حكى لي قريب إخواني مرة عن فترة اعتقاله أيام عبد الناصر، وكيف أجبرهم السجان على الركض في باحة السجن بلا توقف، حتى تفتق ذهن المعتقلين عن نطق كلمة «الله» أثناء الركض، ليتحوّل ما يُفترض أنه ساعات تكدير إلى ساعات لذكر الله، شرح لي الرجل متباهياً بعبقرية الفكرة، فحاولت على إثره ترديد اسم الله مرة تلو الأخرى، الله الله الله، لأجد ما خرج مني بالنهاية هو «هاللا هاللا هاللا»، بالهاء التي تبدو كطلقة هواء من حلقي، زفرة منتظمة وإيقاعية يمكنني الركض معها والتريض كما أريد.

ثمة ملف وهمي أنشأته في رأسي، أسمّيه حيناً «أغاني البحارة» وحيناً «أغاني الهيلا هيلا»، يحوي أغنية فيروز هيلا يا واسع، وسميح شقير يا بحر، ووجيه عزيز هيلا هيلا ومحمد منير هيلا هيلا وشدوا القلوع، تستلهم هذه الأغاني إيقاعاتها، فيما أفترض، من الدندنة الجماعية للبحارة؛ كتفاً بكتف يغنون وهم يدفعون المركب لداخل الماء، يجدّفون ويعيدون توجيه الدفة.

من ضمن هذا الملف أيضاً أغنية شدوا الهمة لمارسيل خليفة، وتستوفي أيضاً شرط الـ«هيلا هيلا»، كما تتكرّر فيها كلمة الـ«همة»، التي أحاول إمعان النظر فيها هنا.

نقول في مصر «اعمل لك همة»، أي تحرك بنشاط، لا تُرِني العمل المُنجز بالضرورة ولكن أرِني نفسك وأنت تسعى لإنجازه، ومن «الهمة» جاءت الـ«مهمة»، العمل الذي نحن بصدده، وطالما أبهرني صلاح جاهين بجناسه الشعري الذي كتبه لعبد الحليم حافظ، وأصغر مهمة برضك مهمة، دي الثورة همة وذمة ودين، إلى أن أبدأ التمعن في جذر الهاء والميم، فأكتشف أنني أتورط بالتدريج في فهم مصدره.

أفترض مجيء جذر «هـ م م» من نقطة منخفضة فوق سطح الأرض؛ يعرّف لسان العرب الـ«هميم» بوصفه «الدبيب»، ومنه جاءت الهوام، أي الحشرات التي تدب على الأرض، ثم سيفيد الجذر لاحقاً ما يشبه النهوض، وعندما تقول الأمهات لأطفالهن تحفيزاً على الأكل «هَمّ يا جمل»، تخطر على بالي صورتان متداخلتان؛ طفل يمد رقبته ويفتح فمه لتلقي ملعقة الطعام، وجمل يرفع قائمتيه الأماميتين استعداداً للنهوض مع صيحة سائسه: هِمّ يا جمل.

* * * * *

أحد أكثر فرضيات نشوء الكلمات إقناعاً لي هو انطلاقها، في الزمان البعيد، من محاكاة الأصوات، نقرأ الآن «هممم»، بالعربية أو الإنجليزية، فنفهم ما يشبه التردد، ولكن يبدو أن أمراً آخر سُمع قديماً في الهمم همم همم، شيئاً مثل طنين النحل وهو ينجز عملاً، وهمّمت المرأة رأس الصبي إذا نوّمته بصوت رقيق، وتشير «الهمهمة» لأوائل الصوت قبل انتظامه في كلمات، دندنة عمالية ربما، أصوات رتيبة تنبع من دواخل الجماعة لتهوين الجهد على أنفسهم.

