظامهم لأنه من دين آخر أو من قومية ثانية مثلاً؟ أم أن السوريين ثاروا على نظامهم لأنه من طائفة مختلفة؟ فليكن أكثر جرأة ويخبرنا ماذا يريد، وباللغة التي يريد.

الفلسطينيون يكرهون محتلهم لأنه يسمم هوائهم ويسرق أرضهم ويقتل أبناءهم ويمنعهم أن يمارسوا حياة طبيعية، وليس لأنهم تعلموا كرهه من آبائهم. وليس من قبيل المصادفة أن جميع من قاموا بالتطبيع في الفترة الأخيرة كانت حجتهم هي فقط مقولة: إلى متى يجب أن نستمر بالكراهية؟!

هاني أبو أسعد، منتج فيلم أميرة الفلسطيني، وصاحب الجنة الآن، اعتذرَ لأنه لم ينتبه إلى حساسية قضية الأسرى الفلسطينيين! لكنه في مقابلة ثانية افترضَ أن المحتجين على الفيلم من الذباب الإلكتروني الصهيوني.

أحداث هذه الرواية لا تجري هنا بل في بلاد أخرى

يعلّق ميغيل دي أونامونو في كتابه حياة دون كيشوت وسانشو على مقطع من رواية سرفانتس، حين صدّقَ دون كيشوت أن الدمى على المسرح هي شخصيات حقيقية فاندفع للدفاع عن البطل-الدمية محطماً في طريقه كل شيء، بالسؤال التالي:

لماذا يحرص صناع الأعمال الفنية أشد الحرص على الاعتناء بأدق التفاصيل الدقيقة للواقع بهدف إقناع المتلقين بما يقدمون لهم، وبعد ذلك، إذا ما حصل واقتنعوا، يقولون لهم، لا، انتظروا، لا تصدقوا، نحن لا نقصد ذلك.

إشكالية العلاقة بين الخيال والواقع، التي يحاجج بها بعض من ينكرون -لأسباب مختلفة- علاقة أعمالهم الإبداعية بالواقع، سقطت منذ حمل المؤرخون معاولهم وذهبوا للتنقيب عن آثار طروادة الهوميرية. سقطت بجواب واضح: لا يوجد عمل فني لا يخرج من الواقع ولا يعود إليه. حتى ما تقدمه الفنتازيا سيُسقطه المتلقون على واقعهم في النهاية، وإلا أين سيسقطونه؟

بدأت محاولات الكتّاب إنكار علاقة أعمالهم بالواقع مع بدايات القرن العشرين. قبل ذلك كان العمل الفكري أو الأدبي الذي يثير إشكالية ما مكتوباً بالأصل من أجل إثارتها، وكان من غير المفهوم أن يشتغل أحد في الشأن العام ويدّعي أنه لا يهتم بالسياسة. ولكن مع ظهور السينما، ومع أول دعوى تشهير ترفع في الولايات المتحدة، وضع المحامون لشركات الإنتاج الأميركية «بيان إخلاء المسؤولية» تجنّباً لدعاوى التعويض. أصبحت الأفلام تبتدئ بعبارة «جميع الأحداث والشخصيات الواردة في الفيلم هي وهمية، وأي تشابه بينها وبين الواقع هو من محض الصدفة». ومن ثم انتقل استخدام هذا البيان للتهرب من أجهزة الرقابة. عبارة من قبيل «هذا الفيلم لا يمثل الواقع الحاضر»، في مقدمة فيلم البريء لعاطف الطيب، لم تكن تعني للمشاهدين شيئاً غير أن هذه القصة حصلت وستحصل كثيراً في الواقع.

لنتخيل مثلا لو أنّ شارلي شابلن أقسم أن فيلمه الأيقونة الديكتاتور العظيم ليس عن هتلر، وأن الفيلم أصلاً ليس واقعياً بدليل أن القصة خيالية كتبها بنفسه، وأن الأحداث الواردة فيها بالمطلق لم تحصل، بل إن بعض مشاهد الفيلم فانتازيا تماماً: كم أحمقاً في العالم سيصدقه!

