يقول حاتم علي في أحد حواراته مع فجر يعقوب في كتاب الاستبداد المفرح: «كنا نعمل على إضافة صحن من الألومنيوم على هوائي السطح لالتقاط إشارات ثانية من عالم أكثر طراوة: لبنان، وأحياناً الأردن». قال ذلك في معرض حديثه عن مُشاهدة التلفزيون في سوريا قبل عصر الفضائيات. وبالفعل، تبدو عبارة «عالم أكثر طراوة» أبلغَ ما يمكن قوله في هذا السياق، إذ كان عالم التلفزيون الرسمي السوري بالغ الجلافة. ستتراجع هذه الجلافة لاحقاً مع صعود الدراما السورية منذ أواسط التسعينات ثم في العقد الأول من القرن الجديد، وستكون مسلسلات حاتم علي بالذات منبعاً لطراوة كبيرة، حتى في مَشاهِدها وحكاياتها الأكثر قسوة وإيلاماً وتشاؤماً.

ولكن بالإضافة إلى بث الطراوة في الجلافة، كانت الدراما السورية تُناور في مواجهة القسوة والألم والتشاؤم، وفي مواجهة الرقابة ومساحات الممكن الضيقة، التي يزعم هذا المقال أن بعض المسلسلات السورية نجحت في توسيعها وتوظيفها لخدمة أهداف كثيرة، من بينها استخراج الطراوة من قلب الجلافة طبعاً، وإنتاج دراما جذّابة ومُربِحة وجماهيرية وقابلة للتسويق في الخارج، ولكن أيضاً قول أشياء عن السلطة والاجتماع السياسي السوري في بعض الأحيان. ويزعم هذا المقال أيضاً أن ما قام به حاتم علي هو هذا بالضبط، استثمار الهوامش المُتاحة وتوسيعها.

من الهامش إلى المتن

لم يَقُم حاتم علي في شراكته مع وليد سيف بإعادة إنتاج التاريخ بحيث لا يكون محوره «حكايات الملوك وروايات المنتصرين»، بل لعلّ القيام بذلك مستحيلٌ دون اختلاق أشياء أو أحداث من العدم، وهو ما لم يُرِد حاتم علي وشريكه القيام به، الأمر الذي يشير إليه فجر يعقوب في مقدمة كتاب الاستبداد المفرح عندما يقول: «ثلاثية الأندلس التي أعاد فيها تفكيك التاريخ، وعزله عن القراءة الرسمية، من غير أن يعيد اختلاق واختراع ما لا يمكن اختراعه».

ليس مؤكداً أن ثلاثية الأندلس نجحت فعلاً في عزل التاريخ عن القراءة الرسمية، كذلك لم تَقُم مسلسلات تاريخية أخرى اشتغل عليها علي وسيف معاً بهذا مطلقاً، حتى أن حاتم علي نفسه يصف مسلسل صلاح الدين مثلاً بأنه «بلا أنياب». لكن العودة إلى ثلاثية الأندلس، وتحديداً صقر قريش، تشرح كيف كان حاتم علي ومعه وليد سيف يشاكسان التاريخ المعروف وروايته الرسمية، ويستخدمان مفردات هذه الرواية نفسها كي يفعلا الكثير ويقولا الكثير.

في المتن صقرُ قريش، عبد الرحمن بن معاوية وحكاية دخوله إلى الأندلس، ومعه آخرون، الخلفاء هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد ومروان بن محمد وأبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور، وكذلك شخصيات محورية أخرى مثل أبي سلمة الخلّال وأبي مسلم الخرساني وغيرهما. وفي تناول هذا المتن، أو هذه المتون، ليست مشاكسة الرواية التاريخية الرسمية يسيرة لأنها قد تعني اختلاق أحداث من العدم، لكن يبقى أنه ممّا لا يُنسى ذلك الاجتهاد الاستثنائي في تركيب شخصية أبي مسلم الخراساني، وصياغة معالمها النفسية وسيرتها اليومية، التي أدّاها باسم ياخور.