يضاف السين للـ«هم» فتصبح «همساً»، ويضاف لها الزاي فتصبح «همزاً»، سخرية ملتوية وغير واضحة؛ ويتطفّل حرف الغين أحياناً على هذه المائدة العامرة للهموم، فنجد الغم قرين الهم والغمز قرين الهمز والغمغمة هي الهمهمة، ولأن الكلمات القائمة على محاكاة الأصوات تبدو أكثر عالمية من غيرها، نجد الـ(humming)، أو الطنين، يظهر لنا في الإنجليزية.

من هنا نصل لمعنى القلق في كلمة «هم»، وله أصلان متجاوران في ظني؛ الأول هو الشغل، ونقول في مصر «مشغول» أي مهموم، والثاني هو اعتمال الهواجس في النفس، هسيس كهسيس الأفاعي يتردّد ببطء في الداخل، ولدى ابنتي قصة بعنوان حقيبة كبيرة من الهموم، تدور حول فتاة تكتم همومها وتخفيها في حقيبتها، فتظل هذه تتضخم، حتى تقترح عليها جارتها إخراج الهموم من قلبها وعرضها للشمس، لتفاجأ البنت بتبخّرها فعلاً فور أن تفعل هذا.

تجد الهموم موطنها المفضل بالداخل، ولا يعود الهم هماً عندما نبوح به، يتحول  لشيء آخر، شكوى ومناجاة ربما، غضباً وثورة ربما، ولكن تسقط عنه تلقائياً صفة “الهميم”.

* * * * * 

كان يمكن لـ«مهم» أن تكون ترجمةً لـ(interesting)، لولا أنها كانت محجوزة لترجمة (important)، فاضطررنا لترجمتها «مثير للاهتمام»، ولم أفهم قط هذا التصرف سوى باعتباره حشواً ركيكاً، كأن ثمة فارقاً بين ما يقلقنا وما يثير قلقنا.

وكأن الجذر ينقصه الخلط، ففي صيغة متحذلقة وخاطئة، تُكتب «مهم» أحياناً كأنها «هام»، وهي متحذلقة لأني لا أعرف أحداً في مصر، بمن فيهم المثقفون الأكثر رطانة، يقولها «هام»، وهي خاطئة لأن الـ«هام» هو من يهِمُّ بفعل الشيء لا من يهتم به، وحينما نقرأ في القرآن «ولقد همَّت به وهمَّ بها»، لا نفهم شيئاً يتعلّق بالفضول أو الاهتمام، وإنما بدبيب الرغبة بالجسدين، ارتعاشة خفيفة بهما وإن لم تكتمل، لأن الـ«همة” لا تشترط إنجاز العمل وإنما فقط العزم عليه.

في إحدى محطاتها القديمة، أتت «الأهمية” من الـ«همِّ»، كأن المهم هو ما يقلق الناس، ولا أجد لمعناها شرحاً أدق من أن ينام شخص ما، كالمتنبي مثلاً، ملء جفونه عن شواردها فيسهر الخلق جراها ويختصم، وقد قرّرت من فترة أن الـ«أهمية»، وإن لم تُذكر في هذا البيت، هي عنوانه الحقيقي، ليس فقط لأنها القدرة على شَغل الناس، ولكن أيضاً لأن في البيت شيئاً من دبيب الوسواس في العقول؛ أفكار فائضة عن احتياج النائم، تتسرّب لنفوس الناس وتظل تتفاعل فيها، حتى تمنعهم من النوم وتدفعهم للاختصام.

«الاهتمام»، بالمناسبة، هي كلمة المراهقات في مصر للتعبير عن أوائل الحب، وقد تسربّت مؤخراً لقطة من حوار بين فتاة ومحبوبها تصرخ فيه، ولا، اهتم بيا بدل ما أطلّع ميتين أهلك، وتنبع المفارقة من كون الاهتمام لا يُطلب، كما تفيد حكمة فيسبوكية شائعة أخرى، وإنما على العكس، ينبع من أدخل دواخل المرء، من حركة بطيئة ولكن واثقة بداخله، من هاء النَفَس الصادر من أقصى الحلق، وميم يتحتّم معها زمُّ الشفتين تماماً حتى يطن صوتها في الرأس بأكمله.