في أحد أيام أيلول (سبتمبر) 2013، تلّقت رزان زيتونة تهديداً مكتوباً بالقتل من جهة لم تعلن عن نفسها، وبعدها بنحو شهرين ونصف تم اختطاف رزان ومعها سميرة الخليل وناظم حمادة ووائل حمادي من مكتب مركز توثيق الانتهاكات في دوما في غوطة دمشق الشرقية، ولا يزال الأربعة مُغيَّبين حتى اليوم. لاحقاً، سيعترف شخص اسمه حسين الشاذلي أمام القضاء المحلي في الغوطة بأنه مسؤول عن توجيه التهديد، وأن ذلك جاء بأمر من سمير كعكة شرعي جيش الإسلام. سيطلب قائدُ جيش الإسلام، زهران علّوش، لقاءَ الشاذلي على انفراد في مركز التوقيف، وسيرفض المحقق المُكَلَّف بالقضية ذلك، ليغضب علّوش ويقوم بعدها بإطلاق سراح الشاذلي بالقوة. سيُشاهَد الشاذلي مراراً في مقرات جيش الإسلام وفي شوارع دوما بعد ذلك، وسيُشارك في مداهمات نفذّها جيش الإسلام ضد خصومه المحليين في الغوطة.
ليس هناك ما هو أكثر بساطة ووضوحاً من هذه الوقائع، حتى أن المجرمين يكادون يشيرون إلى أنفسهم. وهي وقائع لا يملك أحدٌ إنكار حصولها، وإن جرى تجاهلها من قبل جيش الإسلام ومحسوبين عليه أو مقرّبين منه، أو جرى تأويلها بشكل ينفي أنها قد تعني مسؤولية جيش الإسلام عن الجريمة. ويبدو غريباً فعلاً بعد هذه القرينة أن يسأل أحدهم: لماذا تصرّون على اتهام جيش الإسلام؟ ولذلك قلّما يأتي هذا السؤال وحده، بل يأتي مُرفقاً بحديث عن تعقيد الأوضاع في الغوطة وقتها وتعدّد الفصائل فيها بحيث يصعب تحديد المسؤولين عن أي شيء، أو عن شبهات حول ارتباطات رزان زيتونة ومكتب توثيق الانتهاكات، أو عن احتمالات من بينها مسؤولية النظام نفسه أو جبهة النصرة أو فصائل غيرها، ليخرج السؤال الذي يستغرب الإصرار على اتهام جيش الإسلام من ركام التعقيد، مدّعياً لنفسه براءة قلّما تكون موجودة فعلاً، وزاعماً لنفسه شرعيةً تكفي الوقائع المذكورة أعلاه لتقويضها كلياً.
نستطيع إذن أن نذكر هذه الوقائع الواضحة المختصرة الخالية من أي تعقيد لمن يسألنا سؤالاً كهذا، وإذا كان صاحب السؤال مهتماً فعلاً بالمعرفة والعدل، فإنه يستطيع أن يتحقق منها بوسائل عدة، وأن يَطّلع على المزيد بشأنها وبشأن قرائن أخرى كثيرة غيرها من مصادر عديدة، من بينها تحقيق نشرته DW الألمانية قبل أشهر قليلة، والمقال المفصّل كتبه ياسين الحاج صالح، زوج المغيّبة سميرة الخليل، في تفنيد الملف الذي أعدّه جيش الإسلام عن الواقعة.
وبعد الاطّلاع على هذه القرائن، يقتضي الحدّ الأدنى من الإنصاف القول على الأقل إن مسؤولية جيش الإسلام، أو عناصر أساسية في قيادته، أمرٌ مُرجّحٌ بشدة، على نحو يُسوّغ اتهامه والمطالبة باستدعاء قيادته للمثول أمام جهة قضائية ما، أو مطالبتها بالقبول بدعوة التحكيم التي تم توجيهها عام 2015، فضلاً عن مطالبتها بوضع كل ما يمكن أن يكون لديها من معلومات، زعمت وجودها مراراً دون أن تفصح عنها، بين أيدي أقارب المخطوفين وأصدقائهم والرأي العام وأي جهة قضائية قد تنظر في القضية. لم يستجب جيش الإسلام لأي جهود ذات صلة، بل ردّ على كل الدعوات والأسئلة والاتهامات بمزيج من المراوغة والمزاودة حتى في ملفّه الذي أعدّه متأخراً جداً عن الواقعة، وقام بتعطيل التحقيق المحلّي الوحيد الذي تم إجراؤه في القضية كما أشرنا أعلاه، وهي الأمور التي تشكّل بدورها قرائن إضافية على مسؤوليته عن الجريمة.
