أردت نشر هذا المقال بالتزامن مع عدة أحداث حصلت مؤخراً: وفاة رئيس، نشر كتاب، ذكرى ثورة.. ولكني فشلت في مواكبة كل من تلك الأحداث على التوالي، وذلك نتيجة نوع من الزاوية العمياء: كان من المستحيل، في ذلك الوقت كما هو الحال الآن، الكتابة حول مصر على مدى السنوات العشر الماضية دون التطرق أخيراً إلى ما حدث في صيف 2013.

لا أقصد إطاحة الجيش بأول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً بعد الثورة، محمد مرسي، في 3 من تموز (يوليو) 2013، بعد ثلاثة أيام من احتجاجات عارمة ضد استبداده وسياساته الإسلامية. ولا أشير إلى القمع اللاحق لمؤيديه، الذين اعتصم ما يقدر بنحو 80 ألفاً منهم في ميدان عام بالقاهرة أربعين يوماً مطالبين بإعادته إلى منصبه. كما أني لا أشير إلى المذبحة التي أعقبت ذلك حين اقتحمت الشرطة الميدان، أو الصعود السريع لوزير الدفاع، اللواء عبد الفتاح السيسي، إلى قمة السلطة. جميع هذه الأحداث وثقتها الصحافة بشكل وافٍ، وكذلك تقارير منظمات حقوق الإنسان. بل أتحدث عمّا وقع في حياتي، وكيف تغيرت تماماً لسنوات عديدة نتيجة مقال كتبته في هذه الصفحات خلال تلك الفترة.

قسّمت أحداث ذلك الصيف مصر. فأنت إما ضد الإطاحة بالرئيس وقمع أنصاره، أو في حال عدم الإعلان عن ذلك علناً، يتم تصنيفك في فئة مؤيدي وحشية الشرطة، ما يعني بمقياس اليسار الفكري والمراقبين الدوليين إفلاساً أخلاقياً. وقد وجدت نفسي افتراضياً في الفئة الثانية. وذلك لأني، عند الكتابة حول ما يُشار إليه بأحداث «رابعة» – ساحة رابعة العدوية التي كان يخيم فيها أنصار مرسي – لم أستخدم العبارة التي استخدمها تقريباً كل كاتب وصحفي آخر يكتب باللغة الإنجليزية: «الجيش المصري يذبح ألف شخص».

بدلاً من ذلك، وبعد عام من تغطية انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها نظام مرسي وأنصاره، في ذلك الصباح عند تفريق المخيم، ووسط الفوضى وتبادل إطلاق النار، حاولت أن «لا» أتخذ موقفاً. سعيت ببساطة إلى تسجيل شهادتي ككاتبة. حاولت، في ذلك اليوم وفي الأيام التالية، النأي بنفسي لرواية جانبَي القصة بحيادية. وقد كتبت عن عدد القتلى بين صفوف الشرطة والإسلاميين، كما طرحت أسئلة وقدمت أدلة، ليس حول أفعال الشرطة فحسب، ولكن أيضاً حول تحريض الإخوان المسلمين على العنف، بما في ذلك تحريضهم ضد المجتمع المسيحي القبطي في مصر.

حين أعود بذاكرتي، لا أستطيع تذكر تفاصيل ما سأسميه «التداعيات»، باستثناء اللحظة التي قمت فيها بإلغاء حسابي على فيسبوك، والقطيعة التي استمرت تسعة أشهر بيني وبين أقرب أصدقائي. أتذكر رسائل الكراهية، والتهديدات بالقتل، والمعارف الذين تحولوا إلى منتقدين، والأصدقاء الذين بدوا كأنهم يخفون ازدراءهم في كل لقاء.

أطرح هذا الآن، بعد نحو ثماني سنوات، لعدة أسباب. أولها وفاة مرسي صيف 2019، أثناء محاكمته في القاهرة بتهمة الخيانة العظمى. حيث انهار مرسي، الذي أرهقه مرض السكري وسنوات من الحبس الانفرادي وافتقار الرعاية الطبية، وتوفي أثناء مخاطبته المحكمة. دفنته قوات الأمن فجراً في مقبرة بعيدة عن موقع قريته حيث طلبت عائلته دفنه، وبالكاد غطت الأخبار المحلية ذلك. صدرت أوامر لمحرري الصحف بنشر بيان من 42 كلمة، أرسلته الحكومة عبر واتساب، «على الصفحات الداخلية»، ودون أي إشارة إلى أنه كان ذات يوم رئيساً للدولة.