لكن ثمة شخصية تم استدعاؤها من الهامش إلى المتن، هي شخصية بدر خادم عبد الرحمن بن معاوية، الذي يتكرر ذكره في كتب التاريخ دون كنية أو نسب، حتى أن سيناريو المسلسل يتضمن حواراً حول هذه النقطة، يرفض فيه بدر أن يتكلم عن أصله ونسبه، ويقول: فليكن اسمي بدر فقط. في المراجع التاريخية، وحده لسان الدين الخطيب في كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة يقول إن بدراً هذا من أصل رومي. وتقول الأخبار إن بدراً شارك عبد الرحمن الداخل رحلته من الشام الأندلس، وساعده في دخولها، ولا شيء آخر تقريباً سوى أن عبد الرحمن أبعده من حاشيته لاحقاً دون ذكر أسباب واضحة. في المسلسل، يصبح لبدر حكاية مكتملة المعالم، ورأي في السلطة والدولة والإمارة، وكفاح من أجل العدالة والعيش الكريم، وأثمانٌ يدفعها جراء مشاكسته لخيارات عبد الرحمن الداخل ومسالكه السلطوية الدموية الفظيعة، كأنما هو تجسيد واستحضار للغائبين عن كتب التاريخ، الناس العاديين الذين يحلمون ويعملون ويكافحون ويصنعون التاريخ، ولا يحضر ذكرهم في كتبه بل تحضر سير الملوك والفاتحين. ولكن ليس هذا فحسب، بل يصبح للشخصية معالم نفسية وحركات وطِباع بحيث تنحفر في ذاكرة المشاهد؛ خفة الظل، وحب الحياة بنهم لا حدود له، وإتقان الصفير الذي يصبح ثيمة أساسية لكل مشاهده الحميمة مع صقر قريش، وإتقان الرقص الذي يؤديه المغربي محمد مفتاح. يصرخ بدر في المشهد الأخير محدثاً عبد الرحمن الداخل بعد أن تقدَّمَت بهما السن: «قد صنعناه معاً… أنا وأنت»، ثم يبكي، ثم يرقص.

وبعيداً عن المتن في الرواية الرسمية، لكن ليس في هامشها تماماً، كان الصميل بن حاتم، زعيم جند العرب القيسية في الأندلس. في كتب التاريخ، يحضر ذكر الصميل بوصفه داهيةً وصاحب سلطة في قومه القيسية، وبوصفه شريكاً في حكم الأندلس أواخر أيام الخلافة الأموية في المشرق، وهو يرفض أن يخضع لعبد الرحمن بن معاوية، فينتهي الأمر به قتيلاً طبعاً، مثل كل خصوم صقر قريش. والصميل بن حاتم هو حفيد شمّر بن ذي الجوشن، قاطع رأس الحسين بن علي بن أبي طالب في سيرة كربلاء، لكن المسلسل لا يأتي على ذكر هذا النَسَب.

يصبح الصميل في المسلسل شخصية مركزية في الحكاية، وعقلاً مدبراً لشؤون الحكم في الأندلس قبل دخول عبد الرحمن بن معاوية، وصاحب صفات استثنائية تعكس كثيراً من تناقضات تلك المرحلة، من بينها جلافته التي يُعيّره بها أبناء العائلات التي وصلت الأندلس مع الفاتحين الأوائل، إذ يعتبرون أنفسهم أهل المدنية ويعتبرونه متوحشاً. وقد تم منح الصميل معالم شخصية ونفسية وأدائية خاصّة؛ يشرب كثيراً من الخمر، والعصبيةُ القبليةُ عنده عقيدةٌ لا يتراجع عنها، يفتك بأعدائه إذا ظفر بهم لكنه لا يرجع في عهد قطعه، يحمل في يده السِواك دوماً، وله أسلوب خاص في الكلام، وعبارات يرددها من بينها عبارة لا يقولها غيره في المسلسل، إذ يقول عندما يتوعد بقتل أحدهم: إذا فعل كذا «قرعنا رأسه بالسيف». أدّى هذه الشخصية غسان مسعود، ويبدو أن وليد سيف وحاتم علي أرادا لهذه الشخصية أن تحضر بقوة في ذاكرة كل من يشاهد المسلسل، لأنه عبر هذه الشخصية بالذات تظهر أشياء كثيرة، أبرزها أن الإسلام لم يكن متجذراً في النفوس كما تحاول الرواية الشائعة أن تقول، وأن العصبية القبلية كانت موقفاً أخلاقياً لا موقفاً نفعياً فقط عند أشخاص مثل الصميل، وأن ما كان يفصل الصميل عن أن يصير أميراً ليس شيئاً سوى أنه لم يكن قُرشياً. في النهاية، دفع الصميل ثمن كل ذلك عندما قتله عبد الرحمن الداخل غدراً، دفع بالذات ثمن العصبية القبلية وثمن أنه لم يرجع في عهد قطعه؛ الأخيرة بالذات هي التي ساقته إلى حتفه في رواية المسلسل.

