إن ما حدث داخل معسكرات الاعتقال من جرائم مروّعة يتجاوز المفهوم القانوني للجريمة، إلى درجة أن الهيكل السياسي والقانوني المحدّد الذي وقعت فيه هذه الأحداث يُترك ببساطة دون فحصٍ ودراسة. فمعسكر الاعتقال هو المكان الذي تحققت فيه أكثرُ الظروف غير الإنسانية فظاعةً على وجه الأرض؛ هذه الحقيقة في النهاية هي ما تهمّ الضحايا، وتهم أيضاً الأجيال اللاحقة. لذا، سوف أبدأ هنا عمداً من الاتجاه المُعاكس، فبدلاً من أن استدّل على تعريف معسكر الاعتقال من الأحداث التي وقعت فيه، سوف أسال: ما هو معسكر الاعتقال؟ ما هيكله السياسي والقانوني؟ كيف أمكنَ وقوع كل تلك الأحداث فيه؟… سيقودنا هذا للنظر إلى معسكر الاعتقال، لا كحقيقة تاريخية شاذّة تنتمي إلى الماضي البعيد -على الرغم أن معسكر الاعتقال لا زال موجود بيننا وباعتراف الجميع- بل النظر إلى معسكر الاعتقال، بمعنى ما، كنموذجٍ خفي، وناموسٍ للفضاء السياسي الذي لا نزال نعيش فيه.
يجادل المؤرخون عادةً فيما إذا كان يجب تحديد أوّل ظهور لمعسكرات الاعتقال مع المعسكرات التي أنشأها الإسبان في كوبا عام 1896 لقمع انتفاضة سكان المستعمرة، أو أن ظهورها تزامن مع معسكرات الاعتقال التي احتجزَ فيها الإنجليزُ المستوطنون البوير في بدايات القرن العشرين. إن ما يعنينا هنا هو أنه، وفي كلتا الحالتين، تمّ التعامل مع مجموعة كاملة من السكان المدنيين من خلال تمديد حالة الاستثناء المرتبطة بالحرب الاستعمارية. إن معسكرات الاعتقال، وبكلمات أخرى، لم تكن وليدةَ القانون العادي، بل كانت نتاجاً -كما يمكن للمرء أن يعتقد- لتحوّلٍ وتطورٍ في قانون السجون، إذ ظهر معسكر الاعتقال على وجه الدقة في ظل الأحكام العرفية وحالة الاستثناء. ويبدو هذا أكثر وضوحاً في حالة معسكر الاعتقال النازي (Nazi Lager) الذي تمّ توثيق أصله وتنظيمه القانوني بشكل جيد جداً. فكما هو معروف، لم يكن الأساس القانوني للاعتقال في ظل النظام النازي هو القانون العادي، بل كان الاعتقال يتم عبر Schutzhaft (ويعني حرفياً الحبس الاحتياطي)، وهذه في الأساس مؤسسة قانونية من اشتقاقٍ بروسي اعتبرها الفقهاء النازيّون في بعض الأحيان إجراءً ناجعاً يُمكِّن الشرطة الوقائية من «احتجاز» الأفراد بغض النظر عن ارتكابهم لسلوك إجرامي. مثل هذه الإجراءات اتُّخذت لتجنّب أي تهديد قد يطال أمن الدولة حصراً. إن أصل الحبس الاحتياطي، إذن، يجد جذوره في القانون البروسي الذي تم تمريره في 4 حزيران (يونيو) 1851 بشأن حالة الحصار، ثم امتدّ ليشمل باقي مناطق ألمانيا في 1871 (عدا بافاريا)، كما أن له جذوراً في القانون البروسي السابق المتعلق بحماية الحرية الشخصية (Schutz der persönlichen Freiheit) الصادر في 12 شباط (فبراير) 1850. كلا هذين القانونين تمّ تطبيقهما على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الأولى.
