بأسماء مستعارة في أحيان كثيرة، وغالباً بدون تصريحات رسمية يعزّ الحصول عليها في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية شمالي سوريا، يتم إنتاج تقارير ونشر أخبار تغيب عنها سمة الحرية، وتغلب عليها سمة الابتعاد عن كل ما يمكن أن يسببه هذا العمل من مضايقات قد تشمل المنع من العمل الصحفي في المنطقة، وقد تصل إلى الاعتقال أو حتى الخطف والقتل.
نخفي أيضاً أسماء من تحدثنا معهم من تلك المناطق بناء على طلبهم، ولا نقلل من أهمية ما يشعرون به من خوف في بيئة يُمنَع فيها الصحفي من العمل بحريّة، فيما يلاحظ المتابع لما يرد من أخبار وتقارير على المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية ندرة في التعاطي العميق مع الأحداث في شمال سوريا الغربي. يتحسّن الوضع مع أي أخبار لا تمس سلطات الأمر الواقع في المنطقة، ويزداد حجم المعلومات المتوافرة عن الخبر. وعند كل مفصل يتعلق بسلوك السلطات التركية أو بانتهاكات ترتكبها فصائل عسكرية أو بالمجالس محلية أو بالقرارات الداخلية التي تؤثر في معيشة السّكان، يبدو المشهد ضبابياً ويحتاج إلى كثير من التكهنات والحديث عن الاحتمالات والافتراضات.
يعيش أزيد من مليوني شخص في هذه المناطق، لكنهم منذ سنوات يغيبون عن المشهد سوى في بعض التعليقات والصفحات التي تتناول: انتهاكات تُمارس بحقهم، حواجز تفرض الإتاوات، المعابر التي تفرض نفسها كمحصل ضرائب، التعدي على الأملاك العامة والخاصة، ما يحدث في السجون، قرارات جائرة بحقهم على صعيد الخدمات الحياتية، وأزمات المياه والكهرباء والمدارس والوقود والصحة.
يقول من تحدثنا معهم إن الكلام عن أي انتهاك يُعرّض الأشخاص للمساءلة: «من يحمينا من الانتقام في مكان لا سلطة فيه سوى لقوى الأمر الواقع. وبافتراض أنه تمت محاسبة شخص ما على انتهاك ارتكبه، فإنه سيكون هناك دائماً من يتعرض لنا من قبل أصدقائه ورفاقه. الخوف هو ما يمنعنا من الحديث عن مشكلات كبيرة تحيط بنا؛ لا يمكننا الحديث عن الفساد أو العسكرة ولا الاقتراب منهما، كذلك لا دور لنا في التعبير عن امتعاضنا من قرارات مجحفة تطالنا في أبسط حقوقنا، مثل الغلاء واستيراد بعض السلع التي توثر على منتجاتنا المحلية، تصدير منتجات أخرى ما يزيد من أسعارها، إضافة لحقوقنا في معرفة ما يحدث سياسياً وعسكرياً، معارضتنا للمشاركة في معارك عسكرية لصالح تركيا تدور خارج حدود البلد، شراكة المصير مع مناطق سورية أخرى منها إدلب على سبيل المثال»، والقائمة تطول.
الحاكم بأمره
يتنفس سكان المنطقة من خلال بعض قنوات التلغرام التي فرضت نفسها في المنطقة. يقول أحد أصحاب المحلات التجارية إنه يشترك في معظم الصفحات التي تحمل في اسمها لفظ «كابوس»، ويرى فيما تنقله من أخبار ومعلومات ما يريحه. ويروي تجربته الشخصية في مراسلة واحدة من هذه الصفحات وتقديم معلومات عن شخص وصفه بـ «المسيء» في المنطقة، وإن انتشار الخبر عبر الصفحة ساهم في «فضح ممارساته» والحدّ منها.
يقول إنه لا يعرف، في كثير من الأحيان، صدق المعلومات الواردة في هذه القنوات، ولكنه يرى فيها «سلطة» جديدة تملأ فراغاً تتسبب به السلطة الحالية، وغياب الإعلام عن تناول مثل هذه القضايا والحديث عنها.
يضرب مدرس في المنطقة مثالاً آخر عن السلطة الجديدة لهذه القنوات، يقول إنه ومنذ إضراب المعلمين في هذه المناطق، ودعوتهم لتحسين ظروفهم الحالية، نشرت عشرات التقارير لنقل ما يحدث، لكن أكثرها حرية كانت على قنوات التلغرام هذه، بعد أن تصدرت الحديث عن المسؤولين ومطالبتهم بالوقوف إلى جانب الإضراب، ومهاجمة قرار المجالس المحلية الأخير بقطع رواتب المعلمين المشاركين في الإضراب وفصلهم عن العمل في حال عدم الالتزام.
