هذه المقالة تنويعات على قضية تنص على أن التسييس هو جوهر السياسة، وأنها تطل منه على أفقين: أفق الحرب والنزاع فتسعى وراء السلام، ثم أفق الطبائع و«الثوابت» فتسعى السياسة وراء التحرر الاجتماعي والثقافي. تظهر السياسة من هذا المدخل ثنوية من حيث التكوين والمعنى والفاعلين. ثم إن هذه المناقشة تصدر عن مسلمة تقضي بأن السياسة مشاع، ملك عام لجميع الناس في متحد سياسي ما، أي أنها شأن جمهوري.
1
لأغراض هذا التناول، نعرف السياسة بأنها منطقة من الفاعلية البشرية، تضيق وتتسع بين حدين: الحرب والطبائع، ما هو صراع وتغير محض وما هو ثابت لا يتغير. يتسع نطاق السياسة بتسييس وضع الحرب، أي السعي وراء حلول سياسية لها في صورة تسويات ومساومات وتنازلات متبادلة. ويتسع كذلك بتسييس ما يفترض أنها طبائع اجتماعية وسياسية مستقرة، أي المنازعة فيها وإثارة الشكوك في عدالتها وشرعيتها. المقصود بالطبائع التسليم بـ «طبيعية» أوضاع معينة، بصورة تضفي عليها من الشرعية والبداهة ما يرفعها فوق الجدال والمساءلة. من ذلك مثلاً الوضع التابع للنساء، أو اعتبار الرأسمالية النظام الطبيعي والعقلاني والأبدي، خلافاً لما سبقها من أنظمة اعتبرت مصطنعة وغير عقلانية، ومتغيرة تاريخياً، مثلما سخر ماركس في زمانه. ويتصل بذلك اليوم ومنذ انطواء الحرب الباردة، اعتبار الرأسمالية من جديد النظام الطبيعي الوحيد الذي لا بديل له، وهو ما حكم بانتقال التدبر البشري إلى قضايا الهوية والحدود بحسب توما بكيتي، وبعيداً عن تغيير النظام الاقتصادي الاجتماعي. ومن القضايا المُطبّعة كذلك اعتبار السود أقل شأناً من البيض على ما كانت تقضي النظريات العنصرية، وما يتصل بذلك من اعتبار البيض مستحقين لنصيب من ثروات العالم وموارده أكثر من الشعوب الملونة المتخلفة وغير المتحضرة. ومنها فيما يخصنا اعتبار المسلمين أعلى شأناً من غيرهم في مجتمعاتنا، وأن هذا يجب أن يُنص عليه في دساتير الدول. ومنه الكلام المتواتر على طبيعة إسلامية لمجتمعاتنا، توجب استثناء لمجال الإسلام من التزامات إنسانية عالمية مثل حقوق الإنسان والمساواة بين النساء والرجال. ثم منها تأبيد الحكم الأسدي في سورية، جعله طبيعة لسورية فلا تكون دون أن يكون. ومنها كذلك تطبيع إسرائيل كدولة يهودية وككيان ذي حاجات أمنية أرفع شأناً من قيم العدالة والمساواة والحرية للفلسطينيين والعرب. الأمثلة لا تحصى، ذلك أننا لا نكف عن تطبيع أحوال وأوضاع، إضفاء صفة العادية والسواء عليها، أو حتى المثال المرغوب والقدوة الأصلح، أوضاع قد يعمل بعضنا على منازعتها والتحرر من قبضتها. ومن المفهوم أن عمّال التطبيع في الأمثلة السابقة هم في معظمهم رجال، أو رأسماليون، أو بيض، أو مسلمون، أو أسديون، أو يهود صهيونيون.
وفي كل حال، يدخل التسييس اضطراباً في ما هو متصلب ومُسلّم به، ويُظهِر أن الطباع نتائج عمليات تطبيع وهيمنة، وأنها تنطوي على علاقات قوة وامتياز، هي ما يجري العمل على تحدّيها وتغييرها. لذلك يغلب أن يكون عمال التسييس هم المتضررون من الأوضاع المطبعة القائمة: نساء، عمال، سود و«ملونون»، غير مسلمين أو مسلمون عادلون، مناهضون للأسدية، وللصهيونية.