ما حدث ذكّر والديّ وأصدقاءهما بمصير ملكنا المنفي فاروق، الذي أطاح به جنرالات الجيش عام 1952، وأعيد جثمانه إلى مصر من إيطاليا عند وفاته بعد ثلاثة عشر عاماً من النفي، ودُفن بهدوء في ساعات الصباح الباكر. أما الشباب من جيلي، الذين مهدت أصواتهم في الانتخابات الطريق لمرسي لتولي منصبه، لا بدافع الرغبة في انتخاب رئيس إسلامي، بل معارضةً لمنافسه المرتبط بالنظام، فقد تساءلوا بصوت عالٍ عما إذا كان الرئيس السابق قد قُتل أمام الرأي العام عمداً.

كان صعودُ مرسي من زنزانته – حيث كان محتجزاً عند اندلاع الثورة المصرية في كانون الثاني (يناير) 2011 – إلى الرئاسة بعد أكثر بقليل من عام أمراً مذهلاً. ورغم شكوكي حول حملته، أبكاني خطاب تنصيبه الذي ألقاه في ميدان التحرير متحدثاً فيه عن دخول عصر التعددية. أشعرنا نبأ وفاة مرسي أننا وصلنا أقصى ما منحته الثورة من إحساس بالإمكانيات، وأدى ذلك إلى إحياء ذكرى جماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لـ«مذبحة رابعة».

ورغم إحساسي العميق بالخسارة في ذلك الوقت، لم أشعر أنه من حقي المشاركة في الحداد.

ظلت تلك «التداعيات» تلاحقني، يرافقها سؤال عما إذا كان يمكن أن أكون مجرد شاهد، كما حاولت أن أكون، أو إذا كان خياري في الامتناع عن استخدام مصطلح «المذبحة» قد أظهرني كمتعاطفة مع قمع الجيش. هل كان يمكن لي رواية جانبي القصة بشكل مختلف؟ وهل يشير عدد القتلى، نحو ألف من أنصار مرسي و160 على الجانب الآخر، إلى قصة كان من الممكن، أو ربما يجب، روايتها من وجهة نظر واحدة فقط؟ لقد شغلت هذه الأسئلة الجزء الأكبر من تفكيري خلال السنوات الثماني الماضية.

بعد فترة وجيزة من وفاة مرسي، وبينما كنت أتشارك البيرة وحساء العدس مع عالم السياسة وأستاذ القانون في الشرق الأوسط ناثان ج. براون، في مقهى ريش بالقرب من ميدان التحرير، أخبرني أنه عند قراءة المقال المعني، لم يسعه سوى التفكير بأنهم «قد تمكّنوا من التأثير عليها، أيضاً». أذكر كل هذا الآن لأتصالح مع الماضي، ولأبيّن النيّة، وأن الماضي قد يؤثر قليلاً على قراءة القصة.

انتهزت أكبر عدد ممكن من الفرص للابتعاد عن مصر بعد ذلك الصيف. إقامة هنا، وزمالة هناك، ووظائف تدريس حيث أجدها. وحاولت الانتقال بشكل دائم إلى نيويورك. ورغم كتابتي رواية أثناء ذلك الوقت، إلا أنني بالكاد استطعت الكتابة عن وطني في معظم تلك السنوات، وإنْ كان ذلك الأمر الوحيد الذي يدور في ذهني. ترددت كثيراً إلى القاهرة لزيارتها، وبرز سؤال حول الشرعية: هل يحق لي الكتابة حول مكان وأنا بعيدة عنه؟ ربما كان التعايش مع المنفى أسهل.