وفوق كل ذلك، لدينا قرينة أخرى عامّة بالغة الأهمية، وهي السجلّ الإجرامي لجيش الإسلام، في الغوطة حيث الخطف والاغتيال والتعذيب والسجون السرية والدخول في حروب محلية من أجل السلطة على منطقة محاصرة يقصفها النظام صباح مساء، ثم في الشمال السوري حيث الارتزاق لمتطلبات الأمن القومي التركي والاستيلاء على الأراضي ونهب الأرزاق والاعتداء على السكّان في عفرين. يكفي هذا السجلّ كي نقول إننا في حضرة تشكيل إجرامي لا يتورع عن فعل أي شيء دفاعاً عن سلطته، وكي يجد أي شخص لديه الحد الأدنى من النزاهة حرجاً في الدفاع عن مافيا دينية، لا تزال تسفك الدماء وتتورط في صراعات قذرة على السيطرة ومصادر الثروة، على غرار ما يحصل مراراً من اشتباكات مع فصائل أخرى في عفرين وغيرها.
ثمة شبكة سورية معقدة من الصراعات والمصالح والأحداث التي قد تكون بعض خلفياتها ووقائعها غامضة فعلاً، لكن إلى جوار هذه الشبكة المعقدة ثمة وقائع بالغة الوضوح في دلالاتها، من قبيل الوقائع التي تشير إلى مسؤولية جيش الإسلام عن جريمة تغييب رزان وسميرة ووائل وناظم. ويحدث كثيراً أن نسمع هذه العبارة أو ما يشبهها للتنصل من ضرورة إعلان مواقف واضحة إزاء أحداث بعينها في سوريا؛ يقولون إن سوريا معقدة، لكن هل يمكن إنكار مسؤولية النظام السوري عن تغييب وتعذيب وقتل عشرات آلاف السوريين لأن الوضع في سوريا معقّد؟ وما علاقة التعقيد، وما علاقة كل الجرائم التي ارتكبتها قوى ودول أخرى غير النظام وحلفائه، بمسؤولية النظام عن جرائم ارتكبها بنفسه؟
تشبه شبكة التعقيد التي يستخدمها من ينكرون جريمة جيش الإسلام تلك الشبكة التي يستخدمها من ينكرون مسؤولية النظام عن المذبحة الكيماوية في الغوطة؛ سوريا معقدة، ولهذا يصير معقولاً بالنسبة لهم أن لا يكون النظام هو الذي قصف الغوطة بصواريخ محملة برؤوس كيماوية، مع أنه لا جهة أخرى تستطيع فعل ذلك في محيط الغوطة.
الأوضاع في سوريا معقدة فعلاً، لكن المجرمين فيها واضحون بشدة، وينجو أغلبهم بجرائمه ويحتفظ بمقادير متفاوتة من سلطته. وأما من لا ينجو فهو يقضي على يد مجرمين آخرين قبل أن ينفتح أي باب للعدالة والمساءلة، في مشهد مستمرّ يدعو إلى اليأس. لكننا لا نملك اليوم سوى مدافعة اليأس ما استطعنا، ومن وسائل ذلك أن لا ننسى المجرمين وخِطابهم وخطاب أنصارهم، أن نتذكر حكاياتنا ونواصل التفكير فيها والدفاع عن معانيها وعن ذكرى عشرات الآلاف من أبطالها وبطلاتها، ومنهم رزان وسميرة ووائل وناظم؛ أربعة مناضلين ومناضلات ضد الظلم، تم اختطافهم قبل ثمان سنوات على يد مافيا دينية رأت فيهم خطراً على سلطتها، وذلك لأنهم كانوا مدافعين جذريين عن العدالة في مواجهة الأسديين وغيرهم، وهو ما لا تطيقه جماعة لا يمكن أن تستمر إلّا بالدوس على العدالة.