يمكن لعاشق كرة القدم والمشجّع الراديكالي لفريق ما، أن يؤرشف كل أحداث حياته في جدول تضبطه زمنياً مباريات فريقه، تغيب التواريخ وتحضر الأهداف والانتصارات والهزائم. «تلك التجربة بدأت قبل الفوز التاريخي بثلاثة أيام، وهذه الأزمة حصلت بعد الخسارة المدوّية بأسبوع». الفريق بالنسبة للمشجع يعني «الفخر الإقليمي والعلاقات الأسرية وتفضيلات الألوان والأذواق الجمالية وحتى المعايير الأخلاقية» وفقاً لإريك سيمونز مؤلف كتاب الحياة السرية لعشاق الرياضة: علم الهوس الرياضي (2014)، وهو ما يتبدّى واضحاً لدى جموع غفيرة من مشجعي الأندية الأوروبية. هي حالة من التماهي مع الفريق ولاعبيه، ومع اللاعب الأكثر تسجيلاً. هذا التماهي سيكون له دلالات أخرى عندما تحمله ذاكرة مخرج سينمائي، عاش في مدينة نابولي الإيطالية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
يرتّب المخرج الإيطالي باولو سورانتينو تفاصيل فترة مراهقته بالتوازي مع شراء فرق مدينته نابولي للّاعب الأشهر في العالم حينها دييغو مارادونا، في فيلمه الجديد يد الله (2021) الذي أنتجته وعرضته نتفلكس مؤخراً، والذي يضع قصة عشق لاعب كرة القدم في سياقها النفسي والاجتماعي الواقعي، القريب من ذات المشجع، والبعيد عن ذات اللاعب، فمارادونا الذي يدركه المراهق فابيتو (سورانتينو) هو ليس دييغو الشخصية الجدلية في الملعب وخارجها، إنما الأسطورة الشخصية لشاب قادر على تتبع السعادة في حياته، عاشق لنابولي بكل مكوناتها المتناقضة، بإيمانه البريء بأن «يد الله» – هو توصيف ليد مارادونا التي سجّل بها هدفه التاريخي في مرمى إنكلترا في مونديال المكسيك 1986 – هي اليد التي أبعدت مصير الموت عن فابيتو، فحضوره لمباراة نابولي أنقذه مما لحق بوالديه اللذين توفيا جراء حادث أصاب نظام التدفئة في منزلهما. يقرأ سورانتينو تلك الحادثة معطياً مبررات أسطرة ماردونا في مرحلته العمرية تلك، حين كان لدى آلاف من عشّاق اللاعب مبرراتهم لأسطرته، بل وتأليهه، لقد كان إلهاً في نظر كثيرين، ممن بنوا له الكنائس في الأرجنتين، ومن أخذوا قطرات من دمه حين أجرى تحليلاً طبياً في نابولي، فوضعوه في الكنائس إلى جانب صورته وصورة المسيح ومريم العذراء.
حضور ماردونا في فيلم يد الله وفي السينما الروائية بشكل عام، يقدّمه بالشكل الأمثل الذي يريد عشّاقُه أن يروه به، يقدّم الذاكرة المرتبطة بلاعب خارق، بعيداً عن كتل التناقضات المتكاثفة في شخصيته، بعيداً عن توثيق سيرة حياته التي تعجّ بإشكاليات العلاقة مع المافيا الإيطالية، والأبناء الذين لم يعترف بهم، وعشق الديكتاتوريات الهرمة، والتوجه اليساري المشوب بالمنازل الفاخرة وسيارات الفيراري وغيرها من مظاهر الترف التي كانت تمر بالنسبة لعشّاق مارادونا دون وقوف مديد عندها، بل إنها كانت تزيّن شخصيته بالنسبة لهم، تزيد من فرادته وخصوصيته، كشخصيةٍ متقلّبة الأهواء، يناصر فريقاً كروياً ضعيفاً، ثم يتعاقد مع الفجيرة الإماراتي براتب ضخم أهَّله لافتتاح مقهى في أبوظبي بعد فترة قصيرة من إقامته هناك. يفخر بخروجه من فرق الأحياء الفقيرة الأرجنتينية ويشترط لتدريب فريق دورادوس المكسيكي مزرعة خاصة مع مسبح كبير له وللاعبين، إضافة إلى طائرة خاصة للنقل. كل ذلك كان أصلاً في فترة انتهاء فعاليته الرياضية الحقيقية، واستمراره بقطف ثمار الشهرة السابقة، متنقّلاً فيها بين أندية ثرية، ومجالس سياسيي أميركا الجنوبية وفي مقدمتهم تشافيز وكاسترو، معلناً من خلالها موقفه السياسي المناصر للشعوب الفقيرة.