راقبت الانتخابات الرئاسية في أميركا عام 2016 من منظور ما عشته في مصر. أذكر أنني أخبرت مجموعة من الزملاء في جامعة برينستون، حيث كنت أدرس، عن اعتقادي بأن دونالد ترامب سيفوز. مثّل ترامب لمؤيديه ما مثّله مرسي لمؤيديه: الشخصية المناهضة للمنظومة. قوبلت فكرتي التي بنيتها على ذكريات ما شاهدته في مصر بالرفض، وحتى السخرية، وكذلك استُقبل تلميحي بعد أشهر إلى أن ترامب يتصرف كمستبد. منحني ذلك نظرة أعمق في تاريخ بلدي. وكذلك في برينستون رأيت التعصب الأعمى للبيض لأول مرة.

مثلت خسارة هيلاري كلينتون صدمة مدمرة لمن غادروا مصر إلى أميركا بعد ثورة 2011 وما أعقبها، رغم بُغض الكثيرين منا لها بسبب مواقفها حول سياسة الشرق الأوسط. شمل «حظر المسلمين» الذي فرضه ترامب العديد من المقربين مني. ورغم أن مصر لم تكن مدرجة في قائمة الدول التي تم حظر السفر منها إلى الولايات المتحدة، إلا أننا خشينا إضافتها، وعشت مدة سبعة أشهر مع القلق من مغادرة الولايات المتحدة لزيارة والدي في مصر وعدم التمكن من العودة. بصفتي «أجنبية مقيمة» لم تحق لي أي مطالبات. في ذلك الوقت، كان من الصعب فهم أي من الشرّين كنت أكثر استعداداً لقتاله، أميركا ترامب أم مصر السيسي. ويبدو أن الروايات التي تلقيتها من الوطن حول الاعتقالات والرقابة وإساءة استخدام السلطة تتصاعد يوماً بعد يوم. وقد واجهت في الماضي تهديدات من «الدولة العميقة» في مصر وأصبت بصدمة من احتمال التعرض للاضطهاد.

جاء الرد في رسالة من خدمات الجنسية والهجرة الأمريكية. تم التحقيق في تأشيرة مسار الهجرة الخاصة بي، وهي تأشيرة قائمة على عريضة تمنحني البطاقة الخضراء، ورُفضت في النهاية. جاء من بين الأسباب «تقييم» بأن كتاباتي لم تُظهر بحثاً أو خطاباً أو مساهمة «أصيلة»، لأن هذا المحتوى الأصلي «يحتوي على هوامش أو تعليقات ختامية أو قائمة مصادر». ورغم رسائل الدعم المتتابعة من الأساتذة والكتاب والمحررين البارزين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بمن فيهم حائز على وسام العلوم الإنسانية الوطنية، التي تشهد بمؤهلاتي و«أصالة» عملي، كانت دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية حازمة: «لا تمثل شهادة رأي الخبراء دليلاً يمكن اعتماده ’كحقيقة‘».

عدت إلى القاهرة في أواخر عام 2017 وباشرت بتوضيب محتويات منزل عائلتي الذي كان قد بيع للتو. على مدار الأشهر الستة التالية، بينما كنت أفرز ثمانين عاماً من مقتنيات عائلتي، تابعت انتخاباتنا الرئاسية التي أجريت في آذار (مارس) 2018. اتبعت الدولة تكتيكات متوقعة، حيث تعرض مرشح تلو الآخر إلى التشهير أو الترهيب أو الاعتقال بغية إجبارهم على سحب ترشحهم. خاض الرئيس السيسي الانتخابات دون منافس حقيقي، وأعيد انتخابه بنسبة 97 بالمئة من الأصوات.

رغم أنني وجدت نفسي تائهة بين فقدان منزلين، المنزل الذي طالما عرفته في القاهرة والمنزل الذي كافحت لبنائه في نيويورك، لم يغب عني إحساس العودة إلى المأزق السياسي ذاته الذي أدى إلى الثورة.

مرة أخرى، وجدتني غير قادرة – شخصياً، وسياسياً، وحتى في مجال الكتابة – على توجيه نفسي دون مساعدة الأدوية. وعلمت أن الوصفات الطبية لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (المستخدمة لعلاج القلق والاكتئاب والصدمات) قد ارتفعت في مصر بنحو 70 بالمئة في السنوات الثماني الماضية، وهي حقيقة أرجعها الصيادلة والأطباء النفسيون الذين تحدثت إليهم إلى التداعيات السياسية والاجتماعية للثورة.

