حتى السينما نفسها أراها امرأة: ذلك التناوب بين النور والظلام، والصور التي تظهر وتختفي.

-فيديريكو فلّيني

 

1

جسدان يلتقيان في حمام قطار. ذلك المشهد المألوف من ألف فيلم، أتعلمين كم يوجع أنه لا يحدث؟ من شهور فقط شققتُ صدري وأخرجت قلبي مرة ثانية. أمسكتُ به وكلّمته. بدا الدم أقل قليلًا لكن الوجع كان أكبر. وهو ظل ينتفض ويصارع محاولاً أن يفلت من يدي. كان كأنّه كلب حبيس شمّ صاحبه على مسافة. تخيلي ذلك يا بَيّة. قلبي يهز ذيله. ينبح ويهز ذيله بسرعة جنونية. وعندما استسلم لحنان كفي تذكّرتُ المشهد. بدا الخواء في صدري مثل عدم حدوثه بالضبط. وكان وراء عيني بحر لكن كيف أبكي بصدر مُفرّغ. هكذا علمتنا السينما أن نَحضُن قلوبنا بقسوة، بعد أن نكون حوّلناها إلى حيوانات نربّيها. نجعل أنيننا موسيقى تصويرية ونغمض مبتسمين بينما تستمر الرحلة. طائرة أو قطار. جسدان مشحونان في حمام بلاستيك. الشرط أن يكونا لشخصين لا يعرف أحدهما الآخر. وأن يصبح وجودهما المؤقت داخل كيان يتحرك سبباً في متعة مستحيلة. أتعلمين كم يوجع ذلك يا بيّة؟

 

2

لم تعد ترجِع إلا وأنا أصحو. العملية قد تستغرق ساعات. هي ليست في المنام ولا يُنتَظَر أن تكون حيث الممثّلون أمام المرايا بينما المخرج صامت والريجيسير يغنّي. لكنْ إلى أن أنهض، وأنا ألتهي بالمؤثرات الخاصة أو أبحث عن نور شباك، يسحبُني ذلك السير السحري الذي يَنقل المسافرين من الشهوة إلى وجع القلب، ذلك البساط المتحرّك المصنوع من المَني والدموع. ومن جديد بينما أتقمّص دور العجوز المضروب على قفاه، أَنجَرّ عبر مطارات السنين إلى سيناريوهات أكثر تماسكاً وإن كانت بنفس الحزن. في المشهد الأخير، أجري مهووساً أبحث عن البطلة الجميلة بِطول وعرض اللوكيشن. لا أعثر إلا على مانيكان بلاستك ملقاةٍ وسْط الملابس المبعثرة في الظلام. أعرف أنها ستكون اختفت حين أُفيق. قد لا ترجع إلا بعد أسابيعَ أو شهور. لكن إلى أن أقف على قدمي وعيناي مفتوحتان في وجه المُخرج، يظل ذلك العجوز يرجُف في صدري. يتذكر يوم كان طائراً واكتشف أنه مزحة. ويرجُف بأسى مستحيل.

 

3

السيناريو كله مجرد لقطتين. الأولى لرجل يقف عارياً أمام المرايا. يبلع ريقه ويَسهُم. كيف يمكن تصوير الحالة المزاجية لرجل يفتقد شيئاً لا يعرف ما هو، لكنه يشعر بحفرة حيث يجب أن يكون قلبه لغياب هذا الشيء؟ اللقطة الثانية لفتاة بكامل ثيابها على البحر. نراها تقترب من المياه وتدير رأسها بالتصوير البطيء. شعرها يتطاير إلى الخلف، والشمس تكرمش عينيها. الرجل ساهِم في الظُلمة بينما الفتاة تنحني، تمد إصبعها إلى أسفل كأنها تشير إلى شيء خفي. ثم نراها تحفر بذلك الإصبع في الرمل. ترسم حلزونًا قبل أن تفرد ظهرها وتنفخ، ثم تعود تنحنى لترسم حلزونًا ثانيًا كأنه الأول معكوسًا في المرايا. وبالتوازي مع اكتمال الصورة، نرى الفرحة تتداعى على وجه الرجل. ها هو يحس بقدمه تغوص في تلك الأرض الرخوة كأنها تحتضن كل شيء. النور يُعمي عينه والريح تضرب صلعته. ها هو الزجاج يتحول إلى موج هادر. وبينما الرجل يَغرق في الماء المالح، قلبٌ يبرق بين رجليه.

