في خيمة بناها أبناء مخيم الفيضة للاجئين السوريين في البقاع اللبناني على عجل، وقفت الشابة منال ذات العشرين عاماً على بعض بلوكات الخفان المرصوفة إلى بعضها البعض، لتكون أشبه بمصطبة تتيح للتلاميذ رؤية معلمتهم بشكل واضح. في حين جلس التلاميذ البالغ عددهم 11 طالباً على بلوكات خفان مشابهة، وعيونهم موجهة نحو سبورة كان ذات يوم باباً خشبياً، جرى وضعه بشكل أفقي فوق المصطبة لتُكتب عليه حروف وأرقام.
عند الساعة الواحدة ظهراً، تنفض منال غبار الطباشير عن يديها، وتلملم حقيبتها وتقف على مدخل المخيم بانتظار الحافلة التي ستقلّها إلى مدرستها الثانوية على بعد 40 كيلومتراً من مخيمها، الذي يبلغ عدد سكانه قرابة 1250 لاجئ سوري، يزيدون وينقصون بين وقت وآخر.
تقول منال إن المدرسة التي تذهب إليها كطالبة هي أقرب ثانوية استطاعت التسجيل فيها، وتصف نفسها بـ«المحظوظة» حين تطالع أحوال سكان المخيم ممن لم يكملوا تعليمهم. وتخبرنا أنها عندما أتت إلى لبنان عام 2015، انقطعت عاماً كاملاً عن المدرسة، وحين أرادت إكمال تعليمها وجدت أن المدارس المخصصة لتعليم السوريين لا تستقبل أكثر من طلاب الصف الأول الإعدادي، وهو ما أجبرها على الالتحاق بالمدرسة مع مَنْ هم أصغر سناً، رغم أن أترابها قد صاروا اليوم طالبات في الجامعات. قالت منال في لقائنا معها قبيل نهاية العام الدراسي الفائت: «على الأقل لدي مدرسة، وقريباً هناك امتحانات. سأنجح وأحصل على الشهادة، وسأحقق حلمي». صمتت لبضع ثوانٍ حين سألناها: «هل الحلم ينتهي عند شهادة الثانوية، ماذا عن الجامعة؟» لتجيب بعدها: «لا ينتهي، لكن على الأغلب لن أدخل الجامعة، فالظروف لا تسمح».
بعد مرور عقد على بدايات اللجوء السوري إلى لبنان، أصبح تعليم الأطفال السوريين في موضع أكثر هشاشة من أي وقت سابق. وقد حذرت منظمة أنقذوا الطفولة من كارثة تربوية قد تفتك بفئات هي الأضعف في لبنان، ولا سيما عدد كبير من السوريين، خاصةً بعد ارتفاع نسبة الفقر في أوساطهم إلى 89 بالمئة، حسب تقرير المنظمة.
مع ازدياد عدد الأطفال اللاجئين بتتابع أعوام العقد المنصرم، أُقيمت مشاريع تهدف إلى دمج أكبر عدد منهم في المدارس اللبنانية منذ عام 2013 وحتى نهاية 2021، وذلك بالتنسيق بين منظمات أممية والحكومة اللبنانية. ويُظهر مؤشر أرقام الملتحقين بالمدارس أنها سارت على طريق النجاح بخطىً خجولة في بداية الأمر، لكن لم يكتب لها أن تحقق الأهداف المرجوّة منها رغم من صرف ملايين الدولارات عليها، وفق ما يذكره تقريرٌ صادرٌ عن هيومن رايتس ووتش ودراسةٌ أعدها مركز الدراسات اللبنانية. كما فاقمت الأزمة اللبنانية وجائحة كورونا أزمة تعليم جميع الطلاب على الأراضي اللبنانية في العامين الماضيين، وأعادته خطوات إلى الوراء.