وليس المقصود بالحرب حصراً جولات العنف المتفجر بين طرفين أو عدة أطراف، بل كذلك الأوضاع النزاعية الحادة التي هي أوضاع حرب كامنة، قد تتفجر في ظروف مؤاتية. عاشت سورية أوضاع حرب كامنة طوال سنوات الحكم البعثي، ويعيشها لبنان منذ اتفاق الطائف، وهي الحال في مصر منذ انقلاب السيسي. بمقادير متفاوتة، الحرب الكامنة هي شرط الدول العربية كلها بعد فشل الربيع العربي في موجتيه. ويعني التسييس هنا السعي وراء حلول سياسية تحول دون الانفجار، وتعالج النزاعات الحادة التي قد تفضي إليها.
وإذ تتسع منطقة السياسة بمنازعة الطبائع والحرب، فتحوز بذلك تكويناً ثنوياً يطال معناها أيضاً: السلم في تقابل مع الحرب، والتغير والتحرر في تقابل مع الطبائع القارة. وبهذا التكوين المتمركز حول التسييس، لا تقبل السياسة الإرجاع إلى شيء واحد، سواء كان التمييز بين الصديق والعدو مثلما رأى كارل شميتكتابه: مفهوم السياسي، ترجمة وتقديم: سومر المير محمود، الطبعة الأولى، 2017. شميت يفكر في الدولة ككيان جوهري قومي لا كتنظيم حقوقي للمجتمع. وهو كتب وفكر بين الحربين العالميتين، أي في ظروف حربية وقومية جداً. وقربه من النازيين يقول أن نظريته لا تسعف في الاعتراض على إيديولوجية وتنظيم قائمين على العِرق والحرب. ، أو الحرية على ما رأت حنة آرنتكتابها: في السياسة وعداً، ترجمة وتقديم: معز مديوني، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، بيروت وبغداد، 2018. الصفحات 166-181.. قضية شميت، القومي الألماني المحافظ، تحل السياسة في الحرب، أي في تقابل استقطابي عدائي، يعكس أحوال الحرب الفعلية على ما عرفتها أوروبا بين الحربين. خارج هذه الأحوال، وعلى عكس شميت، يمكن تعريف السياسة بأنها تسييس الصراعات، أي أنها تتحرك في دائرة الخصومة حيث التسويات ممكنة، لا في دائرة العداوة والصداقة. السياسة وفقاً لهذا التصور جهد لتوسيع مراتب الأصدقاء وتحييد ما يمكن من الأعداء وحل المشكلات مع الأعداء دون عنف ما أمكن، أي دون الحرب. لا يلزم من أجل أن يكون ذلك صحيحاً غير مسلمتين: الصداقة خير من العداوة، والسلم خير من الحرب. الحرب «أبغض حلال» السياسة، وحتى حين تستعر الحرب وتكون السياسة قد فشلت وقتياً، فإن جهود وقف الحرب، أو ضبطها بقواعد ومحظورات هي أشكال لتدخل السياسة وفاعليتها. هذا يتوافق مع تصور كلاوسفيتز من أولوية السياسة على الحرب، ومن خضوع الحرب للسياسة وكونها ضرباً من الاستمرار لها. أولوية السياسة تعني أن الحرب استثناء، وأن أقل الحروب السيئة سوءاً هي أقصرها وأقلها كلفة. وتغير أولوية السياسة الحرب ذاتها، بأن تنقلها من نطاق الحرب المطلقة إلى حرب لها قوانين، ولا تمتنع على سلام يعقبهافي الكتاب نفسه، تورد آرنت عبارة لكانط تقول: «لا ينبغي أن يحدث أثناء الحرب شيء من شأنه أن يجعل من سلم لاحق مستحيلاً». ص 270.. قوانين الحرب التي يشكل انتهاكها جرائم حرب (تستهدف بخاصة جرحى أو أسرى من المحاربين) أو جرائم ضد الإنسانية (تستهدف أساساً المدنيين)، تقول إنه حتى حين نكون في حالة حرب، فليس كل شيء مسموح بها ضد العدو، وأن الالتزام بقوانين الحرب هذه يصون فرص السلم بعدها.
