يبحثُ الكاتب النمساويّ ليبولد فون زاخر مازوخ (1836-1895)عن امرأة ذات جمال رُخاميّ، ملامحها مُتحجّرة وقاسية، عظامها صلبة وتمشي بثقة وثبات. شيطانة آدمية بمخالب حادة وقرون صغيرة. تمسك سوطاً جلدياً وترتدي معطفاً من الفرو. امرأة بلا فضيلة، بلا أخلاق، بلا شفقة، تُقيّده بالأغلال وتسحقه تحت قدميها. تجلده بقوة، تمتص دمه الفائر، تعضّه، تفترسه، تدهسه، تضربه، تؤذيه، تعذبّه وقد تقتله. امرأة يعشقها حدّ الجنون ويكرهها حدّ الموت. امرأة تحتاج جيشاً كاملا من «العبيد» يُسبّحون باسمها، يركعون أمامها ويُنادونها: مولاتي. يبحث مازوخ عن القسوة والطغيان والاستبداد، يريد أن يُستعبد من امرأة باردة وجبّارة، منتقمة ومهيمنة، قادرة ومقتدرة. امرأة تلهو به وتمنح نفسها لرجال آخرين. امرأة خُلقت لتكون «فينوس في الفراء».

كتب سيفرين بطل الرواية الأشهر لزاخر مازوخ فينوس في الفراء (1870) قصيدة لفاندا، الأرملة الطاغية، تُلخّص هوسه بفينوس آلهة الحبّ والجمال والمُجسّدة في لوحة فينوس مع مرآة للرسّام الإيطاليّ تيتيان، يقول فيها:ساشر مازوخ، فينوس في الفراء، ترجمة أسماء القنّاص، دار أثر للنشر والتوزيع، السعودية، ص 28

فينوس في الفراء

ضعي قدمك فوق عبدك

يا سيّدة الأساطير، أيتها الشيطان الرخيم

جسدك الرخاميّ مُستلق

بين نباتات الآس والصبّار

فينوس مع مرآة، تيتيان (حوالي 1555م)- متحف الفن الوطني في واشنطن.

فاندا هي الإبليسة المُشتهاة، باردة ولكنّها تُلهب قلوب الرجال، تلتحف بفرو لا يُلائم امرأة غيرها وتضرب سيفرين بسوط خشن. يتلوّى ألما ولذة ويطلب المزيد صارخاً: اسحقيني فأنا عبدُك. فاندا هي روح نيرون الذي أحرق روما وقطع الرؤوس، هي روح قابيل الذي سقى الأرض بدم أخيه، هي روح ليليث شيطانة العواصف والمُبشّرة بالموت والخراب. استوحى مازوخ شخصيّة فاندا من فاني بستور التي عاش معها مُغامرة مُلهمة ووقّع معها أوّل عقد للعبوديّة والطاعة مثلما وقّع بان تواردوفسكي عقده مع الشيطان. تنصّ بنود العقد بوضوح على أن يُنفّذ مازوخ كلّ أوامر سيّدته التي بإمكانها أن تضربه وتُعذّبه كيفما شاءت وأينما شاءت ووقتما شاءت. ولكنّه احتوى على بعض الشروط من بينها أن تتركه يختلي للكتابة لمدة 6 ساعات في اليوم وألاّ تطّلع إطلاقا على رسائله ونصوصه. تقمّص مازوخ دور خادم بولونيّ أثناء رحلته مع فاني بستور إلى مدينة فلورنسا بحثاً عن «الإغريقيّ» المنشود. وهذا الإغريقيّ كما يُسمّيه سيكون عشيق سيّدته المُتغطرسة، فلا شيء يُمكن أن يُؤجّج عاطفته وشغفه أكثر من الخيانة. ولكنّ علاقتهما بدأت تفتر بعدما اكتشف أنّ ذائقتها الجماليّة محدودة ولا تقدّر مثله جماليّات القبح التي يستوحي منها مُثله العُليا.