السباق الأول
بالعودة إلى نهاية العام 2013، وهو العام الذي وُضعت فيه أول استراتيجية تعليمية «لتعليم جميع الأطفال في لبنان»، وجلّ المقصودين هنا لاجئون سوريون، سمي المشروع «إيصال الحق بالتعليم للجميع» أو RACE. بعدها بأشهر، قالت منظمة راند الأميركية في دراسة إحصائية قورن فيها بين أرقام الأطفال الذين دخلوا إلى المدارس في دول جوار سوريا، إن النسبة بلغت، عام 2014، قرابة 60 بالمئة في تركيا، و60 بالمئة في الأردن. في حين لم تتجاوز 25 بالمئة في لبنان، وهو ما يعني أن 102 ألف طفل فقط من أصل 408 ألفاً كانوا مسجلين على الأراضي اللبنانية قد دخلوا المدارس.
قُسّم المشروع إلى مرحلتين: الأولى حتى نهاية 2016، والثانية تبدأ من 2017 حتى نهاية 2021. انطلق RACE1 عام 2014 تحت شعار «كلنا عالمدرسة»، وكان الهدف منه جلوس 260 ألف طفل سوري على مقاعدهم الدراسية مع نهاية 2016. وتعهدت الدول المانحة، وهي 19 دولة أجنبيّة وعربيّة، وكذلك منظمات أمميّة هي المفوضيّة السامية للاجئين واليونسكو واليونيسف والبنك الدولي، فضلاً عن أكثر من 60 منظمة غير حكوميّة محليّة ودوليّة، بتقديم دعم مالي بمبلغ 350 مليون دولار سنويّاً للدولة اللبنانية لتنفيذ الخطة. وذلك في حين اتخذت الأخيرة خطواتٍ عدة لدمج السوريين في مدارسها، إذ أعفتهم من رسوم التسجيل ومن أوراق الإقامة التي كانت ضروريةً قبل المشروع. كما استُحدثت الدوام المسائي، من الساعة الثانية وحتى السادسة مساءً، في 238 مدرسة، ارتفع عددها ليصل إلى 340 في العام 2020، بحسب أرقام مفوضية اللاجئين.
ووفقاً لدراسة صادرة عن مركز الدراسات اللبنانية في شهر آذار الماضي بعنوان «واقع تعليم الأطفال السوريين في خضم أزمة اللجوء طويلة الأمد»، يتوزع 25 بالمئة من التلاميذ السوريين في الدوام الصباحي، و75 بالمئة منهم في الدوام المسائي. في حين تتقاضى وزارة التربية مبلغ 363 دولار أميركي سنوياً (203 دولار رواتب أساتذة، و160 صندوق أهل ومدرسة) عن كل طالب سوري في الصباحي، و600 دولار (340 رواتب أساتذة، 160 لصندوق الأهل والمدرسة، 100 استهلاك للمدرسة) عن كل طالب في الدوام المسائي.
وتقول الناظرة إيمان إبراهيم من مدرسة برجا الرسمية للجمهورية.نت: «مدة اليوم الدراسي في الدوام المسائي هي أربع ساعات، تنقسم على خمس حصص؛ بواقع 45 دقيقة لكل واحدة، بالإضافة إلى استراحة واحدة لمدة 15 دقيقة بعد الحصة الثالثة». وجاء في الدراسة التي أشرنا إليها أن الحكومة اللبنانية تتعامل مع اللاجئين واللاجئات على أنهم نازحون ونازحات، إذ يعتمد لبنان نموذج التعليم في حال الطوارئ. ويتميز هذا الأسلوب في العمل الإغاثي والإنساني باستخدام السياسات والبرامج قصيرة الأمد، مع البعد عن استخدام السياسات التي تهدف إلى الدمج الاجتماعي أو الاقتصادي أو التربوي طويل الأمد.
وللوقوف على نتائج مشروع RACE1 ومناقشة آثاره، لا بد من معرفة عدد الطلاب السوريين قبل تنفيذه بداية 2014، وذلك بالاعتماد على أرقام النشرات الإحصائية في المركز التربوي للبحوث والإنماء، ووحدة التعليم الشامل PMU، باعتبارهما الجهات المعنية بإحصاء التلاميذ والمدارس في لبنان. فوفقاً لأرقام المركز التربوي، بلغ عدد الطلاب السوريين 27,369 طالب في العام الدراسي 2011-2012، ووصل إلى 60,487 عام 2012-2013.
