رقصي يا مرقصنة

ريحتك خمّة وصنّة

ريحتك كبش القرنفل

زنجبيل وزهر حنة

             -نجلا جريصاتي خوري عن دار قنبز

في يوم في أوائل عشرينياتي وأنا عالقة في السيارة بعجقة سير معهودة، وجدتني أبول على نفسي. أفرغتُ كل محتويات مبولتي على الكرسي الذي أصبح بحاجة إلى تنظيفِ مختص. خنقة العجقة استفزّت مبولتي ذلك اليوم، ولكن هذا الحدث السري شكّل أيضاً بداية لهوس جديد تملّكني لأكثر من عشر سنوات. منذ ذلك اليوم بدأ خوفي من أن الحادثة قد تتكرر. وتكررت.

ذهبت إلى أخصّائي المسالك البولية  مرة واحدة في حياتي. فحصني. عبأ مبولتي بليترين ماء. حملتُ الماء بدون أي حوادث أو تسربات. قال الحكيم حينها إنه عبأ مبولتي بأكثر مما تحتمله المبولة العادية بكثير، وشرح أن ما يجعل مثانتي تتحمل هذه الكمية الهائلة من الماء هو إحساسي بالعار من التبول على نفسي وهو ينظر إلي. يبدو أنني كنت متوجسة من أن أُظهِرَ أمام شخص آخر حقارة وضعي، وهكذا لا إرادياً تماسكت مثانتي وفضلت عدم البوح عن سرها. خمّن الحكيم أن تمريني على البول وأنا طفلة لم يكتمل، وأنني لم أتعلم الانصياع بشكل كاف لأعراف التبول الاجتماعية. قال الدكتور إنه يرى كثيرين في حالتي، شخّاخين لا تحفل مثانتهم بالقوانين والإجراءات المرعية. ولكنه كان متفائلاً بأن إعادة تدريبي على التبول المقبول اجتماعياً ليست صعبة، وأن نِسب النجاح في أغلب الأحيان تكون عالية.

لم أطق أن أجرب البرنامج الذي كتبه بسرعة على الروشتة لأكثر من اليوم الأول. ما معنى  أن أتدرب لكي أصبح تحت سلطة الأعراف الاجتماعية؟ أي أعراف هذه التي يمكن الوثوق بصوابها بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان؟ أي عرف من أعراف المجتمع اللبناني يمكن أن يُتكل عليه؟ عندما انتهت الحرب اللبنانية كنت في منتصف سن المراهقة. كالكثير من أبناء جيلي لم أجد أي مبرر لإطاعة أي قانون أو قاعدة متعارف عليها في مجتمعنا العنيف. كانت المخدرات رمزنا الأول لرفض السلطة، وأحد أسس الصداقة والدلالة الصامتة على أننا رافضون لأطر الاجتماع المفروضة من السلطات، عائلية كانت أم عامة. كنا نتبادل الحديث عن شذوذنا النفسي كأن الكآبة والهوس كانت إحدى شيم البطولة التي نطمح إليها. لم أشارك أصدقائي مشكلة مثانتي، وهم كذلك لم يشاركوني مشاكلهم الشخصية مع سلطة العار. و لم أعمل بما أملى علي الدكتور، ولكني بدأت رحلة التفتيش عن السبب وليس عن الحل لمبولتي المنفلتة.

اضطراباتي الحياتية كطفلة لبنانية فلسطينية سنية مقيمة في الضاحية الجنوبية في زمن المقتلة الفلسطينية في لبنان قد تكون أحد الأسباب. وبلا شك أن وضعنا العائلي كان سبباً أساسياً أيضاً. فأمي تربت في عائلة معروفة بالاضطرابات النفسية، وكما أجد على النت فإن موضوع الـ incontinence أسبابه وراثية في أغلب الأحوال. بدأت بالذهاب عند دكاترة علم نفس. لم أجدهم مهتمين كثيراً بأنني امرأة ناضجة تبول على نفسها. كان الموضوع عندما أفتحه يُضبضَب في كل مرة، وأرجع إلى البيت مع إحساس أنهم لا يعرفون ما سيقولون، وكأنّ الموضوع تابو أكتر مما أنا متخيلة، حتى عليهم. فقط محللة ختيارة في سن التقاعد تجاوبت معي فأردفت متعاطفة، أكيد هيدا الموضوع يمتهنك، ydmykende قالت. أعرف الكلمة بالنرويجية من قبل، ولكن لا أفهمها جيداً. فتشت في المعجم. الكلمة تعبر عن التواضع والوضاعة معًا في النرويجية. في لغة جديدة على لساني، وجد وعيي سبيلاً إلى كلمة أحس بها ولكن لا لغة لي للتعبير عنها.

انتقلت من كلمة واحدة معبرة إلى ربط حالتي مع وضع سياسي معقد بعد قراءة قصة العين لجورج بتاي. كل السكس والشخاخ في الرواية رأف بي. ساعدَني على فك الطلاسم المحيطة بِليش أنا بعمل تحتي. يربط باتاي الشخاخ بالسكس الرافض لأطر العائلة البرجوازية في فترة ما بين الحربين العالميتين، ويضعه في قالب العنف الثوري الذي يعبر عن تمرده من خلال اغتصاب التعفف البرجوازي وزِيفه البتولي. شخصيات رواية باتاي تستلذ بالبول وتشبع شهوة الانفلات من شرائع الجسد، من خلال إطلاق العنان للفنترة على التزمت البرجوازي لأمهات لا يعرفن عن حياة أطفالهم شيئاً. شخصيات باتاي كالحيوانات الثدية تبول من أجل تعليم المكان وإعادة امتلاكه.

ها هو كلبي الصغير، يبول على نفسه باستمرار. علاقته بالمكان مضطربة جداً. تبّنينا الكلب الصغير بعدما وجدناه معروضاَ على الفايسبوك. تنقصه رجل من جراء حادث لا نعرف عنه شيئاً. عاش معظم حياته يتنقل بين العائلات، ولم يخبرني صاحبه الأخير عن سبب تنقله المضني هذا. عرفت بعدما انتقل للعيش معنا أن لا أحد يريد الاحتفاظ به لأنه شخّاخ كبير، والأنكى أنه غير بقية الكلاب يشخ مطرح ما ينام، وأيضاً مطرح ما أنام أنا. حلّلت أنه يعاني من التروما وأننا في المنزل سنضطر أن نتعامل مع الموضوع بالتي هي أحسن، وعلى كل حال هذا الكلب كما خمنت سيعلمنا كيف نتكيف مع ترومانا، ومن خلال ترويضه سنتعلم كيف نروض أنفسنا.

هل أبول على نفسي كما يبول مظفر النواب على الشرطة والحكام العرب؟ هو بالطبع يحب الشخاخ على الآخرين لإذلالهم، فاستعمال الشخاخ للمذلة متعارف عليه بأدبيات العنف السياسي. هذا ما يفعله جلادو السجون السورية بالمعتقلين. يبولون عليهم كالكلاب لامتلاك المكان؛ لتحويل الجسد إلى مكان. يبول الجلاد على ضحيته ويحتل تلك المساحة التي كنت قبل التعذيب تعرفها بجسمك. هو كلب وأنت مكان. وأنتم الإثنان مِلك للطاغية وتحت أمرته وأهوائه. يكتب ياسين الحاج صالح في كتابه عن مفهوم الفظيع أن «التعذيب الإذلالي يستهدف صنع ذاكرة أو تلقين درس لا ينسى». أنتم جميعاً ملك للطاغية، فقط الخرَف قد يساعدكم على النسيان.

