قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية ساحة الحاويات في مرفأ اللاذقية فجر الثلاثاء السابع من كانون الأول (ديسمبر) 2021، في استهداف هو الأول لهذا المرفق الحيوي المهم في سوريا، لتعود وتستهدف ساحة الحاويات في المرفأ نفسه فجر الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر نفسه. استهدفت الضربتان شحنات أسلحة وذخائر بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي أكّدَ في الضربة الأولى أن الشحنات إيرانية فيما قال بشأن الشحنات التي استهدفتها الضربة الثانية إنه «لا يعلم مصدرها إذا ما كانت إيرانية». ونتج عن الضربتين أضرار كبيرة وحرائق، كما نتج عن الضربة الثانية قبيل نهاية العام الماضي قتيلان من المسلحين التابعين للنظام، بحسب المرصد.
يصعب التأكد من مصادر موثوقة ومستقلّة من أن ما تم استهدافه في المرفأ كان شحنات سلاح إيراني فعلاً. ورغم أنه الاحتمال الأكثر ترجيحاً، إلا أن هناك أسباباً وجيهة للشك، منها أن إيران غير مضطرة لاستخدام البحر في نقل السلاح إلى سوريا، باعتبار أنه يمكن نقله بشكل أسرع وأقل كلفة عبر الطريق البري الذي تسيطر عليه بشكل فعلي من إيران عبر العراق إلى سوريا، بالإضافة إلى إمكانية الشحن الجوي.
الحرائق التي اشتعلت في المرفأ بعد الغارتين أشعلت وراءها غضباً كبيراً في صفوف موالي النظام داخل سوريا وخارجها، وبشكل يتناسب طرداً مع حجم الحرائق التي كانت في الغارة الثانية أكبر بكثير منها في الأولى؛ تضرر بنتيجة الضربة نحو ألفي حاوية، واستمرت الحرائق لفترة طويلة قبل أن تتمكن فرق الإطفاء من إخمادها. وقد عبَّرَ موالو النظام عن غضبهم من هذه الغارات في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مختلف عمّا اعتدنا سماعه منهم بعد كل غارة إسرائيلية، والأرجح أن ذلك بسبب وقوع المرفأ في منطقة اعتُبِرَت آمنة طيلة سنوات الحرب، إذ لم تصل إليها العمليات الحربية ولا الغارات الإسرائيلية، التي كسرت حالة الهدوء التي عاشها موالو النظام في تلك المنطقة.
بالاطّلاع على تعليقات أنصار النظام على غارات المرفأ، يمكن ملاحظة خطوط عريضة لغضبهم وانتقاداتهم تتركز بشكل أساسي على الموقف الروسي، خاصة أن القوات الروسية تتمركز في أكبر قواعدها داخل سوريا (مطار حميميم) على بعد 15 كم فقط من المرفأ، حيث توجد منظومات دفاع جوي متطورة مثل منظومة إس 400 وغيرها، التي يعتقد الموالون الغاضبون أنها قادرة على منع الغارات الإسرائيلية أو التصدي لها عند وقوعها، وهو الأمر الذي لم تفعله روسيا. وقد وصل الغضب إلى درجة تحميل روسيا المسؤولية بشكل مباشر، عبر اتهامها بالتنسيق مع إسرائيل لإخراج مرفأ اللاذقية عن الخدمة بحجة استخدامه من قبل إيران لتهريب الأسلحة، وذلك لتحقيق مصلحة روسية هي بقاء مرفأ واحد قيد التشغيل في سوريا هو مرفأ طرطوس الذي تسيطر عليه روسيا بعقد استثمار لمدة 49 عاماً.
وفي حين أن المُشترَك بين أغلب تعليقات الموالين الغاضبين هو تحميل روسيا المسؤولية، فإن ثمة مشتركاً آخرَ هو إنكار فكرة أن تكون إيران فعلاً تستخدم المرفأ لأغراض عسكرية، الأمر الذي يدعمه بحسبهم عدم حدوث انفجارات لذخائر وصواريخ في المرفأ بعد الغارتين، في رفض لفكرة أن تكون إيران مسؤولة عن تعريضهم وتعريض المواد التجارية في المرفأ لخطر الإصابة بالغارات الإسرائيلية.