في العام الدراسي 2013-2014، الذي انطلق فيه RACE1، فتحت المدارس أبوابها أمام تلامذة سوريين في فترات مسائية، ووصل العدد إلى 101,212، مع زيادة خجولة عام 2014-2015، وصل معها الرقم إلى 101,514. وارتفع عام 2105-2016 إلى 149,439 طالب وطالبة سوريين.
المساء لتعليم السوريين
تقول الباحثة الاجتماعية سهى اليوسف للجمهورية.نت: «زيادة الأعداد لم ترقَ إلى هدف المشروع، بالرغم من مجانية التسجيل وإلغاء شرط الإقامة الشرعية، فضلاً عن توافر القرطاسية والكتب التي تؤمنها الجهات المانحة. فالعدد القليل للطلاب في أعوام النزوح الأولى سببه عدم الاستقرار، واقتصار المدارس على الدوام الصباحي، والإيمان بالعودة القريبة إلى سوريا، علاوةً على وجود عوائق لغوية في المنهج اللبناني وغربة التلاميذ السوريين عنه، إذ تُدرس معظم المواد العلمية (رياضيات، فيزياء، كيمياء، حاسوب، علوم) باللغة الإنكليزية أو بالفرنسية. ومع الانتقال للدوام المسائي، بقيت هذه الأسباب عائقاً أمام طلابٍ كثرٍ».
يضاف إلى ذلك، بحسب اليوسف، أن عدد مدارس السوريين «يشكل نسبة أقل من 20 بالمئة أمام العدد الكلي لمدارس التعليم الرسمي (238 من أصل 1273)، كما أن توزّعها في مختلف المناطق اللبنانية لا يراعي أماكن وجود التجمعات الكبيرة للاجئين، ما أدى إلى وجود مدارس مكتظة بالطلاب، بأكثر من 45 طالباً في الصف الواحد، وأخرى لا يتواجد فيها أكثر من 14 طالباً في الصف بسبب عدم وجود تجمعات للاجئين».
وتخبرنا اليوسف أن التعليم الرسمي «لا يتمتع بسمعة جيدة داخل أوساط المجتمع اللبناني. وهناك نسب رسوب وتسرب مدرسي مرتفعة جداً، فهو يعاني من الضعف قبل أزمة اللاجئين، وذلك يعود لنقص المدرسين والإداريين المؤهلين، وضعف التغطية المالية لصناديق المدارس، وغياب البنية التحتية اللازمة لخلق بيئة تعليمية مناسبة، فأغلب المدارس غير صالحة من جهة الإضاءة والتهوية والرطوبة، وبحاجة إلى صيانة». وقد بلغت نسبة التلاميذ (لبنانيون ولاجئون وغيرهم) في القطاع الرسمي 29 بالمئة فقط، مقابل 71 بالمئة في القطاع الخاص عام 2011. وصارت 32 بالمئة للرسمي، مقابل 68 بالمئة للخاص في 2020، بحسب أرقام المركز التربوي للبحوث والإنماء.
وعن تجربة الدراسة في تلك الفترة، تقول فاطمة (21 سنة)، وهي لاجئة سورية في لبنان، إنها وعدد من التلاميذ ممن في عمرها دخلوا المدرسة بصفتهم طلاب صف سادس، وذلك لتعذر حصولهم على أوراق تثبت أنهم نجحوا إلى التاسع في سوريا، بسبب قصف مدرستهم في جبل الزاوية، فضلاً عن انتهاء الصفوف في أغلب المدارس المسائية عند السادس، وحصر المدارس التي تملك صفوفاً حتى التاسع في المدن والبلدات الكبيرة، وتعذر وجود مقاعد شاغرة فيها.
وتقول إيمان إبراهيم، وهي ناظرة متعاقدة عملت في خمس مدارس دوام مسائي، للجمهورية.نت: «الطلاب في الدوام المسائي يفتقدون للزي المدرسي الموحّد، ولحصص الكومبيوتر والفنون (رسم، مسرح، موسيقى)، والرياضة. ولا تتمتع المدارس بالتدفئة اللازمة، كما يتعذر الدخول إلى المكتبات والمختبرات التي هم بحاجة لها، وهو ما يفسر رغبة الأهل بالتحاق أبنائهم بالدوام الصباحي، أو الذهاب للمدارس الخاصة للابتعاد عن التعليم المسائي في حال توافرت القدرة الماديّة».