كل هذا المقدمة الطويلة هي فقط للعودة لما يشبه بيان إخلاء مسؤولية إضافي وضعه القائمون على فيلم أميرة في نهايته، وجاء بعبارة:

«كل الأطفال تم التأكد من نسبهم».

حقاً؟

فليتفضل المخرج ويقول كيف تم التأكد من نسبهم. وما الذي قد يمنع قصته الخيالية من أن تكون حقيقية؟

كان بإمكان صنّاع الفيلم أن يقولوا منذ البداية، بدلاً من هذه البهلوانيات اللغوية، جملة واحدة مختصرة: نحن أحرار باختيار الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه، وأنتم أحرار بالطريقة التي ترونها، ويجب أن تحترموا حرية الرأي.

ولكن هل من حق الكاتب اختيار أي موضوع يشاء؟

يقوم العمل الفني، مهما كان، على انتقاء جزء من الواقع وبعثرته ومن ثم إعادة ترتيبه من جديد بحسب رؤية الكاتب، ومن حقه اختيار ما يشاء من الواقع المحيط به. هذا صحيح ولكن بشرط واحد جوهري، أن لا يتطفل على حياة إنسان بعينه ليمارس عليها هذه اللعبة الأدبية، وهذا شرط أخلاقي وقانوني، إذ لا يحق لأحد استخدام القصة العائلية للآخرين دون موافقتهم، ودون التأكد من احترام كرامتهم بالطريقة التي يرونها هم مناسبة.

هناك مغالطة كبيرة جداً في الجدل الدائر، لأن هذا الفيلم لا يتناول قضية الأسرى بشكل عام، بل يتناول عدداً محدوداً جداً من عائلات الأسرى التي قررت الإنجاب بهذه الطريقة وهم معروفون بالاسم. كم كان عددهم عندما بدأ التفكير بصناعة الفيلم؟ ثلاثة ؟ خمسة؟ عشرة؟ هل فكر المخرج بسؤالهم عن موقفهم من هذا الفيلم الذي سيروي قصتهم العائلية بعد تحويرها على ما جاءت عليه؟

عندما قدم المخرج النمساوي مايكل هانيكى فيلمه l’amour، الذي يتناول حياة المتقاعدين، مكث شهوراً كاملة يتردد على المستشفيات وعلى دور المسنين، ولم يترك مجالاً دون أن يسأل المختصين فيه، من أطباء وباحثين نفسيين واجتماعيين وحتى سائقي سيارات الإسعاف، خوفاً فقط من المساس بكرامة هؤلاء الذين يود الحديث عنهم، رغم أن موضوعة كبار السن هي أكثر حالة شائعة في المجتمعات الأوروبية، بل في العالم بأسره.

استسهال التعدي على خصوصية البشر دون موافقتهم، واستغباء الناس بقول إن هذا الفيلم خيالي، ثم التعالي بقول أنه مصنوع لغايات سامية لم يفهمها المعترضون عليه، فيه من الاستهتار بقدر ما سيترتب عليه من المسؤولية القانونية والأخلاقية جرّاء الأذى النفسي الذي أصاب وسيصيب عدداً بعينه من العائلات التي تناولها الفيلم. ونرجو أن لا تجد الحالات النفسية القاسية التي ظهرت على وجه بطلة الفيلم انعكاسها على وجوه الأطفال الحقيقيين عندما يقرر أصحاب الذباب الالكتروني إطلاق واحدة من حملاتهم المعتادة في وجه الفلسطينيين، تلك الحملات التي اعتادت الانطلاق من المكان ذاته الذي تواجد فيه المنتج الفلسطيني عندما اتهم الذين لم يعجبهم الفيلم بأنهم ذباب صهيوني.

اسحبوا فيلم أميرة

انفجر الغضب في الشارع الفلسطيني تضامناً مع عائلات الأسرى المعنيين، وتحوّلَ الفيلم إلى قضية رأي عام، وانطلقت حملات الشتائم والتخوين على وسائل التواصل في فلسطين والأردن -امتدّ بعضها لمصر- مطالبة بمقاطعة الفيلم وسحبه ومحاكمة القائمين عليه. لقد كان الشارع الفلسطيني ينفث النار.