كل تلك التفاصيل ستكون بعيدةً عن سورانتينو الذي يشبه في رؤيته التمييزية لمارادونا، رؤية الآلاف ممن وجدوا أن هناك فارقاً كبيراً بين مارادونا ودييغو، تلك الجدلية التي خاضها كتاب ونقّاد ومؤرّخون، فأن ترى مارادونا وتستمتع به في الملاعب، بشطحاته واحتياله ورقصه أمام المرمى، هي رؤية روائية سينمائية جمالية، ستشفع لذاكرتك انتقاء ما هو جميل من التفاصيل، ونبذ الشوائب. بل وبرؤية مخرج محترف مثل سورانتينو يمكنك أن ترمّز لتناقضات دييغو بنفحة جمالية موازية، فشخصية والده سافيريو ذي التوجه الشيوعي الذي يرفض شراء تلفزيون بجهاز تحكم عن بعد، هي شخصية حافلة بالتناقضات بدورها، فهو يعمل في بنك نابولي، ويمثّل شخصية الشيوعي الإيطالي الذي لا يمكن أن يغضّ بصره عن متع وتفاصيل معيشية من المفترض أنها رأسمالية، على طريقة مارادونا، ويرمز لحالة شيوعية تقليدية تناقض نفسها في حوادث الحياة اليومية، وفي التصريحات العامة أيضاً.
حفر مارادونا في حياته وبعد موته عميقاً في سينما سورانتينو، الحاصل على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي 2014 عن فيلم جمال عظيم، كان مسكوناً به دائماً وقد عبّر عن ذلك في لقاءات صحفية، كما سبق وأن حضر بثيمة اليد الإلهية ذاتها في فيلمه شباب 2015، الفيلم الذي يتتبع تفاصيل حياة مسنين أثرياء، يقضون مرحلة حياتهم الأخيرة في منتجع في جبال الألب، يحصون قطرات البول التي يمكنهم أن يخرجوها من أجسادهم كل يوم، فتضخم البروستات ومشاكلهم الصحية قد بَرَت أجسادهم، وليس لهم اليوم سوى الاسترخاء والذاكرة. كان مارادونا واحداً منهم، بجسد منهك، وبطن منتفخة، يحاول لاهثاً اللعب بكرة صغيرة، بين جمهور من النخبة الأوروبية التي تراقب يده التي سجّلت الهدف الذي خالف قوانين لعبة كرة القدم، وتم احتسابه ببراعة محتال. شبّه مارادونا الهدف بسرقة محفظة رجل إنكليزي، تلك السرقة التي كانت بنظره مبررّة، فالسرقة – أي الهدف الكروي – هي جزء من مباراة ضد الدولة التي هزمت بلاده الأرجنتين في حرب الفوكلاند قبل أربع سنوات من المباراة.