ويوجد الآن أكثر من 19 ألف مدرّس ومدرّسة من المتعاقدين والمستعان بهم لسد النقص العددي لمدرسي الدوام المسائي بحسب النشرة الإحصائية للمركز التربوي، وقسم كبير منهم من غير خريجي الاختصاصات التربويّة، مع أن القانون يفرض على المتعاقد أن يكون خريجاً من كليات التربية. وباتت «موجات من المتعاقدين غير المؤهلين والمختصين تدخل إلى صفوف تلاميذ الدوام المسائي تحت راية توفير التعليم للجميع»، وذلك بحسب ما خلصت إليه دراسة مركز الدراسات اللبنانية.
تقول أم مصطفى، وهي سيدة سورية تعيش في لبنان وتعمل في مجال التسويق الإلكتروني، إنها سجلت ولديها في مدرسة خاصة منذ 2017. وتقر بوجود أعباء مادية تثقل كاهلها، كرسم التسجيل (650 دولار عن كل طالب قبل انهيار الليرة اللبنانية، و90 دولار حسب أسعار الصرف الحالية)، ذلك عدا ثمن الكتب والقرطاسية واللوازم المدرسيّة والتنقل. إلا أنها في الوقت نفسه تبدو مطمئنةً لحاضر أطفالها ومستقبلهم من الناحية التربوية والتعليميّة.
وكانت أول إحصائية لأعداد السوريين في المدارس الخاصة في 2013 قدّرت عددهم بـ 25,701، وارتفع الرقم ليصبح 49,000 في العام الدراسي 2019-2020.
السباق الثاني
كانت بداية مشروع RACE2 في العام 2017، وقد حمل شعار «أنا حاضر»، ليشمل فئات عمرية أكثر من سابقه: من 3 إلى 18 سنة، وهو عمر التعليم حسب النظام اللبناني، بعد أن كان في RACE1 من 6 إلى 15 سنة. وهدف هذا السباق هو تأمين التحاق 469 ألف تلميذ-ة من اللاجئين السوريين بالمدارس اللبنانية.
تولّت وحدة إدارة ومتابعة برنامج التعليم الشامل PMU مهمة الإشراف على RACE2، وهي وحدة مستحدثة من قبل وزارة التربية اللبنانية وتعمل داخلها، تقوم باستلام أموال الدول المانحة وتحصي الطلاب في الدوام المسائي. ووفقاً لأرقامها، ارتفع عدد التلاميذ السوريين إلى 191,338 مع بداية المشروع في 2016-2017، و213,364 في 2017-2018، لينخفض إلى 206,061 في 2018-2019. ومع تداعيات الأزمة المالية وتبعات وباء كورونا المعيشية، انخفض العدد مجدداً إلى 196,238 في العام الدراسي 2019-2020.
ولم تصدر الجهات المعنية إحصاءات تخص العام 2021 بعد، لكن هيومن رايتس ووتش نقلت عن مسؤولين لبنانيين أن 190 ألف طالب-ة سوري-ة سجلوا لهذا العام، وذلك من أصل 660 ألف طفل وطفلة في عمر الالتحاق بالمدرسة.
وخلصت نتائج دراسة «واقع تعليم الأطفال السوريين في لبنان في خضم أزمة اللجوء طويلة الأمد» التي سبقت الإشارة إليها، والتي أجريت على 418 تلميذ، من اللبنانيين واللاجئين السوريين، في 14 مدرسة رسمية موزعة على ست محافظات، إلى أن «ثلث الطلاب اللاجئين أقروا بصعوبة فهم دروس العلوم والرياضيات التي تدرس باللغة الإنكليزية أو الفرنسية حصراً، و16 بالمئة منهم عانى من الدروس المعطاة باللغة العربية كمواد الاجتماعيات».
تظهر الدراسة أيضاً أن 40 بالمئة من الطلاب السوريين يوافقون على أن تعلّم الإنكليزية أو الفرنسية أمر صعب، وأن الفقر يشكّل عائقاً أساسياً لنسبة 50 بالمئة منهم. وأفاد 70 بالمئة بأنهم يعيشون في منازل مكتظة غير مجهزة كما يجب.