أما قضية آرنت حول الحرية كمعنى للسياسة فسيجري تناولها أدناه.
2
منظوراً إليها كتسييس، تظهر السياسة كمُستمرٍ بين أقصيين: ما هو ساكن وثابت وجوهر، فتدخل فيه المنازعة والتناقض والحركة وتراه كعلاقة، وما هو تنازع محض، فتدخل إليه المفاوضة والتسوية والتوسط. حيث يكون النزاع متفجراً، أي في أحوال الحرب، تحد السياسة منه عبر تسييسه، الذي يعني هنا نقل النزاع إلى حيث يقبل حلولاً سياسية. وحيث نكون حيال طبائع قارة، فإن السياسة تدخل النزاع فيها بالتسييس كذلك، الذي هو هنا فاعلية اعتراض وتقويض، فاعلية ثورية. وإنما لأن السياسة تعني شيئاً مختلفاً بحسب ما تجري مواجهته من أوضاع، فإنها ثنوية جوهرياً مثلما تقدم، هدامة وبناءة، ثورية ومتحفظة، نزاعية ومسالمة.
ومن المفهوم أن نطاق السياسة يضيق حين يقرر طرف رفع حربه فوق المنازعة السياسية، مثلما هو حال حرب الحكم الأسدي ضد الثائرين عليه وعموم معارضيه، أو حرب إسرائيل ضد أي مقاومين فلسطينيين، أو حرب السلفيين الجهاديين ضد العالم الموصوف بالجاهلي أو الكافر، أو «الحرب ضد الإرهاب» التي تتلطى وراءها جميع الدول اليوم. ما يجري هنا هو تطبيع الحرب ذاتها، ويظهر التسييس بالتالي كمنازعة عسيرة للحرب وللتطبيع معاً. ثم أن نطاق السياسة يضيق كذلك حين يعتبر أي طرف سياسي أو اجتماعي متطلع لدور عام أن أفكاره أو قيمه أو تكوينه فوق المساءلة، وليس لأي كان أن يُسيِّسها، يدخل إليها التعدد والنسبية والتاريخية، وينزع إطلاقيتها أو قداستها أو أبديتها. من وجهة نظر السياسة كتسييس، ليس لأي فاعلين عامين، يتأثر غيرهم بتفكيرهم وقراراتهم وتكوينهم، أن يضعوا أنفسهم خارج السياسة أو فوقها. في أي متحد سياسي جمهوري، أي حيث السياسة مشاع، ليس هناك شرعيات سابقة للسياسة أو تعلو عليها.
الصفة الثنوية، وما سبق قوله عن كون السياسة منطقة بينية وأن التسييس يتحرك في اتجاهين متقابلين، يعطيان الانطباع بأن الطبائع والحرب يقعان على جانبي السياسة. في واقع الأمر هما أقرب إلى قوة موحدة في مواجهة السياسة. كانت الطبائع دائماً في صف الأقوياء، جندية في حروبهم، وهؤلاء احتاجوا دوماً إلى تطبيع امتيازاتهم وسلطاتهم، ووجدوا لأنفسهم سنداً في مطبعين، هم من نسميهم اليوم إيديولوجيين. هذه القوى نفسها هي من تدفع الأمور إلى الحرب حين يجري تسييس فاعليتها التطبيعية أو حراستها للطبائع.