ظلّ مازوخ يبحث عن شخصيّته الروائيّة فاندا في الواقع دون يأس إلى أن التقى بأورورا روملين، التي كانت تُراسله تحت اسم إيميلي. أورورا هي الحجر الناقص لتشكيل السرديّة المازوخيّة والتي لم يكن الفاعل الوحيد فيها هو مازوخ. بدأت علاقتهما عن طريق المراسلة، فأورورا التي تنحدر من عائلة فقيرة قرّرت أن تغيّر وجه حياتها بعد أن عاشت الخصاصة والحرمان وتبحث عن شريك قويّ يحميها ويُغدق عليها العطاء. راسلت العديد من الكتّاب من أجل الغواية وتطوير موهبتها في الكتابة ومن بينهم زاخر مازوخ الكاتب الأرستقراطي المرموق. تفاعل مع رسائلها بسرعة وتورّط عاطفياً مع خيالها الجامح ونبرتها المُتحرّرة من كل قيد أخلاقي. كانت تكتب رسائلها بمساعدة جارتها التي تعرف جيّداً أنّ مازوخ ينجذب نحو الألم ويُحبّ الخضوع لامرأة مُستبدّة وشرسة. التقيا بعد طول انتظار وفي الموعد الأوّل أخفت وجهها ببرقع كي يحوم الغموض حولها ويظلّ مازوخ مُنجذباً لها. وفي اللقاءات الموالية كانت تتقمّص شخصيّات مُختلفة وبأسماء مُختلفة مُرتدية قناعا يُخفي ملامحها. انبهر مازوخ بهذه المرأة الغامضة والساحرة والمُرشّحة المثاليّة كي تكون فاندا الموعودة وتزوّجها سنة 1873.

لم تعد أورورا تلك الفتاة الفقيرة التي تخيط مع والدتها البدلات العسكريّة وتظلّ دون أكل لأسابيع، صارت الآن زوجة كاتب معروف من طبقة اجتماعيّة طالما حلمت بالانتماء لها. قد يبدو اختزال أورورا في كليشيه الفتاة المعوزة الباحثة عن زوج ثريّ مُجحفاً بعض الشيء لأنّها كانت امرأة ذكيّة وقارئة نهمة تُريد استكشاف العالم. ساعدها مازوخ على تنمية موهبتها في الكتابة، فقد كان بوصلتها ومُرشدها الروحيّ، وصارت تكتب قصصا وتنشرها في الجرائد. أحدثت الكتابة نُقلة نوعيّة في حياتها وتخلّت عن مهنة الخياطة لكنّها توقّفت عن ذلك بعد الزواج  لتعود إلى النشر بعد سنوات من الانقطاع ولكن بشكل مُختلف فقد كتبت العديد من القصص المازوخيّة والتي تُمجّد القوّة وتحتفي بفانتازمات الخضوع والخنوع وكانت توقّع باسم فاندا والذي صار اسمها الرسميّ بعد ارتباطها بمازوخ. مثّلت قصص فاندا المازوخيّة مادّة ثريّة للتحليل والتفكيك بالنسبة للطبيب النفسي كرافت إبنغ في كتابه الشهير الاعتلال النفسي الجنسي (1886) الذي خصّص فيه فصلاً كاملاً للحديث عن المازوخيّة وكان أوّل شخص يربط اسم مازوخ بهذا السلوك الجنسيّ. حكم كرافت إبنغ على مازوخ بأن يظلّ اسمه مُقترنا بكلّ ماهو «شاذ» و«غريب» و«غير طبيعي» و«غير سويّ» حتّى نسي النّاس أعماله ومؤلّفاته التي تنهل من معين الفلكلور السلافيّ. سقط مازوخ في النسيان واللاّمبالاة فهو في الذهنيّة العامّة أبُ المازوخيّة ولا شيء آخر غير ذلك.

لم يُظلم مازوخ فقط بربط اسمه بـ«الشذوذ» ولكنّه ظُلم أيضا بربطه بالساديّة واعتباره مُكمّلاً لها وهو ما يُعارضه جيل دولوز في كتابه تقديم لزاخر مازوخ: البارد والقاسي (1967) والذي أكّد فيه أنّ هذا الربط الديالكتيكيّ غير عادل لأنّ عالمي مازوخ وساد مُختلفين تماماً، داعياً إلى إعادة قراءة أعمالهما من وجهة نظر أدبيّة بما أنّ نقطة بداية التحليل النفسيّ كانت ما كتباه طيلة سنوات حياتهما. يعتبر جيل دولوز أنّ التحليل النفسيّ قاصر ومحدود ويُشرّع للأحكام المسبقة وأعطى مثال الطبيب النفسيّ كرافت إبنغ الذي تخلّى عن حياده العلميّ في كتابه المذكور سابقاً وطالب بحبس «الشواذ» في المنفى وإصدار قوانين جزائيّة تسلبهم الحريّة لأنّهم يشكّلون خطرا على المجتمع والدولةGilles Deleuze, “Présentation de Sacher-Masoch: Le froid et le cruel”, Les éditions de minuit, France, 2019, p 29-30..