لم أتعرض للتعذيب على يد سلطات بوليسية يوماً، ولكن بولي المتكرر على نفسي كبّل روحي وجعلها تحت إمرة الأنا العليا، تلك الأنا التي ليست أناي وإنما هي السلطة التي نجحت باحتلال روحي فأضحت أنا، وحولت بعض ما أسميه جسمي وذاتي إلى مرتع للسلطة تمارس عليه عنفها. علياءُ تلك الأنا التي ليست أنا، فأنا حقيرة لن أتجاسر أن أعلو بروحي وسأبقى تحت ظلال الأنا العليا. تكتب إحدى شخصيات هيثم الورداني في قصة قصيرة له أن الكوارث تترك آثارها على الكلمات. الكلمات تحمل ندوبًا تحشر المعنى الأساسي تحت معنى تنسجه الكارثة. «أنا» لم تعد تشير إلى أنا منذ أن أزاحتني الأنا العليا عن ذاتي واحتلت مضموني النفسي. قرأ أحد أصدقائي شيئاً مما كنت أكتبه عن أبحاثي. وأستطردَ قائلاً: رنا الأنا العليا لديك ذات سلطة رهيبة عليك. اضطربت عند سماع هذه الملاحظة. أفهم أن المعاني التي أحاول اجتراحها بقيت أسيرة سلطة الآخرين، ولكن أين السبيل إلى تحرير قلمي لكي أمارس عملي بشكل جيد وأنتج معاني جديدة وليدة نفسي كما يفترض على الباحث أن يفعل؟

أدوِّر خاتم جدتي ازدهار على إصبعي. أنقله إلى إصبع يضيق به. الحركة لا شعورية، كلما اضطربت بدأت باللعب به. أحاول فك عوارض اضطراباتي الحياتية بالارتكان إلى شعور الريبة الدائمة التي يولدها هذا الخاتم على إصبعي. منذ أن وجدته منسياً في بيت أبي وأنا أهاب تأثيره علي. لم أحب جدتي يوماً، ولكن عندما وجدني هذا الخاتم قرر أن يصبح شقفة من جسمي. لبسني بدل أن ألبسه وتنقَّلَ بين أصابعي على مدى عشر سنوات إلى أن ضاع كلبي الصغير مني قبل ليلتين من سفري  معه إلى أوسلو. بعد ساعة طويلة جداً وجدت الكلب، ولكني أضعت الخاتم أثناء البحث عنه. هكذا بعدما لبسني خاتم ازدهارسنوات قرر أن يخرج من حياتي ويبقى في بيروت بينما انتقلت أنا وكلبي إلى أوسلو.

سمعت من أمي أن ازدهار كانت تبول على نفسها في فراش موتها. الموضوع أقلق أمي كثيراً خصوصاً بعدما انتقلت جدتي إلى  مشفى غزة بمخيم برج البراجنة على تخوم بيروت. لم تثق أمي بالممرضات هناك. المشفى كما المدينة التي انزاح اسمها إليه، يفتقر لكل ما يجعله صحياً أو مبعثاً للشفاء. تقرأ أمي النص وتتلفن لي على الواتس آب. تقول إن مشفى البرج إسمه حيفا وإن غزة كان المشفى في صبرا إلى حين المجزرة، وبعد 82 صار خراباً واليوم هو عبارة عن بناء محطم يعيش فيه مشردو فلسطين وسوريا . اختلطت التفاصيل على ذاكرتي كما يبدو. حسناً، لن أغير اسم المشفى الآن، أفضله غزاوي على حيفاوي، فتلك المدينة المحاصرة ترغمني أنا أذكرها في النص، تشق ذاكرتي وتنشق أرضها لتبلعنا ومدننا جميعاً.

 بدأت جدتي بالبول على نفسها في أواخر أيام عمرها القصير. فهي ماتت عن عمر 61 بعدما وصلتها أخبار أن ابنها البكر، الذي هرب إلى بغداد من مجازر حركة أمل والمخابرات السورية بحق  الفلسطينيين في الثمانينات، قد اختفى. قصته مروعة، قد تكتبها أمي في أحد قصصها القادمة. اختفاؤه أفقد أمه توازنها بالكامل فوقعت على وركها وكسرته وماتت بعدها بكم أسبوع. أتذكر أن أمي أخذتنا لنزورها مرة واحدة في غزة. المشفى ككل الأماكن في المخيم تراكمت فيه روائح العطن والنسيان. إذا متَّ في غزة يعني أن تكون الحقارة قد انتصرت عليك وعلى حياتك، وأن كرامتك ستظل ممتهنة حتى بعد موتك. ليس هناك أي ضمانة مثلاً بأن لا يصبح قبرك، إذا كان لك قبر أساساً، مزبلة أحقر من كومة الإذلال المنهالة عليك في عيشتك.

تَردُّني الرائحة إلى جدتي وذكرياتي عن أهل أمي بالمخيم. كل شيء هناك رائحته منفرة. حتى الناس هناك يفوع منهم شيء من تلك الغازات. أمي تشرح أن المياه تأتي إلى المخيم ممزوجة بالمجارير، فلا يسلم السكان من تلك الرائحة حتى عندما يستحمون. الخرا عليهم بدون أي مجاز أو تحذلق في السباب. نتانة التمييز السياسي تتجلى رائحةً رادعةً للخيال تحتل النفوس، لتُحيل البذاءة حقيقة يومية هدفها تحطيم قدرة الفلسطينيين على الإصرار على حقهم في حياة كريمة. الخرا عليهم أينما  أقاموا. في الأسابيع الماضية بدأت تتوارد خبريات عن تعويم الجيش الإسرائيلي منطقة شيخ جراح في القدس بالخرا. يشطف الاحتلال يومياً المنطقة بماء الخرا، يدورون على الشوارع والجدران ما يسميه الفلسطينيون بالخرّارة. الهدف طبعاً التهجير عن طريق الغثيان. تلتصق الغازات بالجدران والشوارع فينحبس الناس قرفاً داخل البيوت.

موت جدتي في مشفى غزة كان طويلاً، وكنا نختبره كنوبات بكاء متواصل بعد كل زيارة لغزة تقوم بها أمي . تبكي رطلين كل مرة ولا تخبرنا عما كانت تشهده في هذا المكان المؤذي إلا نتفاً… نتفاً تأتي بعد موت جدتي بسنوات، نتفاً تتعمد السكوت أكثر من الكلام، وتشاركها أمي فقط لتشرح لنا بطريقة ملتوية بأن نتركها مع حزنها. صمت هائل. لا نتكلم عن الأمور الفظيعة إلا بالإيماء، ودائماً بشكل مقتضب. يقولون إن هذا الصمت هو من أعراض التروما، فكثافة الوجع تلعثم اللسان. التروما تُعدِم قدرة الكلام على أن يتجلى كفعل. فلا ما نقوله يطبب أو يقدر على ربط ألم الجسد بالعنف العمومي المتواتر حولك. ألم منهك يذل الجسم فينكتم اللسان عن البوح، ويتجلى المرء في وحدة عقيمة لا تفصح عن نفسها ولكنها واضحة كبقع بول عتيقة على القماش. بعض هذا الصمت يستر العرض ويخبىء هشاشة الجسم من قسوة العالم. «شو بدنا نحكي لنحكي؟» من أجل ستر العرض نوافق ضمناً بأن لا نتكلم عما يحصل للجسم من جراء القسوة الاجتماعية التي نعيشها. صمت متولد من تَيَبُس اللغة وانكسار علاقة المعاني بالكلمات. يستثمر الأشرار الصمت لتغييب المتألمة عن الوعي الجماعي، فيمحون حقها بالخروج إلى المجتمع والمشاركة الندية فيه. يستقصد الأشرار أن يجعلونا بُكمًا جلُّ ما نقدر عليه هو الهسترة. يرتكبون شتى أنواع الإذلال الجسدي من التعذيب والاغتصاب ليحفروا في  ذواتنا بقعاً داكنة تلتهم ما خزّناه من معنى، وتحيل معجمنا حطاماً يطمر أجسامنا تحت ركام الكرامة.

