حين تجاسر أحد أعضاء الحزب الحاكم في تركيا على مواجهة رئيسه رجب طيب أردوغان بشأن تنامي السخط الشعبي على التدهور الاقتصادي، قوبل برد أردوغان الغاضب: «أنت تكذب، أنا أعرف الشارع أفضل منك». ووفقاً للناطق باسمه فإن الرئيس التركي، الذي لا يزال عضواً في الحزب «مقتنع بأن بعض أعضاء الحزب والحكومة يبالغون في تقدير حجم المشاكل».
ويواجه أردوغان في الوقت الراهن تحذيرات من فشل تفرّده في إدارة الاقتصاد التركي، والبالغ 765 مليار دولار. وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادي يبدو إيجابياً على الورق، إلا أنه لم يُترجَم إلى خلق فرص عمل جديدة. وقد بلغ معدل التضخم 20 بالمئة في أيلول (سبتمبر) الماضي، فيما تواصل العملة التركية انحدارها، ليرتفع سعر صرف الدولار من نحو 1.8 ليرة قبل حوالي عشر سنوات إلى نحو 10 ليرات للدولار الواحد.
الأخطر هو انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية، بمعدل بلغ نحو 10 نقاط مئوية عن لحظة الانتخابات البرلمانية السابقة التي جرت عام 2018، لتسجل أدنى مستوى لها بما يتراوح بين 30 و33 بالمئة.
بحسب رئيس شركة ميتروبول للاقتراع أوزير سينكار، «السبب الرئيسي والأهم هو الاقتصاد. إذ يعجز كثيرون في الوقت الراهن عن تأمين احتياجاتهم الرئيسية، ويعجز نحو ثلث الناخبين عن تدبر أمورهم، وهذا هو السبب الأساسي لانخفاض شعبية العدالة والتنمية».
وتتمتع الشخصيات المعارِضة في تركيا بتفاؤل أعلى في الآونة الأخيرة. ورغم اتهامهم بالتفاؤل المفرط، إلا أنهم على ثقة بأن تدهور الاقتصاد سيساعدهم على هزيمة أردوغان. ومن المقرر أن تُجرى الانتخابات القادمة عام 2023، في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، لكن بعض المحللين يشيرون إلى احتمال إجراء تصويت مفاجئ في وقت مبكر من العام المقبل.
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وجّه رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدار أوغلو خطاباً للشعب قائلاً، «اصبروا، ربما أنتم جائعون، أو قد تُقطع الكهرباء عن بيوتكم، وقد تتعرضون للاعتقال وتُرمون في السجن، وحتى قد يتم تعذيبكم وتفتيشكم، لكن عليكم أن تصبروا، فالخلاص قريب قريب».
رغم هذا كله فإن الرئيس المحاط بالمتملقين، والذي تكثر الشائعات عن تدهور صحته، يبدو عاجزاً أو غير راغب في الإنصات لمن يحثونه على تغيير المسار.
في تشرين الأول (أكتوبر)، صعقت الأسواق حين أصدر بنكه المركزي قراراً بخفض أسعار الفائدة رغم معدلات التضخم المرتفعة، في وقت كانت البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم برفع أسعار الفائدة. وقد أدت المخاطرة هذه إلى هبوط جديد في سعر صرف الليرة، التي غالباً ما تُعتبر مقياس الصحة الاقتصادية للبلاد. وبعد عدة أيام، كاد يتسبب بأسوأ أزمة دبلوماسية منذ عقود حين دعا إلى طرد 10 سفراء غربيين كانوا قد طالبوا بالإفراج عن أحد المعتقلين، قبل أن يتراجع عن تهديده.
يقول وزير سابق اختار البقاء في حزب العدالة والتنمية، رغم استيائه، «الوضع برمته يسير من سيئ إلى أسوأ، في السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد، ومع أن هناك فرصة لتغيير الوضع لكن الأمر مرهون برجل واحد، فالقرار بيده».
منتقدو أردوغان لا يرون حالة التفرّد هذه منطقية، فطاقة الرئيس وأفكاره ووقته نفذوا تماماً، فيما يرى المسؤولون المتفائلون في المعارضة علامات على هبوب رياح التغيير. يقولون إن البيروقراطيين قلقون، وسط تحذيرات من كليتشدار أوغلو من أنهم سيتحملون مسؤولية القرارات التي يتخذونها الآن.
