طلب مني ياسين أن أكتب عنكِ في ذكرى  اختطافك. وقررت  أن أسرق عادته، فأكتب إليكِ عوضاً عنه. طبعتُ جميع رسائله إليك لأقرأها مرةً أخرى. قصة حبّكما مؤلمة، ومؤلمةٌ رسائله إليكِ. لكنها بعضٌ من كرامتنا؛ ألا نُعرّف بأسوأ ما حصل لنا، بل بما فعلناه في مواجهة ذلك الفظيع. أن نقاوم تعريفنا بالخطف والقتل وظلم السجانين؛ أسديين أم إسلاميين أم كليهما. أن نُعرّف بالحب؛ حب عارم تجاه سوريا، وتجاه بعضنا البعض، وتجاه مَن خُطفوا. تجاهك يا سميرة التي حُرمتُ من حقي في أن أتعرف إليك، وفي أن أسهر في منزلك.

عاتبت ياسين مرةً في أنه لا يكتب لكِ عنا، نحن الذين نحبكما. كان ذلك قبل رسالته الثالثة عشر. خفتُ أن تعتقدي أن هناك الخذلان فقط  في حياته، خذلان الائتلاف المتوقع تماماً من جيلنا والذي إن حصل العكس وعبروا عن موقف شجاع لكان ذاك سيفاجئنا ربما، ذاك الخذلان لا زال يبعث ذات الغضب في ياسين. أحسده على غضبته. والخذلان من ملمعي جيش الإسلام. والخذلان من الذين، في معرض خلافهم الفكري أو الشخصي مع ياسين، يستعملون اختطافك لكسر قلبه، وكأن الذي كان لا يكفي!

لكننا هناك، ونحن كثرة، نحبكما.

تعرفت على ياسين في تركيا، إبان تهجيره وتهجيري. هو الملتاع بسؤال غيابك، وغياب أخيه وأصدقائه وأربعتكم، وأنا الملتاعة بسؤال نجاتي من سجن الإسلاميين، الظاهرة النادرة التي عوضاً عن أن أمتن لها، استسلمت إلى أن الخطف هو الأصل، والنجاة حدثٌ يحتاج منطقاً أو تبريراً.

تعرفين طبعاً أن ياسين لا يحب أن نقول عنه حكيماً أو أباً، ولكنه كان أباً لي على الصعيد الشخصي. يقرأ ما أكتب ويقول رأيه بما أفعل، حتى بالتعفيسات العاطفية المتكررة التي نادراً ما فهمها، ولكنه تفهمها دوماً. أمازحه بخصوص طقمٍ رسمي وربطة عنق «بابيون» سأجبره على ارتدائها إذا تزوجت يوماً. أخبره عن عدد الكتب التي قرأتها في كل عام بانتظار التصفيق الأبوي.
كثرٌ نحن أصدقاء ياسين من الشباب والصبايا، نحن الذين، كما أخبرك ياسين في رسالته الثالثة: «ليست عيننا مكسورة أمام أحد». يطبخ لنا المجدرة بفخر عندما يستضيفنا في غرفة معيشته التي تحتل صورك ورسوماتك كل زاويةٍ منها. يخبره بعضنا أن المجدرة الخاصة به ممتازة. أعتقد أنهم يبالغون. نتمناك هناك دوماً. لم يطبخ لنا مقلوبة. ربما كان بانتظار أن يعيد طبخها لك. أزور ياسين في مساكنه المختلفة بانتظار أن تجعليها، كما يقول، بيتاً.

كثرٌ نحن أصدقاء ياسين، ومازلنا نتحسن بالتدريج عند الحديث إليه عنك . تنكسر خواطرنا من دموعه في كل مرة، ولكننا لا نريد أن ننسى.

سأخبرك عن أحوالنا بعد التهجير. مازلنا نحاول إيقاف المجزرة، في سوريا وفي العالم. لم نختر هذا الدور. كنا نتمنى دوراً أصغر من مجابهة الإبادة، ولكن لم يتنطع له أحد، ونحن كنا نحتاج جواباً على «لماذا نجونا؟».

في حديثي عنك مع ياسين، يحضر النقاش عن الذنب. أعظه بسهولة عما لا أعرف كيف أحياه؛ عن الذنب بوصفه تخفيفاً للمسؤولية عن الخاطفين والصامتين والمتواطئين.

نفكر كثيراً بالصدمة النفسية الجمعية، بأدوات الشتات، بفهم الشر والعنف وبعلاقاتنا مع العالم الذي ما يزال يود ترحيلنا إلى المكان الذي فشل أصلاً في حمايتنا منه.

نعرفك من خلال كلام ياسين وكتاباته، من خلال ذكريات صديقاتك اللواتي يشاركن صورك دون كللٍ أو ملل. كنا نتمنى للطفك أن يكون في أيامنا، ونستحق أن نسهر في منزلكما، وحتى أن نشكو لك من ياسين وعدم عنايته بصحته بالشكل الكافي.

شخصياً، كنت أحتاج يداً حنونة، وبيتاً عائلياً. كنت سأدندن لكما «يا فجر لما تطل» و«مضناك جفاه مرقده».

بعض ما لم أخبرك به عن أحوالنا بعد التهجير: كم أصبحنا عدميين بعد التهجير والهزيمة! نعادي بإسهاب ومجانية، ونحب بصعوبة، ونحتاج لتبرير أي محبة أمام أعين الشك السورية العدمية.

متعَبون نحن، فأصبحنا متعِبين.

في السنة الماضية تقدمتُ بطلب اللجوء، وكانت تلك أطول فترةٍ لم ألتق فيها بياسين. هي معضلةٌ كتب لك عنها مراراً؛ تحويلنا لكائنات رهينة أوراق رسمية بطيئة تمنعنا من الحركة واللقاء. نحتاج إلى بعضنا البعض لنكون أكثر من مناضلين، لنكون بشراً،نُحرم من بعضنا البعض لنبقى حبيسي ما عرّفوه على أنه لجوؤنا.

اشتقت إليه كثيراً. لا أزال أرسل له رسائل شديدة الدرامية حول كوابيسي المتعلقة بسلامته، وتعرفين أنه يكره الدراما. تتجلى  صدمتي بكوابيس هوسية أفقد فيها من أحبهم. يعيش ياسين أسوأ كوابيسي: غيابك.

لا نخبر ياسين بالقدر الكافي كم يلهمنا حبكما؛ أن تستطيع حفظ الحب رغم كل ما كان، وبسبب كل ما كان، هو  الجزء الأقدس من إنسانيتك. هذه مهمة تبدو شديدة الصعوبة في شتاتنا اليوم، ولكننا نحاول رغم ذلك، ما أمكن، الحفاظ على دوائر نحتفي فيها بالصداقة والحب.

بوسات من قلوبنا جميعاً
مرسيل