وتكمن لامعقولية طروحات الموالين في المبالغة في أثر الغارات على المرفأ، ذلك أن غارات محدودة على ساحة الحاويات لا يمكن لها تعطيل المرفأ حتى لو أدت إلى توقفه جزئياً، إذ يمكن استئناف حركة النقل فيه بسرعة، خاصة أن معظم هذه الحركة يعود للنظام ورجال أعمال مرتبطين به، وليس لشركات دولية يمكن أن تدفعها المخاطر المحتملة للغارات إلى الإحجام عن استخدامه. كما أن عدم حدوث انفجارات بعد وقوع الضربات لا ينفي الحضور العسكري الإيراني في النقطة المستهدفة بشكل قاطع، إذ يمكن أن تكون معدات عسكرية تقنية غير قابلة للانفجار.
ويشكّل نفي الموالين لوجود سلاح إيراني وتحميل روسيا المسؤولية تغييراً في الخطاب المعتاد حيال الغارات الإسرائيلية، حيث أن وجود سلاح إيراني في أماكن استهدفتها إسرائيل في مطار دمشق الدولي مثلاً لم يمكن أمراً خاضعاً للتشكيك من قبلهم. ويمكن تلخيص الغضب الممزوج بالسخرية من روسيا والنظام في عبارة تناولها أحد المعلقين، عندما قال إن نتيجة الغارة الإسرائيلية كانت أسرع وأكبر عملية تخليص جمركي في تاريخ سوريا، في إشارة إلى احتراق عدد كبير من حاويات البضائع التجارية في ساحة التفريغ في المرفأ.
وقد تجاوز الاستياء من روسيا حدود التعبيرات الغاضبة من موالين عاديين على صفحات التواصل الاجتماعي، ومن أمثلة ذلك ما كتبه الصناعي فارس الشهابي، المقرّب من النظام والعضو السابق في مجلس الشعب السوري:
«يسخرون من الأمريكي ليل نهار..على الأقل لا تجروء أي دولة على قصف أي مكان هو فيه…! بعكس حليفنا لاعب الشطرنج العبقري الذي جعلنا بيدق صغير في رقعته الدولية…!».
«كل “الحلفاء” دون استثناء استطاعوا خلال السنين عبرنا وبمساعدتنا تثبيت معادلات ردع استراتيجية مع خصومهم الدوليين إلا نحن! متى سيدرك هؤلاء الحلفاء أن قبول الشعب السوري بهم واحتضانه لهم منوط بإعادة تثبيت توازن الرعب مع العدو الصهيوني بمعادلات ردع جديدة…؟!».
«نعتب على الصديق الروسي أنه أوقف تحرير إدلب ومنع حصول سوريا على أنظمة دفاع جوي متطورة.. وكل ذلك من أجل تفاهمات دولية معينة مع أعداء سوريا! وهذا أدى إلى استنزاف الجيش في جبهة إدلب وإلى تمادي قسد وإلى عربدة اسرائيل! والخاسر هو الدولة السورية وستخسر روسيا مستقبلاً».
على المقلب الآخر، كان موقف الإخوان المسلمين في سوريا الذي أدان الضربات الإسرائيلية على المرفأ بارزاً جداً. وينطلق موقف الإخوان من فكرة أن مقدرات سوريا تتعرض لمؤامرة مشتركة بين النظام وإسرائيل وروسيا، وأن الضربات مجرد صراع لصوص على سوريا الضحية. أما في أوساط المعارضة السورية بكافة مستوياتها وتياراتها، فإن حالة من التخبط في المواقف تشيع بعد كل غارة إسرائيلية تستهدف النظام أو أهدافاً إيرانية داخل سوريا. ولا يرجع سبب هذا التخبط إلى النقاش حول مدى استحقاق النظام والإيرانيين للقصف، فهذه مسألة مُتفَّق عليها بالإيجاب، ولكن لأن الجهة التي تنفذ الغارات هي إسرائيل. ذلك أن الموقفُ من إسرائيل، العدو الصهيوني الذي يحتل الأراضي الفلسطينية وجزءاً من الأراضي السورية، مع كل ما يتعلّق بهذا الموقف من حمولات دينية ووطنية، يؤثّر في صياغة المواقف من أي شكل للتدخل الإسرائيلي في سوريا.
