يتمسك مزارعو إدلب وأرياف حلب بالزيتون، مصدر الدخل الأساسي لمعظم السكان في المنطقة، ويتحايلون على مبدأ «المعاومة» لنجاة محصولهم، يخدمونه سنة بعد سنة وينفقون في ذلك تكاليف باهظة لم يعد بمقدورهم تأمينها، بعد تراجع إنتاجهم واستباحته وفقاً لقوانين وقرارات سلطات الأمر الواقع وتحكم التجار، يزيد على ذلك طرق التصدير المقطوعة إلا في اتجاهٍ واحد، والمناخ المتقلب الذي تعيشه المنطقة.
وقد مثّل الزيتون السوري أحد أهم الصادرات السورية سابقاً، إذ احتلت سوريا المرتبة السادسة أو السابعة عالمياً بتصديره، بحسب المركز الوطني للسياسات الزراعية في سوريا. وكانت معظم الصادرات تتجه نحو بلدان عربية، مثل السعودية والأردن والإمارات، ودول أوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا، إضافة إلى تركيا. وأوضحت دراسة نُشرت في المجلة السورية للأبحاث الزراعية في العام 2015 بعنوان «الأثر الاقتصادي للأزمة السورية في القدرة التنافسية لزيت الزيتون السوري»، انخفاض الصادرات بين أعوام 2011 -2015، إلى 30 ألف طن سنوياً، مقارنة بالأعوام التي سبقتها في الفترة الممتدة من 2006 إلى 2010، والتي قدرتها الدراسة بنحو 112 ألف طن سنوياً.
انخفضت هذه الصادرات في مناطق النظام إلى نحو 8600 طن في العام 2019، لكن هذه النسبة لا تشمل الزيت المصدر من مناطق المعارضة، والمقدّر في عفرين وحدها، عام 2020، بنحو 90 ألف طن. وتغيرت، إضافة للكميات المصدرة، الدول التي تستورد الزيت السوري، إذ تقدمت صادرات الزيتون السوري من مناطق النظام في السوق الكويتي واللبناني والمصري إلى المرتبة الأولى، والثانية في السوق الإماراتي، في حين تراجعت إلى المرتبة الثالثة في السوق السعودية، والسادسة في استراليا، والثامنة في إسبانيا.
ويتسم الزيتون السوري بظاهرة المعاومة، أو تبادل الحمل، وذلك بأن يكون المحصول غزيراً في عام وخفيفاً في العام التالي، إذ تشير إحصائيات الإنتاج في المركز الوطني للسياسات الزراعية أن مردود الشجرة الواحدة يتراجع أحياناً إلى النصف في سنوات «المعاومة»، وهو ما يفسر تفاوت الإنتاج بين عام وآخر.
وقبل العام 2011، كان الضمان، أي تعهد أراضي الزيتون من مستثمرين، أسلوباً معتمداً في قطاف الزيتون في معظم المناطق السورية، ولكن بنسب أقل مما هو عليه في السنوات الأخيرة، يعود ذلك لأسباب يشرحها المهندس الزراعي محمد الموسى بقوله: «وجود المزارعين وعائلاتهم في قراهم وعمل السكان بالزراعة ساهم في اعتماد المزارعين على أنفسهم بالقطاف أو استئجار عمال مياومة لمساعدتهم، يضاف إلى ذلك امتلاك الوقت اللازم للقطاف دون الخوف من السرقة على سبيل المثال، وهو ما تغير في الوقت الراهن».
الزيتون عصب الحياة في الشمال السوري
تشكل الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون نحو 36 بالمئة من مساحة الأراضي القابلة للزراعة في محافظة إدلب، ونحو 16.17 بالمئة من مساحة الأراضي القابلة للزراعة في حلب. إذ تبلغ المساحة المزروعة بالزيتون في إدلب 128.5 ألف هكتار، تحوي نحو 14.6 مليون شجرة تقريباً. وفي حلب، تبلغ المساحة المزروعة بالزيتون نحو 190 ألف هكتار، تحوي قرابة 23.3 مليون شجرة. وتشكل مزروعات الزيتون في هاتين المحافظتين معاً نحو 46 بالمئة من مجمل أراضي الزيتون في سوريا، وفق إحصائية العام 2019 الصادرة عن وزارة الزراعة في حكومة النظام، والتي تستعرض تطور المساحات المزروعة ونوعيتها خلال الفترة الممتدة من 2010 إلى 2019.