في ربيع قرطبة وملوك الطوائف أيضاً محاولات لمشاكسة الرواية الرسمية، واستغلالٌ لعناصرها من أجل قول أشياء متنوعة عن التاريخ والإسلام والسلطة والاستبداد والثورة. في ملوك الطوائف بالذات، ثمة محاولة واضحة جداً لقول أشياء عن الاستبداد في الزمن الراهن، على نحو يمكن انتقاده فنياً وسياسياً بسبب المباشرة والتبسيط الشديدين، ومن ذلك تكرار عبارة «إن الطغاة كانوا دائماً شرط الغزاة» في خلفية مشاهد عديدة. كان يسهل تفسير العبارة وقتها، عندما تم بثّه للمرة الأولى عام 2005، على أنها تتعلّق بالعراق الذي كان قد تم غزوه مؤخراً بعد سنوات الاستبداد الصدّامي الرهيب، لكن تكرارها الذي يصبح مزعجاً في بعض المشاهد كان يشبه تبشيراً بكوارث قادمة على كل البلدان التي تعيش أوضاع مشابهة لأوضاع العراق.

في شراكة حاتم علي مع وليد سيف أيضاً مسلسل التغريبة الفلسطينية، الذي حاول أن يقدّم رواية تنتقل فيها حكايات الفلسطينيين العاديين المنكوبين بالتهجير والحرب إلى المتن، ولم يستسلم لإغراء إعادة تقديم الفلسطيني كبطل أسطوري، بل قدّمَ لنا حياته اليومية المعجونة بالألم والكفاح اليومي والتناقضات. وفي سجلّ هذه الشراكة أيضاً مسلسلان تاريخيان آخران هما صلاح الدين وعُمَر، وكلاهما مسلسلان «بلا أنياب» في استعارة لوصف حاتم علي نفسه لمسلسل صلاح الدين.

ولكن هل كان يمكن الخروج على الرواية الدينية الرسمية في مسلسل عمر مثلاً؟ الأرجح أن خروجاً كهذا كان سيعني أن المسلسل لن يتم إنتاجه أصلاً.

من تصوير مسلسل عمر

ليس في تجربة حاتم علي مع الدراما التاريخية معجزات من أي نوع إذن، وليس فيها ما هو «ثوري» في إعادة إنتاج الروايات التاريخية، لكن فيها محاولات حثيثة لتوسيع حدود ما يمكن قوله عن هذا التاريخ وعبر هذا التاريخ، وفيها إخلاص لدور أساسي يمكن أن تلعبه الدراما التلفزيونية، ولعلّها ينبغي أن تلعبه، وهو تقديم متعة جماهيرية تحرّض على التفكير في أحوال المجتمع والسياسة.