تحطمت حياة جدتي عندما اغتيل زوجها. طريقة قتله بما تحمله من معاني سياسية ووطنية كانت تضفي عليه رونقاً من هالة الشهادة. توفي من أجل القضية وترك امرأته مع خمسة أطفال صُغراهم  لم تكن تمشي بعد. بطلٌ هو جدي، قومي، صاحب مبدأ، شهيد. يتذكره محمود شريح في كتابه الفردوس المفقود فيضفي شرعية على قصص أمي عن كرم جدي وشعبيته في المخيم.  أما هي، أرملته أم نزار فكانت شرموطة. تُعرف هكذا في جورة التراشحة وسائر مخيم برج البراجنة. فجدتي بعدما توفي زوجها كانت في أواخر العشرينات، جميلة، بيضاء ناعمة الملمس رشيقة. وكان زوجها المقتول قد دلَّلها كثيراً قبل موته فتهيّأ لها بعد موته أنها ستتمكن من المحافظة على شيء من دلالها. يقفشها إبنها تبوس خلف الباب حبيباً لها كان يمدها بالأقمشة. وابنها الآخر يسمع الأولاد في المدرسة يتوشوشون عن أمه. خالتي تردد أساطير عن شهوانية جدتي وتزويجها السريع. تقول إن جدي تزوجها في الخامسة عشر من عمرها ليسترها من القيل والقال. بعدما توفي البطل تهيأ للمقربين بأن أم نزار هائمة على نفسها تفتش على جسد آخر تلتحم به. لم يخطئوا.

أفضّل أن أُعرّف عنها بالشرموطة لكي أسترجع شيئاً من توقها  للخروج من سجن التَرمُّل. كان عليَّ أن أكتشف من خلال هذا النص أن جدتي لم تمارس الدعارة فعلاً، فهكذا عمل غير منطقي أبداً إذا ما نظّمتُ كل الحقائق التي أذكرها عنها. لكني كبرت بين كبار كانوا ينعتونها بتلك الكلمة. كثيرون لا يحبون ازدهار. أحدهم أخبرني مرة قصصاً خيالية عن انحطاطاتها الجنسية.

أفضل هذه الفضائح على ذكرياتي عن تيتا. فممكن أن أتذكرها أيضاً كخادمة وإن لم أرها يوماً تحفّ حمامات الميسورين من الناس. خدمة البيوت مهنة أعرفها جيداً. فبعدما انتقلت أمي من الفقر إلى أوضاع اقتصادية جيدة نسبياً بدأت تُشغّل خادمات يشطفن وسخنا عن زوايا البيت. عشنا مع هؤلاء النساء الذين بالكاد عرفناهم كما كانوا يعرفوننا. لم يكن لديهم ما يكفي من الوقت للإجابة عن أسئلتنا عن حياواتهنّ خارج منزلنا، إلا بتفاصيل متشابهة عن أطفال لا أب لهم وفقر يضطرهم إلى العمل في بيوت الناس. هل عملت ازدهار خادمة؟ لا أعرف بالضبط ولكني أتذكرها تقول لأمي إن زوجة سامي الخطيب نادتها كي تساعد في طبخ الولائم أو أن العميد الخطيب كان يشتهي كبة بالصينية أو مغربية من إيديها. أكلها كان عسلاً كبَول الملائكة.

والعميد خطيب، وهو والي بيروت كما كان يعرف أيام الاحتلال البعثي المباشر للبنان، كان في السابق يشغل منصباً رفيعاً في فرع المخابرات المعروف بالمكتب الثاني أيام الحكم الشهابي على لبنان. في سيرته التي نشرتها جريدة الأخبار بعد مماته قبل الثورة في 2019، يذكر الصحافي نقولا ناصيف أنه بعد محاولة الانقلاب على فؤاد شهاب التي أقدم عليها الحزب القومي السوري استلم الملازم آنذاك سامي الخطيب التحقيق مع قيادات الحزب. كان قاسياً جلاداً في التحقيق كما يذكر المقال. بعد اعتقال جدي محمد لكونه إحدى القيادات الفلسطينية لذلك الحزب، زارته ازدهار تفتش عن زوجها. علمَت منه أن زوجها قد قُتل خطأ قبل أن يصل إلى مكان الاستجواب. خبطة على رأسه بكعب بارودة أودتْ به ميتاً. اعتذر سامي من جدتي وقال لها بأنه فقط طلب إحضاره إلى التحقيق وأنه لم يأمرهم بقتله. ليواسيها طلب من زوجته أن تشغلها عَشّية عندهم في البيت، فازدهار طباخة ماهرة كما يعرف كل من أكل من يديها. اسمها أيضاً أسعفَها. اسمها بالتأكيد سيأتي له بالخير ومعانيه ستنسحب على جبينه. هو قائد الشرطة في مواجهة ثورة انقلابية وكان كالأير السياسي في مسرحية جان جينيه، البلكون. كالأير عند جينيه كان سامي الخطيب  طالب عز وازدهار لأجل إحكام سلطته على الناس. وبالفعل ازدهر سامي في مهنته وتتوج وزيراً مرتين. بلا شك ساعدت ملوخية ازدهار سامي في إثارة نفوس زوار البيت عند الولائم، وأضفت عليه رونقاً مما ورثته جدتي من تربيتها الفاخرة في ترشيحا. أذكر كيف كانت أسارير ازدهار تنفرج في كل مرة تخبر أمي أنها مطلوبة للعمل في بيت الوزير. لم تفكر مرة بأن تضع السم في الأكل وتنتقم لزوجها. كانت زوجة سامي تناديها للعمل بشكل متقطع على مدى سنين طويلة. في الأعياد كانت تمدها بثياب عتيقة أو بتنكة سمنة حموية تسد فيها حاجات أولادها في الملبس والطعام. أفضّل أن أتخيل إزدهار وكأنها شخصية إيرما الشرموطة في مسرحية جينيه على أنها خادمة. ففي الشرمطة من الغنج والتمرد ما أحبذه لها، وأفضله على عبوديتها لدى قاتل زوجها على مر السنين.

تربط العربية لفظياً بين الأمومة والعبودية: الأَمَة والأمّ يتشاركان الجذر نفسه. لن نجد في المعاجم العربية أي أثر لهذا الربط أو للتشابه الوظيفي بين العبدة والأم. المعجميون (وهم إلى يومنا هذا رجال) يدرجون  الكلمتين في مادتين مختلفتين، كأنهم يحاولون إخفاء الرابط المعنوي بينهما بطمس العلاقة اللفظية. يدرجون الأَمَة تحت مادة أما فتنفصل عن الأُم لغير سبب وجيه. لا يتعنّى المعجميون حتى أن يشرحوا ما علاقة هذه الكلمة بالجذر أما الذي تُدرج في خانته، ولا  يفصحون عن أية علاقة معنوية تربط هذا الجذر بكلمة أَمَة. تتيه الأَمَة في صحراء اللغة كما تاهت هاجر بعدما طردتها أم اسحق من كنف العائلة. مفتوحةٌ ألِفُها، مشرعة على احتمالات استعباد مستقبلية. هي على عكس الألِف المضمومة على الصبيان والرجال في لفظة أُم. طول مادة أما/أمَة عند ابن منظور في لسان العرب هو تلخيص لجدال النحويين عن كيفية تكسير هذه العبدة عند اقتنائها وضمها لأخريات مقتنيات. لم تجد أم نزار أي جمع يضمها غير عائلة مكسورة، غلبها فقرٌ بعد عز، وتشرُدٌ بعد نكبة، وموتٌ رخيص يطال الفلسطينيين في ارتحالهم في ما يسمى الأُمَّة العربية.