© يوسف رخا

4

كنتَ تعرف أن الفيلم هابط والتَذكِرة غالية لكنك مللت الشاشات الصغيرة ولم تذهب إلى السينما منذ عَشْرة أعوام. تحمّمت بعناية وأصلحتَ من هندامك مع أنك ستقطع الأرض الخلاء وربما تقابل التنين. يقولون إن التنين أسطورة لكنك رأيته بعينك. لا تذكر الآن كيف نجوتَ من حِضنه البرمائي. كانت قُبلتُه ناراً وكانت لا تُقاوَم، لكنك نجوت. وصحيح أن الموت لم يعد خِيارًا وفي البيت ناسٌ يعوّلون عليك، لكنْ بلا مخاطرة أين الحياةُ أصلًا؟ كنتَ تحاشيتَ الخلاء فترة كافية. واقتنعت أن التنين كذبة فعلًا لكنْ مَن قال إن الحياة ليست أساطير نعيشها حتى نعرف من نكون ونصبح آخرين. مثل صور تبهر عيوننا فنصدق أنها أشخاص. الآن وقد علمتَ بهذا العرض ستذهب إلى القاعة لتتفرج. لم تأبه للإشارات التي تنبئ بالإهانة. وحتى حين وصلتَ مقروحاً ومُمزّق الثياب تكاد تطلع روحك، لم يَفرق معك أن المكان صامت ومقفر. فقط خذلتك استحالة عرض فيلم حيث الشاشة قماش متناثر على مقاعدَ مُكسّرة.

 

5

كان تعيسًا فعلًا هذا السيكْوِنْس. أبٌ يقرأ رسالة موبايل في الطريق إلى أولاده فإذا به يسقط على وجهه وهو ماشٍ. ثم زوج يبكي تحت السرير. بينما الشمس تطلع حمراء ومنتفخة في الشباك، محشور على ظهره وجسمه يرتج. هناك شيء مؤثّر دائمًا في منظر كهل يبكي، ألا تظن؟ كارول مصممة أن الموضوع شخصي لكنه ليس سوى سِباحة. هذه مياه العالم نقطعها بأطرافنا لنبقى. في الحياة التي بات البطل يعيشها ساعات كاملة مرصودة لفَرْط الرمان. زوج وأب أصابعه مُدرّبة. الحبات تخشخش وهي تسقط متراكمةً بعضَها فوق بعض. قبل أن يعبّئ الرمان في علبة، كل مهارة أصابعه في استخراجها من محاجرها الطرية. كارول تعتقد أن الموضوع شخصي لكننا في مقهى أولدش، بيننا برّاد شاي وكلام عن الشِعر ومي تو. ليس من قبيل المبالغة قول إن الرمان جواهر عَطِرة على قيد الحياة. ولا إن المسبح رَحِم: هكذا يقول فِلّيني عن المكان الذي يُعرَض فيه فيلمه. عليكَ أن تدخله كجَنين.

 

6

رجلانِ يتسامران في البقعة المضيئة. هذا أيضًا مألوف. الدخان والضوء الأصفر. أحدهما يميل إلى الخلف ضاحكاً بينما الثاني يلوّح. هذان نحن يا ماجد. ويجب أن يوحي المشهد بالدفء. أن يفور النبيذ في حلق المشاهد بمجرد أن ينظر إلينا. جيش من الكومبارس حتى يضج المقهى. وإلى أن تبتعد الكاميرا ويبين الظلام المحيط في الكادر الواسع، يجب أن يبدو المكان فردوسياً. إذا قالت لكَ إنها سيئة جداً وتتمنى لو كانت شخصاً آخر – هكذا أسمعكَ تنصحني – أحسن لك أن صدّقها. تريدك أن تشك وتنكر لكنها تقول الحقيقة. فجأة، أنتبه إلى أن شيئاً خطيراً ينقصنا، شيئاً جوهرياً. وراء الزجاج تظهر كلاب مسكينة تنبح على رائحة الطعام. تجري مرتعشة حين يهدّدها النادل. على المُخرج أن يوصل معلومة أن هذه الكلاب هي أكباد المتسامرين، أننا منزوعو الأكباد. أنت لم تقل شيئاً في الحقيقة، لكنك تعرف. كلاب نحيفة عرجاء. نبدو سعداء لكنْ حين تَدفِن أبوازها في التراب نتعذّب عذاباً لا يتخيله أحد.

