سنعيش اليوم ذكرى مؤلمة.
من نحن؟
نحن نساء ورجال، من منابت وأصول اجتماعية وفكرية متنوعة، ديمقراطيون، معارضون لنظام الأسدين، رأينا في لحظة الثورة ضد النظام عام 2011 فرصة تاريخية للتخلّص من الأبد الأسدي وبناء بلد أكثر رحابة وعدالةً لأهله، تحكمه دولة ديمقراطية؛ ولدينا في رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي رموز نحترمها ونتمثل بها قيمياً، عرفناهم شخصياً أم لا، وذلك لسيرتهم الناصعة وتاريخهم المديد في النضال من أجل سوريا ديمقراطية قبل الثورة وخلالها حتى خطفهم.
نحن الذين شعرنا أننا مُستهدفون بالوكالة لحظة علمنا بخطف الأربعة بالأصالة في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) من عام 2013 على يد مجموعة مسلحة، تشير كل القرائن المتراكمة على عملها لصالح جيش الإسلام، في دوما الخارجة عن سيطرة النظام حينها، التي كان الأربعة قد لجأوا إليها من الملاحقة الأمنية في دمشق جرّاء انخراطهم المتحمس والفاعل في الثورة ضد بشار الأسد منذ لحظتها الأولى، بعد سنوات طويلة من معارضته وأبيه.
اليوم، ماذا نرى حين ننظر من حولنا؟
نجد تنظيم جيش الإسلام الإجرامي، الذي تشير كل القرائن إلى مسؤوليته عن الخطف، دون قرائن تشير إلى غيره؛ وحوله أنصاره وإعلامييه ومريديه. هذا التنظيم العصبوي، ذو الملامح الفاشيّة، الذي ناءت سجلات الحقوقيين بإجرامه المديد، من خطف وقتل ونهب ومتاجرة بقوت محاصرين، وعرض لمخطوفات داخل أقفاص في الشوارع، وشنّه معارك طاحنة ضد فصائل عسكرية أخرى في ذروة استهداف النظام للغوطة، كلّفت مئات الضحايا. وبدل أن يذوي هذا التنظيم ويذوب بعد إعادة احتلال النظام للغوطة الشرقية وتهجير شطر كبير من أهلها نحو الشمال، يعيش هذا التنظيم الإجرامي شباباً متجدداً، جيش الإسلام أوغلو، ضمن غمامة الفصائل العسكرية المنخرطة في الحكم التركي لقطاعات من الشمال، سعداء بدورهم كبندقية مؤجرة، تنهمك بترصيع نفسها بشتى الرموز والرايات التركية والعثمانية -حتى لو تناقضت معاني الرموز فيما بينها جذرياً- وهي تنفّذ معارك «الأمن القومي التركي» مقابل إطلاق اليد للنهب والسطو، وغض النظر عن استثمار ما يُنهب الآن، وما سبق نهبه في دوما، في الشمال السوري وفي تركيا نفسها.