توفي الزوج وهي تبلغ 27، في عز جمالها . كانت أماً لخمسة أولاد ولم تكن تجيد أي صنعة غير الطبخ والخياطة والتزين والأمومة. أولادها لا يرون أنها أجادت الأمومة أبداً. في صباها كانت تحب الرجال وتسعى للفت انتباههم. المخيم كله كان يشهد على أناقة ستك، تقول أمي على التلفون. كانت دايماً بتايور وكعب عالي وشعر مصفف على آخر موضة. تنفق في الحب من الوقت والماديات ما يُعرِّضُ أولادها لضائقة. قد لا يجدون ما يأكلونه يوم تترك البيت لزيارة حبيب. وإن استنكر أحد أولادها تناسيها لهم تنفجر غضباً يسمع صداه في جميع أنحاء جورة التراشحة. عبدة لأطفالها، هكذا أرادها المجتمع . أرملة تسجنها حماتها في البيت بينما يصرف عليها أخو زوجها الفتات حسب أصول السنة. كانت تتبرم من هذا الوضع فتهرب لتعمل بالسر عند بيت الخطيب وتقلل من عوزها الرهيب. أخو زوجها بالكاد كان يمدها بالمال، وأهل المخيم كانوا فقراء لا يتكرمون على الضعفاء بينهم بالرحمة. بعد أن اكتشف الأقارب أين تعمل وبدأت النميمة ترتفع في أنحاء المخيم، جاهرت بصلتها بأصحاب نفوذ ترد بهم الأذى المحيط بها وأطفالها. لم يهمها أن الجيران والأهل شككوا بمصداقيتها واتهموها بالتجسس لصالح الشعبة الثانية. في الأدبيات الماركسية لن تجد المفاهيم القادرة على توصيف علاقة العامل بربّ العمل بهذه القساوة. وهذه العلاقة بالرغم من وطأتها في عائلتنا فهي جزء أساسي من الاقتصاد السياسي المتوحش في منطقتنا. علاقة العمل الدنيء هذه متفشية في البيئات الريعية والاستعمارية والاستعبادية. علاقة عمل تنمي التفاوت والثنائيات العنيفة بين البشر. يُتهم العاملون الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة بالخيانة إذا اشتغلوا في مستوطنة أو في بناء الجدار العنصري، وأي عار هذا المتولد عن يد ليس لها حيلة في مواجهة الفقر غير تلك الخيانة التي تسد الرمق في آخر النهار؟ حب ازدهار لأولادها قد يكون أجبرها على التكابر على ألم حقها المهضوم والمساومة من أجل تأمين الأساسيات لأولادها.

غريب حب الأم لأولادها. فهي قد تفعل أي شيء لتأمينهم في الحياة ولكنها تبغضهم بقدر ما بذلت لهم من كرامتها وتصب غضبها عليهم كون إحساسها بالاستعباد متولد من حبها لهم. هذا التضاد ليس حتمياً ولكنه تاريخيٌ ومرتبطٌ بشكل وثيق  بضعف المرأة الاجتماعي وانسداد السبل في وجه مشيئتها في إدارة شؤون حياتها.

 كانت ازدهار جميلة مرغوبة. وظفت جمالها كما نجحت في جعل ضمير سامي الخطيب يتأنب ويعطيها عملاً. العشاق  لطفاء متشبرقون، يشترون لها العطور والأقمشة والفاكهة الطازجة. كما كتبت أودري لورد، اللذة تحمي  المرأة من الإحساس بالعجز ومشاعر أخرى ليست متأصلة  فينا كالاستسلام والامّحاء والإنكار الذاتي والكآبة. تنقض اللذة الذل وتبطل مفعوله. بلا شك كانت إزدهار الأرملة الصبية تحلم بحب جديد، ولكن لا أعرف إن كانت  تربيتها الصارمة في ترشيحا تسمح لها بأن تفتح فخذيها لأي كان كي يفرك لها دغدغانها، أو كما تترجم سونيلا من العبرانية، زكزكانها. قد تكون سمحت لهم بأن يبوسوها ويقرصوا بزازها، وإن عسلَها أحدهم سأكون مبسوطة لها من كل قلبي. كانت شهوانية وتمتلك لغة خاصة بها للتكلم عن الجسم وحركاته. عشعوش كانت تسميه، فتقرصنا بين أصابعها في الحمام وتصرخ مبتهجة «يسلملي عشعوشو أنا»، أو إذا فاعت رائحة الفساء منا تهلل أيضاً «يسلملي فصّوا أنا». امتلكت جسمها كما لم تمتلك أي شيء آخر. كان الجنس الخفيف متعتها وأداتها للوصول إلى شيء من الحرية. جازفت بسمعتها واشتهت أقصى ما فعلته هو الفليرتينغ، تبويس وهيك بس تقول أمي. الحيطان هشة رقيقة وأي صوت من أي غرفة نوم يتنقل بسهولة في الحي بأكمله.

تزوجت بعد مدة من رجل يصغرها بعشر سنوات، جميل كما يُحكى. جذبها له انغماسه باللهو فحلمت بحياة مليئة بالموسيقى والفساتين الخرز. تهتم النساء بجمال الرجال لتشييئهم قليلاً، فيستعملن نفس المعايير المفروضة عليهن في قياس الحبيب. لا تعرف النساء بأن الجمال لا يتوظف بالطريقة ذاتها عند الجنسين. فاختزال المرأة بجمالها يسهّل للرجال التغاضي عن بقية قدراتها، خصوصاً العقلية. أما المرأة فلن تستفيد من تشييء الرجل وإعطاء أي قيمة لوسامته. أما إذا كانت لا تفتش في الرجل على ما هو أكثر من التمتع  الجسدي فالمجتمع لا يرحم توقها للذة. لذلك تزوجت جدتي ثانيةً، كي تشبع شهوتها خارج ثرثرة الأقارب والجيران التي رافقتها منذ مات جدي. خلّفت ازدهار ولدين من ذلك الرجل. كانت تتركهما برعاية بناتها الأكبر سناً. لا جلَد لها على تربيتهما. تفضل النوم كل الليل على أن تفيق لتلبية حاجاتهم المضنية. مشغولة كانت بالتمتع مع هذا الرجل. تأوهت إلى أن زهق منها زوجها الوسيم. هو كان يمارس حقه بالتمتع، حق محفور على لسانه بألفاظ كان يستحلي تأديتها. هو الفحل والحمش والجدع وشيخ الشباب. وهو رجل فقير أيضاً  محروم من حقوقه ولا سلطة له على شيء، غير على ازدهار وأمثالها.  له من المتعة ما ليس للجنس المستضعف. يستطيع أن يستمني كما يريد. يضربها مثلاً. طلقته ازدهار بعد فترة فقاصصها بانتزاع الطفلين منها ومنعها من أن تلتقي بهما إلى أن كبرا وأصبحا قادرين على الخروج من غير مرافق.  قبضاي كان، أي أنه يتصرف بما يقع تحت قبضته كما يحلو له. أما حياتها هي فافتقرت للمرح مع أنها كانت تبغي البهجة لدرجة أنها ركّبت سن ذهب كي تبهر الناس بضحكتها بفم ملآن وبفنطزة القراصنة.