تعكس صفحة من دفتر ملاحظاتي في ذلك الوقت تناثر أفكاري:

رولكس، اقتصاد الدولارات والنقد

الجنازة مع كل رولكس أكبر من سابقتها.

استقرار سعر صرف الجنيه، مدير البنك يقول إن الأسباب سياسية.

حادث قطار

وفاة مرسي في قاعة المحكمة

مصر تتراجع في نشرات الأخبار

مرسي، وكتب التطوير الذاتي لديل كارنيغي

الإخوان معجبون بكتب كارنيغي

جنازة هاني شكر الله التي ألغيت ثم أقيمت مرة أخرى

الخوف من التجمع

السؤال حول الخطأ الذي حدث

ما معنى الحفاظ على خصوصية حياتك الشخصية

علاء وجمال في مباراة كرة القدم

الارتياب حول شعبيتهما

يتم تداول صورهما كما لو كانت مقياساً لمدى شعبيتهما في حال قررا الترشح

وسرعان ما زُرعت قضية أخرى ضدهم

زوجة جمال على متن الطائرة معي [عائدة من اليونان]

رمز غريب …

رمز للرئيس …

بعد شهور من الشائعات، وبينما كنت أعيد ترتيب حياتي من جديد، أعلن البرلمان المصري في شباط (فبراير) 2019 عن إجراء استفتاء وطني على تعديل دستوري يسمح للرئيس السيسي بالبقاء في منصبه حتى عام 2034. تجولت طويلاً في شوارع القاهرة في الأسابيع التي سبقت التصويت، وبحثت جاهدة عن أي علامة على احتمال ظهور حملة رفض. نتيجة هذا التصويت كانت متوقعة، إذ أخبرني أحد أعضاء البرلمان أن النتيجة كانت قد «طُبخت مسبقاً» وأنه رغم استيائه، «كان في المطبخ». نما إلى ذهني في ذلك الوقت أننا كمواطنين قد أُتيحت لنا فرصة لإعلاء أصواتنا، حتى تحت ستار حملة رفض تقول «لا»، ضد هذا الاستيلاء على السلطة الرئاسية. كتبت الكثير في مقال رأي لصحيفة نيويورك تايمز أنتقد فيه الاستفتاء وأقترح أن يرفض الرئيس نفسه التعديل باسم إرادة الشعب التي طالما كان يتذرع بها.

كان رد الفعل على المقال فورياً وحازماً، حذرني الأصدقاء والزملاء والمسؤولون الحكوميون من أنني تجاوزت خطاً أحمر بشكل علني عبر انتقادي الدائرة الداخلية للدولة. اتصل والدي في صباح أحد الأيام ليبلغني كلمات مشورة من لواء متقاعد، وهو صديق كان يمضي الصباح معه، وناقشنا خطة طوارئ في حال وجود أي تهديد ضدي من جهة الحكومة: بمن سيتصل أولاً، وثانياً، وثالثاً، أو كملاذ أخير. راودني إحساس منعش بالحرية، فضلاً عن العزاء، قد لا يكون نتج عن «الخطة» بل من الإدراك بقدرتي على التحمل في شؤون السياسة، فضلاً عن رغبتي في الكتابة.

علاء عبد الفتاح
علاء عبد الفتاح (ويكيبيديا كومونز)

في ذلك الصيف، أمضيت معظم فترات بعد الظهر في المسبح مع ابنتي الروحية ملاك، البالغة من العمر سبع سنوات. حاولتُ تجنُّب السياسة تماماً، لكن ذلك كان أمراً صعباً. كان من بين زملائنا في المسبح الناشط علاء عبد الفتاح، الذي أُطلق سراحه مؤخراً من السجن بعد أن قضى عقوبة بالسجن خمس سنوات، وكان في ذلك الوقت يواعد صديقتي المقربة، ويرافقه ابنه خالد، البالغ من العمر أيضاً سبعة أعوام، والذي كانت ابنتي تكن له الإعجاب. كانت ظروفهما صعبة من نواحٍ مختلفة، وربما بسبب ذلك استمتعا باللعب معاً.