شخصية مارادونا الروائية تلك، والتي يبنيها سورانتينو في فيلمه من مصدر الذاكرة المنتقاة بعناية، لن تظهر بالتأكيد في السينما الوثائقية، حيث الكاميرا لا ترصد الأصداء والرؤى الذاتية، إنما تسعى للكشف، وتغني مادتها كلما غاصت في التفاصيل وغيّرت من النظرات السطحية العامة، وبخصوص مارادونا وثائقياً سيكون فيلم دييغو مارادونا (2019) للمخرج الإنكليزي المولع بالأرشيف آصف كاباديا أهم مادة مرئية رصدت تجربة مارادونا على الإطلاق، والتي انطلقت من الشخصيتين العامة «مارادونا»، والخاصة «دييغو»، في المكان الذي مرّت تلك الشخصيتان فيه بمجمل الانتصارات والانكسارات والتبدلات العاصفة، وهو نابولي.
من عالم الانقسام السياسي ينتقل اللاعب الأغلى في العالم إلى الفريق الأفقر في العالم وفق توصيف الفيلم، معبراً عن انتقاله من برشلونة إلى نابولي، برمزية الانتقال بين الشمال الغني والجنوب الفقير، حيث نابولي المدينة المنبوذة، المضطهدة من قبل جمهور أندية الشمال الإيطالية التي تتناوب على الفوز بكأس الدوري كجوفانتس وميلان، والتي يرفع جمهورها حين تجمعهم المباريات مع نابولي لافتات عنصرية، تصف نابولي بمدينة الكوليرا ومدينة الفلاحين والهمج وبأنها «مجرور إيطاليا»، لينصرها الشيوعي القادم أصلاً إليها من مبدأ يساري، فيصبح إله المدينة، متقدماً بالفريق إلى الدرجة الأولى بعد أن كان في الثانية، ثم يقوده إلى انتصارات متتالية على عمالقة الكرة الإيطالية.
يتوازى لعبه في نابولي مع قيادته فريق بلاده الأرجنتين لنيل كاس العالم 1986، منتصراً على إنكلترا في النصف النهائي وألمانيا في النهائي، نصرَ فقيرٍ على غني، بمباريات لم ينظُر إليها مارادونا بعيداً عن معناها السياسي، لكن الشهرة والألوهية التي ينالها في نابولي ستكون لابد وبالاً على ابن حي أرجنتيني فقير، كان يحلم أن يلعب كرة القدم ليشتري بيتاً لأبويه وأخواته الأربع، ستستدرجه المافيا (عصابة كامورا) وستمدّه بالكوكايين، المافيا التي استغرب عند حضوره لأول مرة في نابولي من سؤال صحفي له عن موقفه منها، إذ لم يكن يعرف بها أصلاً، لكنها ستضمن له فيما بعد أن لا يخضع للاختبارات بعد المباريات، فيصبح رهينة لها، يحضر حفلاتها ويغوص في أنديتها الليلية، فتبدأ دورة التعاطي مع نهاية مباريات يوم الأحد وصولاً إلى الأربعاء، ليبدأ التدريب وتنظيف الجسد قبل المباراة القادمة.
كانت نابولي وفقاً لرؤية الفيلم ساحة الحرية لمارادونا، ثم أصبحت السجن الذي لا يمكنه الخلاص منه، بل حتى إن رئيس نادي نابولي حينها كورادو فيرلاينو أطلق على نفسه لقب «سجّان مارادونا»، لتكون لحظة الخلاص وانقلاب المحبة إلى كراهية، عندما سجّل الهدف الذي ضمن الفوز للأرجنتين على إيطاليا في نصف نهائي مونديال إيطاليا 1990، المباراة التي جرت في ملعب نابولي بين جمهور من مريدي مارادونا الإيطاليين ممن انقسموا بين جزء استمر بتشجيعه متخلياً عن علمه الوطني، فيما كرهته الأغلبية المتبقية، عندها بدأت الخسارات بالتتالي، وأولها كان تخلي المافيا عنه، لذا ستتم مراقبة هاتفه، وسيتم إخضاعه للفحوص، وسيتهم بالإتجار بالمخدرات لا تعاطيها فقط، إذا عرضها على غانيات في إحدى النوادي الليلية في نابولي.