عادت أم نزار إلى هيامها بعد الطلاق، ولكن هذه المرة كان الأقارب قد فقدوا هوسهم بمتابعة كل حركة تقوم بها. كانت أصبحت في الأربعينات ولم تعد تخاف النساء حولها على رجالهم منها. وبعدما تزوجت من رجل آخر لم تعد حماتها مهتمة كثيراً بمراقبة تحركاتها. خرجت من كنف بيت قبلاوي بعد زواجها الثاني وانتقالها من عائلة ترشحانية إلى عائلة حيفاوية، وإن كان الجميع يسكن في مخيم لبناني حقير بعيد كل البعد عن حياتهم في فلسطين. أخيراً لم تعد ازدهار تابعة لاهلها.

كانت الروايات في المخيم عن فلسطين تدور حول محور واحد. سرديات متناسلة ومتكررة عن عز مضى، ثراء، أراضي، نفوذ، حظوة تقابل لحظة الخروج: حفاة، نسيوا شحاطاتهم في المنزل ولم يكن معهم شيء سوى الملبس على جسمهم. كنا سنغيب يوم أو يومين تردد النساء وتندب. كانت روائح المخيم النفاذة تهيمن على قصص وجاهة عائلة القبلاوي في ترشيحا قبل انزياح أهلها عنها بعد النكبة. جدتي الأولى قوية تركب الخيل وتستعمل البارودة، وأبو ازدهار كان مختار البلدة ونملك مئات الدونمات من الأراضي هناك. أحاديث تعج بالياسمين وزهر الليمون كأن السرديات تجهد لتتغلب على رائحة الخرا العالقة في الجدران والمختلطة بماء الحنفية. عندما زرتُ ترشيحا أخيراً منذ بضع سنوات سيطرت ذاكرتي على الحواس. اجتاحت رائحة المخيم حاسة الشم عندي وانسطم منخاري عن هواء ترشيحا العليل. أما أشجار الزيتون المتناثرة على الهضاب المقابلة لبيت بنت خالة أمي، فقد أحالتني إلى شبكة شرائط الكهرباء العشوائية التي تفحم أجسام الناس عند أي تماس كهربائي كل شتاء عندما تنقطع الشرطان تحت ثقل المطر فتنهال موتاً مجانيًا على أهل المخيم. بيوت أقاربنا هناك شاسعة وحالتهم المادية لا تشبه في شيء حالة أهلهم في لبنان. غرباء عنا هؤلاء الأقارب. الرابط السياسي والتاريخي أوضح من الرابط العائلي. هذا الشبه الرهيب بين ملامح ابنة الخالة وبين خالتي يزعزع أساس مفهومي المحدود للعائلة وعلاقتي ببيت المخيم. بعد عشرات السنين من النكبة انزاح مفهوم البيت عن محوره المخيماتي وكبر ليلم أخيراً بالنكبة، ليس كمظلومية مملة يعيدونها على مسامعنا نحن الصغار كي لا ننسى. بعد زيارتي إلى ترشيحا بدأت أفهم البيت في دورانه حول النكبة كقطيعة تاريخية دخلت في حواسي وتسربت إلى تحت جلدي. أصبحت مفردة بيت منشرخة على نفسها  ككلمة عليل: فهي مفردة تعني الصحة والمرض في آن معاً. بيت قبلاوي المنكوب أصبح موقع للإلفة والوحشة معاً، وأما العائلة المتبقية في ترشيحا فأجبرتني على مواجهة الاحتمالات الأخرى التي التي كانت متاحة لأفراد عائلتي، أولاد ازدهار، لو أن النكبة لم تحصل أو لو أنهم بقيوا في ترشيحا حيث ولدت وترعرعت أمهم. أسأل بنت عم ازدهار عن سبب بقائها في فلسطين وعن سبب خيار اللجوء إلى لبنان الذي اتخذته بقية العائلة. تقول لي نحن مشينا باتجاه الشرق وهنن مشيوا باتجاه الشمال. بهاي البساطة المسألة. بضع كيلوميترات فقط. ورُسمت حدود جديدة فصلت بين البلدين. يكتب عادل مناع عن المناشير التي رماها الإسرائيليون من السماء، والتي هددت أهل البلدة بمجزرة إذا لم يخلوا البلدة حالاً. أخلوها جميعهم. منهم من صار لاجئاً ومنهم من صار من فلسطينيي 48.

كانت ازدهارفي عمر 13. لم يعلمها أهلها فك الحرف ولكن علموها الطبخ والخياطة وأشياء أخرى كانوا يعتقدون أنها مفيدة أكثر لجعلها  صالحة للزواج. تقصدوها أُميّة تحضيراً لدور الأمومة، ترثه عن أمها وأم أمها وأم أم أمهم جميعاً. أميّة تبقى، أي مجبولة على أمها، تتعلم فقط الأمور المنزلية  تحضيراً لمستقبلها كأمَة عند زوجها.Sois belle et tais-toi. كوني حلوة وسكتي، هذا ليس إرثاً عربياً ترشحانياً وإنما هو عام في ثقافات أخرى أيضاً. ولضمان سكوتك لأن صوتك قد يدوش الزوج، قام أهلك بابقائك أمية، وتعهدوا لابن عمك قبل تزويجك أنك لن تسببي له أي وجع راس. في اللغة اليونانية الأمة والأم والأطفال والمنزل والأراضي المملوكة جميعها تندرج تحت كلمة oikos ما تحول في الانكليزية إلى كلمة economy. فالصحة الاقتصادية للعائلة كانت معتمدة على الأدوار الجندرية المرسومة سلفاً وكانت الأمية (وبقاء المرأة أمَة لزوجها؛ أم لأولادها) ضامنة للاستقرار العائلة وازدهارها ومكانتها الاجتماعية. أما تزويجها لابن عمها، جدي، فضَمن أن الأملاك لن تذهب لغريب وكل ما سترثه ازدهار وأخواتها سيرجع بالعز والثراء إلى آل القبلاوي. أصبحت ترشيحا معلوت اليوم.

هكذا ستبقين أمَة بقدر ما أنت أم، وحتى بعد وفاة سيدك وحبيبك بقيت صفة الأمة ملازمتك في فقرك الرهيب. أصبحتِ مِهذارة بس ضليتك ساكتة عن كتير أمور، مثلاً كان عليَّ أن أبدأ بالكتابة عنك لأكتشف صدفة أنك عملتي لصالح قاتل زوجك مدى الحياة. من كان ليتخيل بأن أسس هذه العائلة ستنهار وسيصبحون في بلية دائمة في النكبة، وأن الأشكال العائلية المعتمدة من الأمية وغيرها ستكون شر هذه البلية ولن تضحك أحداً؟