إلى ذلك، لا يستطيع عدد من الأطفال السوريين الالتحاق بالمدارس العامة لعجزهم عن دفع تكاليف النقل، أو لعدم تسجيلهم في المدارس القريبة منهم، إذ لا تكمن المشكلة بعدم كفاية المدارس، بل في توزعها غير المتكافئ في المناطق، ما يجبر الأطفال على الالتحاق بمدارس بعيدة وتحمّل تكاليف إضافية، أو الامتناع عن الذهاب بشكلٍ كامل، وخاصةً في منطقة البقاع حيث تكثر المخيمات.
تعلّم مبادئ القراءة والحساب
نتيجة الصعوبات التي جرى المرور عليها، تتجه عائلات سورية إلى منظمات إنسانية ومدنية تؤمن تعليماً غير رسمي، عبر دروس استلحاقية واستدراكية، وتدعم مهاراتهم في اللغة. وتنتشر غالبية المنظمات في مناطق المخيمات، البالغ عددها 32 مخيماً في البقاع وشمال لبنان. غير أن التعليم غير النظامي لا يمنح الشهادات، ولا تسمح وزارة التربية بتعليم أي منهج غير اللبناني من 7 إلى 9 سنوات، وقد سمحت للمنظمات بتعليم أساسيات الحساب ومحو الأمية حتى عمر 9 سنوات فقط، باعتبار أن على هؤلاء الأطفال أن يلتحقوا بالمدارس العامة.
تقول أم أيمن، وهي لاجئة سورية في منطقة البقاع، إنها وضعت أطفالها في صفوف التعليم غير الرسمي، فالمدارس القريبة من المخيم الذي تقطن فيه رفضت تسجيلهم، وإن عليها إرسالهم إلى مدرسة تبعد 25 كيلومتراً ليلتحقوا بالفترة المسائية. بالإضافة إلى عدم إمكانية تحمل أجور النقل، فهي تخشى من إرسالهم هذه المسافة الطويلة، لا سيما أنهم سيعودون في ليالي الشتاء بعد حلول الظلام.
وخلال صيف 2020، أغلقت السلطات اللبنانية 9 مدارس غير مرخّصة تعلّم 5 آلاف طالب سوري، أمّنت الحكومة مقاعد دراسية لـ800 منهم فقط، وذلك لتعذر وجود شواغر بعد انتقال 40 ألف طفل لبناني من المدارس الخاصة إلى الحكومية عام 2020-2021 نتيجة الضغوط الاقتصادية التي تعيشها معظم الأسر اللبنانية. وتكفّلت منظّمتان بتسجيل 3,000 منهم في مدارس خاصة، فيما بقي 1,200 خارج مركب التعليم، بحسب ما تبين منظمة هيومن رايتس ووتش، والتي طالب الدول المانحة بالضغط على لبنان لرفع القيود المفروضة على المنظمات الإنسانية التي توفّر التعليم.
انهيار السباق
في آذار 2021، وهو العام الذي ينتهي فيه RACE2، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إنه، وبعد سنوات من دعم مشروع التعليم للجميع، لا يحصل غالبية الأطفال السوريين على شيء، وتعليمهم في حالة سقوط حر، وخطة الحكومة غامضة، لا سيما إبان الأزمة المالية وجائحة كورونا. فمن جهة، قامت السلطات بصرف رواتب المعلمين بالليرة بسعر أقل بكثير من سعر السوق، ما جعل المدرس يتقاضى أقل من 1 دولار لقاء الحصة التدريسية، بعد أن كانت 12 دولار قبل انهيار الليرة، ما دفع بالمدرسين والمدرّسات للإضراب وانقطاع أغلبهم عن التدريس قرابة خمسة أشهر، وهو ما سبب توقف شبه كامل لتعليم السوريين.