ويصف المعلم ما تم نقله في المواقع الإلكترونية بـ «الباهت»، إذ لم ينل حقه من التغطية الإعلامية والمناصرة، معتبراً أن القضية لا تخص معلماً بحد ذاته، بل تتحدث عن آلاف المعلمين وحقوقهم، ومصير آلاف الطلبة في المنطقة.
يقول صحفيون وناشطون إعلاميون تحدثنا معهم إن الأمر معقد، إذ، غالباً، ما يغيب الرد من قبل المسؤولين في المنطقة ويتم تجاهل طلباتهم للحصول على معلومات أو تصريحات بخصوص قضية معينة، كذلك يمتنع أصحاب المشكلة عن ذكر أسمائهم الحقيقية أو الحديث إلى وسائل الإعلام، خوفاً من المساءلة أو إيماناً منهم بعدم الجدوى.
يشرح إعلامي ما يعانيه عند كتابة أي تقرير أو تغطية حدث، يقول: «تُلزمنا المؤسسات التي نعمل بها، وفقاً للمهنية والقوالب الصحفية الجاهزة، بالحصول على رد أو تصريح من الجهة المسؤولة حول أي مشكلة نتناولها. غالباً ما يتم تعطيلنا أو تأخيرنا، وأحياناً لا نتلقى أي رد، ما يُفقد الخبر أو التقرير عامل الحداثة والتوازن، وبالتالي يُرفض التقرير بعد التعب في إعداده وجمع معلوماته، كما يفقدنا هذا ثقة أشخاص كنا قد تحدثنا معهم وهم في انتظار الكتابة عن معاناتهم».
يقول أيضاً: «تلزمنا مؤسسات رسمية بتقديم المادة الصحفية لهم قبل نشرها أيضاً، وهنا يقع الصراع بيننا وبين المؤسسة أو الموقع الذي نعمل فيه بشأن حق المؤسسة رسمية بالاطلاع قبل النشر من عدمه، فيما تفرض علينا المؤسسات الرسمية تعديل أو تغيير التقرير إن لم يوافق رؤيتها أحياناً، كما يطلب إلينا عدم النشر في أحيان أخرى».
إعلامي آخر قال إنه ترك عمله الصحفي منذ سنتين، ويخبرنا أن مكان وجوده هو السبب في تخليه عن عمله. يقول إن «الحاكم بأمره»، في إشارة إلى سلطات الأمر الواقع في المنطقة، يفرض سلطته على كل شيء، إذ تمنع هذه الجهات الصحفيين من التنقل بحرية والحصول على المعلومات.
يعيش الصحفي في مدينة عفرين، ويروي إن مواضيع صحفية عديدة تحفزه على المشاركة في نقلها وتسليط الضوء عليها، إذ هناك انتهاكات وسرقات وتجاوزات في كل يوم، وعلى الصحافة أن تمارس دورها في الحد من هذه التجاوزات وتسليط الضوء عليها، لكن كل شيء يتعلق بـ «السياسة والعسكرة»، وهما أمران لا يمكن الاقتراب منهما.
وتفرض الحكومة التركية على المؤسسات المحلية التابعة لها، من مجالس محلية ومديريات، الحصول على موافقة للحديث إلى وسائل الإعلام. وكذلك على الموظفين في الدوائر، إذ «يمنع، على سبيل المثال، على المعلمين الإدلاء بأي شهادة أو تصريح لوسائل الإعلام تحت طائلة الفصل وخسارة الوظيفة» بحسب الصحفي.
وفي مثال واقعي آني، يخبرنا الصحفي نفسه الذي تحدثنا إليه في عفرين عن بدء قطاف الزيتون في المنطقة، ويقول إن فصائل عسكرية وضعت يدها على أراض لأشخاص من المنطقة وتقوم باستثمارها، فـ «من يستطيع التحدث عن ذلك!». كذلك تحدَّثَ عن توزيع مساحات من الأراضي العامة والاستيلاء على منازل تؤجَّر لحساب فصائل بعينها، وكل ذلك تحت سمع وبصر المجالس المحلية ومن خلفها المسؤولون الأتراك أيضاً.