أمي تقول إن جدي كان مفتوناً بجمال ازدهار. لا دليل على أيام المجد قبل موت الزوج عدا ذكرى لفساتين أتت بهم أمي بعدما توفيت جدتي. كان جدي يحبها كثيراً مفتخراً بأن امرأته لا يضاهيها أحد بالجمال أو بالتفنن في الطبخ. يقيم الولائم أسبوعياً ويتباهى بصفاتها البيولوجية أمام الناس. كان موظف أونروا كبير وكانت حالته المادية تسمح له بالإتيان بالخيّاط إلى منزلهم الذي كان يقع خارج المخيم في شارع حاطوم، يوم كانت الضاحية الجنوبية لبيروت كضواحي المدن الأوروبية: ثرية، ناعسة وتكثر فيها البساتين والأشجار. خيال وطموحات جدي لم تختلف كثيراً عن شخصية العامل في رائعة تشارلي تشابلن الأزمنة الحديثة. لا أعرف إذا جنّ جدي فترة بعد النكبة كما فقد عاملُ الأزمنة الحديثة رشده بعدما فرمته الآلة. ولكنه يشترك مع هذه الشخصية في الرغبات البرجوازية المتجسدة بتخيلٍ خلابٍ عن الأسرة السعيدة ذات الهندام المجاري للموضة يدفع ثمنه الرجل من ماله الوفير، وفي المقابل تصب زوجته البشوشة قدراتها الخلاقة لتحضير الطبخات المعقدة وتمشيط شعر الأولاد. كان جدي يسرف في تزيين جسم امرأته بفساتين براقة مليئة بالخرز المشكوك على مساحة القماش. فساتين آتية من زمن الأفلام المصرية الغابر، موديلات الخمسينات والستينات. تفشي الفساتين عن ماضي جسد جدتي في صباها. ممشوقة، خصرها أصغر من أن أقدر أن أرث أياً من هذه الفساتين. دخلت الفساتين خزانة أمي بضعة أشهر قبل أن تتخلص منها هي الأخرى. أين خبأت أم نزار هذه الفساتين مدى حياتها؟ ولِمَ لم تخرجها من الخزانة يوماً أمام أعيننا؟

أذكر ازدهار خياطة. تشك الخرز وتقور الورود على المناديل. كان لأخيها بيت في حارة حريك في الثمانينات. قررت العائلة أن جدتي في أمان أكثر إذا حرسته من الاحتلال فقط لكونها امرأة عجوزة سيستحي الزعران من طردها منه. كان موقع البيت في منطقة في خضم تغيير طائفي ديموغرافي رهيب تجعله معرضاً للاحتلال لأنه مملوك من فلسطيني. بيت كئيب في بناية تسكنها فلسطينيات وأولادهن وبعض الشيوخ. الرجال كانوا قد أُجلوا عن لبنان عندما خرج ياسر عرفات بعد الاجتياح الاسرائيلي. ستصبح هذه البناية حيث كانت تعيش ستي موقع لمقتلة قام بها عناصر من حركة أمل يقودهم شخص يسمي نفسه الحنش، وتُعرف للمهتمين بتاريخ الحرب بمجزرة حارة حريك. جدتي كانت في منزلنا صدفة يومها فنجت من مصير الالتحاق بـ27 جثة حصدتها المجزرة في أقل من ساعتين.

يعج  بيت حارة حريك بعض الأحيان بفتيات قيد الزواج يأتين مع أمهاتهن وأخواتهن. تأخذ أم نزار مقاييسهن، يشربن القهوة. يدردشن. أغلبهن من الفلسطينيات. كنّ يطلبن منها أن تعمل فستان الخطبة أو العرس. معظم الأحيان يأتين بالقماش. أذهب معها أحياناً لشراء الخرز. ستي بالتأكيد لم تشك خرز فساتينها بنفسها لكنها أمضت جزءاً من حياتها بشك خرز للآخرين. قد تكون ازدهار تعلمت الشك في بيت أهلها كأحد أركان تربيتها الزوجية. لم تكن ورشات »تمكين المرأة» التي تتداولها الـ NGOs قد استثمرت في الخياطة والتطريز لمساعدة النساء الفقراء على العيش بما يشبه الكرامة، ولكنه عمل لا يرفع أحداً من الركام.

فِتِت على حياة ستي وهي كانت بتخيط علشان تبعت فلوس لأولادها الدكاترة بروسيا وبلغاريا. تخرَّج واحد منن فقط ورجع إلى لبنان، تحديداً إلى المخيم. جرب يصير حكيم وعرف أنه ما بيطلعله لأنه فلسطيني. في بالمخيم مشفى غزة. اشتغل فيه. عاش مع زوجته الروسية وأمه في نفس البيت. مسكينة زوجته كم كانت ازدهار تتمتع باضطهادها. عاشوا كلن ببيت كرتون بحارة التراشحة. خناق ليل نهار. ستي ضلت تشتغل وتساعده بمصروف البيت. دايماً كانت تشتغل. غير هيك كيف وصلوا ولادها لأوروبا الشرقية؟ بس شغلها كان ينعد من عيوبها. ما كنا نحكي بشو بتشتغل ستي. من طراطيش الكلام عرفنا إنها كانت أيام لفّاية، أوقات طباخة وأحياناً خياطة. قاحل شغلها. ولا شي إلها غير كسر الضهر وقلع العيون وتيبس الأيدي  في تأمين أولادها. وعندما استعملت جسدها في طلب اللذة اكتشفت أن الأقارب هن ألد الأعداء. قاحلة حياتها قاحلة. لا أصدقاء في برج البراجنة لامرأة فقدت زوجها وجمالها في برج البراجنة. أقرباء فقط ونميمة على الآخرين. ولا حب في حياة ازدهار التي ازدهرت وشاخت وشخت إلى أن ماتت. كره وعنف وإقصاء عن الحقوق. وصمت في صورة صف الحكي الممل.

أم نزار باركة في قهر أكل من لحمها. أُمِية لم تذهب يوماً إلى مدرسة. كانت تحب أطفالها على طريقتها خصوصاً الصبيان منهم. كان يثقل هذا الحب كاهلها فلا تعرف كيف تستمتع به. حب أرهقه الغضب. تندب تبكي تصرخ تنجن تضرط تتدشأ وتطلب منا أن نأتي لها بشتى الأشياء. جدتي أيضاً كانت تستمني. استمناؤها كان في شكل ادمان على الأنسولين. كانت تتصنع أعراض داء السكري ولا يكشف ألاعيبها غير فحص الدم التي كانت أمي تجبرها على عمله بين الحين والآخر. كأن الدكترة التي أرادتها لأولادها الرجال كانت تمارسها على نفسها في لعبة غريبة اسمها المريضة والدكتور. كانت جدتي تؤدي الدورين. أقرأ في كتاب عنايات الزيات لإيمان مرسال أن الأنسولين كان أحد الوصفات الطبية للمشاكل النفسية الحادة. وجدتي كانت من دون شك صاحبة مشاكل نفسية حادة. لا أعرف أي سعادة يعطيها الأنسولين، ولكني أعرف الإدمان كوسيلة لتلطيف القسوة وتسليك الأمور في غياب أفق التغيير. الانترنت تعلمني بأن الأنسولين في الطب النفسي كان يستعمل لوضع الدماغ في غيبوبة  مفتعلة تسعى أن تعمل  reboot أو إعادة تشغيل للمخ. سعادة مترنحة تجتاح الجسم وغياب مؤقت عن الوعي. في أيام الحرب كان ممكن شراء جميع أنواع الأدوية من دون وصفة. المشكلة كانت أن الأنسولين لم يكن متوفراً دوماً. كانت جدتي تضطر لطلبه من الإمارات حيث يسكن أخوها الأكبر. كانت تعقص نفسها مرة أو مرتين في اليوم أحياناً. وأحياناً أخرى لم يكن لديها ما يكفي من المال لإشباع إدمانها الغريب هذا. عند انقطاع الكهرباء وقبل أن يدخل الموتور إلى البيوت في لبنان، كانت ازدهار تخبئ مؤنتها من الأنسولين في براد منزلنا، لأن كهربائنا كانت أفضل من كهربائها. أحياناً كنت أساعدها في استمنائها وأضربها إبرة الأنسولين في فخذها الأعلى. سيقتلها الأنسولين بعد حين. فهو يحوِّل العظام في الجسد إلى رقائق تنكسر بسهولة. انكسر ورك أم نزار بعدما فقدت نزار.