ومن جهة أخرى، تضيف المنظمة أن وزارة التربية والتعليم لم تنشر استراتيجية واضحة حول التعلم عن بعد، كما وعدت في صيف 2020. كما أنها لم تضع خططاً واضحةً لإعادة فتح المدارس. وعلى صعيد الدعم، فقد انخفض التمويل من 1.3 مليار دولار عام 2017 إلى 944 مليون دولار في 2020. وانخفضت المساعدات التعليمية الإجمالية من 24 بالمئة من إجمالي التمويل في مؤتمر بروكسل عام 2018، إلى 9 بالمئة في عامي 2019 و2020.
تقول قمر، وهي طالبة سورية في الصف التاسع في الدوام المسائي، عن توفر الكتب والقرطاسية، إنها وأخوتها كانوا يحصلون في كل عام على كتب جديدة من المدرسة، وحقيبة تحتوي من 4 إلى 8 دفاتر توزع حسب العمر، و9 أقلام حبر ملونة، و3 أقلام رصاص، وآلة حاسبة وأقلام تلوين ودفتري رسم ومساطر وأدوات هندسية، وممحاتين ومبراة. أما في العام الدراسي الفائت، فلم يحصلوا سوى على دفتر للكتابة وآخر للرسم وقلم أزرق.
ويخبرنا طلاب تحدّثنا معهم أنهم اعتمدوا في العام الدراسي الفائت على الكتب المدوّرة، وفي حال تعذر ذلك قام قسمٌ منهم بطباعتها في المكتبات على نفقتهم. من جهتها، قالت الباحثة الاجتماعية سهى اليوسف: «ارتفاع تكاليف النقل بسبب أزمة البنزين في لبنان، وشبه استحالة تطبيق التعلم عن بعد بسبب عدم توفّر مقوّماته لدى أغلب العائلات السورية من إنترنت وكهرباء وهاتف ذكي لكل طفل، وإضراب الأساتذة، جميعها أسباب أدت إلى تسرّب أعداد كبيرة من المدرسة، وشلل شبه كامل للعملية التعليميّة».
ذوو الاحتياجات الخاصة خارج الحسابات
لا تسمح المدارس الرسمية اللبنانية بدخول الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وخاصة إذا كشفت أن لديهم تحدّيات ذهنية. وقالت هيومن رايتس ووتش إن هؤلاء الأطفال مستبعدون بسبب سياسات القبول التمييزية، وعدم وجود ترتيبات تيسيرية معقولة، ونقص الموظفين المدربين تدريباً كافياُ، وعدم وجود برامج تعليمية مخصصة لهم.
تقول أم سهيل، وهي لاجئة سورية تعيش في البقاع، إنها سجلت ابنتها فرح التي تعاني من تحدّيات ذهنية وصعوبة في النطق في إحدى المدارس الرسمية، ولاحظت تغيراً إيجابياً في سلوكها وحالتها النفسية بعد اختلاطها بالأطفال، وتحسناً في نطقها، مع رغبة دائمة لديها بالذهاب إلى المدرسة، فقد كانت تجهز حقيبتها باكراً وتنتظر الحافلة بتشوق عند باب المنزل. ثم تضيف أنه، وبعد مضي شهر على دوام الصغيرة فرح، هاتفهم مدير المدرسة وقال لهم إن عليها ترك المدرسة، شارحاً: «لا ينفع بقاء فرح مع زملائها، لأن ذلك سيؤثر عليهم مستقبلاً».
تحدّثنا إلى 10 عائلات سورية لديها أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، جميعهم أخبرونا أنهم فشلوا في تسجيل أطفالهم في مدارس حكومية، و6 عائلات منهم قالوا إنهم يرسلونهم إلى مراكز تأهيل مجانية مدعومة من منظمات وجمعيات خيرية. إلّا أنهم أقروا أن أبناءهم لا يتلقون أي برنامج تعليمي واضح ومحدد، وهذا البرنامج موجود في مدارس خاصة لا يقدرون على تحمل نفقاتها الضخمة.