عقد اجتماع في رام الله بمشاركة عضو لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ورئيس نادي الأسير الفلسطيني، ووزير الثقافة، ومحافظ محافظة رام الله والبيرة، ورئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين ومنسّق القوى الوطنية والإسلامية هناك.

من الصعب على أي مراقب خارجي أن يتوقع أن اجتماع الحرب هذا، الذي ضم ممثلين عن أعلى هيئة قيادية فلسطينية مع جميع الهيئات المسؤولة عن الأسرى، هو فقط لمناقشة كيف يجب التصرف حيال فيلم نال ما يستحقه من نقد وأكثر. فإن لم يكن هذا الاجتماع هو الإساءة الحقيقية لقضية الأسرى، فكيف تكون الإساءة إذن؟

الإساءة للأسرى تكون بتركهم في الأسر دون أي خطة لتحريرهم، الإساءة تكون بالمحاولة الجارية لتغيير الأساس الذي تُصرَف بموجبه مستحقات الأسرى لتصبح تحت بند المساعدات للحالات الإنسانية الصعبة إرضاء للأميركيين والأوروبيين، الإساءة تكون عندما تضطر عائلةٌ لبيع أرضها كي تستطيع الإنفاق على أبنائها الأسرى، الإساءة تكون بالتنسيق الأمني الذي يفرض على السلطة أن تسلّم الاحتلال مستوطنين أمسكهم الفلسطينيون في رام الله بدلاً من أن تفكر كيف تفاوض عليهم، الإساءة تكون عندما يُترك ستة أسرى استطاعوا الهروب من السجن لمصيرهم ولا يتم التفكير حتى بعقد اجتماع مثل الذي تم عقده من أجل فيلم.

اكتفى الاجتماع بإصدار بيان يرحب ويثمّن للجهة منتجة الفيلم قرارها بسحبه من تمثيل الأردن في مسابقة الأوسكار-لماذا لم يشكروا المخرج أيضا على قراره بإيقاف عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر؟-، كما طالبوا أيضاً بتشكيل لجنة رقابة على الأعمال المرئية والمسموعة. من الآن فصاعداً، أي فنان يود تقديم أي عمل عن فلسطين يجب أن يخضع لرقابة الجهات المختصة.

هل نحن بحاجة لنشر ألغام أكثر حول حقل الألغام المحيط بنا أصلاً، ما يجعل المؤيدين للحق الفلسطيني يفكرون ألف مرة قبل الاقتراب. وما معنى قول أن هذه القضية شائكة أو حساسة؟

القضايا تكون إما عادلة أو غير عادلة، والبشر عندما يتضامنون مع قضايا يرونها عادلة فهم يفعلون ذلك بعيونهم لا بعيون أصحاب القضية، وهذا حقهم. الادعاء بوجود قضايا حساسة وقضايا شائكة هو في حقيقته تحذير للآخرين بعدم الاقتراب من هذه القضايا، أو قد يكون بهدف التمهيد للتخلي عنها:

من يقول أن قضية الأسرى حسّاسة هو في الحقيقة يحاول أن يجد مبررات للتقاعس عن حلها، أو مبررات لمن يعبث بها.

من يقول بحساسية قضية اللاجئين هو في حقيقة الأمر يقول لهم أن عودتهم ليست منطقية.

من يقول بحساسية قضية فلسطين دولياً هو في الحقيقة يمهّد للتطبيع.

الناس أحرار بالطريقة التي يفهمون بها الأشياء، ونحن من واجبنا أن نستمر في شرح قضايانا بطريقة واضحة، وبلا أبوية، وأن ندافع حتى النهاية عن حقوقنا وعن كرامتنا. الرواية الفلسطينية، شئنا أم أبينا، ستبقى مفتوحة على الجهات كلها وعلى الأسئلة كلها وعلى المفارقات كلها وعلى الأصدقاء كلهم وعلى الأعداء كلهم.