لم ينفع الأنسولين بتغيير حالة جدتي النفسية في علاقتها معنا، ولم يجلُ غيمة الجنون الملازمة لجبينها. شخّصت أنا وأختي مرض جدتي النفسي. أنها بالتأكيد تعاني من السكيزوفرينيا، كإبنها البكر. قد تكون نرجسية أو بايبولار. المهم بها شي بدو تشخيص. لم تنجُ جدتي من ألسنة الناس ولم تجد أي شيء آخر يلهيها عن الحرمان. فجنّت. ولكن جنونها لم يخلصها من فم  القرش الفاغر. أم نزار العاملة كانت وحيدة. وحدتها يتخللها الأصدقاء وبعض الأقارب، يزورون بعضهم يومياً ويتداولون النميمة في أعراض الناس. كانت تعمل وحدها في غرفتها البنية، أحياناً على ضوء اللوكس، تعمل إلى أن تنهار من التعب، فتأتي عندنا ترتاح بضعة أيام. تئنّ وتدلك مواضع الألم. هذه الوحدة في صميم أوضاع العمل المتواضع للمرأة الفقيرة. قليلة الأعمال التي يمكن أن تقوم بها والتي يمكن أن تجعلها جزءاً من مجموعة عاملة.

عندما التحقت  أمي بصفوف الثورة الفلسطينية مع أخوها الأكبر نزار، كان هذا الفقر المدقع المحفز الأساسي للتواجد في الشارع وتعلم مهارات القتال. الثورة جسدت الوعي بأن الخروج على الفقر لن يكون فردياً وأن الإصرار على الكرامة ليس محصورًا بالمهارة الشخصية. الثورة فتحت فضاء في مكان الإقامة الضيق، وسمحت للمجتمع الفلسطيني بأن يشكل نواة سياسية قادرة على تمكين الأفراد في تعاطي الشأن العام. تخيل الفلسطينيون الثورة كمدرسة وأقاموا حلقات تثقيفية للعوام. دورات محو الأمية ساعدت أعداداً لا بأس بها من النساء في تطوير حشرية التعلم، ونمّت الأمل بأن المستقبل سيكون أفضل مما هو عليه في الحاضر. تطوعت أمي في تعليم النساء الأخريات القراءة والكتابة، ولكنها لم تعلّم ازدهار. تقول أمي إن أمها كانت تشجعها على القراءة والعلم كما شجعت كل بناتها، ولكنها لم تبذل مجهوداً في التعلم شخصياً. فالتعلم يصبح أكثر صعوبة بعد الأربعين، وهذه صعوبة قد تساهم في إضعافك بدلاً من تقويتك إذا لم تكن قدراتك الجسمانية والعقلية جاهزة لأن تتغير تحت الانضباط المطلوب للتعلم.

 خسارة الثورة والقتل المتواصل للفلسطينيين خلال الحرب لم تمحِ ما اكتسبته هذه الشابات من العلم. لا أعرف ما كان مصير أمي ليكون لولا الثورة الفلسطينية. فهي في صفوفها لم تكتسب فقط القدرة على القتال والتسلح، وإنما الأهم هو ممارسة الشجاعة والتعلم والتعليم كطريقة حياة. تعلمت أيضاً أن ترفض الوضع القائم والعمل للخروج من فقرها الذي ورثته عن أمها. الثورة آلت إلى الخسارة، ولهذه الخسارة تبعات فادحة في أوضاع نفسية طاحنة أحس بها كل من شارك في صنعها. تقول أمي إن ازدهار كانت فخورة كغيرها من الأمهات بأن أولادها انضموا لصفوف الثورة، ولكنها كانت مرتبكة من الحرية التي كانت أمي تمارسها في العمل الثوري. تريدها متعلمة ذات شأن، ولكنها أيضاً كانت تخاف من حكي الناس على إبنة كانت تخرج ليلاً نهاراً وتلتقي مع رفقاء رجال في هدف التنظيم الثوري.

هل كانت أمي لتصبح نسوية بدون العمل الثوري؟ وهل كنت أنا لأقدر أن أكتب عن ازدهار لولا الطاقة الهائلة التي اكتسبتها في شوارع بيروت الثورية؟ ميزان الربح والخسارة أضيق من أن يلم بكل ما تنتجه الثورة من فتح أفق مغاير للخيال السياسي. لا شيء يقتل هذا الخيال غير عنف وإذلال هائلين تمارسهما السلطة القمعية لإعادة إنتاج الخوف وقتل السعي لبناء الثقة بين الناس. عنف لن تقدر الثورة أن تواجهه إلا من خلال إيجاد وسائل ملحمية أشبه بالحلول الخرافية كالخروج من السجن حفرًا بالملعقة.

ازدهار لم يكن لديها أي فضول لتعلم كتابة إسمها. هل كان التعب قد أكل في دماغها لدرجة عطب قدرتها على الانفتاح على ما تجهله؟ لم أشكَّ يوماً بأن ازدهار ذكية. ماكرة كانت شريرة، عيناها تشعان حقداً يتحول لشخير عنيف عندما تنام. طبخها الملوكي كان يفشي عن موهبة كيميائية نادرة. كانت مثابرة في مسؤولياتها تجاه أولادها الأطباء. تتساءل دائماً إذا ما كان عليها بيع أساورها الذهب لتأمين طلباتهم. كانت أيضاً في دوران متواصل حول نفسها. تشكو جسماً في ألم لا ينتهي وتشخص لنفسها أمراضاً وتصف عقاقير، ونحن ننذهل من أسطوانتها التي لا تكف عن الدوران. نكره مشاركتها غرفة النوم، فهي تئن وتشخر ولا تسمح لأحد أن يغمض جفن. دائماً محور الغرفة هي. أينما ذهبت، عندها قدرة رهيبة في استقطاب كل الأنظار والآذان نحوها. كانت كالثقب الأسود قادرة على ابتلاع هواء أي فضاء. آخ منها. لو أنها فقط وجّهت القليل من هذه الطاقة لتتعلم كيف تخط إسمها على ورقة. ازدهار، لفظة لم تحظَ أبداً بأي دلالة في سلوكها مع نفسها.

أجلس في بيروت مع أمي على شرفتها الشرحة. أسألها عن أمها وعن العائلة. تحكي قليلاً ثم تقف وتهم بالدخول إلى البيت. تستدير في شق الباب وتردف: العائلة أيضاً تخلٍّ. تتركني وحدي مقطوعة النفس تحت وطأة المعنى. أفشي لحبيبتي سري لأشرح لها تصرفاتي الصبيانية في علاقتنا. أقول لها أنني أخاف التخلي، أرتعب من فكرة خسارة الحب وقد أقدم على الكثير من الأفعال الطائشة من أجل أن لا يتخلى عني من أحبهم. وها هي أمي تعترف بعظمة لسانها أن التخلي فعل أقدمت عليه مراراً في علاقاتها العائلية. تكتب هيلين سيكسو عن هذه العلاقة بالأمَة التي تتوارثها النساء كقدرهنّ الكريه. تقول «إن الوقت قد حان لتحرير المرأة الجديدة من المرأة العتيقة». ولكنها لا تلحظ الصعوبة الكامنة في فعل تحرير كهذا. كيف نتحرر مِمن نحب؟ أي تحرر هذا عندما يكون السجان هو الأم نفسها؟ ازدهار الأم التي كانت تفيض ازدهاراً على أيورة وأشرار.