ويقدر تقرير أعده مركز عمران للدراسات في آب (أغسطس) الماضي نسبة الأراضي المزروعة بالزيتون في ريف حلب بنحو 9 بالمئة من إجمالي الأراضي المزروعة، وفي عفرين بـ90 بالمئة تمتد على مساحة تزيد على 92 ألف هكتار. ويوضح التقرير أن 85 بالمئة من سكان الشمال السوري كانوا منخرطين في النشاط الزراعي قبل العام 2011، وأن الزراعة كانت مصدر الدخل الأساسي لسكان هذه المناطق. كما تقدر وزارة الزراعة إنتاج الزيتون في المحافظتين بنحو 338 ألف طن سنوياً، بقيمة إجمالية تزيد على 700 مليون دولار، ما يجعل من محصول الزيتون عصب الحياة ومصدر الدخل الأكبر للمزارعين في مناطق واسعة من هاتين المحافظتين.
ويخبرنا خمسة مزارعين من أصحاب الأراضي الزراعية، منهم فواز الفارس بريف حلب وأبو زياد في ريف إدلب وثلاثة مزارعين في عفرين فضلوا عدم ذكر أسمائهم، أن موسم الزيتون كان العمود الفقري لحياتهم اليومية، ويصفون ما كانوا يعيشونه بفضل الزيتون بـ«البحبوحة»، وأن دخلهم السنوي كان يكفي لتكاليف رعاية الأرض بالشكل الأمثل، فضلاً عن تأمين مستلزماتهم، ويزيد عنها في كثير من السنوات.
أراض متعبة وتكاليف مرتفعة في إدلب
بعد دفع ما توجب عليها من مستحقات، حصلت السيدة صبحية من موسم الزيتون في العام الحالي على تنكتي زيت فقط، تزن الواحدة منها 16 كيلو غراماً. وتقول إنها اضطرت لشراء مثل هذه الكمية لتأمين مؤونة منزلها. تملك صبحية نحو 100 شجرة زيتون في إدلب، لكن الإنتاج في العام الحالي قليلٌ مقارنةً بالعام الماضي، نتيجة أسباب ستشرحها السطور اللاحقة بشكلٍ مفصل، أهمها التكاليف وأجور عمال المياومة ومفهوم «المعاومة».سنعتمد في هذا التقرير على الدولار الأميركي لحساب التكاليف، نظراً لتغيرات سعر صرف الليرة التركية المتداولة في المنطقة، ولتسعير الزيت بالدولار من قبل التجار.
ينخفض إنتاج الزيتون في العام الحالي، إذ قدرت وزارة الزراعة في مناطق النظام الانخفاض بنسبة 24 بالمئة من الإنتاج، إلا أن مزارعين في إدلب، وصاحب معصرة، وضمّان، قدروا الانخفاض في إدلب بما يزيد على النصف، باستثناء بعض المناطق مثل سلقين وحارم بريف إدلب. ويقول من تحدثنا معهم إن مفهوم «المعاومة» موجود، لكن لا يخضع كامل الزيتون لهذه المعادلة، فغالباً ما يكون هناك توازن في الإنتاج، إذ لا يتعلق الأمر بالمناخ أو السنوات، ولكن بقدرة شجرة الزيتون على الإنتاج، وغالباً ما يكون هناك أراض بإنتاج جيد وأخرى أقل إنتاجاً سنوياً.
