خلال أقل من شهر على بدء نتفلِكس عرض المسلسل الكوري الجنوبي سكويد غيم استطاع المسلسل جمع المجد من أطرافه وفق معايير العرض والمشاهدة التي كرستها المنصة خلال السنوات القليلة الماضية على وجه الخصوص، أولها منافسة أعمال ذات شعبية ضخمة، والتفوق عليها بعدد المشاهدين، والمقصود هنا تفوقه على المسلسل الإسباني لاكازا دي بابل وثانيها الدمج بين التشويق التجاري والرسالة الإنسانية ذات البُعد الفلسفي والفكري، وثالثها وأهمها تحوّله إلى «تريند» قادر على التواجد في مختلف أشكال الأخبار السريعة، من رفع دعاوى ضد منصة عرضه من قبل شركات خدمة إنترنت كون الإقبال على المسلسل أدى إلى ضغط على الشبكات وتخريب مخدّماتها، إلى تحوّل عناصر في المسلسل إلى منتجات تجارية كالألعاب وقطع الحلوى، إلى القصص الإنسانية التي لا تخلو من المبالغة حول نجومه وكاتبه الذي قاسى سنوات طويلة دون أن يجد منتجاً يقتنع بأهمية فكرته.
ما طرحه المسلسل ليس جديداً، وليس ما هو جديد على كلّ حال الشرط الذي تحقق بسببه الأعمال شهرة واسعة، لكن أعمالاً سينمائية سابقة قد تمحورت حول الفكرة ذاتها: لعبةٌ تُعاقَب فيها الخسارة بالموت، من أفلام مصارعي الوحوش التاريخية مروراً بأفلام الأكشن الآسيوية والأميركية، إلى أفلام الديستوبيا الحديثة التي مرّ بعضها بلا أثر يذكر. ما هو جديدٌ في المسلسل نسبياً على كلّ حال هو تماهي الخيال الديستوبي مع الواقع المعاش، فألعاب الموت تجري في مدينة حضارية معاصرة وهي سيول عاصمة كوريا الجنوبية، المدينة المعروفة بتطورها العلمي وطابعها الحضاري واقتصادها الربحي، لتظهر في المسلسل وهي تلفظ المغلوب على أمرهم، للمراهنة على حياتهم سعياً لفرصة الحصول على مبلغ مالي ضخم قادر على استعادة مكانٍ لهم في المجتمع، كبشرٍ نموذجيين قادرين على تسديد ديونهم، ومعالجة مشاكلهم الأسرية، والخوض في مشاريعهم الشخصية.
أصر المسلسل بشكل مباشر فاقع على الربط بين ملاعب الموت تلك بكل ساديتها ودمويتها وبين جحيم الحياة اليومية في مجتمعٍ تحكمه الشركات الكبرى والبنوك والمال، مسقطاً حاجز الرمزية الذي قد يقلّص نسب المتابعة، ويحصر الجمهور بفئة معيّنة، ولم يهادن في اتخاذه هذا المسعى معلناً على نحوٍ مباشر بأنّ الجحيم هو يوميات اللاعبين في النزال اليومي الطبيعي مع أرباب العمل والدائنين والسماسرة والأسواق. على سبيل المثال فإن الحلقة الثانية التي حملت عنوان: «الجحيم» شديد الوضوح والمباشرة لم تتضمن كغيرها مشاهد عمليات القتل الجماعية للخاسرين بالألعاب الساذجة، ولا الرصاص الموجه إلى صدورهم والزجاج المتشظي المستقرّ في أضلاعهم، إنما لعبت دور الاستراحة التي سيقررون فيها المكان الذي قد يتيح النجاة، والمتمثّل في جزيرة الألعاب القاتلة، فعودتهم إلى حياتهم الطبيعية بملء إرادتهم بعد أن أدركوا تماماً ماهية الألعاب القاتلة وأصابهم الرعب منها مصوّتين بالأكثرية للانسحاب منها، هي عودة إلى الجحيم الخالص وحياة اللاجدوى من المحاولة في المدينة التي تحاصرهم بمزيد من الفقر والحاجة والملاحقة القانونية، أما احتمالية الخلاص فتتمثل في تحولهم لأدوات ألعاب طفولية، تحرّكها مجموعة من غريبي الأطوار الذين يستمتعون بمشهد موت اللاعبين الذين لا يتقنون شد الحبل أو رمي الكرات الزجاجية أو تفريغ أقراص البسكويت. احتمال النجاة يقل عن نسبة 2 بالألف في هذه الملاعب، أما الحياة الطبيعية خارجها فهي جحيم كامل بنسبة مئة بالمئة.
فرضيّة وجود منتصر وحيد تجعل للمحاولة معنى، لأنها تعطي اليائسين الأمل مهما كانت النسبة ضئيلة، وهي فرضية قديمة الحضور في السينما والفنون تاريخياً، بشكل مباشر ورمزي، ففي فيلم ذا هانغر غيمز المنتج سنة 2012، والذي اتُّهم المسلسل الجديد باستنساخه، يقول القائد المشرف على ألعاب الموت «لمَ نحتاج إلى منتصر؟ يمكننا قتل مجموعة سكان المقاطعة وتخويف السكان جميعهم.. لدينا منتصر لأجل الأمل، فهو الشعور الوحيد الأقوى من الخوف».