أسخط على المحللة عندما تؤوّل كلامي عن عائلتي فتقول إنه يبدو لها أنني خرجت من لبنان للهروب إلى أبعد مكان عن وزر عائلتي الخانق. هربتي إلى أوسلو تقول. لا أطيق سماع هذه الملاحظة، فأنا أحبهم وأفضّل أن أكون بجانبهم مع هذه الوحدة في هذا المكان المتجمد برفاهيته. ولكن اليوم بعدما اكتشفت في ازدهار المرأة الآتية من تاريخ المنطقة الذكوري والعنيف، أردد ما استنتجته المحللة عني وأواجه أفعالي التهرّبية. هربت من ثقل لغة الأم إلى الانجليزية في الجامعة لأنني لم أجد لغة أرِثها في العربية. من سأرث؟ جدتي الجاهلة أم أمي المتخلية؟ وأي لغة أمٍّ هذه على كل حال حيث قليلات قليلات هن الكاتبات فيها؟ يسهل على الرجال التبرم من الإرث كما شخّص هارولد بلوم في نقده للتاريخ الأدبي، كافٍ فقط قتل الأب ليصبح جايمس جويس أو أي رجل آخر كاتباً محترماً. أما النساء فلا يسعفهم القتل كمجاز لتعلم الكتابة. فهن مصدر الحياة وللحياة مجازات أخرى. تحتاج المرأة أن تستعيد المرأة من التاريخ كما كتبت سيكسو. أن تنفض عنها إرث المرأة العتيقة، ولكن في نفس الحركة أن تستوعب هذه الأم التاريخية كامرأة خاضعة لعنف المحو الذكوري للفعل الأنثوي.

أمَة ستكون وتموت أمَة. أليس هذا كل ما نتذكره عن هاجر الأمة؟ أنها أمة؟ بعدما تخلى ابراهيم عن عبدته وابنه البكر في الصحراء وتركهما لموت حتمي، لم يتدخل الله ليرده عنهم هذه المرة. فقدت هاجر صوابها وبدأت تركض طلوعاً نزولاً بين جبال الصحراء الناشفة. ما فتأت تفتش عن الماء ولا تجده. وضعت أذنها على الأرض وسمعت خريراً خافتاً يصعب تحديد مكانه. صوت لا يفصح عن ذاته. استمعت عن كثب ومشت بتأن تفتش عن مصدر الصوت. لا شيء بين هذه الرمال، زمزمت هاجر بصوت خافت يكاد لا يُفهَم وهي تمرر رمال الأرض بين أصابعها. الطفل يصرخ من العطش والجوع وبزها كان قد جف منذ يومين. انفجرت سخطاً على هذا الرب الذي تركها هنا لتموت بينما يتنعم هو وسارته بمياه فلسطين الحلوة. أين الحياة، أين الحياة يا رب الموت؟ صرخت وضربت الأرض برجلها، فانفجر ينبوع أسمته زمزم لتتذكر دوماً زمزمة صوتها المخنوق في حنجرتها وهي تجابه الموت مع طفلها. بدأت الطيور تأتي لتشرب من نبعها فاشتلق رجال قبيلة مرتحلة تفتش أيضاً عن المياه. رفضت هاجر بإفشاء موقع النبع لهم إلا بعدما قبلوا أن يعطوها أجرتها، ففعلوا. بعد حين ارتحلت قبيلة أخرى وأخرى إلى هاجر بحثاً عن المياه، وهم أيضاً كان عليهم أن ينفقوا من مالهم إذا أرادوا الاستدلال على النبع. مرت السنوات وتجمعت القبائل حول مِلك هاجر فكانت لهم راوية مروية فخلقتهم حضارة. زمزمزمزمزمزمزمزم بقيت رواية هاجر تزمزم بين سطور الكتب. قصتها كتبها رجال فحرّفوها عن مسارها كما يحلو لهم أن يفعلوا مع الأنهر. امّحت هاجر الأم العزباء التي بنت مكة من رواياتها وحُفظت سيرة الولد. ذابت الراوية في سرديات الرجال ومعجزاتهم الأدبية وتقلصت هي إلى وظيفتها الأساس: الأمَة الأمّ ذات الإسم الهائم على وجهه والذي يدل فقط على حياتها البائسة.

كل الروايات تجمع بأن البؤس هو جل ما ينتظرنا عند الهجر. قد يكون لذلك لا يحب أحد أن يخبرنا كيف عاشت هاجر بعد الهجر. قد لا يكون السبب ذكورياً على الإطلاق، فقط اجتماعي غريزي. سردية البؤس ملازمة للتهجر وإن تكلمنا عن نجاحات المهجرين نرجّع القصص دوماً إلى قسوة الهجرة كمحفز للطموح. البؤس أولاً ودائماً بالرغم من النجاحات. ذكورية القصة مؤكدة في تفاصيل أخرى، في اللغو عن ابراهيم وحبه لإبنه ولأَمته وهو المعروف عنه بأنه يضحي بأطفاله لبرهنة ولائه لأربابه جميعاً. يقولون إن هاجر دُفنت على باب الكعبة وابنها لحق بها. وأن كل الدوران حول الكعبة طقس هاجري يزمزم في الذاكرة الجماعية للأُمّة. جعلت من قبرها كعبة، السيدة هاجر. أما ازدهار فرفضت أن تدفن مع زوجها في مقبرة الشهداء، وطلبت أن ترقد مع أمها في تربة الرمل العالي القبيحة حيث رفات  الفلسطينيين تحتل كل شبر من الأرض. أينما تضعين رجلك تدعسين على ميت هناك.

في أول أيامي في أوسلو كنت أزور المقابر يومياً. أبحلق بالشواهد وأتعلم تهجئة أسماء الأموات كي لا أضطر أن أسأل الأحياء عن إعادة أسمائهم الغريبة على مسمعي عدة مرات. كنت أمشي وأواسي نفسي بأنني سأموت في بيروت ولن أضطر لأن أدفن جانب غُنفور وآرلينغ وأوغي وداغفين وإنغا وإنغيبورغ وبورغهيلد وغيرد وفالديس. جميلة المقابر هنا، نظيفة مصففة كشعور النساء في بلادنا. أتلذذ بشلح كيلوتي حول القبور. اقرفص.  تلفعني الأرواح المقيمة في المقبرة  بالدغدغان وأشخ مطولاً في انعتاق مبهج. بعد عودتي إلى أوسلو من بيروت بعد السفرة الأخيرة، أخذت كلبي إلى مقبرة العمال القريبة من منزلي. أود لو أدفن هنا وراء تمثال العامل العاري ذي الأير المدندل بعدم اكتراث عارم. أرغب بأن ينزاح شيء من لا مبالاته إلى أبديتي في التراب. سيحرقون جثتي هنا، في براغماتية بروتستانتية لا تحبذ توسيع فضاءات الموت في المدينة ذات الكثافة السكانية المتصاعدة. سيضعون رمادي في جرة صغيرة وستدفن هذه الجرة في التراب. سأكون وحدي هنا ككل من هاجر. ولن يصبح قبري كعبة إلا إذا حققت شهرة عجيبة من كتاباتي هذه. سأترك التربة الآن بعد قراءة التعويذة وأذهب إلى النهر، أفتح له فخذي ويضرب ماؤه فيّ فأنعسلُ وأتلاشى عن تلك المرأة وذاك الوطن.