يقول أوميت أوزلالي، أحد نواب الرئيس، إن رؤساء الشركات البارزة، بما في ذلك المعروفون بارتباطاتهم بحزب العدالة والتنمية، بدؤوا يتقربون بحذر من «حزب الخير» (أو «الحزب الجيد» في ترجمة أخرى، إيي بارتي) والذي ينتمي إلى يمين الوسط: «هم إما يحاولون درء المخاطر السياسية عنهم، أو يرون تدهور الأوضاع بوضوح وهم على استعداد لإظهار دعمهم».
«النمو بأي ثمن»
ما يزال أردوغان قوياً من الناحية السياسية، لكنه غالباً ما يظهر منهكاً في الآونة الأخيرة. فقد ظهر وقد غلبه النعاس للحظات أثناء إرساله رسالة بالفيديو إلى مسؤولي الحزب في تموز (يوليو). وفي خضم الشائعات الكثيرة حول حالته الصحية، روّج مساعدوه مقطع فيديو يُظهر الرئيس البالغ 67 عاماً مرتدياً قبعة وسترة بيسبول ويلعب كرة السلة.
ويقول المسؤولون في الحكومة إن الرئيس لا يزال يستمد طاقته من التمشّي في الشوارع، لكنه ارتكب الكثير من الأخطاء في مقابلاته مع العامة. في العام الفائت مثلاً، وفي زيارة له لمدينة ملاطية شرق الأناضول، أخبر أحد الناخبين بعدما شكا من معاناته لإطعام أسرته أنه يبالغ في وصف أحواله المعيشية. كما تعرّض لسخرية واسعة في الصيف أثناء زيارته لإحدى المناطق المتضررة من حرائق الغابات بعدما راح يواسي السكان عبر إلقاء أكياس شاي من حافلته الرئاسية.
ويقول أوزلالي، الذي ازدادت شعبية حزب الخير الذي يتبع له، والذي بإمكانه تشكيل حكومة مع حزب الشعب الجمهوري إذا ما فازت المعارضة في الانتخابات، إن الرئاسة التنفيذية المركزية التي وضعها الزعيم التركي قبل ثلاث سنوات عاجزة عن حل مشاكل البلاد المتزايدة. «أردوغان هو صاحب القرارات الأوحد، وليست لديه شبكة معلومات كافية، كما أنه يكبر سناً ويزداد تعباً».
أردوغان الذي اعتمد فوزه لسنوات طويلة على ازدهار أوضاع الملايين من أفراد شعبه، ما زال يكرر ذكر الأرقام المبهرة للنمو في البلاد. وتتوقع مشاريع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي في تركيا بمعدل 9 بالمئة هذا العام، وهو معدل يضعها قبل الصين وبعد الهند مباشرةً. ولكن حتى جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد)، والتي كثيراً ما تتردد في انتقاد سياسات أردوغان، حذرت من أن تركيز الحكومة المفرط على النمو بأي ثمن يضرّ بالبلاد.
زيادات الأجور فشلت في مواكبة التضخم الكبير. والأسر منخفضة الدخل هي الأكثر تضرراً من الانخفاض في معايير المعيشة. أما معدل الفقر، الذي انخفض خلال أول خمسة عشر عاماً من تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة، فقد أخذ في الارتفاع مجدداً عام 2019 في أعقاب أزمة العملة الحادة التي ضربت الاقتصاد وتسببت بفقدان مليون وظيفة.
وقد حذّر تقرير حديث للبنك الدولي من تفاقم هذه المنحنى التنازلي بسبب جائحة كورونا: «يعني هذا نحو 1.5 مليون فقير إضافي، أي ما مجموعه 8.4 مليون فقير على الصعيد الوطني، وهو ما يؤدي إلى فقدان مكاسب السنوات الثلاث السابقة على الاضطراب الاقتصادي».
ويقول ريفيت غوركايناك، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيلكينت في أنقرة، إن الحديث الموجه إلى الشعب عن ازدهار الاقتصاد أشبه بـ«إهانة» لهم، «فهم يرون في حياتهم اليومية مستويات البطالة والتضخم المرتفعة وضعف القوة الشرائية، ومن الواضح أن حياتهم لا تتحسن بل تزداد سوءاً».
رغم كل ذلك، فضّل أردوغان خفض تكاليف الاقتراض بهدف تشجيع الاستهلاك وأعمال البناء، حتى لو تسبب ذلك بتضخم مزمن وإضعاف للعملة وإفقار للبلاد. فقد بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر 5.8 مليار دولار فقط في العام الماضي، مقارنةً بذروة عام 2007 التي بلغت 19 مليار دولار.