مع ذلك لا يمكننا أن نبالغ في تقدير أهمية العلاقة التأسيسية بين حالة الاستثناء ومعسكرات الاعتقال، خاصةً إذا ما أردنا أن نصل إلى فهمٍ دقيق لطبيعة معسكر الاعتقال. فمن المفارقات أن «حماية» الحرية -والتي كانت على المحك- في قانون الحبس الاحتياطي، ظهرت وكأنها حمايةٌ ضد تعليق القانون في حالة الطوارئ. اللافت هنا، هو أن هذه المؤسسة (الحبس الاحتياطي) التي أُحلّت بسبب حالة الاستثناء والتي تأسست بدورها عليها، ظلت سارية ومعمولاً بها حتى في ظل القانون العادي. إن معسكر الاعتقال، بهذا المعنى، هو الحيّز الذي ظهر على السطح عندما صارت حالة الاستثناء هي القاعدة. فهذه الحالة، والتي كان من المفترض أن تكون تعليقاً مؤقتاً لحكم القانون، اكتسبت ترتيباً مكانياً دائماً يبقيها على هذا النحو خارج حالة القانون العادي بشكل مستمر. فهيملر عندما قرَّرَ في آذار (مارس) 1933 -احتفالاً بانتخاب هتلر مستشاراً للرايخ- إنشاءَ «معسكر اعتقال للسجناء السياسيين» في داخاو، عُهِدَ بهذا المعسكر على الفور إلى قوات الأمن الخاصة، وبفضل قانون الحبس الاحتياطي، تمّ وضعه خارج اختصاص القانون الجنائي ومصلحة السجون بحيث لم تربطه علاقة بالقانون، لا وقت إنشاءه ولا حتى بعد ذلك. إن معسكر اعتقال داخاو وغيره من معسكرات الاعتقال التي أُضيفت إليه تباعاً (ساكسنهاوزن، بوخنفالد، ليختنبرغ) ظلت تعمل بشكلٍ دائمٍ تقريباً. صحيحٌ أن عدد المعتقلين تباين خلال فترات معينة وانخفض إلى 7500 بخاصة بين 1935 و1937 قبل الترحيل القسري لليهود، إلا أن معسكر الاعتقال أصبح بمعنى ما حقيقة دائمة بالنسبة إلى ألمانيا.
هنا، على المرء التفكير بالوضع المتناقض لمعسكر الاعتقال كحيّزٍ للاستثناء: قطعة أرض تقع خارج اختصاص النظام القانوني، ومع ذلك، فهي ليست ببساطة مساحة خارجية. فالأصل الاشتقاقي لكلمة استثناء (ex-capere) يوحي بأن ما يتمّ استبعاده في المعسكر يتمّ التقاطه خارجه، أي أنه يتم تضمينه لمجرّد استبعاده. لذا أول ما يتم التقاطه تحت حكم القانون وتضمينه في البنية القانونية هو؛ حالة الاستثناء بحد ذاتها. وبعبارةٍ أخرى، إذا تمّ تأسيس السلطة السيادية على القدرة على اتخاذ القرارات في خضمّ حالة الاستثناء، فإن معسكر الاعتقال هو الهيكل الذي حقق لحالة الاستثناء ديمومتها. وحنة آرنت كانت قد لاحظت ذات مرة أن ما يظهر جليّاً في معسكرات الاعتقال هو المبدأ ذاته الذي يعزّز الهيمنة الشمولية، وأنّ الحس السليم يرفض وبعناد منطق هذا المبدأ، أي المبدأ الذي يقول بأن فعل أي شيء وكل شيء ممكن. ولأن معسكرات الاعتقال تشكل حيّزًا من الاستثناء -حيّزاً يتم فيه تعليق القانون بشكل كامل- يعني أن حدوث أي شيء داخله أمرٌ ممكنٌ بالفعل. إذا لم تُفهم طريقة عمل هذا الهيكل القانوني والسياسي الدقيق لمعسكر الاعتقال، والذي تكمن مهمته في استيعاب الاستثناء بشكل مستمر، ستظل الأحداث الفظيعة التي وقعت داخله غير مفهومة بالمرة.
فالذين حُشدوا في معسكرات الاعتقال كانوا يتحركون في منطقة واقعة بين الداخل والخارج، بين الاستثناء والقاعدة، بين الشرعية واللاشرعية، منقطة اختفت فيها الحماية القانونية تماماً. في حالة اليهود مثلاً، تمّ تجريدهم في البداية من حقوق المواطنة بناءً على قوانين نورمبرغ، من ثم تمّ تجريدهم من الجنسية في لحظة ما سميّ بـ«الحل النهائي». ونظراً لأنه يتم تجريد المعتقلين من الوضع السياسي وتحويلهم إلى مجرّد حيوات عارية، فمعسكر الاعتقال يشكّل أيضاً أقصى درجات السياسة الحيوية التي عرفناها على الإطلاق، حيّزاً لا تواجه فيه السلطة إلا الحياة البيولوجية مجرّدةً، ومن دون أي وساطة. وبهذا المعنى يصير معسكر الاعتقال بحد ذاته نموذجاً معيارياً للفضاء السياسي حيث تصبح فيه السياسة سياسة حيوية، والقدرة على التمييز بين الإنسان المستباح (homo sacer) والمواطن تصبح أمراً متعذراً. من ثمَّ يكون السؤال الصحيح الذي يجب طرحه بشأن الفظائع التي ارتُكبت في معسكرات الاعتقال، ليس السؤال الذي يُطرَح نفاقاً؛ كيف أمكن ارتكاب كل هذه الجرائم المروّعة ضد بشرٍ آخرين؟… سيكون أكثر نزاهةً، والأهم من ذلك أنه أكثر فائدةً، أن نبحث بدقة في الكيفية والنمط -أي في الإجراءات القانونية والأدوات السياسية- فلقد صار ممكناً تجريد البشر من حقوقهم وامتيازاتهم بشكلٍ كامل، إلى درجة ارتكاب جرائم ضدهم لا تصنّف على أنها كذلك ( في هذه المرحلة، وفي واقعنا هذا، أي شيء يمكن فعله حرفياً).