شيمتكَ الصبر

بعد الشارة العامّة، يُفتَتح مسلسل عصيّ الدمع الذي أُنتج  عام 2005 وكتبته دلع الرحبي وأخرجه حاتم علي، بعبارة «دمشق اليوم» مع منظر عام لدمشق من جبل قاسيون في الألفية الجديدة، رماديّة لا أشجار كثيرة فيها. تتوالى حلقات المسلسل وأحداثه على إيقاع أحداث العراق بُعيدَ الغزو الأميركي، من مشاهد سجن أبو غريب التي هزّت الضمائر إلى اكتشافات لمقابر جماعية إلى الهجمات على القوات الأميركية والعراقية الرسمية. شذراتٌ تلفزيونية عن أحداث سوداء تنطلق من بيوت أبطال المسلسل، تتخللها فيديوكليبات لإليسا وهيفاء وهبي معلنةً عصراً متغيراً مُسرعاً. يسرع الزمن على إيقاع عبارات «اليوم اللي بعدو» و«ثاني يوم» و«بعد بيوم» بعد شارة البداية في الحلقات، مع ساعة حائط لا تتحرك. يريد القاضي سميح  الدوجي (يقوم بدوره حاتم علي) يوماً أن يصلحها، فهو هاوي إصلاح ساعات في أوقات فراغه من عمله القضائي. يريد أن يُصلح الساعة المعطّلة منذ يوم وفاة والده ، فـ«دوام الحال من المحال»، إلا أن والدته، الآنسة القبيسية التي تقوم بدورها ثناء دبسي، ترفض ذلك، وتطلب منه ألّا يصلح الساعة، أن يتركها «على حطّة إيد أبوه».

العبارة الأولى في المسلسل تنطقها المحامية رياض العمري (تقوم بدورها سلاف فواخرجي): «لازم تتذكري الوصفة السحرية: حلوة وذكيّة وقوية»، لتعلن موضوعة المسلسل الأساسية: قضايا المرأة في مجتمعنا السوري. في خلفية الأحداث وطوال حلقات المسلسل نعرف أن هناك مؤتمراً للمرأة سيُنظَّم في البلد، ينسق تنظيمه القاضي سميح الدوجي لأنه يرى ضرورة مقاربة هذه المواضيع لقطع الطريق على المؤامرات الدولية التي تستهدف منطقتنا، من خرائط طريق أميركية وشرق أوسط جديد وفوضى خلّاقة، وتتخذ من أوضاع المرأة والحريات حجّةً وحصان طروادة. معالجة أوضاع المرأة إذن ضرورة موضوعية مُستعجَلة يفرضها وضع سياسيٌ هشّ، وهي وجهةُ نظرٍ ترفضها المحامية رياض العمري، التي ترى أنه طالما لا إرادة سياسية قانونية نحو إصلاحات نصيّة تشتغل على مدونة الأحوال الشخصية بوضوح، فإنه لا أمل في مثل تلك المؤتمرات التي لا تفعل إلا إبراز الأشخاص المتسلقين. وهي ترى أن لا شيء يمنع من تغيير مدونة الأحوال الشخصية، حتى بالاستناد إلى الشريعة، لا بل إن الاستناد إلى الشريعة الحقّة ضمن النصوص القانونية، وبطريقة لا تدع مجالاً للبس، قد يكون الحل الأمثل في مسائل مثل سكن الزوجة الشرعي مع أولادها بعد التفرقة أو الحضانة أو النفقة أو الإرث، مسائل كثيرة تتعرض لها هي كوكيلة ويتعرض لها القاضي سميح الدوجي، الذي لا يعرف أحياناً كثيرة كيف يقرر في القضايا التي تُعرَض عليه في ظل اهتراء قضائي وثبات ذكوري مجتمعي لا يمكن خلخلته.

يقارب المسلسل معظم أوجه الحياة المرأة والمرأة العاملة في بلادنا، بما في ذلك مسألة العمل المنزلي أو التحرش في الشارع، بخطاب يبدو متسقاً مع بساطة التلقين المباشر حول ما ينبغي وما لا ينبغي فعله مع المرأة. غير أن كليشيه «حلوة، ذكية، قويّة» وكليشيه «يكفينا الاستناد إلى الشريعة» حتى نحقّ العدل في مدونة الأحوال الشخصية، تبدآن بالخفوت أمام تلاوين وتفاصيل كثيرة يُدخلهما حاتم علي ودلع الرحبي ببراعة في المسلسل. تفاصيل تكاد تكون رائدة حينها، في بداية الألفية الثالثة، في صناعة التلفزيون السوري، الثقافة الجماهيرية الجامعة ضمن المشهد الثقافي السوري، إذ طُرحت قضايا المرأة في مجتمعنا كمسائل شائكة تتطلب أكثر من نصوص قانونية ومطالبات حقوقية، ولا تُحلّ ببساطة حتى بإرادة سياسية. هي قضايا متجذرة في الأجساد والذوات والوجدان الجمعي المحكوم بالهيمنة الذكورية البطريركية.