ويجترح المزارعون حلولاً للحفاظ على إنتاجهم، من خلال الرعاية المكثفة لأشجارهم، من فلاحة وتقليم وأسمدة ومبيدات، وغيرها من المستلزمات التي ترفع من إنتاج الأشجار سنوياً. ويرجع أبو زياد، الذي يمتلك نحو 500 شجرة زيتون في إدلب، سبب انخفاض الإنتاج في إدلب لعوامل عديدة: منها ارتفاع درجات الحرارة وقت الإزهار، والصقيع الذي ضرب المنطقة في نيسان (أبريل) الفائت، ما أثر بشكل كبير على ثمار الزيتون، يضاف إليها القطاف المبكر قبل الإمطار، وقلة العناية بالحقول لأسباب تتعلق بالتكاليف العالية أو الخطورة، خاصة في أراضي جبل الزاوية التي تتعرض يومياً للقصف، ونزوح أصحاب الأراضي الزراعية وهجرتهم لأراضيهم، ما تسبب بإهمالها.
يحتاج الزيتون لرعاية دائمة، يقول أبو زياد، «نطعمه ليطعمنا» تلك هي المعادلة. لكن قوت عيالنا، يضيف، بات أولوية في الآونة الأخيرة مع غياب الاستقرار والنزوح وقلة الحيلة.
منشار مواسم الزيتون
مثل المنشار، يخبرنا أحد الضمّانة في إدلب عن التكاليف اليومية التي يدفعونها. يقول: «إن الضمان يكون بعد معاينة الأرض وتقدير إنتاجها، ويُدفع مبلغ 500 دولار في حال توقع إنتاج نحو طن من الزيت أو أكثر من ذلك بقليل. لكن «حساب السوق لم ينطبق على حساب صندوق هذا العام»، يضيف الضمّان، إذ ساهم انهيار الليرة التركية وارتفاع سعر الوقود بخسارة الضمان هذا العام. ويشرح لنا أن من شروط العقد مع صاحب الأرض، بالتوافق، أن يدفع ما مقداره 5 بالمئة من الإنتاج لهيئة الزكاة وفق إيصالاتٍ تُدفع بعد عصر الزيتون، وتؤخذ من المعصرة مباشرة، وأن أجرة عامل المياومة لهذا العام بلغت نحو 6 دولارات يومياً. وتتقاضى المعاصر 5 بالمئة من الإنتاج كأجرة للعصر، وتبلغ كلفة نقل الكيس الواحد إلى المعصرة (الكيس نحو ٦٠ كيلو غراماً) بين نصف دولار إلى دولار واحد، يضاف إلى ذلك 2.5 دولار ثمناً للتنكة الفارغة، و 5 بالمئة زكاة مستحقة يدفعها صاحب الإنتاج على الزروع، وهذه النسبة تختلف عما تتقاضاه هيئة الزكاة وتكمّلها، إذ تُقسم الزكاة، وقدرها 10 بالمئة، مناصفةً بين الهيئة وما يوزعه أصحاب الأراضي الزراعية.
ويخبرنا الضمّان أنه من الصعب على عامل مياومة يعمل بمفرده أن يقطف كيساً من الزيتون يومياً، كما أن عمال المياومة يحتاجون للطعام والنقل، مُقدّراً الكلفة اليومية بنحو ١٠ دولارات على الأقل.
ويعتمد أصحاب أراض على نظام المحاصصة بدلاً من الضمان أو الأجرة اليومية، إذ يتعاقدون مع أشخاص على الإنتاج، وغالباً ما تكون النسبة في هذه الحالة مناصفةً، أو 60 بالمئة لمالك الأرض، بحيث تقسم الكلفة مناصفةً، ويتم بعدها توزيع ما يتبقى بين الطرفين، وهو ما اعتمدته السيدة صبحية، والتي قالت إن إنتاج أراضيها بلغ «ست تنكات و 12 كيلو غراماً»، حصة العمال والنقل والمعصرة كانت تنكتان و 12 كيلو غراماً، وحصتها والمستأجر كانت تنكتان لكل منهما.