الثورة السورية وعقدة سلاح الجو
المشكلة التي واجهت الثورة السورية منذ بداية الحراك المسلح هي استخدام النظام لسلاحه الجوي، وهو الأمر الذي ازداد تأثيره بشكل هائل مع دخول سلاح الجو الروسي إلى ميدان العمليات العسكرية عام 2015، في ظل غياب تام لأسلحة الدفاع الجوي لدى فصائل الجيش الحر. ورغم أن الفصائل استطاعت الحصول على أسلحة مضادة للدروع أميركية وفرنسية وروسية، ومن مصادر متنوعة، إلا أن حرمانها من أسلحة الدفاع الجوي كان الضربة القاتلة التي وُجِّهت للعمل المسلح المناهض للأسد، إذ أحدث هذا خللاً كبيراً في ميزان القوى أدى إلى الهزيمة في أغلب المعارك مع النظام، وإلى دمار كبير وأعداد هائلة من الضحايا المدنيين، بعد أن دمرت مروحيات النظام ذات الحالة الفنية السيئة، والتي تعود صناعتها للحقبة السوفيتية، ببراميلها عشرات الآلاف من المنازل.
إن مسألة التعاون والتنسيق بين روسيا وإسرائيل في سوريا أمرٌ لا يمكن إنكاره، بل هو أمرٌ معترف به من كلا الجانبين، حتى أن الطائرات الروسية استخدمت المجال الجوي الإسرائيلي لقصف أهداف في الجنوب السوري. وبالنظر إلى امتناع الدول عن تزويد الفصائل المعارضة للنظام بأسلحة دفاع جوي، وبالنظر بعدها إلى التعاون الروسي الإسرائيلي، يمكن أن نفهم ضمنياً المعادلة التي تم وفقها تدمير البلد فوق رؤوسنا بالطائرات، وهي معادلة توازن قوى تتيح لإسرائيل تنفيذ غاراتها الجوية في سوريا بكل راحة وبدون أي معيقات دفاعية، في مقابل أن يستمر النظام وحلفاؤه في تدمير البلد للقضاء على الثورة بطائراتهم، دون أن يتاح للمعارضة المسلّحة أن تمتلك أي معيقات دفاعية جوية.
هكذا إذن، فإن ما يتم تناوله بسخرية عن علاقة بين الغارات الإسرائيلية والرد الذي يقوم به النظام على المدنيين السوريين، يمكن تناوله بكل الجدية الممكنة.
في السماء السورية، ما دامت الطائرات الإسرائيلية تعمل بِحرّية، فإن الطائرات السورية والروسية تعمل بِحرّية أيضاً.
يقصف النظام السوري مناطق في سوريا رداً على الغارات الإسرائيلية لأن هذا ما هو متاح له فعلياً، وفق معادلة مكَّنته من الاستمرار بالقتل إلى هذا اليوم. وإذا حدث أن منعت روسيا الغارات الإسرائيلية في سوريا، فإن عليها وعلينا ألا نستغرب أن عملياتها الجوية في سوريا ستتعرض لمشاكل بالغة تُفقدها فعاليتها. إن الدفاعات الجوية الخفيفة تعرف طريقها إلى كل ميادين الحروب بطرق رسمية وغير رسمية، ولولا قرار المنع الذي رعته الدول ذات الشأن، بتوصية إسرائيلية على الأرجح، لكانت الفصائل ستحصل عليها بكل تأكيد.