هناك أجساد أنثوية لا يتسنى لها أن تعبّر عن ذاتها الجنسانية ورغباتها، فينقلب الكبت عنفاً تمارسه النساء على أجساد النساء الأخريات، كما في حال معزّز ومكرّم، الخياطتان «العانستان» (تقوم بدورهما أمانة والي ولينا باتع)، حين تطبقان الحصار على أهلية وهوامش حركة زوجة أخيهما لمجرد أنها متزوجة وتعيش حياة جنسية مكتفية نظراً لوضعهما. ودائماً من وجهة نظرهما، كما تُبدي الإشارات المضمنة الكثيرة في المسلسل، إذ تقضيان حياتهما ناظرات إلى حيوات الآخرين من نافذة بيتهما.

وثمّة الجسدُ الذي لا يطابق الصورة المثالية للجسد الأنثوي المرغوب، ويستبطن أن هذه هي علّة عدم رغبة الرجال به، كما في حال مَلَك (تقوم بدورها ناندا محمد)، الفتاة الممتلئة التي لا تترك طريقة ولا سبيلاً للتخفيف من وزنها والبحث عن الزواج.

وهناك الجسد الأنثوي المتقدم في السن، جسد زهرية خانم (تقوم بدوها منى واصف)، جدّة رياض العمري التي قامت بتربيتها بعد انفصال والديها. تعبّر زهريّة خانم في كل حركة وسكنة، ومن خلال دقائق تفاصيل حياتها اليومية، عن أنها ذاتٌ تستغرق في استكمال أسباب دِعة العيش؛ العيش الدمشقي المديني الذي فيه كثيرٌ من النوستالجيا لطرائق عيش وإيقاع ولّى ولم يعد، تماماً كما ولّت أم كلثوم وأجواؤها. أم كلثوم هي الأيقونة الأساسية بالنسبة لزهرية خانم، التي تعبّر عن تمثّلها للحب والحياة والموسيقى والطرب. ولكن المعلمَ الأبرز في هذه الشخصية أنها تُقدِّرُ «الاستمتاع»، تُقدّر الحياة وليست ميّتةً بعد. تعيش زهرية خانم عبر الموسيقى وعزف العود وإعداد الطعام وإلقاء محفوظات عن جماليات تتمسك بها، وعبر الاستماع للملكة أم كلثوم؛ تمسح الغبار في كل يوم عن أسطواناتها وجهاز المونوغراف المخصص لها.

محورٌ آخر مهم جداً لما يمثله في سوريا حينئذ، ولما يُمثّله نسوياً، يتمثل في  شخصية الدكتورة سلمى الحموي (تقوم بدورها صباح الجزائري)، طبيبة العيون، القبيسيّة  ذات الإيشارب الكحلي. الدكتورة سلمى لا تقبل أن تتلقى من آنستها القبيسية الخبز المقدّس دون نقاش. تتبدّى فاعليتها كذات سياسية، مُساءِلة، في اجتهادها الديني ومحاولاتها التفسير الكلي للآيات القرآنية المتعلقة بالقوامة وبتعدد الزوجات على سبيل المثال. يبتدئ المسلسل بشكوكها حول ارتباط زوجها بامرأة ثانية «على سنة الله ورسوله». تحاول أن تناقش آنستها القبيسية بآية المثنى والثلاث والرباع، مُحاوِلةً إيجاد الصلة بين الشرط وجواب الشرط في الآية. لا تخرج الدكتورة سلمى عن النصّ، ولكنها تحاول أن تُعمِل تفكيرها في تأويل النص رغم التعليقات الساخرة  المتكررة لمن حولها: «اتركي التفسير لأهل التفسير».