من الخارج، قد تبدو أيام الصيف تلك اعتيادية يمضيها الأصدقاء، لولا أنه بحلول الساعة 4:30 مساءً، كان علاء يهرع إلى الاستحمام ويرتدي ملابسه، ويقول وداعاً على عجل، قبل أن يعبر الجسر إلى مركز شرطة الدقي. هناك، كشرط لإخلاء سبيله، وبحضور والدته أو أخته أو صديق، كان يسلّم نفسه، ويسلّم هاتفه (لا يُسمح بأي إلكترونيات)، ويُحتجز في غرفة بحجم خزانة حيث يقرأ أو يكتب من غروب الشمس إلى شروقها. حاولت أن أشرح لملاك، بأبسط العبارات الممكنة، لماذا سُجن علاء ظلماً، ولماذا لا يزال يتعين عليه العودة إلى مركز الشرطة كل ليلة، وما سبب قلة حديث ابنه – الذي كان في الثانية من عمره حين اعتُقل والده من منزل عائلتهم. ألحّت ملاك بطرح أسئلة تراودها: لماذا لا يستطيع النوم في البيت؟ لماذا لا يحبه السيسي؟ لماذا لا يستطيع أحد المساعدة؟ دعونا نفكر في شخص يمكنه المساعدة.

خلال تلك الأشهر الوجيزة، التي تمتع فيها علاء بحرية جزئية وتشارك ملاك وخالد صداقة صامتة، شعرت بأمل للمستقبل. «الجميع يقول إنه لا يستطيع الكلام»، قالت ملاك عن خالد، «ولكنه يستطيع، هو ببساطة لا يريد ذلك». يبدو أنها توصلت إلى فهمها الخاص حول مخاطر التحدث علناً، ووعدتْ أن تكون رئيسة أفضل حين يتم انتخابها. بدأت تتعرف من علاء على أساسيات الديمقراطية ودعته ليكون طالباً في «مدرستها التخيلية». أثناء وجبات الإفطار على شرفتي، ابتكرا منهجاً، ووضعا اللافتات، وقررا الصفوف التي سيحضرها شخصياً. في أواخر أيلول (سبتمبر)، وبعد عدة أسابيع من مشروع المدرسة التخيلية، اختطفت الدولة علاء من مركز الشرطة الذي كان يبيت فيه كل ليلة. تم دفعه في متاهة من الاستجوابات وأعيد إلى نفس السجن حيث قضى عقوبته لخمس سنوات، وهذه المرة بتهمة «الانضمام إلى منظمة غير قانونية [غير محددة]، وارتكاب جريمة مرتبطة بالتمويل الأجنبي لهذه المنظمة، ونشر أخبار كاذبة تعرض الأمن القومي للخطر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر هذه الأخبار».

كان ذلك جزءاً من أشرس حملة قمع تشنها الحكومة منذ عام 2013، رداً على احتجاج سريع دعا إليه محمد علي، وهو مقاول بناء كان يعمل سابقاً مع الجيش، وكان ينشر مقاطع فيديو لنفسه على موقع يوتيوب يوضح فيها إنفاق الحكومة وفسادها. كانت تعليقاته مفصلة وواقعية تستند إلى الحقائق، وسرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم. كنا جميعاً ننتظر الدفعة التالية يومياً من منفاه في إسبانيا. كانت رسالته المستمرة هي العودة إلى الشوارع، ولأيام انتشر إحساس بعودة الجرأة إلى الحياة السياسية. رغم ذلك، حين اندلعت الاحتجاجات في لبنان بعد بضعة أسابيع، اعتراضاً على قانون ضرائب جديد، أتذكر مشاهدتها على شاشة التلفزيون مع أصدقاء علقوا أن إيمان الناس المستمر بفكرة هذا النوع من الحراك أمر مدهش.

لم يكن علاء الوحيد من معارفي ممن اعتُقلوا في تلك الحملة القمعية، ولكن كان لاعتقاله الأثر الأكبر عليّ. لعدة أشهر بعد ذلك، سألتني ملاك عنه بانتظام، واقترحت مرة الاتصال بهاتفه ومحاولة إقناع الشرطة بإطلاق سراحه. توقفت عن السؤال حين قلبت الجائحة حياتها، وسلبتها المدرسة والأصدقاء والحياة الطبيعية.