يرى الصحفيان اللذان تحدثنا معهما أن قنوات التلغرام تمتلك الميزة التي تفتقدها وسائل الإعلام الأخرى، فهي لا تخضع لمتطلبات «التوازن والحياد» النظرية الجافة التي تتمسك بها كثير من المواقع الصحفية من جهة، كما أن غياب أسماء القائمين على هذه القنوات وسرية معلوماتهم الشخصية منحتهم الكثير من الثقة في التعاطي مع الأحداث من جهة أخرى.
ورغم ما يمكن أن يكون لهذه القنوات من آثار سلبية، بحسب من تحدثنا معهم، مثل التشهير أو عدم الدقة وأحياناً التضليل الإعلامي، كذلك غياب اللغة الصحفية، لكنهم يرون فيها متنفساً للسكان، خاصة حين يرافق الخبر فيديو أو صور تثبت صحة ما يتضمنه، أو من خلال التعليقات التي ترافق ما ينشرونه. الأمور التي تجبر، في كثير من الأحيان، السلطات على متابعة الخبر ومحاسبة المسؤولين عنه، أو على الأقل تقديم توضيحات بخصوصه.
«إعلام» أم صفحات صفراء
تمتلك القنوات التي تقول إن هدفها ملاحقة المتورطين، أو قادة الفصائل والمسؤولين، عدداً ليس بقليل من المتابعين، إذ تحوي معظم القنوات التي تتبعناها، ومنها «كابوس جرابلس» و«احتيملات نيوز» و«كابوس تل رفعت» و«شبكة اعزاز نيوز»، على أزيد من سبعين ألف مشترك، وتمثل مصدراً هاماً للبحث من أجل الكشف عن تجاوزات في الشمال السوري، أو بخصوص شخصيات معينة ترتبط أسماؤها بفضائح أو انتهاكات أو سرقات في المنطقة.
تقضّ هذه الصفحات مضجع كثر من المتورطين بعد أن تحولت إلى مصدر معلومات، ولا يمكن أن يكون المسؤول عن إدارتها شخصاً واحداً يبحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن ضالته، ولكن المعلومات تصلهم عبر أشخاص ومصادر ويقومون بنشرها.
يقول من تحدثنا معهم إن دور هذه الصفحات إيجابي وسلبي في آن معاً، فقد تسبب عدم الدقة في نشر هذه الأخبار مشكلات كبيرة، خاصة وأن بعضها لا يتطابق مع الفيديوهات والصور المنشورة. ويرون أن عدم معرفة من يقوم على هذه الصفحات ساهم في نشر معلومات خاطئة ومضللة أساءت إلى سمعة أشخاص وتسببت لهم بمشكلات شخصية أو حياتية، واصفين بعض هذه القنوات بـ «الصفراء»، ومؤكدين أن سر انجذاب الأشخاص إلى مثلها ينبع من «الفضول» ومتابعة «الفضائح». وإن كانت الضرورة قد فرضت وجود هذه القنوات، فإن غياب المسؤولية عنها قد يدرجها في خانة الأخبار غير الموثوقة، و«من الضروري التعامل معها والتأكد من معلوماتها قبل الأخذ بها أو نشرها».
يُحمّل صحفيون تحدثنا معهم مسؤولية انتشار هذه القنوات إلى سلطة الأمر الواقع والقيود المفروضة على حرية الصحافة في مناطق سيطرة تركيا وفصائل تابعة لها في الشمال السوري، ويقولون إنهم يفكرون جدياً بإعادة زمن «صفحات التنسيقيات» مع كثرة المواقع والقنوات. أياً كانت السلطة الحاكمة في المنطقة، فإن الناس والنشطاء سيتجهون إلى حلول بديلة عندما يتمع قمع الصحافة أو عدم التعاون معها. يشبه الأمر نقل انتهاكات النظام في سنوات الثورة الأولى، وملاحقة الصحفيين والناشطين من قبله، ما فرض وجود آلاف الصفحات والحسابات التي تنقل ما يحدث دون القدرة على التثبت من المعلومات والتباين الموجود فيها.
ينزح سكان في هذه المناطق إلى قنوات التلغرام، ينشؤونها بأرقام عبر تطبيقات لا يمكن الوصول إليها، يحاولون التعبير عمّا في داخلهم، وينقلون عبرها ما يتعرضون له من انتهاكات علّها تجد أذناً صاغية، في وقت لم تؤدِ فيه كل دعوات الحرية وقرابينها في سوريا إلى سلطات تتقبّل وجود صحافة تساهم في منع التجاوزات وتسليط الضوء على حياة السكان، على مبدأ «اللي تحتو يابس ما بيخاف».