بشكل مباشر أيضاً يسخّر العمل إمكانياته الفنية، ليصممّ مساحات ملّونة زاهية، وقلعة محكومة بأحدث تقنيات النظم الذكيّة، لا تنتج في النهاية سوى الموت كمشهدّية مسلّية لأصحاب السلطة والمال المتخفّين خلف أقنعة، لتكتمل عناصر مشهد يقدمه المسلسل على أنّه محاكاة للحضارة الإنسانية بشكلها الحالي، بكل ما فيها من حداثة وقدرة على صناعة الجمال والراحة، ورقمنة الحياة اليومية وإخضاعها لسلطة الآلة، وتنظيمها بأجهزة لا تخطئ، لكنها في النهاية تنتج الموت بأشكال متعددة، من حروب وصراعات مباشرة، إلى إخضاع الأكثرية التي لا تملك لسلطة الأقلية المالكة، إلى التغير المناخي وتدمير الإنسان للكوكب بالتدريج.. هذه المباشرة المكرورة نفسها، والتي لم تعد مقنعة فنياً اليوم لجمهورِ مشاهدةٍ محترف، قد تلاقي شعبيةً كبيرة عندما تتلوّن بفائض من الدم والرصاص والسكاكين، حتى وإن تعثّرت في الرسالة التي تريد إيصالها، وباتت أقرب إلى كونها فيلم أكشن متقن الصناعة، يتضمن مشاهد عنف قادرة بفظاعتها على جذب فئات متعددة من المشاهدين.
العنف أداةٌ فعالةُ في الجذب غالباً في الأعمال الفنية، ولطالما كانت هذه الجاذبية مساحةً للتفسير والبحث. قبل سكويد غيمز مرّت مئات الأفلام والمسلسلات التي طرحت هذا السؤال: «لماذا نحب المشاهد العنيفة؟» تعددت الأجوبة من قبل نقّاد ومحللين وفلاسفة، ما بين من يرى في ذلك تحدياً شخصياً يمكن للإنسان فيه اختبار قوته وصموده بل وعواطفه، ومن يرى أن في ذلك تقبلاً للعنف، كونه تجربة للخوف في مكان آمن، بمعنى أن المشاهد يتعرّض لمشاعر الخوف، مع إدراكه بحتمية خلاصه، فما يحدث من عنف إنما هو افتراضي أمامه لا أكثر، وصولاً إلى عالم النفس البروفيسور باري غونتر الذي يرى أن إعجابنا بالموت إنما هو محاولة «للتأقلم مع فنائنا». احترافية تنفيذ مشاهد العنف هو بالضبط أول نقاط القوة في مسلسل سكويد غيم، إن لم تكن الوحيدة. موتٌ محبوك بأيدي محترفين في الكتابة والتصوير والإخراج، موت جمعي وفردي، واضح واختياري، مشبع بالدم القاني على التراب الأبيض أو الزجاج، وفي ملاعب الأطفال، نعوش جميلة ينقلها إلى الأفران أفراد جامدو العواطف، منفذون للأوامر، لولا حركاتهم الطبيعية وأصواتهم الإنسانية لظننت أن خلف هذه الأقنعة والبدلات روبوتات.
يجاهد المسلسل في محاولة كسر النمطية، على الأقل لئلا يتم تصنيفه تحت لائحة الإنتاجات الآسيوية المتشابهة والكثيفة، والتي تمشي بخواتيمها نحو مشاهد متوقّعة، متأثرةً بشكل أساسي بسينما بوليود التي طغت لفترة طويلة على أشكال الإنتاج الفني في الهند وفي دول أخرى من آسيا بينها كوريا الجنوبية، متحولةً إلى «ستيريوتايب» ظالم، غيّب أعمالاً ذات سوية عالية خلف سلطته وانتشاره والتصاقه بأذهان الجمهور. إلا أن المسلسل لم ينجح تماماً في مخطط الهروب هذا، لتأتي الخواتيم صريعة الإشكالية ذاتها، حيث مهّد لها باستسهال بناء تكوييات كثيرة في المسلسل، كدخول عنصر الشرطة بسهولة إلى قلب جزيرة الألعاب وقدرته على تقمّص شخصية أحد عناصر الأمن فيها، ومن ثم إدراكه أن مدير جزيرة الألعاب تلك هو أخوه الذي كان يبحث عنه. وصولاً إلى المشهد الأخير الذي نعرف فيه أن صاحب المنشأة كلها هو الرجل المسن الذي كان يحمل رقم (1) بين اللاعبين.
يخفي الانتشار السريع للمسلسل، والانسياق الحالي خلف ركب المشاهدة السريعة على طريقة نتفليكس، مثالب كثيرة في العمل، ونقاطاً يمكن إخضاعها للنقاش النقدي، كما يخلق هذا الانتشار الفرصة للحديث عن السوية العالية للإنتاج السينمائي والتلفزيوني في كوريا الجنوبية، وحضور هذه البلاد القوي في سوق الإنتاجات المرئية في العالم، وهي حقيقة لا يحتاج مسلسل سكويد غيم لإثباتها خاصة في السنوات العشر الأخيرة، فقصائد كِم كي دوك السينمائية، وعوالم بونغ جون هو الإنسانية القاسية الناقدة للنظام الطبقي في كوريا التي أثرت بشكلٍ واضح على صنّاع سكويد غيم، كانت السبّاقة وصاحبة البصمة الأقوى والأكثر تأثيراً وخلوداً في ذاكرة الفن في العالم، التي قد لا تحتفظ بـسكويد غيم لفترة طويلة خاصة إذا تسرّعت نتفليكس باتخاذ قرار إنتاج مواسم قادمة، ليخوض الطريق إلى الهاوية الذي خاضه قبله لا كازا دي بابل بفعل فائض النجاح التجاري.