نرى ندماء قيادات جيش الإسلام ومُجالسيهم من المشتغلين في أوساط السياسة والثقافة والإعلام يمارسون الإنكار والتجهيل والوقاحة الأخلاقية. ومن المفيد أن نمرّ سريعاً عن عناوينهم المكرورة التي سنسمعها منهم اليوم بالذات. المبدأ الأساس هو الكدّ المتواصل لطمس القضية وإخفائها تحت الدم والركام. يحصل أيضاً أن نجد حذلقة حول حق جيش الإسلام بـ «قرينة براءة» لا مكان لها بعد كل ما جرى منذ لحظة الخطف، واجتهد جيش الإسلام بنفسه لتفويت فرصة التمسك بها على نفسه في كلّ وقت. نتعثر أيضاً برطانات الممانعة المكرورة ذاتها، وبذات السفاهة، عن «البندقية» و«المعركة»؛ أو اتهام أهل القضية بالسعي لتبرئة النظام أو التغطية على جرائمه باتهام جيش الإسلام، في استنساخ تام لخطاب حزب الله حين يُخوّن من لا يقتنع بأن إسرائيل قد تطوّعت لاغتيال مناهضي الحزب في لبنان. نخبة هؤلاء الندماء تسعى عادةً لوضع الموضوع في إطار «صراع فكري»، فحواه حرب علمانية -مدعومة غربياً بطبيعة الحال- على إسلاميين، ملائمة لمركزية المظلومية في تفكير وخطاب هؤلاء. آخرون من ضمن هؤلاء المجالسين لا يضيّعون الوقت، وينزلون إلى الوحل مباشرةً، متفرغين للنيل الشخصي والمباشر من المخطوفات والمخطوفين، وذويهم وأحبابهم، مراهنين على أن تكون بذاءتهم الغزيرة رادعاً لمن لا طاقة له على الردّ عليها بمثلها. أما جوهرة التاج في خطاب روابط مشجعي جيش الإسلام المتذاكين هؤلاء فهي التذمّر الصفيق من القضية و«كم تشغل»، والسعي لوضع مُغيّبين بمواجهة مغيّبين. لماذا تتحدثون «فقط» عن هؤلاء؟ ولماذا لا تحكون عن المعتقلين عند النظام (في استنساخ لخطاب زهران علوش الشهير عن «بنات المسلمين» المعتقلات في ردّه على سؤال عن رزان زيتونة)، أو عن المخطوفين على يد النصرة؟ أو على يد البي كي كي، أو عن المخيمات؟ أو عن أي شيء آخر؟ عدا الكذب والسفاهة في تصوير العمل من أجل قضية رزان وسميرة ووائل وناظم وكأنه جهد أناني منتقص من حقوق آخرين أو متجاهل لهم، أو كأنه غير منضوٍ في القضية السورية العامة، أو مناقض لها بشكل من الأشكال. وتزداد فداحة الكذب والسفاهة عند معاينة أن لا أحد من هؤلاء قد قدّم يوماً أي جهد يُذكر في مناصرة أي ضحايا آخرين وتمثيلهم والعمل للسعي لحقوقهم، وأن هذا الادّعاء الفارغ بالتنطع للدفاع عن «المساواة» بين ضحايا ليس إلا سعياً لتجهيل الجميع، كل الجميع.
أيضاً، نجد كثراً غير مكترثين. ليس هؤلاء اعتذاريين لجيش الإسلام بالضرورة، ولا من أنصار النظام أو أي جهة أخرى. يحكمنا نظام معنِّف، واضطررنا عبر العقود الماضية لنوعٍ من التطبيع مع العنف الممارس علينا بشكل انعكس على حساسيتنا واستشعارنا للعنف والإذلال والقهر، أكان ممارساً علينا أم على غيرنا أمام ناظرنا، وعلى ردّ فعلنا عليه؛ وانعكس أيضاً على العلاقة مع أنفسنا ومع أقراننا. وقد شكّلت لحظة الثورة فرصة تاريخية لإعادة القيمة لحياة الناس وكراماتهم، ووضعها في مركز القضية، في قلب الانشغال العام. وما من شكّ أن شرط الهزيمة قد انهمك في تحطيم هذه الفرصة التاريخية بشكل خاص، ناكصاً بالكثيرين للتطبيع مجدداً وبشكل مضاعف مع العنف الممارس ضدنا، ومدعّماً لهذا التطبيع بدرعٍ مقوّى من السينيكية، هذا المزيج من التشكك وانعدام الحساسية والتصالح مع السيء أو طبع كل شيء بالسوء: خطف امرأتين ورجلين أمر مؤسف، لكنه نقطة في بحر ما جرى ويجري في سوريا. اغتيال أحدهم هو كذلك، قصف مدفعي؟ البرميل أقسى؛ البرميل؟ لا شيء أمام الكيماوي. القتل قنصاً على الحدود؟ الغرق في البحر خلال رحلة اللجوء؟ الإذلال على دور الرغيف وجرّة الغاز؟ كل ذلك «يحصل».. مذهلة هذه الـ «يحصل» التي تُشهر في وجهك، فارغة الصبر من إصرارك على أنه «لا يجب أن يحصل». بعد كل ما حصل خلال العقد الماضي، من المرجّح أن يكون هؤلاء كتلة وازنة جداً في الساحة السورية العامة، وفي المقطع السابق قيل عن إحدى حذلقات ندماء جيش الإسلام أنها «جوهرة التاج» لأنها تستثمر بالذات في درع السينيكية النابت من شرط الهزيمة لدى هذه الفئة. إن كان هناك من معنى للاشتباك مع حذلقات المجرمين وندمائهم -وهو اشتباك مضنٍ، لا شيء فيه يسرّ الخاطر- فهو لمخاطبة هؤلاء غير المكترثين، الذين ليسوا سيئين بالضرورة، ولكنهم صاروا سينيكيين تحت وطأة شرط الهزيمة والفراغ الذي تركته تحتها.