وإذا كان الحال هذا، إذا كان جوهر معسكر الاعتقال يتمثل في تجسيد حالة الاستثناء وما يترتب على ذلك من خلق مساحات للحياة العارية، فيتعين علينا، إذن، أن نعترف أننا نواجه معسكر اعتقال في كل مرّة يتم فيها إنشاء مثل هذا الهيكل بغض النظر عن طبيعة الجرائم المرتكبة فيه، وبغض النظر عن الطائفة والعرقية أو حتى الطبوغرافيا التي يحتويها هذا المعسكر. فملعب كرة القدم في باري، حيث حشدت الشرطة الإيطالية بشكلٍ مؤقت المهاجرين غير الشرعيين الآتين من ألبانيا في 1991 قبل إعادتهم إلى بلدهم، والمسارات الإسفلتية المخصصة للدراجات التي جمعت فيها السلطات الفاشية اليهود قبل تسليمهم إلى ألمانيا، ومخيمات اللاجئين القريبة من الحدود الإسبانية حيث توفي الشاعر أنطونيو ماتشادو عام 1939، وكذلك قاعات الانتظار في مطار فرنسا الدولي التي يتم فيها احتجاز الأجانب من طالبي اللجوء… كلّ هذه الأماكن يجب أن ننظر إليها على أنها معسكرات اعتقال. في مثل هذه الحالات، سيبدو مكاناً هادئاً وساكناً (مثل فندق de l’Arcade القريب من مطار باريس) مكاناً يحدد المساحة والكيفية التي يُعلَّق بها القانون، ومدى ارتكاب الجرائم في أماكن كهذه لن يتوقف على القانون بكل تأكيد، إنما على الحس الأخلاقي والمدني لأفراد الشرطة الذين سيتصرفون حينها باعتبارهم أصحاب السيادة. هذا هو الحال خلال الأيام الأربعة التي يتم فيها احتجاز الأجانب طالبي اللجوء في قاعات الانتظار، قبل أن تتدخل السلطات القضائية الفرنسية للبتّ في وضعهم. وبهذا المعنى، حتى بعض الضواحي في المدن ما بعد الصناعية الكبرى، وكذلك التجمعات المسوّرة في الولايات المتحدة الأميركية، بدأت تبدوا اليوم وكأنها معسكرات اعتقال، حيث تدخل الحياة العارية والحياة السياسية، لا سيما في لحظات معينة، في منطقة الغموض المطلق.
ومن هذا المنظور، يبدو أن ولادة معسكر الاعتقال في عصرنا تُمثّل الحدثَ الذي طبعَ كامل الفضاء السياسي للحداثة، فهذه الولادة تموضعت داخل النظام ومنذ لحظة تأسيس الدولة القومية الحديثة التي قامت على الترابط الوظيفي بين تعيين الموطن (الإقليم) وتعيين النظام (الدولة)، علاقةٌ توسطتها حزمٌ من اللوائح والقوانين الآلية من أجل تسجيل الحياة وضبطها (الولادة والأمة) – هذه الحياة دخلت منذ تشكّلها في أزمة دائمة قررت على أثرها الدولة أن تتولى إدارة الحياة البيولوجية للأمة كمهمة تقع على عاتقها حصراً. وبعبارةٍ أخرى، إذا كانت بنية الدولة القومية الحديثة تقوم على أساس توافر ثلاثة أركان أساسية: الإقليم والنظام والولادة، فإن انهيار النواميس القديمة لم يتم، وفقاً لكارل شميت، بسبب الركنين اللذين لطالما شكّلا الناموس (الإقليم، والنظام) بل في ذلك العنصر الذي يضبط الحياة العارية (الركن الذي بسببه تتحول عملية ضبط الولادة إلى تشكّل أمة).