بعد أن أحكم قبضته على المؤسسات التركية، اصطدم أردوغان بالبنك المركزي المستقل اسمياً، وطالبه بخفض أسعار الفائدة مراراً، معتقداً – خلافاً للعرف الاقتصادي التقليدي – أن ذلك يساعد على وقف التضخم. وأدّى اجتماع السياسات النقدية المترهّلة والارتفاع الكبير في الأسعار إلى سلسلة انخفاضات حادة في قيمة العملة.
من جهتهم، كان المستثمرون الدوليون، الذين تحتاجهم تركيا لتمويل ديونها الخارجية البالغة 450 مليار دولار، قد ابتهجوا لفترة وجيزة العام الماضي حين فصل أردوغان صهره، بيرات البيرق، بعد عامين كارثيين له في منصب وزير المالية. كما رحبوا في الوقت ذاته بتعيين ناجي إقبال، الخبير المحترم، حاكماً للبنك المركزي. لكن الأخير لم يلبث أربعة أشهر في منصبه قبل أن يُقيله الرئيس، وهو ثالث حاكم للبنك المركزي يُقال في أقل من عامين، قبل أن يبدأ خليفته شهاب قافجي أوغلو، المسؤول السابق في بنك حكومي، بخفض أسعار الفائدة.
ويقول يوسف معوض، مدير محفظة مالية في شركة كارمينيك لإدارة الأصول، «يبدو أننا نمر في وقت عصيب، فنحن مستمرون في الدورة المفرغة هذه: يرفع البنك المركزي التركي أسعار الفائدة، فينزعج أردوغان، ويغيّر الموظفين، ثم يخفضون أسعار الفائدة، ليرفعوها مرة أخرى حين تسوء الأوضاع».
ويحذر معوض من «خطورة» التجربة هذه المرة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، التي ستُضاف إلى فاتورة الواردات التركية، إضافة إلى تحول البنوك المركزية العالمية نحو رفع أسعار الفائدة، ما قد يؤدي إلى ابتعاد رؤوس الأموال عن الأسواق الناشئة: «قد ينتهي بنا الأمر إلى نمو منخفض وتضخم مرتفع، وهي الحالة الأسوأ على الإطلاق».
التردد في قول الحقيقة
يدّعي أعضاء الحكومة الساخطون وجمعية المستثمرين ورجال الأعمال أن أردوغان لا يفهم في الاقتصاد، وهو الذي همّش منتقديه في الداخل ونادراً ما تتوجه إليه انتقادات حتى من أعضاء حكومته.
ويقول مسؤول تنفيذي في إحدى التكتلات التركية الكبرى: «يقول لنا الوزراء ’عليكم مكاشفة الرئيس وإفهامه حيثيات الوضع الاقتصادي‘. لكن لماذا نفعل ذلك نحن؟ هذه وظيفتهم هم».
وتقول مصادر من داخل الحزب إن بعض كبار المستشارين في حاشية أردوغان يعترضون سراً على هوسه بخفض أسعار الفائدة، لكنهم ليسوا راغبين بإخباره. وبحسب مسؤول حكومي، «لا يحب الرئيس الشخصيات القوية حوله، والكل يعرف ذلك، لذلك لن يرغب أحد في قول الحقيقة».
يرى آخرون أن مقاربة الرئيس محسوبة وليست مبنية على جهل. يقول بوراك بيلهان أوزبك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة توب في أنقرة، إن خفض أسعار الفائدة وتدني سعر صرف العملة تفيد شبكة ضيقة من المحاسيب، خاصة في قطاعات الإعمار والسياحة ممن ساهموا في ترجيح كفة أردوغان.
ويضيف أوزبك: «التعبير الصحيح هنا هو البقاء، فهو لا يريد اقتصاداً ديناميكياً، ولا يريد اقتصاداً تركياً عظيماً، بل يريد ما يكفي من النشاط الاقتصادي ليربح الانتخابات المقبلة».
ويشكك أوزبك في نجاح هذه الاستراتيجية في ضوء الابتعاد التكتيكي للمعارضة عن سياسات الهوية القائمة على الانقسامات الدينية والثقافية والعرقية، والتي أدت إلى نفور داعمي حزب العدالة والتنمية عنه وفشل الحزب في الحكم الرشيد. ويضيف أستاذ العلوم السياسية أن معارضي أردوغان «يثيرون الشكوك في كفاءات نخبة العدالة والتنمية في أيديولوجيتهم وهويتهم، وهي استراتيجية فعالة في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة».
ورغم الارتباك داخل الحزب الحاكم بشأن توجه السياسات، إلا أنه لا يوجد منافس داخلي واضح للرئيس التركي.