يقول أبو زياد إن الفارق بين العام الحالي والأعوام السابقة كان في غياب أصحاب الأراضي عنها، إذ أخذ محلهم عمال المياومة، وتقتصر حاجتهم لعمال آخرين بنسبة قليلة. كذلك كان لارتفاع أجور النقل دور كبير في خسارة هذا الموسم، أما المعاصر فقد كانت نسبتها لا تزيد عن 3 بالمئة للكميات الكبيرة، والفارق الأهم يكمن في حجم الزيت. ويضيف أبو زياد أن الزيتون المقطوف بعد الإمطار والمخدوم بشكل جيد «يقطع»، وهو المصطلح المستخدم في تقدير إنتاج الزيت، كل 3 كيلو غرامات ليتراً من الزيت، أما في العام الحالي فكل 4 كيلو غراما وأزيد قطعت لتراً واحداً.
إذن، يحول الإنتاج الضعيف دون دفع كلفة الرعاية بأراضي الزيتون، ويقول من تحدثنا معهم إن ما حصلوا عليه لا يكفي لفلاحة وتقليم الزيتون والعناية به، وهو ما سيؤثر على الإنتاج في الأعوام اللاحقة.
الكلفة المضاعفة في ريفي حلب الشمالي والشرقي
لا ضمّانة لأراضي الزيتون في ريف حلب الشرقي هذا العام، يقول فواز الفارس ليشرح لنا مصير موسم الزيتون الحالي، ففي الأعوام الماضية عُرض عليهم ضمانٌ لأرضهم التي تحوي 350 شجرة زيتون قدره نحو ألفي دولار، وإن ضمّانةً كانوا يأتون من مناطق إدلب وغيرها من المحافظات السورية لضمان أراض في ريفي حلب الشمالي والشرقي. وكذلك بعض التجار كانوا يتفقون على شراء المواسم قبل قطافها ويدفعون لذلك مبالغ مالية ورعابين.
يقول فواز إن النسبة الأكبر من الأشجار المزروعة في ريف حلب الشرقي هي من الزيتون، وتقدر عدد أشجار الزيتون في مدينة الباب وريفها بنحو 4 ملايين شجرة. ويضيف بأن معاصر الزيتون تتقاضى ما نسبته 10 بالمئة من الزيت كأجرة للعصر، يضاف إليها نحو 6 دولارات لكل عامل مياومة، ونصف دولار كأجرة للنقل، و2.10 دولار ثمناً للتنكة الفارغة.
ويصف فواز الزيتون في العام الحالي بأنه مثل الحجر، في إشارة للجفاف وقلة الأمطار وما يتبع ذلك من ضعف في الإنتاج. يقول: «في السابق كانت كل ثلاث شجرات تقريباً تطرح كيساً من الزيتون، وهناك أشجار تطرح كيساً كاملاً لوحدها. أما في العام الحالي، وبحسب أرضه، فإن كل عشرة أشجار طرحت كيساً واحداً».
يحتاج هكتار الأرض المزروع بالزيتون للفلاحة ثلاث مرات سنوياً، وتزيد الكلفة عن خمسين دولاراً، أما التقليم فيكلّف المزارع نصف دولار للشجرة الواحدة، ويحتاج للسماد بنحو مئة دولار أيضاً، والرش بالزيت الشتوي والربيعي بنحو 80 دولاراً. لم ينته فواز من قطاف زيتونه، لكنه يقدر إنتاجه بنحو ثلاثين تنكة زيت في العام الحالي، ويقدر ما يتبقى للمزارع من ثمن كل تنكة زيت بعد طرح التكاليف بنحو عشرة دولارات، أي أن موسمه الحالي لا يتجاوز 300 دولاراً، تتضمن مؤونة بيته والأكلاف التي يتوجب عليه دفعها في العام القادم لأراضي الزيتون، والتي تزيد على ضعف هذا المبلغ!