لنعد إلى أورورا أو فاندا زاخر مازوخ. أرادت أن تنتصر لنفسها وتُفنّد كل الأقاويل والأساطير التي صوّرتها كامرأة غارقة في شهوانيتها، مُتكبّرة وجبّارة، لا تعرف الرحمة والرأفة، فكتبت سيرتها الذاتيّة تحت عنوان اعتراف من حياتي (1907). يُعتبر كتاب فاندا مُهمّاً ليس فقط لأنّها زوجة مازوخ الشهير الذي لا نعرف الكثير من المعلومات عن حياته وإنّما أيضاً لأنّه يُساعدنا على فهم المازوخيّة في بُعدها اليوميّ بعيداً عن الخيالات والتحليلات المُنمّقة. تؤكّد فاندا في سيرتها أنّ علاقتها بمازوخ أساسها الامتنان وليس الحبّ، وأنّها ارتبطت به وانصاعت لرغباته الفيتيشيّة من باب ردّ الجميل وليس تحقيقاً لمُتعها، فهي تنفر من المازوخيّة وتعتقد أنّ ما يقوم به زوجها مُهين. تذكر في كتابها أنّ مازوخ كان يلعب مع الخادمة لُعبة المطاردة ثمّ يطلب منها أن تضربه بشدّة كي يصرخ ألماً ويتأوّه لذّة غير عابئ بوجود أطفالهما الثلاثة في الغرفة المجاورة. كما تذكر أنّه ضغط عليها كي تستنسخ دور فاندا وتُصبح طاغيته المعبودة، فمرّة يمتنع عن العمل لأسابيع طويلة حتّى يتدهور وضعهما الماديّ ومرّة أخرى يتوسّل لها صاغراً أو يُحاول إقناعها بشكل مُخادع. كان يُريد بشدّة أن يُدخل طرفاً ثالثا في العلاقة أي أن تتخّذ زوجته عشيقاً «الإغريقيّ» يُلهب مشاعر الغيرة في صدره ويُوقظ شغفه الكامن. فحرّض صديقه المقرّب على تقبيلها أمامه وكتب العديد من الإعلانات في الجرائد من قبيل: «امرأة جميلة تبحث عن رجل يُشبع رغباتها» وكان يأخذها بنفسه كي تلتقي بعشّاقها. تنقل لنا فاندا إحدى المُحادثات بينها وبين مازوخ الذي كان يُحاول إقناعها بأن تخونه قائلاً: «عزيزتي فاندا لا تبكي ولا تكوني تافهة وضعيفة مثل باقي النّساء. مع امرأة ذكيّة مثلك يُمكن لأيّ رجل أن يتكلّم في كلّ شيء. لو أعطيت لنفسك فرصة اتّباع أفكاري سترين سريعا بأنّ لا شيء يستحقّ البكاء بل بالعكس. أريد أن أوضّح لك أمراً بشكل قاطع ونهائيّ وهو أنّك تملكين الحقّ، ليس فقط حقّك الطبيعيّ والمفروغ منه ككائن عاقل، وإنّما الحقّ الذي يمنحه لك زوجك عن طيب خاطر بأن تمنحي محاسنك لأي رجل يُعجبك (…) امرأة شابّة وجميلة وسليمة مثلك رجل واحد لا يكفيها. إذا كنت حقّا المرأة القويّة والصادقة التي أراهن عليها سوف تقتنعين حتما بكلامي»Wanda Sacher Masoch, “Confession de ma vie”, Editions Payot et Rivages, Paris, 2014, p 70-71..