تنهار الأيقونة الأرجنتينية – الإيطالية دفعة واحدة، تقتله الكرة التي أحيته، وتخرجه الأهداف من كتاب أبيض ناصع في التاريخ إلى آخر أسود. زال مارادونا الساحر الممتع، وظهر دييغو المدمن الذي لا يعترف بابن أنجبه من علاقة عابرة، بدت التناقضات واضحة أمام أعين لم ترد أن تراها سابقاً، هكذا هو الجمهور حين يحب وحين يكره، ينتقي ما شاء ليظهره وما شاء ليخفيه، بات الشيوعي حامل قضية الفقراء ثرياً مترفاً، سيأخذه تعاطي المخدرات إلى المحاكم ثم المستشفيات وستنتهي الأسطورة.
تلك النظرة إلى حياة مارادونا التي قدمها كاباديا المولع بتوثيق حياة النجوم المتعاطين – سبق وقدم وثائقياً عن حياة مغنية الجاز الراحلة إمي واينهاوس – وجهت لها انتقادات بالانقياد وراء مانشيتات الصحف في قراءة حياة مارادونا الذي دعا لمقاطعة الفيلم، استطاع المخرج البوسني إمير كوستوريكا تقديم رؤية مختلفة عنها، وقراءة ما هو سلبي على نحو أكثر حساسية للتعقيدات في فيلمه مارادونا 2008، الذي يراوح فيه المخرج المتمرّس في الكوميديا بين التوثيق والرواية، ملاحقاً مارادونا مدة عامين، وآخذاً من تفاصيل تجربته ما يمكن توظيفه في الصراع السياسي بين الشمال والجنوب، ومتجهاً نحو رؤية فنية جمالية لحياة ساحر الكرة، مقرّاً بتناقضاته، التي تبرز منذ بداية الفيلم، حين يرحّب مارادونا بالمخرج وفريق عمله في اليوم الأول، ليتجاهله ويتهرّب من كاميراته في اليوم الثاني.
يركز فيلم كوستوريكا على الجانب السياسي في حياة مارادونا، كخطاباته ضد الولايات المتحدة، وموقفه ضد اتفاقية التجارة الحرة، ورفضه لقاء الأمير تشارلز مقابل لقاءاته مع الزعيم الفنزويلي هوغو تشافيز والكوبي فيديل كاسترو.
بين روائية سورانتينو وواقعية كاباديا وانتقائية كوستوريكا، يلعب مارادونا كرة القدم، فيسجّل أهدافاً في مرمى خصومه وأخرى في مرماه، تحاصره الشخصية العامة، وتقيّده الشهرة إلى حد لا يطاق، يعتزّ بأن هناك من ألّهه، ويسقط ضحية أن يصبح الكائن البشري إلهاً. يقول ماريانو سيسكيند ، أستاذ اللغات الرومانسية والأدب المقارن في جامعة هارفرد: «كان مارادونا أكثر الآلهة البشرية نقصاً. ليست هناك حاجة للتوفيق بين التناقض الذي يخلقه حبنا له فينا؛ أنت فقط تعيش مع هذا التناقض بنفس الطريقة التي تعيش بها مع التناقضات في حياتك الخاصة. أنت لا تتصالح معها. الأخلاق والحب لا يجتمعان».
بطاقات الأفلام
يد الله (2021)
سيناريو وإخراج | باولو سورانتينو |
بطولة | فيليبّو سكوتي، توني سيرفيلّو، مارلون جوبيرت |
شباب (2015)
سيناريو وإخراج | باولو سورانتينو |
بطولة | مايكل كين، هارفي كيتيل، راشيل وايز، بول دانو |
دييغو مارادونا (2019)
إخراج | آصف كاباديا |
صوت | دييغو مارادونا، ماريا روزا مارادونا (شقيقة دييغو)، كلاوديا فيلافاني (زوجة دييغو)، مجموعة من أصدقاء دييغو ولاعبي نابولي |
مارادونا (2008)
إخراج | إمير كوستوريكا |
صوت | إرنستو كانو |
غناء | مانو تشاو |