الطريق الصعب إلى المدرسة الثانوية
خلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد في بيروت في أيلول (سبتمبر) 2016 للإعلان عن إطلاق مشروع RACE2، قال مدير اليونيسكو في لبنان حمد الهمامي إن من أصل 61 ألف طفل سوري بين 15 و17 عاماً، التحق أقل من 3 بالمئة منهم بالمدارس الثانوية. منوّهاً بأن النسبة قليلة، ويجب بذل مزيد من الجهود لدعم وصولهم إلى التعليم. وبحسب المفوضية الأوروبية لتعليم اللاجئين، التحق أقل من 4 بالمئة من اللاجئين السوريين بالتعليم الثانوي عام 2019.
وتشير آخر إحصائية لوحدة PMU في عام 2020 إلى وجود 4,903 طلاب سوريين في المدارس الثانوية الرسمية، وهم 33 بالمئة ممن نجحوا في امتحانات الشهادة المتوسّطة. وفي أيار(مايو) 2021، قالت هيومن رايتس ووتش إن معدلات الالتحاق بالمدارس الثانوية للسوريين انخفضت بنسبة 1 بالمئة.
وتعزو الباحثة سهى اليوسف هذا التدني في النسبة، التي هي في الأصل ضعيفة جداً، إلى «استفحال الانهيار المالي وانتشار كورونا، وما رافقهما من تفشٍ للفقر، والبعد عن المدارس لمدة عامين بعد اعتماد نظام التعليم عن بعد، ما أدى لتوسع وتعميق الهوة بين الطلاب والتعليم، إذ دفعت عدد من العائلات بأبنائها إلى سوق العمل لتحمل نفقات المنزل، بالإضافة إلى ازدياد حالات الزواج المبكر لفتيات سوريات نتيجة صعوبة انتقالهن إلى الثانويات».
وقالت دراسة مشتركة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمة الأغذية العالمية إن 89 بالمئة من اللاجئين السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وإن 65 بالمئة من أطفالهم المسجلين في المدارس لم يتابعوا تحصيلهم العلمي بعد الانتقال لنظام التعليم عن بعد، ما ضاعف نسبة الأطفال المنخرطين في العمل، التي ارتفعت من 2.6 بالمئة في 2019، إلى 4.4 بالمئة في 2020.
إلى جانب ذلك، تقول عائلاتٌ تحدّثنا إليها إن هناك علاقة سلبية بين التحصيل العلمي والشهادة ولاحقاً الحق في العمل، مما يجعل التعليم استثماراً عديم الجدوى. فالبناء والزراعة والنظافة هي المهن التي يحق للسوريين مزاولتها في لبنان مهما كانت كفاءاتهم العلمية، ما حرم أغلبية اللاجئين من أصحاب الشهادات العلمية من العمل في مجال اختصاصهم. يقول أبو منير، وهو أب لطفلين تركا المدرسة مؤخراً، إن عمل أبنائه ليس لتوفير نفقات المنزل وأولويات العيش فقط، إنما هو اختصار «لفترة دراسة لن تفيدهم». ويشرح ذلك بأنهم «ممنوعون من الوظائف في حال بقوا في لبنان، فالمفوضية والحكومة لا يكفلان لهم حق العمل».
وخلصت الدراسة الصادرة عن مركز الدراسات اللبنانية إلى إنه لا بد من التفكير بالأسباب التي أدت الى خلق معدل متدني للطلاب السوريين في متابعة دراستهم، خاصة أنّ الدولة، ومعها وكالات الأمم المتحدة، اقترحت التعليم الرسمي كبديل أفضل من التعليم غير النظامي.
أيامٌ قليلة تفصل الطلاب السوريين في لبنان عن الالتحاق بمقاعدهم المدرسية في تاريخٍ ما يزال مجهولاً نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، وسط تسرب قسم منهم بسبب الجائحة والأزمة الاقتصادية التي أدت لزيادة معدلات الفقر بين أوساطهم، في حين لم تفلح الخطط والاستراتيجيات التعليمية في الوصول للحد الأدنى المطلوب من المنضوين في العملية التعليمية، وهو 469 ألف طفلة وطفل، التحق منهم 190 ألفاً العام الماضي من أصل أكثر من 660 ألفاً، كما انخفضت نسبة أعداد طلاب الثانوية العامة 1 بالمئة، وهذا وحده يظهر حدود المأساة التعليمية التي يعيشها جيلٌ كاملٌ من اللاجئين الفقراء.