بيرات البيرق، صهر الرئيس وخليفته المنتظر سابقاً، اختفى تماماً عن الساحة العامة، أما سليمان سويلو، وزير الداخلية صاحب الكاريزما والطموح، فقد لاحقته تهم فساد من أحد زعماء المافيا في المنفى، رغم أن سويلو ينفي الادعاءات عنه جملة وتفصيلاً. رغم كل شيء، «العلامة التجارية» التي اسمها أردوغان، وخطبه الرنانة التي ما تزال تلهم المتشددين من داعميه، باقية ولا تزال بحسب الاستطلاعات تحظى بشعبية أكثر من حزب العدالة والتنمية ذاته.
كم مستبداً تنحى عن السلطة؟
في حين تتفاءل المعارضة باقتراب نهاية الأردوغانية، يعبّر كثير من المراقبين الأجانب عن تشاؤمهم. يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: «هؤلاء يحلمون! كم مستبداً برأيكم تنحى من قبل عن السلطة؟».
يقول المعارضون المتحمسون إن الهزيمة المذهلة التي ألحقوها بحزب العدالة والتنمية في انتخابات بلدية إسطنبول وأنقرة عام 2019، حين اتحدوا سوياً خلف مرشح واحد في كلتا المدينتين، تشير إلى إمكانية هزيمة أردوغان إذا وحّدوا قواهم.
لكنهم بذلك يتجاهلون احتمال تحرك عناصر من الدولة العميقة – والتي تتضمن المخابرات والشرطة والجيش وجماعات إجرامية، والمرتبطة بشركاء أردوغان المتطرفين قومياً – لمساندة الرئيس العليل. ويقول عضو مخضرم في إحدى أحزاب المعارضة: «حين يتضح أن السفينة تغرق، سيقفز الجميع للنجاة بحياتهم، ولا أعني بكلامي أعضاء العدالة والتنمية فحسب، بل البيروقراطية والجيش أيضاً. هل تظن أن الجيش سيدافع عنه إذا هُزم؟ مستحيل».
أما آخرون فيذكّرون بأن الزعيم التركي، إزاء خسارته إسطنبول بعد انتصار صعب لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو عام 2019، أعلن أن النتائج مزورة وفرض إعادة الاقتراع. لكنه خسر في تلك العملية أيضاً.
ويقول المحلل السياسي أصلي إيدنتاسباس، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: «هذا يُظهر مدى إصرار أردوغان على الفوز بأي طريقة، ويخبرنا أن ما يحصل في صناديق الاقتراع لن يكون إلا بداية، إنها ليست مجرد لعبة أرقام، فالرجل سيمارس مع شركائه الحكوميين جميع أنواع الضغوط السياسية والمقاومة».
ويخشى البعض من احتمال إلغاء الانتخابات تماماً، أو انحدار البلاد إلى موجة من العنف كتلك التي أعقبت انتخابات حزيران (يونيو) 2015، حين خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته في البرلمان للمرة الأولى.
من المخاوف أيضاً أن تُهدر المعارضة هذه الفرصة، وهي التي بدأت برصّ صفوفها في انتخابات وطنية لأول مرة لعام 2018. فالتحالف غير المتين بين حزب الشعب الجمهوري اليساري، وحزب الخير اليميني، والأكراد، بالإضافة إلى أحزاب صغيرة أخرى، تمكن حتى الآن من التماسك رغم محاولات أردوغان المستمرة لتفكيكه، ولكن قد تنشأ مواجهات فوضوية بشأن اختيار المرشح الرئاسي الذي سيواجه الرئيس الحالي.
وما يثير القلق بالنسبة لأعضاء كتلة المعارضة الاستطلاعات التي تشير إلى أن الكثير من الناخبين ممن لم يحسموا قرارهم بعد، ومنهم الكثير ممن خذلهم العدالة والتنمية، ما زالوا لا يثقون بهم. ويقول أحد منظمي الاستطلاعات «إنهم يغادرون العدالة والتنمية لكنهم لا ينتمون إلى المعارضة، فما لم تقدم الأخيرة مرشحاً قوياً بصورة كافية فإن فرصة طيب أردوغان في الفوز ما تزال قائمة».
إن درجة الخطر التي تتهدد جميع سكان تركيا – البالغ عددهم نحو 83 مليون نسمة – في أعلى مستوى لها. يقول غوركايناك، الأستاذ في جامعة بيلكينت، «حين تبقى حكومة ما في منصبها لنحو 20 عاماً، لن يعود بجعبتها الكثير لتقدمه، ولا أظن أن هذا البلد أو أي بلد آخر يمكنه تحمل المزيد من هذا الركود».