وتنعكس الثنوية الجوهرية للسياسة في ثنوية لفاعلي التسييس. لدينا من جهة من يعملون على الحد من الحرب والمنازعات والتوترات الاجتماعية عبر التفاوض والتسويات. وهذه تتضمن حتماً موازين قوى اجتماعية أو سياسية قلما تتوافق مع تصورات أطراف النزاع للعدالة. بل يمكن القول إن التسويات غير عادلة دوماً، دون أن يطعن ذلك في ضرورة التسويات ووجوبها، ولا في وجاهة مساعي الأطراف الغارمة من التسويات لتعديل الأوضاع على نحو يقلل من غرمها. إذ يغلب أن تكون الحرب في شروط موازين القوى المختلة أقل عدالة من التسويات غير العادلة. فاعلو التسييس هنا هم السياسيون، وهذا هو الوجه المحافظ للسياسة، المتصل بالدول والقوى الاجتماعية المتنوعة التي تستطيع أن تفرض نفسها كفاعلين سياسيين في بنى سياسية قائمة سلفاً. هناك فاعلون سياسيون من نوع آخر، هم مُسائلو الطبائع والثوابت والمقدسات، ويغلب أن يكونوا مناضلين ومثقفين وفنانين، ينطوي عملهم على عنصر تمرد أساسي، يسائل أية مؤسسات أو أوضاع قائمة عن شرعيتها. ميدان السياسة بالتالي لا يقتصر، ولا ينبغي أن يقتصر، على السياسيين بالمعنى الأشيع للكلمة، فهذا يغيب البعد الديناميكي والثوري للسياسة، البعد المنفتح على المجتمع وعلى الثقافة وعلى التجارب الطليعية في التفكير والسلوك والتنظيم. المثقفون النقديون والنسويات وعموم النشطاء الثقافيين إن جاز التعبير هم سياسيون بكامل الاستحقاق.
3
ولا يمضي التسييس كبث للمنازعة فيما هو مُطبّع حتماً إلى الثورة العنيفة إلا إذا دافع الطبائعيون عن امتيازاتهم بالعنف. حين تثار قضية تغير النظام الاقتصادي أو العلاقات العنصرية على نطاق محلي أو دولي، أو أوضاع النساء، أو نظام عنف وأبد كالحكم الأسدي، فهذا لا يفضي بحد ذاته إلى حرب إلا إذا أصر المستفيدون من تطبيع أوضاع قائمة تعود عليهم بالأرجحية أو الامتيازات على أن لا يتغير شيء. أي إلا إذا رفضوا السياسة. الحرب تأتي من قمع أصحاب الامتيازات غير العادلة في السلطة أو الثروة أو النفوذ أو المجد لمطالب المحرومين، وليس من طلب إدخال الأوضاع القائمة في السياسة والنقاش السياسي. الثورة السورية مثال ممتاز في هذا الشأن. حرك الثورة طلب للسياسة، لأن يكون للسوريين صوت في شؤون بلدهم، ولأن يجتمعوا ويحتجوا علناً وفي فضاءات عامة، ولأن يرفضوا أن يكون وضع امتيازي لأسرة ومحظييها لا سياسياً أو فوق سياسي. كان طلب السياسة تجسد مرتين خلال العشرين سنة الماضية. مرة على نطاق نخبوي في أيام «ربيع دمشق»، الذي تمثل أساساً في المنتديات، وهي تجمعات لعشرات أو مئات قليلة من الأشخاص في مساكن خاصة يتكلمون في السياسة، أي في قضايا السلطة والحقوق والحريات والعدالة. أجهض مطبعو احتكار السلطة ذلك المسعى بالقوة بعد أقل من عام واحد. والمرة الثانية على نطاق شعبي، حيث أخذ يجتمع مئات أو ألوف أو عشرات الألوف أو مئات الألوف في فضاءات عامة، يحتجون ويتكلمون في السياسة، بما فيها رأيهم فيمن يحكمون البلد. الثورة فاعلية تسييس، طلب للسياسة والحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية، ووُجِهت بالحرب وليس بالسياسة. يمكن تصور استجابة للثورة بسياسة تبحث عن حل وسط أو تسوية تاريخية. كان ذلك يقتضي الاعتراف بشرعية المنازعة والسياسة التي تعترض على تطبيع الحكم الأسدي، والتفاوض على حلول وسط تناولت الموضوع شخصياً في حزيران 2011،بعد نحو ثلاثة أشهر على بداية «الانتفاضة» مثلما كنت أسميها وقتها.، تعود بمكاسب حقيقية غير عكوسة على المعترضين، وتنقل المنازعات السورية إلى حيث تقبل على الدوام حلولاً سياسية. أي إلى حيث لا يكون استخدام العنف لحسم هذه الخلافات شرعياً. كان من شأن قبول المنازعة السياسية أن يحول دون الحرب. أما المواظبة على قمع المنازعة واحتكار العنف ووسائله فهو بالضبط ما أفضى إلى الحرب لأنه سحق مجال السياسة، بل وسحق مجال الاجتماع ذاته. لم يرد نظام الحرب الدائمة تسوية تاريخية وحلولاً وسطاً لأن فرصته في أن يربح بالسياسة أقل بكثير من فرصة الربح بالحرب.