الأكيد أن ثمة شيئاً لم يعد يعمل في الآليات التقليدية التي كانت تنظّم عملية الضبط هذه، لذا صار معسكر الاعتقال هو المنظِّم الخفي لضبط الحياة داخل النظام، أو بمعنى أدق صار معسكر الاعتقال علامة نستدل بها على عجز النظام عن الاستمرار دون أن يتحول إلى آلة مميتة. ومن المهم هنا ملاحظة أن معسكرات الاعتقال ظهرت في الوقت نفسه الذي صدرت فيه القوانين الجديدة المتعلقة بالمواطنة والتجريد من الجنسية (ليس فقط قوانين نورمبرغ بشأن المواطنة في الرايخ، ولكن أيضاً القوانين المتعلقة بتجريد الجنسية التي صدرت تقريباً في أغلب دول أوروبا بما في ذلك فرنسا بين 1915 و1933). أصبحت حالة الاستثناء إذن، والتي كانت في الأساس تعليقاً مؤقتاً للنظام، ترتيباً مكانياً مستقراً تسكنه الحياة العارية التي، وبشكل متزايد، أصبحت تستعصي على الاندماج في النظام. إن هذه الثغرة الآخذة بالاتساع بين الولادة (الحياة العارية) والدولة القومية هي الحقيقة الجديدة لسياسات عصرنا، وما نسميه «معسكر الاعتقال» هو بالضبط هذا التفاوت بين الاثنين. فوجود النظام دون تحديد الإقليم (أي حالة الاستثناء في حالة تعليقها للقانون) ينسجم الآن مع وجود الإقليم دون النظام (أي معسكر الاعتقال كمساحة دائمة للاستثناء ومحتملة في أي مكان). فالنظام السياسي لم يعد يحدد القواعد القانونية وأشكال الحياة في فضاءات معينة؛ بل صار يحتوي في داخله القدرةَ على تسكين الالتباس والغموض بطريقة تُمكِّنه عملياً من التقاط أي قاعدة من القواعد أو أي شكلٍ من أشكال الحياة وتضمينها في بنية النظام. قُصِدَ من معسكر الاعتقال أن يكون بالتحديد هذا المكان الملتبس والغامض حتى يكون نموذجاً خفياً للسياسة التي نعيش فيها، لذا علينا أن نتعلم كيف نتعرّف على كل تحولاته وتغيراته، فمعسكر الاعتقال هو الركن الرابع الذي أضيف -وبطريقة لا تنفصل- لكسر الثالوث القديم للأمة؛ الولادة، الدولة، الإقليم + معسكر الاعتقال.
من هذا المنطلق، نحتاج إلى النظر إلى ظهور معسكرات الاعتقال الحديثة كبنية أكثر تطرفاً حتى مما كان عليه الأمر في أراضي يوغسلافيا السابقة. فما حدث هناك لم يكن على الإطلاق كما سارع بعض المراقبين المعنيين إلى إعلانه على أنه: إعادة تشكيل للنظام السياسي القديم وفق ترتيباتٍ عرقية ومناطقية جديدة، أي أنه مجرّد تكرار بسيط للعمليات التي نتجت عنها دساتير الدول القومية في أوروبا. ما حدث في الحقيقة، وكما لاحظناه، هو انهيارٌ لم يمكن تداركه للناموس القديم، أسفرَ عن تشريد السكّان وتشتيت الحياة وفقاً لخطوط ترحيل وهروبٍ جديدة تماماً. ولهذا السبب بالتحديد تصبح معسكرات الاعتقال التي تتمّ فيها عمليات الاغتصاب الجماعي ضد مجموعات معينة مهمة للغاية في فهمنا لطبيعة معسكر الاعتقال. فالنازّيون إذ لم يفكروا بتنفيذ «الحل النهائي» من خلال التحكم بمسألة الولادة عند النساء اليهوديات، فهذا لأن مبدأ «الولادة» الذي يضمن ربط الحياة ببنية النظام في الدولة القومية الحديثة كان لا يزال فعّالاً بطريقة ما، حتى وإن طرأت عليه تغيرات عميقة فيما بعد. ولكن هذا المبدأ خرج الآن عن مساره، لقد دخل في عملية تفكك مستمرة بحيث صارت مسألة تفعيله من جديد مسألة مستحيلة بشكل واضح جداً؛ لم نعد نتوقع فقط ظهور معسكرات اعتقال جديدة، بل نماذج معيارية جديدة وأكثر غموضاً لضبط الحياة في المدينة. فمعسكر الاعتقال الذي اتخذ له موقعاً راسخاً داخل المدن، في الأماكن التي نعيش ونحيا فيها، صار هو الناموس الجديد للحياة السياسية في هذا العصر.