صوّرت فاندا نفسها كضحيّة لنزوات مازوخ ولم تتحدّث إطلاقا عن حياتها الجنسيّة وهل كانت تجد لذّة في لعب دور السيّدة أم لا، فقد كتبت اعترافاتها بنبرة مُحافظة جداً وأحاطت نفسها بطُهرانيّة يُمكن مُناقشتها ونقدها. صمت مُريب حول هذا الجانب دفع بشلشتغرول، سكرتير مازوخ إلى الردّ عليها في كتاب بعنوان فاندا دون قناع وفرو (1908). دخل السكرتير على خطّ المواجهة دفاعا عن مازوخ المظلوم في نظره وذكر في كتابه أنّ أورورا/فاندا كانت النسخة المثاليّة لفاندا الشخصيّة الروائيّة وأنّ زواجها بزاخر مازوخ كان زواجاً مازوخيّاً بامتياز فقد وقّعا قبل الزواج على عقد عبوديّة كتبته فاندا بنفسها. صحيح أنّ فاندا تذكر هذا العقد في اعترافاتها ولكنّها تقول بأنّها كتبته مُرغمة وهدفها كان مساعدة مازوخ على التخلّص في رواياته من شخصيّة المرأة القاسية والطاغية بعد النقد الذي وجّهه له أحد النقّاد الألمان بأنّ خياله الأدبيّ محصور في هذه الشخصيّة. أرادت فاندا أن تكون فاندا المُشتهاة في الواقع حتّى يكتب زوجها عن مواضيع أخرى. بغضّ النظر عن اتّهامات شلشتغرول وتبريرات فاندا يُوحي هذا العقد بموهبة فذّة لفاندا في كتابة القسوة والبرود، فقد أخذت مسألة العقود إلى بُعد آخر وتباين مضمونه بشكل واضح مع مضمون العقد الذي وقّعه مازوخ مع فاني بستور. وهنا محاولة لترجمة روح هذا العقد من الفرنسية إلى العربيّة ولكن ليس بشكل خطيّ وحرفيّ:

عبدي،

الشروط التي أقبلك بها عبداً يتألّم في حضوري هي الآتية:

أن تتخلّى كليّاً عن ذاتك،

لا إرادة لك إلاّ إرادتي،

أنت بين يديّ أداة عمياء تنصاع لأوامري دون نقاش. وفي حال نسيت أنّك عبدي ولم تخضع لي كلياً فتأكّد أنني أمتلك حقّ مُعاقبتك وتأديبك مثلما أشتهي وأريد، دون أن تتجرّأ على التذمّر.

كلّ ما أمنحك إيّاه من لحظات سعيدة هي منة مني تحمدني من أجلها وتشكرني. ولستُ مُطالبة بأيّ واجبات تجاهك.

لن تكون ولداً ولا أخاً ولا صديقاً، أنت فقط مُجرّد عبد يتمرّغ في التراب.

مثلما جسدُك ينتمي لي، روحك أيضا ملكي. حتّى وإن تألمّت كثيرا يجب أن تُخضع كلّ مشاعرك وأحاسيسك لي.

أمتلك حقّ ممارسة كلّ أشكال الفظاعة والوحشيّة على جسدك وحتّى لو شوّهتك تحمّل ذلك دون شكوى. ستعمل من أجلي كعبد وستقبّل الأرجل التي تدوسك.

يُمكنني طردك في كلّ وقت، ولكنّك لا تستطيع تركي دون إرادتي. إذا فكّرت يوما في الهرب فتأكّد أنّني أمتلك السلطة وحقّ تعذيبك حتّى الموت بكلّ الطرق والوسائل التي يُمكنك تخيّلها.

أنا بالنسبة لك كلّ شيء، أنا حياتك ومستقبلك وسعادتك وتعاستك وألمك وفرحتك.

يجب أن تُنفّذ كلّ ما أطلبه منك سواء خيراً أو شرّاً، وحتّى لو طلبت منك ارتكاب جريمة فستتحول إلى مُجرم تحقيقاً لإرادتي.

شرفك ملكي، دمك ملكي، عقلك ملكي، قدراتك ملكي، فأنا سيّدة حياتك وموتك.

إذا وصلت لمرحلة لم تقدر فيها على احتمال طُغياني فاقتل نفسك لأنني لن أحرّرك ما حيّيت.

«ألتزم بشرفي أنا الموقّع أدناه زاخر مازوخ بأن أكون عبد السيّدة فاندا دون أدنى مقاومة وأن أخضع لكلّ الشروط التي فرضتها».

انتهت علاقة مازوخ وفاندا بالطلاق للضرر، فقد اتّهمها بالخيانة بعد أن كتب إعلانات التعارف بنفسه وألقى على مسمعها خطباً عصماء عن ضرورة اتّخاذ عشيق وسيم ورافقها بنفسه في رحلاتها الشبقيّة. انتهت قصّتهما المازوخيّة وكتبت فاندا/أورورا اعترافاتها حتّى لا يظلمها التاريخ وتسقط في النسيان. تقول في نهاية كتابها: أخيرا حُرّة. أنتمي إلى نفسي من جديد بعد عشر سنوات من الألم والعذاب. لن أرتدي مجدّداً معطف الفرو ولن أحمل سوطاً في يدي ولن أسمع مُجدّداً كلمة إغريقيّ.