تكاليف وسرقة وأتاوات في عفرين
لا تختلف كلفة قطاف الزيتون في عفرين عنها في ريفي حلب وإدلب، ومع إلغاء المجالس المحلية فيها للرسم الذي كان موضوعاً في العام 2019، خاصة بعد تفعيل عمل لجنة رد الحقوق المشتركة في عفرين، والتي تشكلت في أيلول (سبتمبر) 2020 خلال اجتماعٍ ضمّ فصائل من الجيش الوطني السوري مع الجانب التركي على خلفية ازدياد الشكاوى المتعلقة بالاستيلاء على العقارات وفرض الأتاوات على محصول الزيتون، وضمت فصائل من جيش الإسلام والسلطان مراد والجبهة الشامية وفرقة الحمزة وجيش الشرقية وأحرار الشرقية. هدفت اللجنة لإنصاف المزارعين ورد حقوقهم واستقبال الشكاوى، لكن ذلك لم يجد نفعاً.
يقول ثلاثة مزارعين في عفرين، إن ملاك الأراضي يضطرون لقطاف الزيتون باكراً خشيةً من سرقته، وهو ما يقلل من إنتاج الزيت من جهة، وكذلك يؤثر على نوعية الزيت من جهة ثانية. ورغم محاولتهم لقطاف الزيتون باكراً، إلا أن الكثير من الأراضي تتعرض يومياً للسرقة. يقول المزارعون إن ذلك الأمر يتم في وضح النهار، وبسلطة من الفصائل العسكرية في المنطقة، دون أن يستطيع المزارع حماية أرضه، وإنهم يخافون التوجه إلى لجنة رد الحقوق تحسباً من انتقام الفصيل العسكري، والذي غالباً ما يكون بتقطيع أشجار الزيتون أو سرقة الموسم. وتحدثت تقارير إخبارية عن تعرض أراضي زيتون في عفرين للتحطيب والسرقة، ونقلت عن ملاك عدم قدرتهم الدفاع عن مواسمهم.
وتتقاضى فصائل عسكرية رسم حماية من المزارعين لضمان عدم السرقة، ورغم ذلك يتعرضون للسرقة، يقول من تحدثنا معهم، إذ يدفع هؤلاء تنكة زيت عن كل عشرين تنكة كرسم حماية. آخرون قالوا إنهم يدفعون 4 دولارات عن كل شجرة مثمرة من الزيتون، أو 5 بالمئة من الإنتاج. وتحدثت تقارير، لم نتأكد من صحتها، عن دفع نحو 25 بالمئة من الإنتاج كرسم حماية أو أتاوة للفصائل في عفرين لحماية أرضهم والسماح لهم بقطافها. ويضيف المزارعون الذين تحدثنا معهم أنهم يدفعون 10 بالمئة من إنتاجهم للمعاصر، وكيساً عن كل سبعة أكياس زيتون لعمال المياومة، ونصف دولار للنقل، و2.5 دولار ثمناً للتنكة.
رحلة تنكة زيت
لا تختلف أسعار الزيت كثيراً بين المناطق الثلاث، إذ يُقدر سعرها في ريفي حلب الشمالي والشرقي بين 34 إلى 38 دولاراً، وفي إدلب بين 37 إلى 42 دولاراً، وفي عفرين بين 37 إلى 40 دولاراً. يقول فواز الفارس وتاجر الزيت أحمد الخليل: «إن الفارق السعري تحدده نسبة الأسيد، فكلما كانت النسبة أقرب إلى الصفر زاد سعر الزيت». ويحدد نسبة الأسيد السرعةُ في العصر، فكلما كان العصر أسرع بعد القطاف كانت النسبة أقل، نتيجة لتخمر الزيت داخل الزيتون، إضافة لنوع المعاصر وحداثتها والمراحل التي يمر بها الزيتون حتى وصوله إلى العصر.
يقدر سعر تنكة الزيت وسطياً بنحو 35 دولاراً، يدفع عليها كمصاريف في ريف حلب الشرقي 2.10 سنت ثمناً للتنكة، 3.5 دولار أجرة للمعصرة، 0.5 دولار أجور نقل، 8 دولارات عامل مياومة، 5 دولارات تقليم أشجار، 4 دولارات رش مبيدات، 2 دولار فلاحة وأسمدة. ويضاف إلى التكلفة في عفرين 4 دولارات حماية وأتاوات، وفي إدلب 1.75 دولار لهيئة الزكاة.