هناك أيضاً الكثير الكثير من المتعبين، من المشدوهين لدرجة الشلل أمام كمّ الفظيع الذي سُكب على أهل سوريا، من فاقدي الأمل أمام الأفق المسدود، ممن لا يريدون أن يتذكروا لأن التذكر محض ألم دون جدوى، ممن لا يرون أي قدرة على أداء أي عمل عام الآن، ممن -في حال كانوا في مأمن جسدياً- باتوا يرون تناقضاً جذرياً بين القضية السورية وسلامتهم النفسية وقدرتهم على البقاء. كثير من هؤلا هم «منّا». ولعلّ أغلبنا، «نحن»، داخل هذا التصنيف اليوم بشكل أو بآخر. إن الوظيفة السياسية للفظاعة هي بث الشلل والتقوقع لدى الناس، والتغييب القسري بالذات نوع من الفظاعة يُمارس لأنه، كجريمة مستمرة ومتجددة كل يوم، ملائم لتعنيف المجتمع وإخراجه ممّا هو عام، ومن السياسة، ومن الفعل. تجميد المجتمع كهدف أساسي هو ضمن ألفباء تعريف التغييب القسري، وفي سوريا تجربة رهيبة، «بطلها» الأبرز هو النظام، ويشارك في البطولة كل من داعش والنصرة وجيش الإسلام، مع عدم نسيان ابتلال يد جلّ الفصائل الإسلامية وغير الإسلامية، وقسد، وعصابات نهب قطاع طرق. تجربة وجدت في عام 2013 تحديداً نقطة انعطاف مهمة، ولا شكّ ستبقى ويلاتها مسلّطة علينا على مدى عقود.
أخيراً، وبطبيعة الحال، نجد نظاماً إبادياً، عار العصر في مجال الإجرام غير المحدود، والقدرة التي لا تنضب على إلحاق الأذى دون حساب ولا رادع. نظام لا تنضب سعادته بأن هناك من قام عنه بمهمة تغييب مناضلين ومناضلات ضدّه. سميرة الخليل، المعتقلة لأربع سنوات لمعارضتها نظام الأسد الأب منذ شبابها المبكر، والحاضرة في أجواء السياسة والثقافة المعارضتين على مدى العقدين السابقين للثورة، والفاعلة في الثورة والناشطة في مجتمعها؛ ورزان زيتونة، المحامية والموثّقة والصحفية البارزة، الناشطة في ربيع دمشق وبعده، والمشاركة في تأسيس لجان التنسيق المحلية ومركز توثيق الانتهاكات أثناء الثورة؛ ووائل حمادة، المناضل الحقوقي والناشط في الثورة والمعتقل خلالها، والمساهم في تأسيس «اللجان» بدوره؛ وناظم حمادي، الشاعر والناشط الحقوقي والمناضل من أجل حقوق الإنسان والمنخرط في معارضة النظام ثم الثورة عليه. بمحاذاة النظام، نجد اعتذارييه الرقيعين وهم يزاولون مهمتهم بالشماتة بمآل معارضين جذريين للنظام الأسدي، وبالسعي، متى وحيثما استطاعوا، للنيل من المغيّبين وذويهم بالتجاهل والإنكار وبث السموم والإشاعات والاتهامات. أقلّهم رقاعة قد يدّعي «الأسى الموضوعي» قبل أن يشرح بتعالٍ أن المخطوفات والمخطوفين قد جنوا على أنفسهم بخياراتهم السياسية أو بـ «سذاجتهم»، إن أرادوا إضفاء مزيد من نزع الأهلية عن مناضلات ومناضلين، بطلات وأبطال.