ثم إن الثورة السورية أخذت تأكل نفسها حين أخذ يحل طبائعيون في مواقع مسيطرة في مراتبها المسلحة، أعني من يتطلعون إلى نزع نظام الامتياز الأسدي لمصلحة نظام امتياز إسلامي سني، يبدو لهم التعبير الطبيعي عن مجتمعنايمكن النظر إلى وثيقة الهوية السورية الصادرة في شباط من هذا العام عن المجلس الإسلامي السوري كتطبيع لهوية سورية تقوم على تعريف إسلامي سنّي للبلد. وهنا نقد موسع لها. الطبائعية الإسلامية تعمل على رفع امتيازات الإسلاميين إلى مرتبة المقدس غير المنازع، وإلى تجريم المنازعة فيه، وبالتالي تجريم السياسة. وهي نزاعة بفعل ذلك إلى أن تحمي نفسها بالحرب، فتحرم السياسة كتسوية وحل وسط كذلك.
ويظهر المثالان السوريان، الأسدي والإسلامي، أن نار الحرب الملتهبة ليست في تناقض مع جوهرانية الطبائع الثابتة، فكلاهما ضد السياسة ومنطقها وفاعليها وأدواتها. النظام يستنفر وضعاً مطبعاً لا يريد له أن يتغير، أعني امتيازه كشيء لا يجادل فيه ولا يسيس، مشفوعاً بحرب بالغة الوحشية ضد من أرادوا السياسة، وأرادوها بالسياسة أولاً. الإسلامية تنازع طبائعية النظام باسم طبائعيتها الخاصة، وحربه بحربها. يستخدم النظام الإيديولوجية الوطنية في تطبيع نفسه، وتخوين معارضيه لقتهلم عبر نزع الطبيعية عنهم، لكن الحرب هي منهج حكمه الأساسي. التسييس ينازع الإثنين، الحرب والوطنية التخوينية القاتلة. ويهيب الإسلاميون بطبيعة إسلامية ثابتة لمجتمعاتنا، مقدسة فوق ذلك وإلهية المصدر، بما يقضي الاعتراض عليهم إلى مجال الكفر المبيح للدم. فيعطون بذلك لأنفسهم شرعية القتل، ويطلبون الحكم لأنفسهم لحماية طبيعتنا الإسلامية المزعومة، أي الحرب المستمرة ضد الكفر. التسييس ينازع الدعويين: الطبيعة الإسلامية والحرب المستمرة.
4
وتستجيب منازعة السياسة للطبائع لصفة الإنسان ككائن تاريخي، مُسائِل لنظمه، ولطبيعته بالذات، ولا يتحقق في طبيعة نهائية مستقرة. للإنسان تاريخ لأنه ليس له طبيعة أو له طبيعة متغيرة، ولو كانت له طبيعة قارة لما كان له تاريخ أكثر مما لشركائنا في المملكة الحيوانية. السياسة بهذا المعنى المنازع للطبائع هي طبيعة للإنسان، وهو ما يعطي عبارة «الإنسان حيوان سياسي» دلالة قوية، تتقابل من جهة مع حيوانات لا سياسية لها طبائع لا تتغير، وتتضمن من جهة ثانية فكرة أن الحرمان من السياسة هو حرمان من الإنسانية، أو أسر لها في شكل متحجر. السياسة تظهر بهذه الدلالة كعملية أنسنة مستمرة، ونحن نحقق إمكاناتنا الإنسانية بقدر ما نمارس فعل التسييس حيال ما ترى كطبائع مستقرة لنا ولاجتماعنا. بالمقابل تستجيب منازعة السياسة للحرب إلى تفضيل السلم كبيئة لحياة السياسة كوجه آخر لعملية الأنسنة وحماية الحياة. وما ينبني على ذلك هو أن السلام يتحصل بشيء سابق عليه هو السياسة، أو أنه نتاج محتمل للسياسة. الحرمان من السياسة هو، بالتالي، حرمان من السلام. هو الحرب. نعرف ذلك جيداً من التاريخ الأحدث لسورية. لقد عرفنا حربين كبيرتين خلال جيلين في صلة أكيدة بالحجر السياسي على السوريين في الحقبة الأسدية.