كيف يقدم المسلسل مآلات شخصياته؟ وهل تنجح وصفة رياض العمري السحرية وثقافتها وتمكُّنها من عملها الحقوقي في نجاتها من مصائر نساء بلدنا الظالمة؟ نعتقد أن البروفايل الأساسي الذي قد يساعدنا في الإجابة على هذا السؤال هو بروفايل رياض المرادي (يقوم بدوره جمال سليمان)، مهندس الديكور الذي تقع في حبه رياض العمري. رياض المرادي يتسم بكل ما هو حداثي وكوزموبوليتي، مهووس بالموسيقى العالمية الكلاسيكية، مُقتدِر، كياسته مدنيّة بكل معاني المدنيّة، سافرَ وعرف العالم ومخزونه من جماليات وثقافة حداثية، وهو ينبئ عن رجل متحرر بكل المقاييس من الشيفرات الذكورية في مجتمعنا. تقع المحامية في حبه لأن «كلامه مختلف»؛ هي لا تعرف إلا أم كلثوم والسنباطي فيما يعرف هو تفاصيل سِيَر موسيقيين كُثُر أقل شهرة بكثير من بيتهوفن، ويعرف علاقة تَغيُّر تقنيات سمفونياتهم بالمنعطفات التاريخية التي عاشوها. يطبخ طعاماً عالمياً لضيوفه كما تشتهي أي امرأة من شريكها، شارحاً بشكل مطوَّل ملامح الثقافة الإنسانية والجماليات التي تُبعِدُ البشر عن الحيوانات؛ الثقافة التي تعني الاعتناء بالحواس وبطقوس وإشارات تتعدى البقاء على قيد الحياة.

مع نهايات المسلسل، وبعد زواج رياض العمري من رياض المرادي وتحقيقها لحلمها بالارتباط بهذا الرجل المختلف، تكتشف المحامية أنه متجذر في الذكورية البطريركية وأن دورها محصور في حياته بكونها كامرأةٍ «صمديةً» جميلة، لا يحق لها التعبير عن نفسها كذات فاعلة إلا بقدر، إن تجاوزته أصبحت «مفزلكة» لا طائل من كلامها. نكتشف أنها مخدوعة منذ البداية، وأنه رتب كل تفاصيل لقائهما، وأنه لا يهتم بأمر ابنه من زواجه الأول إلا بقدر ما يسيء له ولمكانته بتصرفات رعناء.

مصير رياض العمري لا يختلف كثيراً عن مصائر باقي بطلات المسلسل. فالدكتورة سلمى الحموي تتعثر بصعوبات بالغة لإسكان أولادها وحضانتهم بعد خروجها من منزل زوجها، وتكتشف صعوبة خيارها بالانفصال عن زوجها بعد زواجه الثاني وعدم ركونها لنصيحة آنستها القبيسية بقبول الأمر الواقع؛ واقع أن تكون زوجة ثانية. المرأة العاملة لا تنجح في الإبقاء على زوجها متحمساً لمساندتها، ولا تنجح في الإبقاء على إرث عائلتها من هيمنة أخوتها الذكور. لم تستطع أيٌّ من الأجساد المعذبة التعبير عن نفسها إلا بتسويات مجتمعية باهتة. حتى الست زهرية، الملكة كما تقول عنها حفيدتها، لا تفشي سر قماش التول الأبيض الذي تطلب بقاياه من جارتيها الخياطتين إلا بعد موتها، حين يتم العثور عليها ميتة في فراشها محاطة بغيوم من التول الأبيض كعروس تُساق إلى باريها. لم تستطع السيدة زهرية أن تعلن قبل موتها أنها ما زالت امرأة، حتى أمام ابنها المغترب في الخليج، الذي استهجن أنها تسقي ورودها على شرفتها أمام أعين المارّة.  نكتشف في نهاية المسلسل أن الوصفة السحرية ليست فعّالة، وأن الخطاب الحقوقي المَطالبي غير كافٍ. بعد أن نظَّمَ فعاليات مؤتمر المرأة، يقرر القاضي سميح الدوجي أن يترك القضاء ويفتح محل والده المتروك لتصليح الساعات.