سنرى كلّ من سبق ذكره. ومن الضروري أن نرى، وأن نواجه. لكن من الجيد أن ننظر في أنفسنا وفي بعضنا البعض أيضاً. نحن متفرقون، متخاصمون في كثير من الأحيان، أفراداً وجماعات. لكننا موجودون، ولسنا قليلين. لسنا حزباً، ولن نكون، ولا يُشترط أن يكون. ليس هناك إيديولوجيا مشتركة، ولا برنامج عمل متفق عليه، ولا حتى اتفاقات حدود دنيا حول أمور كثيرة. لكن الاجتماع على رفض الظلم والفظاعة، والإيمان بالديمقراطية -التي وضعها زهران علوش تحت أقدام تنظيمه في خطاب شهير-، أمور ليست بقليلة، وقضية رزان وسميرة ووائل وناظم مكان اجتماع ضروري وجوهري، أخلاقياً وسياسياً.
أطياف التعبير عن الذات والموقف، أو الصمت، إزاء قضية رزان وسميرة وناظم ووائل هيَ ذاتها أطياف الشأن العام السوري، وهذا واضح منذ 2013، ولكن هذه التموضعات أكثر تبلوراً وترسخاً في الوقت الراهن. هذا ليس صدفةً، بل نتيجة لانسجام مع الذات والرؤية والأهداف لدى المجرمين الذين غيّبوا مناضلتين ومناضلين في دوما قبل ثمان سنوات. من المنطقي الاعتقاد بأن الخطف وما سبقه من تهديدٍ علني لرزان زيتونة كان ضمن سعي سلطة جيش الإسلام الصاعدة حينها للتخلص ممن اعتبرتهم خصوماً غير مرغوب بوجودهم في مناطق السيطرة، ولإرهاب مشابهيهم وجعلهم يجمدون نشاطهم العام أو يغادرون الغوطة. من الواضح أيضاً أن الخطف قد جرى في سياق ترهيب المجتمع وتعنيفه وتجميد قدراته على مناكفة سلطة تنظيم مسلح عصبوي. ولكن من الحتمي أن الخطف كان أيضاً من ضمن ممارسة جيش الإسلام للسياسة كما يفهمها على النطاق السوري: هؤلاء هم أعدائي، وهذا ما أفعله بهم حيثما أنالهم. ليس التمسّك بقضية رزان وسميرة ووائل وناظم شأناً شخصياً أو انحيازاً عاطفياً خاصاً، بل هو أساساً دفاعٌ عن النفس ضد استئصالية فاشية عبرت عن نفسها بوضوح حين استهدفت مناضلينا وأبطالنا بالأصالة وأجرمت بحقنا، نحن الديمقراطيون الجذريون ضد النظام والمناهضون لاستنساخاته الصغيرة، بالوكالة. لقد «مارسوا السياسة» بالسعي لاجتثاثنا.
وإذ ليس لدينا الكثير من العدّة والهامش لممارسة سياسة أكثر في شرطنا السوري الراهن، فالممكن الأخلاقي والسياسي هو أن ندافع عن أنفسنا، وأن نتمسك بالمطالبة بكشف مصير مخطوفاتنا ومخطوفينا، وأن نلاحق المجرمين بكل ما أوتينا من أدوات حيثما كانوا. وأن لا نتوقف عن تذكّر رزان وسميرة ووائل وناظم والتذكير بهم.
نعم، إنها ذكرى مؤلمة. قبل ثمان سنوات من اليوم، خطف تنظيم إجرامي رزان وسميرة وناظم ووائل. مناضلتين ومناضلين بارزين من أجل سوريا عادلة وديمقراطية. هذا مؤلم. ألمٌ ما كان يجب أن يحصل. ليته لم يحصل. ليته انتهى. أما وقد جرى، وما زال يجري، فلنحصّل حقّهم، وحقّنا.