تعريف معنى السياسة بإنتاج السلام والتحرر، يقربها مما قالته حنة آرنت من أن الحرية هي معنى السياسة، وإن كان لا يرجعها إلى ذلك حصراً، ويصر على ثنويتها من حيث التكوين والمعنى والفاعلين. الحرية ذاتها تظهر هنا في صلة وثيقة بالإبداع والتحرر العقلي عبر منازعة ما يقدم نفسه كشيء لا نزاع فيه، طبيعي، أو «فطري»، بالتعبير الإسلامي.
بجمعها بين إنتاج السلم والحرية- الإبداع، السياسة قيمة بحد ذاتها، إلى درجة تغري بالقول إن معنى السياسة هو فاعلية التسييس بوجهيها، أو إنه ليس للسياسة معنى خارج فاعليتها الذاتية.
ولعل لتصور السياسية كقيمة ومعنى لذاتها أهمية خاصة في مجتمعاتنا المعاصرة التي تحتاج إلى السياسة إن في مواجهة طبائع تحتمي بالدين أو يحتمي الدين بها، أو حرب محروسة بالدولة. ما نسميه الديمقراطية طوال نحو جيلين هو تعبير عن الحاجة لحياة سياسية، يمكن أن تكون ناجعة على حد سواء في ضبط دولة الحرب المطبعة لنفسها، كما في ضبط الطبائعية الدينية المحاربة. الديمقراطية من وجه آخر منهج «أمني»، بالنظر إلى أنها نظام الظهور السياسي العام، النظام الذي يتيح الظهور لمختلف أعماق المجتمع وتعبيراته، فتصير موضع إحاطة اجتماعية وتملك اجتماعي. ويبدو أن الأمننة المتصاعدة للسياسة تؤشر على أزمة في الديمقراطية، من أوجهها الأخرى محدودية فرص ظهور التعدد الجديد في مجتمعات الغرب الأكثر ديمقراطية، أي ما يتصل بالمهاجرين والملونين، وصعود تيارات طبائعية أو «جينوقراطية»، مثل اليمين الشعبوي القومي والتفوقيين البيض. وظاهر من تجربتنا أن «الأمن» بالمعنى الممارس في بلداننا منذ نحو نصف قرن، أي كجملة من الاحتياطات التقييدية التي تتخذها الدولة للحجر السياسي على محكوميها، لا يستطيع أن يكون سياسة آمنة، ولا أن يتيح لتعدد المجتمع ظهورات متساوية أو متقاربة. إنه شرط حرب كامنة، تنتظر الفرصة لتنفجر.
للحياة السياسية بالمقابل مفعول مؤمِّن بقدر ما هي تقوم على الظهور والعلانية، ثم مفعول مؤنسن على الأفراد ومنتج للاجتماعية بقدر ما هي تقوم على تحرر متسع للأفراد من البنى المطبعة وعلى بيئة سلم للمجتمع.
5
وما يمكن الخلوص إليه من هذه المناقشة هو الصلة الجوهرية بين السياسة والسلام: أن السلام لا يوجد إلا كنتاج السياسة، وأن غياب السياسة هو غياب للسلام، إن في صورة حرب متفجرة قليلاً أو كثيراً، أو في تطبيع أوضاع غير عادلة.