وظهرت جائحة كورونا كفرصة سانحة للحكومة، إذ سمحت لها بحظر جميع أشكال التجمعات وإغلاق الأماكن العامة. ومثلت الغطاء المثالي للقمع السياسي، هذا على فرض أنها كانت بحاجة لغطاء. خلال تلك الفترة، وبالتأكيد في الأشهر القليلة الأولى حين فُرض حظر تجول خلال النهار، مرت لحظات أجّجت فيها الجائحة مشاعر تشبه مشاعر الثورة قبل عشر سنوات، هذا الشعور بغموض المستقبل ووضع أكبر منا لا تبدو له نهاية واضحة في الأفق. قد يكون الاختلاف الوحيد هو فقدان الشعور بالأمل.

من نواح عدة، يستمر الشعور بأنك عالق في مكانك، رهينة للوقت. لقد أمضيتُ معظم فترة الجائحة أُفكّر في الثورة والمجالات التي فتحتها في حياتنا، خارج مجال النشاط نفسه، لتغلقها في النهاية. أفهم الآن استجابة والدي الحذرة حين اندلعت الاحتجاجات في كانون الثاني (يناير) 2011. كنت أتصل به من ميدان التحرير عدة مرات في اليوم لأبلغه التطورات والمحادثات والأخبار. كان ينصحني بألا أتحمس كثيراً، ويردد كيف عاش كل ذلك من قبل.

كانت مشاعري مشابهة حين شاهدتُ أحدث سلسلة من احتجاجات «بلاك لايفز ماتر» (حياة السود غالية) و«مي تو» (أنا أيضاً) تنفجر في جميع أنحاء أميركا، البلد الذي أعدّه بلدي الثاني، رغم عدم امتلاكي تصريحاً لزيارته. ورغم أن التجمعات العامة البارزة بدت بمثابة إعلاء لأصوات المشاركين، إلا أن كل ما كنت أفكر فيه في ذلك الوقت هو أنها لم تكن كافية. الأضرار التي نجمت عن رئاسة ترامب، واقتحام مبنى الكابيتول هيل، والـ74 مليون من أنصار ترامب وما يمثله، أي العنصرية والتمييز على أساس الجنس وكراهية الأجانب، كلها أمور لا يسهل إلغاء آثارها.

سببت الثورة، ثورتنا، بكل إخفاقاتها السياسية، أعمق خيبات الأمل لي ولأصدقائي في الحياة اليومية. لقد تزعزعت حياتنا وسيطرت عليها الظروف السياسية: أعز صديقة لي وقعت في حب معارض واضطررتُ إلى إدارة توقعاتها حول ما يمكن أن يعنيه المستقبل، والعلاقة، والأسرة. وابنتي الروحية وجدتْ أول قدوة حقيقية لها في المُعارض ذاته، وتحولت دروسها الأولى في السياسة إلى دورة مكثفة بسبب سجنه الأخير وتأثيره على مدرستها التخيلية، وبالطبع على صداقتها مع ابنه خالد. وكُبتتْ رغباتي الشخصية بالمثل، في الرحلة الطويلة خارج مصر ثم العودة إلى الوطن، في حالة الشلل المطلق حين حاولت الكتابة، في خيبة الأمل المُنهِكة والظروف المتدهورة والحسرة، وإحساس فقدان «الوطن» في أميركا، والأحباء معه، وكذلك حياتي الأدبية المتجذرة هنا.

تكمن صعوبة الكتابة عن المكان الذي تنتمي إليه في صعوبة الكتابة حول تلك المخاطر والصراعات الحميمة، دون التمكن من تسميتها أو وصفها بدقة، خوفاً من تبعات هذا الكشف، وقلقاً على خصوصية أحبائك، وكذلك بسبب الإرهاق العاطفي الذي يسببه العيش في مواقف غامضة وغير محسومة. أرى الآن في أصدقائي، من مثل سني، شعور الاستسلام ذاته الذي رأيته في والدي. فُقد البعض في المنفى، وأصيب البعض الآخر بالصدمة أو الاكتئاب. وهناك بالطبع أولئك المفقودون بسبب التصدّعات السياسية التي حدثت عام 2013 والتي لم يتم رأبها حتى اليوم.