هل كان تناول حاتم علي ودلع الرحبي لهذه القضايا في المسلسل من باب سد الذرائع أمام الغزاة في زمن أبو غريب؟ ربما، ولكن يبقى أن تناول قضايا النساء في الدراما التلفزيونية السورية جاء في نسخته الأكثر عمقاً حتى ذلك الوقت عبر مسلسل عصي الدمع، الذي لم يكن تناوله هنا بهذا التفصيل إلا بهدف تقديم نموذج عن الخط الذي حاول حاتم علي أن يجعله ناظماً لكثير من مسلسلاته الاجتماعية، أي محاولة أَشكلَة ومُساءَلة بديهيات الوضع القائم الذي يحكم مجتمعنا. ولقد تم إبراز الطفرات القيمية التي شهدها مجتمعنا، والوصولية التي أصبحت مثالاً يحتذى، في مسلسلات عديدة أهمّها أحلام كبيرة والغفران، بيد أن ما نستطيع ملاحظته على السواء في مسلسلي عصيّ الدمع وأحلام كبيرة هو محاولة تفكيك البطريركية المتجذرة التي تحكم مسارات حياة الأفراد، وتُغيُّبُ ذواتهم الحقيقية. عمر المحامي، بطل مسلسل أحلام كبيرة (قام بدوره باسل الخيّاط)، قضى شطراً من حياته لا يعرف ما الذي يريده. سار بشكل مثالي في خط رُسمَ له مسبقاً، وفعل ما ينبغي أن يفعله على أكمل وجه، لكنه لم يتمكن من فعل ما أراد أن يفعله. كل شيء في حياته كان محكوماً بماردٍ عملاق لا نعرف له وجهاً؛ الارتباط بمن أحب غير ممكن لأنها مسيحية وهو مسلم، والدراسة التي أرادها لم تكن ممكنة، وكان عليه أن يتصرف دائماً كأخ كبير ينقذ المواقف ويرمم ما ينكسر ويحل محل والده في إعانة الأسرة دون أن تتيح له الحياة التعبير عن ذاته، «فكل شي ضاق، ضاق حتى ضاع، نفذت أمانينا، نفذت مرامينا، أحلامنا نفذت، عصارة روحنا نفذت».

أخرج حاتم علي كثيراً من المسلسلات الاجتماعية قبل العام 2011، ولم تكن كلّها على المستوى نفسه، سواء على صعيد النص المكتوب أو على صعيد الإخراج، كما أن بعضها لم يحمل أي عمق استثنائي في معالجة المسائل الاجتماعية التي يتناولها، بل كانت مسلسلات للمتعة والترويح عن النفس، لكن كثيراً منها أصبح علامات لا تُمحى من ذاكرة السوريين، كما هو حال مسلسل الفصول الأربعة. حاول حاتم علي في أغلب أعماله أن يكون وفياً لدوره ورسالته الفنية والثقافية، التي شكّلت واحةً من بين واحات تعبيرية عديدة لم يستطع البعث والحكم الأسدي القضاء عليها نهائياً في سوريا التي لنا. ربما لأن البعث الأسدي لم يكن قادراً على فرض برنامج ثقافي شمولي بديل، وربما، كما نحب أن نعتقد، لأن المجتمع السوري لم يصبح قحطاً تماماً، وظلّ يحاول ضمن المُتاح والممكن السياسي أن يُعبّر عن عدم انمحاقه الكلي أمام آلة الحكم الرهيبة.