ليس للزيت في العام الحالي سوى طريق واحد نحو تركيا، بعد إغلاق المعابر نحو مناطق النظام وتعذر التصدير إلى مناطق أخرى. ويتحكم التجار المحليون بأسعار الزيت في المنطقة، إذ يقومون بشرائه من المعاصر وتخزينه تمهيداً لبيعه وتصديره. وتنتشر في عفرين وأرياف حلب شركات تركية تتعاون مع تجار محليين لنقل الإنتاج إلى تركيا. ويبلغ سعر تنكة الزيت في تركيا بين 46 و 56 دولاراً، وذلك بحسب نسبة الأسيد.
ويزيد سعر تنكة الزيت في مناطق النظام عن خمسين دولاراً، ويختلف سعره بين المحافظات، إلا أن أقل سعر سجل في المحافظات، كان في مدن الساحل وحماة بـ60 دولاراً، ويزيد في حلب ودمشق ليصل إلى 65 دولاراً، بحسب أصحاب محلات للبيع بالجملة تحدثنا معهم. ويقول هؤلاء إن حصر التصدير بجهة واحدة هي تركيا، وعدم السماح بتصدير الزيت إلى مناطق النظام ساهم في زيادة خسارة المزارعين، فضلاً عن قيام بعض التجار بشراء الزيت وتخزينه ليتسنى لهم، فيما بعد، بيعه بالأسعار التي يرونها مناسبة.
ولا تتناسب كميات الإنتاج الكبيرة في الشمال السوري مع قدرة التصريف في السوق المحلية، وهو ما يدفع المزارعين لبيع منتجاتهم وفق سياسة العرض والطلب المتاحة، إذ تغيب المنافسة بين التجار الذين يتفقون فيما بينهم على السعر. وهؤلاء التجار هم أنفسهم من يتحكم بأسعار المواد المستوردة اللازمة للأراضي الزراعية مثل الأسمدة والشتلات والبذار والمبيدات وغيرها من اللوازم ويبيعونها بأسعار مضاعفة، وذلك بحسب المزارعين الذين تحدثنا إليهم.
تقول أم مصطفى، وهي نازحة من مدينة حلب، إنها لم تذق زيت الزيتون منذ سنوات، وإنها تعتمد على ما يأتيها في سلل الإغاثة من زيت عباد الشمس أو الذرة في الطبخ والطعام. ويقول آخرون تحدثنا معهم، ومنهم ملاك لأشجار زيتون، إنهم يخلطون زيت المعونة بزيت الزيتون، إذ لا يمكن لهم تأمين مؤونتهم من أراضيهم، والأسعار المرتفعة تحول دون شرائهم لزيت الزيتون الذي لم يكن يخلو بيتٌ في هذه المناطق من مؤونة كاملة منه.
بين المواطن غير القادر على شراء تنكة زيت يزيد سعرها على نصف راتب مدرس في المنطقة، والمزارع الخاسر في موسمه، يصعب الوصول إلى اتفاق حول أحقية كل منهم بالحصول على ما يسد الرمق. يضاف إلى الخسائر السابقة عدم قدرة كثير من أصحاب الأراضي في جبل الزاوية على قطاف مواسمهم، أو المخاطرة بحياتهم لقطافها، بعد سيطرة النظام على قرى متاخمة لأراضيهم واستهدافهم اليومي، إضافة للألغام والقذائف غير المنفجرة التي أودت بحياة عشرات المزارعين في السنوات الماضية.
يبدو الحصول على رغيف من الزنانة، تلك الأكلة الشعبية التي تُقدم في المعصرة من الزيت الحار والخبز، أو دمعة زيت توضع في فطور الصباح أمراً بالغ الصعوبة، بعد أن كان الزيت مؤونة سكان الشمال السوري وغذاءهم الأساسي، في الوقت الذي يوحي مستقبل الزيتون في هذه المناطق بالتراجع عاماً بعد عام، يقتله الإهمال وقلة العناية وغياب أصحابه عنه بعيداً في خيام النزوح.