 

7

على حافة سرير بلاستك شاب أمامه شباك. الشباك يؤطّر شجرة رُمّان وقضبان قطار لكن الشاب لا يَرى إلا وجهاً. ليس وجه إنسان. لستً متأكدًا من آلية التقطيع لكن لابد من مونتاج. في المونتاج رجل يتفرج على فيلم بورنو ويبكي. الفيلم جعله ينتصب، لكنه يبكي بحُرقة بدلاً من أن يلمس نفسه. وفي مشهد موازٍ فتاة تُشرّط ذراعها بشَفرة. لا يبدو على وجهها ألم وهي تفعل. تحدّد المكان بإصبعها بينما الشاب مشدوه أمام  إطار الشباك. نرى جلدها الأبيض الناعم، ثم الدم يتفجّر بينما الشاب يرتفع في الهواء. رغم أنف الجاذبية يتخذ وضع السباحة ثم يطفو. سيظل وجهه يقترب من الوجه الأسطوري حتى تربطهما قُبلة. ثبّتْ الصورة. في السماء فراشات بيضاء بحجم طائرات بوينغ 747. الهيكل المحشور بين جناحي كل منها له ذراعان ورِجلان، لكنْ لا يبين منه إلا قرنا استشعار سوداوان. يشبهان كرباجين في منتصف الجَلدة تمامًا. أقدارنا يرقات. ونحن سيارات متهالكة تدور حول نفسها في الرمال.

 

8

أعرف أنك تتعذّب. طبعًا أتعذب مثلك. سنظل على وضعنا طالما الكلاب جائعة تبكي. طبعًا لن يُشبعها أن نصنع فيلماً لكن ما رأيك أن نتفرّج على واحد. إما أن نصنعه أو نتفرج عليه. هل عمرك تذكّرت شيئاً وكنت متأكداً من حدوثه ثم راجعتَ الوقائع وسألت الناس فلم تجد له أثراً في الحياة؟ ساعات يحدث ذلك فعلاً. تتذكّر شيئاً خرافياً ثم تدرك أنه حدث في فيلم أو منام. فجأة. وما أدراك أن حياتنا ليست كلها خرافات كهذه؟ لكمة في الكلية أو حقنة في النخاع. كهرباء. وما أدراك أن الخزي الذي يَبُلّك كلما راجعتَ مشاهد حياتك ليس في النهاية كل ما هناك؟ طالما أنها صور تتلاشى عن سطح مصمت. لا يمكن أن تثبّت الصورة. غطّس رأسك لتنشف. أقصد أن الماء فيه كل الرعب والرغبة. فزع الحياة والموت وبروجيكتور الذاكرة نفسه في الماء. سيجف خزيك قليلًا. إذا كانت العلاقات حالات باثولوجية، على الطبيب أن يفرّق بين أعراض المرض والعلاج.

(1/2) للأسف لم يكن الفيلم حقيقيًا. لا أقصد أن أحداثه مختَلَقة. لم يكن هناك فيلم. كان مُخرجٌ وربما كانت بطلة. كان سيناريو ليس ساذجًا لكنْ حتى لو أجازته الرقابة الرسمية لن يمر على لجان الاتحاد الأوروبي ومديري المهرجانات. سركون بولص وهو يقول هدموا سينما السندباد صوته موجع فعلًا. لكن ماذا نسمي شخصًا بصق في وجهنا وهو يضحك حين كنا جاهزين أن نخلع له عينًا فاحتفظنا بعينينا مكسوفين وممتنين لفرحة لم نكن حسبنا حسابها؟

(0.25) ملاك.