تثبت حادثة إسقاط طائرة سوخوي 25 الروسية فوق إدلب في الثالث من شباط (فبراير) 2018، وبصاروخ مضاد للطائرات محمول على الكتف، أن توفير هذه الأسلحة الخفيفة نسبياً ممكنٌ وبطريقة مضبوطة تنزع حجة احتمال وصولها إلى «جماعات إرهابية»، كما تثبت انها تُحدث فارقاً كبيراً في التصدي للطائرات الروسية. لكن إسقاط الدفاع الجوي التابع للنظام السوري طائرة F16 إسرائيلية في العاشر من شباط (فبراير) 2018، أي بعد سبعة أيام من إسقاط الطائرة الروسية في إدلب، كان حدثاً غير اعتيادي إذ كانت المرة الأولى التي تخسر فيها إسرائيل مقاتلة حربية في مواجهات مع أعدائها منذ 1982، كما أنه كان حدثاً بالغ الدلالة على الارتباط الوثيق بين سلامة عمل الطائرات الروسية وسلامة عمل الطائرات الإسرائيلية في المجال الجوي السوري.
تمنع إسرائيل وصول دفاعات جوية للمعارضة السورية لكي تحافظ على توازن لا يعيق نشاط سلاحها الجوي بشكل حقيقي، فيما تستطيع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية التعايش مع هذه الحالة، التي تتيح لها تمدداً مريحاً في سوريا مقابل بعض الأثمان الهامشية التي تدفعها. يبدّد هذا التعايش كل أمل بأن تؤدي الغارات الإسرائيلية إلى إخراج إيران من سوريا على نحو يلحق الضرر بالنظام السوري، فالوجود الإيراني متجذر في سوريا عبر ميليشياتها، وعبر ما تقوم به من أنشطة استيطانية واختراق مكشوف لجيش النظام ومؤسساته الأمنية، لكنه لا يشكل خطراً حقيقياً على إسرائيل يستوجب التعامل معه، باستثناء بعض الأنشطة الخاصة مثل صناعة الصواريخ أو مراكز انطلاق الطائرات المسيرة. حتى أن إسرائيل تؤكد بشكل مستمر عند الحديث عن غاراتها أنها تستهدف شحنات سلاح كانت ستنقل لحزب الله اللبناني، أي أن مسألة إزالة إيران من سوريا غير مطروحة إسرائيلياً إلا في سياق إبعاد نفوذها عن الحدود الإسرائيلية. في هذا السياق، يمكن فهم أن الغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في سوريا تهدف إلى تنظيم شكل الوجود الإيراني في سوريا، لا إلى إنهائه.
إن القصف الجوي الإسرائيلي على سوريا، وبغض النظر عن تفاصيله العملياتية، هو نتيجة لهذا التفاهم. وانطلاقاً من هذا فإن سعادة بعض المعارضين للنظام بالغارات الإسرائيلية، وإن كانت أسبابها مفهومة تماماً، يجب أن يوقفها التفكير في دوافع ومآلات الغارات الإسرائيلية، التي تثبّت معادلات وتوازنات ساهمت في إنتاج القسم الأكبر من كل هذا الخراب والتشريد الذي نعيشه.
يسخر منا إعلام النظام السوري عندما يقول إن الغارات الإسرائيلية تهدف إلى «تقوية معنويات الإرهابيين المنهارة تحت ضربات الجيش العربي السوري»، لأن النظام يفهم جيداً أن هذه الغارات تثبت وجوده من حيث يعتقد كثيرون أنها تُضعفه.
ملاحظة: كتبت هذه المادة في صباح الخميس في الثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) 2021، في اللحظات التي كان يتعرض فيها محيط مدينة دارة عزة في ريف حلب لقصف جوي روسي، وأثناء سماع كاتب المادة لصوت الطائرة الروسية وهي تنفذ دورانها وغاراتها وبكل أريحية يمكن لأي سلاح جو أن يحصل عليها أثناء استهدافه لأعدائه.