وظاهر أن تصور السلام يختلف حين يكون مدخلنا له هو فاعلية التسييس. ليس السلام من هذا المنطلق غياب الحرب، بل تشكّل المجتمع والدولة في صورة تُبقي الحلول السياسية ناجعة للمشكلات الاجتماعية. فإذا كان التسييس في وجه أساسي له عملاً من أجل السلام، فإن السلام بيئة السياسة بالمقابل، ومضمونه الإيجابي هو السياسة، وما تقتضيه من طرفين أو تعدد أطراف. ثم أن مجاورة فاعلية التسييس المضادة للحرب والمنتجة للسلام لفاعلية التسييس المضادة للطبائع والمحرِّرة يُكْسِب السلام ذاته شحنة ديناميكية وإبداعية. فرص السلام أكبر في مجتمع لا يكف قطاع منه عن مساءلة ما يجنح أن يتشكل في طبائع، مما في مجتمع منتج للطبائع المحمية من المساءلة. أي في مجتمع يتوازن ديناميكياً وعبر الاضطلاع بتوتراته، لا سكونياً وعبر إخماد كل توتر محتمل. لا يكتسب السلم بمنع تسييس الطبائع، بل بالحيلولة دون تحول المنازعة إلى حرب. التسييس ذاته هو الفاعلية المضادة للحرب.
ثنوية السياسة تعني كذلك أن السلم يُبدَع إبداعاً، بقدر ما إن الإبداع فعل سلم. يمكن فهم العبارة الأخيرة بمعنى أن السلم هو شرط أنسب للإبداع، ولكن كذلك بمعنى أن الإبداع يحمي السلم إذ يرفع من قيمة الحياة ويحول دون استرخاصها. قد يُعترض على أن الإبداع فعل سلم بالقول إن تكنولوجيات القتل من ثمار الإبداع (نوبل وإينشتاين مثالان شهيران)، وأن الإبداع يقترن بالذات السيدة التي تشعر بأن فيها قبساً إلهياً. والسيادة كما الألوهة تقتل. هذه نقطة مهمة بالفعل، وأن التفكير في إبداع غير سيادي، إبداع محرر وتحرري، هو في أمر اليوم بقدر ما أننا نَلِجُ عصراً من تدمير إطارنا البيئي على يد الذات السيدة والحضارة السيدة والآلهة السيدة. خلافاً للسيادة التي أخرجتها حنة آرنت من السياسة لأنها لا تعم الناس، فإن الحرية يمكن أن تعمهم، ولذلك فإنها يمكن أن تكون وجهة لإبداع غير مميت.
لكن الأكثر اعتراضاً على البدع من الإسلاميين، أي السلفيين، هم الأميل إلى العنف، والأشد تعصباً وميلاً إلى فرض ما يرونه بالقوة على الجميع، الأشد اعتراضاً كذلك على مشاعية السياسة والمبدأ الجمهوري.
أما القول إن السلام يُبدَع فالمراد منه يقارب ما يراد من الكلام على فن السياسة أو الفن السياسي، أي ما يتصل بمهارات وحنكة وحسن تصرف الفاعلين السياسيين بوصف ذلك أساسياً في المهنة السياسية. المقصود كذلك أيضاً أن السلام لا يُعرّف سلبياً بغياب الحرب فقط، وإنما بالحياة التي تعاش مفتوحة على الجديد ومضادة للسيطرة.
في الختام، يمكن لكل من الثورة العنيفة واللاعنف كعقيدة أن يكونا حدين للسياسة حيث للسياسة مجال، ولكنهما يغدوان ضمن مجال السياسة حين لا يكون لها مجال. تصير الثورة سياسة ممكنة للاعتبارات نفسها التي تجعل اللاعنف سياسة ممكنة، دعوة لعالم مغاير بوسائل قصوى، ثورية بطريقتين متقابلتين، مضادة لأوضاع مطبعة محمية بالعنف مرة، ومضادة لعنف تفلت من كل سيطرة. يمكن تعريف هذا العالم بقابلية مشكلاته للحلول السياسية. أي أن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة.