تشبه كتب النقد الأدبي في عصرنا الراهن، إلى حدٍّ ما، كتب لغات البرمجة في عالم الكومبيوتر، أو كتب دليل استخدام برامج الكومبيوتر. هذه الكتب التي تظهر فجأة فتلقى رواجاً وشهرة، ثم تظهر لغةٌ برمجية جديدة أو برامج أكثر تطوراً فتنسخ اللغة السالفة، وتزيل البرامج السابقة التي تصبح فجأة قديمة، فتفقد تلك الكتب أهميتها، ولا تصلح إلا لتكون مادة تاريخية وثائقية محدودة القيمة. أوَ لم يقل إدوارد سعيد وهو يكتب مقدمته لكتاب إريش أورباخ محاكاة: «إنّ تأثير كتب النقد وديمومة صيتها قصيران على نحو محبط. منذ الحرب العالمية الثانية ارتفع الحجم الإجمالي للكتب الصادرة بالإنكليزية بنسب ضخمة ضمنت لها المزيد من قصر أعمارها، إن لم نقل إنّه قضى عليها بالزوال، وبأن يكون لها تأثير لا يكاد يُذكر؟»إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، ت: فواز طرابلسي، (بيروت: دار الآداب، سنة 2005، ط 1)، ص 110.

يقول كذلك: «عادةً ما تأتي كتب النقد في موجات مرتبطة بالاتجاهات الأكاديمية، وسرعان ما يستبدل معظمها بتوالي التحولات في الذوق والدرجة أو الاكتشافات الأكاديمية الحقيقية»المصدر نفسه.. وإذا ما دقّقنا في كلام سعيد أمكننا أن نضيف بأنّ هذه الموجات لم تكن مرتبطة بالاتجاهات الأكاديمية فحسب، وإنما بالاتجاهات الإيديولوجية التي تتبدل وتتحوّل أيضاً، غير أنّ التبدّل الأعظم لم يأتِ من الاتجاهات الأكاديمية ولا الإيديولوجية، بل من متطلبات السوق التي فرضت نفسها على المشهد النقدي في عصرنا الراهن. وفي حديثنا عن هذا التغير الذي طرأ على النقد الأدبي لا بدّ من الإشارة إلى ملامح الناقد الأدبي من دون أن نهدف إلى إعادة تدوير الأفكار المعروفة عن تاريخه.

كان الناقد قبل قرنين من الزمان لسان حال عصر التنوير، يحقق مهاماً مختلفة، كأنّه الإله الهندوسي غانيشا ذي الأيادي العديدة، فهو وسيط بين العمل الأدبي والقارئ، وهو أستاذ يوسّع فهم القارئ، ومرشد يوضّح الفن ويصحّح الذوق. يمسك بيد القارئ ويأخذه إلى مكامن الجمال أو الإبداع أو الفرادة، وفي أثناء ذلك يقارن ويفكّك، فينشئ موروثاً يصل بين أدب الماضي وأدب الحاضر وبين ذوقيهما. باختصار: للناقد يد ساحر تعلّم الإبداع، ويد تمسك بالمشرط تشرّح وتحلّل وتقيّم، ويد تمسك بالمطرقة التي تعلن الحكم.

لكن هذه الأيادي بدأت بالضمور والتساقط عندما «تحولت الكتابة إلى مهنة، ثم تحولت من مهنة إلى تجارة، وانقلبت حركة نشر الكتب من تجارة إلى عمل ضخم واسع النطاق»ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ت: إحسان عبّاس ومحمد يوسف نجم، (القاهرة: مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر، بدون تاريخ نشر) ص 58.. وعلى غرار الواقعية السحرية، التي كنّا نقرأ عنها في أدب أميركا اللاتينية، بتنا اليوم نقرأ لبعض النقاد توصيفاً جديداً يطلق عليه «الواقعية السيبرانية» أو «الواقعية الإلكترونية»الذي أطلق هذه التسمية هو الألماني ألبان نيكولاي هربست، انظر مقالاته التي يشرح فيها التسمية على مدونته ، ولا شكّ في أنّ تقلّب الأنواء في عوالم الكتابة يستدعي تحوّلاً في أسلوب النقد الأدبي وفي غايته. وأهم مظاهر هذا التحوّل صيرورة الناقد مراجعاً، وهذا تحوّل جلل، وشتّان ما بين رؤية المراجع ورؤية الناقد وما بين مسارهما وأهدافهما. ومن هنا بدأنا نشهد نصوصاً نقدية لم تُكتب إلا لخدمة ماكينة سوق الكتاب الاستهلاكية الهائلة، تروِّج للكتب كما تروّج منتجات الألبان والأجبان وصندويشات الهامبرغر ووجبات الكنتاكي. ولا عجب من ذلك فصناعة النشر صناعة مرابحها عالية، ولذلك كانت بحاجة إلى أرباب دعاية ومروّجين.

واليوم هنالك سؤال حقيقي حول ماهية النقد الأدبي، وكيف يتطور، ولا سيما بوجود الشركات العملاقة كأمازون، وبسيطرة الإنترنت على مجمل أنشطة حياتنا كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، وتجيب عن هذا السؤال عدة دراسات أكاديمية ومقالات، ويمكنني أن أشير في هذا الصدد إلى كتاب فولفغانغ ألبريشت النقد الأدبي،Wolfgang Albrecht: Literaturkritik. J. B. Metzler Verlag, Stuttgart 2001 ففي هذا الكتاب يسلط المؤلف الضوء على النقد الأدبي في البلدان الناطقة باللغة الألمانية بدءاً من سنة 1945، من دون أن يغفل عن تقديم نظرة تاريخية عامة من بداية عصر التنوير مروراً بكلاسيكيات فايمار من أوائل القرن التاسع عشر، وصولاً إلى منتصف القرن العشرين. أما صلب الكتاب فيتناول «المراجعة والنقد الأدبيين» في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والإنترنت، ويبحث في أشكال العرض عبر الوسائط وطرقها، مثل منتديات مراجعة الروايات أو المجلات الثقافية مثل perlentaucher.de. ويناقش مختلف الوظائف (الاجتماعية، والتواصلية، والجمالية، والتعليمية، والإعلانية) وأهداف النقد الأدبي ومعايير الحكم والتقييم فيها. وفي أثناء عرضه نرى كيف يتطور النقد الأدبي المعاصر في النظرية والتطبيق، ونلاحظ أنّ المؤلف لا يقف موقفاً سلبياً من هذا التطور، بل يؤكد على تكامل المراجعة مع النقد، لأنها غدت جزءاً لا يتجزأ من الصحافة الثقافية في وسائل الإعلام، وبذلك يمثّل ألبريشت اتجاهاً جديداً في دراسة مؤسسة الوساطة الأدبيةوفي الإطار نفسه يمكنا أن نحيل إلى كتاب توماس آنز وراينر باسنر: Anz, Thomas / Baasner, Rainer: Literaturkritik: GESCHICHTE, THEORIE, PRAXIS. CH Beck 2004.، وأما كتاب شتيفان نيوهاوس النقد الأدبي: مدخل Stefan Neuhaus: Literaturkritik. Eine Einführung.Göttingen: Vandenhoeck & Ruprecht 2004فيتحدث عن تاريخ النقد الأدبي وسوق الكتاب، وعن أزمة النقد الأدبي اليوم، وعن نقد النقد، ونعرف من خلال هذا الكتاب أنّ مهنة المراجع وُجدت منذ أيام غوته، وأنّ غوته وصفه بالكلب، وفي عملية شبيهة بعملية الإنقاذ. إنقاذ النقد من ضياع معالمه في غمرة الانفلات النقدي. يتكلم المؤلف عن وظائف الناقد ومهامه وعن معايير الحكم والتقييم التي يجب اتباعها من أجل أن يكون النقد أقرب ما يكون إلى العمل المحكم والمقعّدوهنالك نص لنيوهاوس أكثر تكثيفاً عنوانه: Vom Anfang und Ende der Literaturkritik: Das literarische Feld zwischen Autonomie und Kommerz. أي: بداية النقد الأدبي ونهايته: الحقل الأدبي بين الاستقلال والتجارة..

أما الناقد الأدبي توماس آنز فيسدّد النظر إلى التطورات الإيجابية التي أتيحت للنقد الأدبي بظهور الإنترنت، ويلخصها في خمس أطروحات على النحو التاليانظر: Vom Anfang und Ende der Literaturkritik: Das literarische Feld zwischen Autonomie und Kommerz، وقد عزاه إلى: Thomas Anz: Kontinuitäten und Veränderungen der Literaturkritik in Zeiten des Internets: Fünf Thesen und einige Bedenken. In: Renate Giacomuzzi, Stefan Neuhaus u. Christiane Zintzen (Hg.): Digitale Literaturvermittlung. Praxis – Forschung – Archivierung. Innsbruck u.a.: StudienVerlag 2010 (Angewandte Literaturwissenschaft 10), S. 48-59, hier S. 49-53:

1- عزّز الإنترنت استدامة النقد الأدبي.

2- أتاح الإنترنت للنقد الأدبي انتشاراً أوسع بكثير مما كان عليه من خلال وسائل الإعلام المطبوعة.

3- جلب الإنترنت العديد من النقّاد الجدد والفئات المستهدفة الجديدة للنقد الأدبي.

4- وسّع النقد الأدبي، من خلال الإنترنت، من مجالات موضوعاته بشكل كبير.

5- كثّف النقد الأدبي بوساطة الإنترنت تقاليده الحوارية والشعبية ووسّعها.

وفعلاً إن تقييمات العملاء في موقع أمازون اليوم هي، من الناحية الكمية، واحدة من أكبر مجموعات الأدب النقدي للنصوص بأوسع معانيها.عادة ما تكون النصوص في تقييمات العملاء إما إيجابية ومؤكدة بشكل قاطع أو تعبر عن عدم الفهم والرفض. ولكنّنا، مع ذلك، لا نسلّم بجميع هذه الأطروحات، ولا سيما الأطروحة الثالثة، التي تذكرنا بالمثل القائل: «عندما يكون كل البشر إخوتك فهذا يعني أنّه لا إخوة لك». وكذلك عندما يجلب الإنترنت العديد من الناس ويجعل منهم نقاداً ويفتح الباب على مصراعيه ليغدو الجميع كذلك فهذا يعني أنه لم يعد هنالك من نقّاد وإنما أشباه نقّاد. ونشير في هذا الصدد إلى مصطلح Angewandte Literaturwissenschaft (الدراسات الأدبية التطبيقية) الذي ظهر في ألمانيا في بداية السبعينيات من القرن العشرين، وعلى الرغم من كلّ التجميل الذي يحمله تعريف هذا المصطلح حين يقال بأنه يشير إلى الدراسات التي تُعنى بتطبيق معطيات النقد الأدبي في مختلف مجالات النشاط في الأعمال الأدبية (النشر، تجارة الكتب، الوكالات الأدبية)، فإنه لا يهدف في الحقيقة إلا إلى تأهيل المرء ليدخل سوق العمل الأدبي على وجه العموم، وليغدو مراجعاً على وجه التخصيص.

ولكن السوق يدوس على كل تاريخ النقد الأدبي في سبيل إرضاء حركته وتنشيطها، لذلك يستغل لتسويق الكتاب كلَّ ما تصل إليه يده. يستغل السياسيين، والرياضيين، والفنانين، حين يدفع بهم لإعطاء آراء نقدية في سبيل الترويج، فيحلُّ جميع هؤلاء المشهورين محلّ الناقد الأدبي الحقيقي العالمِ المتمرّس، بل لا يتورع السوق أن يحوّل كلَّ فرد إلى ناقد أدبي، وبالأصح إلى مروّج. فنقرأ، على سبيل المثال، في موقع مخصَّص لعرض الكتب العبارة التالية: Schreiben Sie eine Kundenbewertung zu diesem Produkt und gewinnen Sie mit etwas Glück einen 15 Euro- Gutschein! أي: اكتب تقييماً عن هذا المنتج وبقليل من الحظ يمكنك الفوز بقسيمة قيمتها 15 يورو!

هذا مثال عملي لتطبيق الأطروحة الثالثة التي زعم توماس آنز أنّها من إيجابيات الإنترنت، ونلاحظ في العبارة السابقة استخدام كلمة Produkt (منتج) التي تفقد الكتاب خصوصيته وتحوله إلى مجرد سلعة. وهنا نتذكر تلك الملاحظة الذكية التي أطلقها، قبل أكثر من نصف قرن، الناقد الأدبي ستانلي هايمن فقال: «المُراجع يرى في الكتب متاعاً، أما الناقد فيرى فيها أدباً»ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ص 18.. وأما الناقد هانز ماغنوس إنزينسبرغر فيرى نفسه مدفوعاً لوصف الناقد الأدبي اليوم بأنه «وكيل تداول»، وهو وصف فيه شيء من الاستفزاز كما هو واضح، ولكنه لا يجانف الواقع الذي يشي بتحول مهام النقد والناقد، في جوٍّ تهيمن عليه «الصنمية السِّلعية»، بحسب وصف إدوارد سعيدانظر: إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى ومقالات أخرى، ت: ثائر ديب، (بيروت: دار الآداب، سنة 2007، ط 1)، ص 112..

أمامي الآن، على سبيل المثال، نصٌّ قصير كتبه ناقد أدبي يدعى يان فريدريك بانديل على سبيل المراجعة لكتاب صدر حديثاً في اللغة الألمانية عنوانه الثعبان في ثياب الذئب: سر الأدب العظيم، Die Schlange im Wolfspelz: Das Geheimnis großer Literatur. لمؤلفه ميشائيل مار. وهو أنموذج مثالي للتحوّل أو للتشويش الذي طرأ على النقد الأدبي في الأسلوب والغاية. وحيث إنّ الناقد/ المراجع، منذ البداية، يدرك أنّ مهمته غدت إثارة القارئ ولفت انتباهه بغضّ النظر عن مصداقية التناول الأدبي فإننا نراه يعمد في بداية نصّه إلى اجتراح الإثارة في صورة مبتذلة، إلى درجة أن يحللَّ الصورة على غلاف الكتاب مستنبطاً منها المعاني التي قد تدل على مضمونه، من دون معرفةٍ بمن وضع الصورة، هل هو المؤلف أم الناشر؟ فيكتب في صحيفة فرانكفورتر:

هل هو حقاً كتاب مغامرات كتبه الناقد والباحث الأدبي ميشائيل مار؟ قصة البحث عن الكنز؟ امرأة شابة أنيقة تنظر إليك من الغلاف. نظرتها واثقة من نفسها، ولكنها حالمة، لا تضربك مباشرة. اليد اليسرى على كتاب مفتوح يبدو غريباً عن التركيز. لا تدعمه اليد اليمنى. الرأس الذي أصبح من الصعب قراءته، ولكنه يشير إلى إيماءة تهديد. بالإضافة إلى ذلك، وبألوان متناسقة، كان العنوان «الأفعى في ثياب الذئب: سر الأدب العظيم»…. إنها لوحة غامضة. صورة غريبة. وعدٌ مبالغ فيه لدرجة أنّ المرء يثق على الفور في أنّ المؤلف يتخلى بثقة عن خلاصه، على الأقل ألا يضطر إلى البحث عن هذا الكنز.

إنّنا أمام مدخل أنموذجي لتعريف بكتاب تعريفاً يخلط متطلبات السوق القائمة على الإثارة والتشويق مع النقد الأدبي والدراسة الأدبية.

لذلك، بدأنا نسمع أصواتاً متزايدة تحذر من أن النقد الأدبي يتجه بشكل مفرط نحو احتياجات السوق المزعومة. تتحدث الناقدة النمساوية سيغريد لوفلر على سبيل المثال عن خضوع سوق الكتاب لتغيير هيكلي جذري، وعن الناشرين ذوي البرامج الموحّدة، الذين يبحثون فقط عن الكتب السائدة القابلة للتسويق عالمياً، عن «الهامبرغر المطبوعة». وترى أنّ «الصحافة التسويقية والصحافة الخدمية تهدّد بتخريب النقد المستقل. هناك خطر من أن النقد يمكن أن يستخدم بوصفه أداة امتداد لأقسام التسويق للناشرين»نقلاً عن: Vom Anfang und Ende der Literaturkritik: Das literarische Feld zwischen Autonomie und Kommerz. وقد عزاه إلى: Hedwig Kainberger: Mehr Platz für wichtige Bücher. Die renommierte Literaturkritikerin Sigrid Löffler macht sich im SN-Gespräch Gedanken über den Buchmarkt und den Stellenwert der Kritik. In: Salzburger Nachrichten, Nr. 273, v. 25.11.2006, S. 15.. وكذلك، تطلب الناقدة النمساوية بريجيت شوينز-هارانت، وهي من جيل أصغر سناً، نقداً أدبياً مستقلًا عن السوق، من أجل استمرار وجود مجال صحي للنقد الأدبي الذي يتغير تماشياً مع العصرالمصدر السابق، وقد عزاه إلى: Vgl. Brigitte Schwens-Harrant: Literaturkritik. Eine Suche. Innsbruck u.a.: StudienVerlag 2008 (Angewandte Literaturwissenschaft 2), S. 171.

تُنشئ قراءة كتابٍ ما لدى قارئه حشداً فوضوياً من الانطباعات، لكن عقل الناقد الأدبي يُخرج من هذه الفوضى نظاماً. ومع المراجعين تزداد الفوضى، ويصبح الحال كما قال المثل العربي: «ضغثٌ على إبَّالة».

لا شكّ في أنّ العالم العربي، حتى الآن، لم يصل إلى هذه الحالة التي تتحدث عنها سيغريد لوفلر أو بريجيت شوينز-هارانت، فعالم تجارة الكتاب العربي لا يخضع لآليّات السوق التي تحكم العالم الغربي إلا بنسبة ضئيلة تكاد لا تُذكر، ولكن جميع المؤشرات تدلّ على أنّنا سوف ننخرط، بطريقة متسارعة، في هذا السوق الذي لا يرضى البتة أن يكون أحدٌ خارج مسارات حركته.