بعد الثورة

لم يعلن حاتم علي موقفاً سياسياً واضحاً منحازاً للثورة السورية عام 2011، ولم يعلن موقفاً حاسماً من النظام السوري، لكن موقفه من السلطة السورية وكيفية إدارتها للبلد واضحٌ دون لبس في المسلسلات التي أخرجها قبل الثورة، وبعدها أيضاً. في مسلسل العرّاب، في جزئيه (2015 و2016)، نرى بوضوح سلوك السلطة السورية الإجرامي، وكيف عاشت القيادة البعثية القديمة تحولات اقتصاد السوق وصعود رجال الأعمال الجدد في العقد الأول من حكم بشار، وكيف كان تَصرُّف أجهزة النظام الأمنية ضد كل صوت معارض. في بداية الجزء الأول، نرى مشاهد البذخ لدى مسؤول رفيع في النظام في مقابل مشاهد الفقر الشديد في أحد عشوائيات دمشق ومشاهد اعتقال كاتب صحفي معارض يقطن إحدى هذه العشوائيات، وفي نهاية الجزء الثاني نرى تصاعد الصراعات الدموية بين رجال الأعمال الجدد، ونرى اعتقال كاتب صحفي معارض آخر، وينتهي المسلسل مع هتافات «الشعب السوري ما بينذل» في الحريقة في دمشق. الانحياز واضح هنا إذن، كما أنه حاضرٌ وإن بشكل أقلّ وضوحاً في مسلسل قلم حمرة (2014)، المسلسل السوري الوحيد الذي أخرجه حاتم علي ويتناول فيه مرحلة زمنية بعد قيام الثورة.

من تصوير مسلسل العرّاب

صحيحٌ أن حاتم علي بقي منضبطاً تحت سقوف معينة، بما سمحَ بمتابعة هذين المسلسلين جماهيرياً، وسمحَ بأن يتم تمويل إنتاجهما وأن يشترك في أدائهما ممثلون سوريون متنوعون من حيث المواقف السياسية، ولكن بغير ذلك ما كان يمكن لهذه المسلسلات أن تخرج إلى الجمهور. وفي موقف ثوري راديكالي، يمكن أن يُقال إن الصمت في زمن الثورة أفضل من قول كلام موارب بشأن مجرمين يرتكبون المجزرة الآن وهنا، غير أن هذين المسلسلين، العرّاب وقلم حمرة، كانا استئنافاً لمجمل مسيرة حاتم علي، التي حاول فيها مراراً توسيع حدود الممكن في الدراما بوصفها فناً جماهيرياً هدفه الأساس هو التسلية، لكنه استئنافٌ في زمن استثنائي كانت الدراما السورية تعيش فيه تحديات الاستمرار دون أن تكون مجرد بوق لتكرار خطاب السلطة، وهي مهمة عسيرة في أجواء إنتاجية لا تزال اليد الطولى فيها للنظام ومقربين منه أو غير راغبين في التصادم معه، ولهذا النقاش كلّه مقامٌ آخر.

ثمة استعصاء يصعب تجاوزه في تقديم دراما عن الزمن السوري الراهن، فإما أن تقول كلاماً موارباً أو أن تكرر روايات النظام أو أنك لن تقول شيئاً. وربما لهذا السبب اتجه حاتم علي إلى العمل في مصر، مستنداً إلى إرث كان قد بدأ على الساحة الدرامية المصرية مع إخراجه لمسلسل الملك فاروق عام 2007. كان أهو دا اللي صار آخر مسلسل أخرجه حاتم علي، ويتناول في جزء منه حقبة مصرية تمتد من العام 1918 إلى 1952. في مشاهد تلك الحقبة، نرى تحفة فنية درامية خالدة على صعيد المشاهد والتمثيل وحتى الديكورات والملابس والأغاني التي تم اختيارها من ذلك الزمن. وفي هذا المسلسل أيضاً، نرى الاستعصاء السياسي يفرض نفسه، إذ لا يُقال شيء سياسي اجتماعي واضح عن كل الحقبة الممتدة من 1952 إلى 2019 عام إنتاج المسلسل، التي يشغل الحديث عنها نحو نصف المسلسل.

في أزمنة صعبة، وفي شروط إنتاجية وسياسية ضاغطة، كان صاحب الزير سالم فنانّاً استثنائياً حاول دائماً أن يفعل شيئاً، وبقي حتى آخر لحظة من حياته مخلصاً لهذه المحاولة التي تركت وراءها بعضاً من أهم العلامات المحفورة في الذاكرة الجمعية السورية.