هناك علاقة سببية بديهية بين الحرب وفقدان الناس لمساكنهم وبروز الحاجة إلى مساكن بديلة، لكن التفاعل مع هذه الحاجة يحتاج من التفصيل ما يوضح طرق الاستجابة المحلية والدولية، وما توفره الحالة السورية من إمكانيات وما تضعه من عوائق.
ولأن شكل الاستجابة، أياً كان، سيتأثر بواقع البناء في سوريا ومستوى تقدمه التقني وشكل حضور العمارة التراثية فيه، فلابد من تفقّد أساليب البناء قبل الحرب، وهي كلاسيكية ومتأخرة جداً عما توصلت إليه تقنيات البناء العالمية، وهذه حالها أيضاً بعد الحرب، إذ لم تدخل تقنياتٌ جديدةٌ بالمعنى الحقيقي للتقنية. كما اعتمدتْ أساليب خفض التكلفة على حساب الجودة والاستدامة، بدلاً من استعمال تقنيات جديدة توفّر عاملي الجودة والاستدامة معاً.
استُخدمت الخيام القماشية على نطاقٍ واسعٍ جداً في البداية لتلبية الحاجة الطارئة للمساكن، ثم ما لبثت هذه الخيام أن تطورت، وذلك بالانتقال من استعمال هياكل معدنية وعزل حراري، إلى تجارب استخدام خيام الكاوتشوك أو تلك المصنوعة من ألواح البولي أوليفين (ألياف صناعية مُجهزة من مواد عضوية) القابلة لإعادة التدوير، كما في تلك الخيام التي صممتها شركة إيكيا في مشروعها مأوى أفضل، المقدم للنازحين السوريين واللاجئين في دول الجوار. وقد صممت خيام إيكيا عاكسةً للأشعة فوق البنفسجية، ومُقاومةً للمياه والحرائق، وبقدرة ثبات عالية قادرة على تحمل الرياح العاصفة، كما زودت بلوح طاقة شمسية لتزويدها بـكهرباء للإنارة.
كما ظلت الأبنية البيتونية حاضرةً على الدوام، وإن كانت قليلةً في البداية نتيجة ارتفاع تكلفتها وطبيعة استجابة المنظمات، المُخصصة لتلبية حاجة أكبر عدد ممكن من النازحين في خيام قليلة التكلفة وسريعة التشييد. وجرى استعمال الأبنية البيتونية بعدة طرق، فمنها ما هو بيتوني بشكل كامل، ومنها ما يُستخدم فيه الشوادر البلاستيكية للأسقف، بهدف خفض التكلفة عن طريق الاستغناء عن حديد التسليح اللازم للأسطح البيتونية. واستخدمت أساليب أخرى لخفض التكلفة، مثل رصف الكتل السكنية إلى بعضها بشكلٍ يحقق أكبر قدر من الجدران المشتركة، بغية خفض كمية البلوك الاسمنتي اللازم لبناء الجدران.
وتعد بيوت القناطر (البلوكوس) أبرز طرق البناء الجديدة التي يجري استعمالها كحلٍّ يوفر مسكن منخفض التكلفة، ولكنها مازالت قليلة الانتشار. تُبنى بيوت القناطر بالحجر الإسمنتي (تسمياته الشعبية: قرميد، بلوك، خفان) الذي يوضع على قالب حديدي يصنع محلياً، وبشكل مخصص، لتشييد هذه البيوت. ويبنى الحجر على القالب ويستعمل الاسمنت كمادة ربط بين الأحجار(مونة)، وعند انتهاء البناء يُسحب القالب وتبقى القنطرة قائمةً على شكل نصف أسطوانة قاعدتها على الأرض. يوفر البناء بهذه الطريقة كلفة السطح البيتوني، وهو أكثر أجزاء البناء تكلفةً، غير أنه يحرم الساكنين الاستفادةَ من السطح واستخداماته المتنوعة.
استُعملت أيضا مادة الساندوتش بانل (sandwich panel) على نطاق واسع لإنشاء مخيمات بأكملها، بما فيها من محال تجارية ومستودعات. وهذه المادة عبارة عن ألواح حديد مُجلفن (محمي بطبقة طلاء من المواد المانعة للصدأ) محشوة بمادة عازلة توفّر عزلاً صوتياً وحرارياً جيداً، وتتميز بخفة وزنها ومقاومتها لعوامل المناخ. كما يسهل نقل المنشآت المصنوعة من هذه المادة بسهولة من مكانٍ لآخر حسب الحاجة.
تستورد المواد المُستخدمة في كل ما سبق ذكره من خيم قماشية وبيوت بيتونية وتلك المبنية من الساندوتش بانل، والمحلي منها ضئيلٌ جداً، وهي في العموم مساكن غير مستدامة وجماليتها منخفضة لأدنى مستوى.
إعادة استخدام مخلفات الأبنية (الأنقاض)
جرت إعادة استخدام أنقاض المنازل المدمرة التي خلفتها الحرب في عمليات إعادة البناء، وذلك بطرق مختلفة: مثل استخراج حديد التسليح والأحجار الكلسية والبازلتية، التي غالباً ما يمكن إعادة استعمالها في البناء. أما باقي الأنقاض الصلبة، فتُطحن وتستخدم في خلطات الطوب الاسمنتي والطوب الطيني.
لكن أغلب الأنقاض لم يُستفد منها حتى الآن على النحو الأمثل، لتعذر عمليات إعادة الإعمار وما يرافقها من برامج إعادة استعمال المواد التي توفرها الأنقاض، وكذلك لأن مشاريع الإيواء التي يتم تشييدها تقع في مناطق ريفية بعيدة ومعزولة عن المناطق التي تحوي أنقاض مساكن مُهدمة.
وعلى مستوى مواد البناء المحلية، فيوجد العديد من التجارب الصغيرة غير المدعومة لإنتاج الطوب الإسمنتي والطيني من مخلفات أنقاض المباني، وكذلك استخدام القصب في تدعيم المباني الطينية كبديل عن حديد التسليح.
عودة أنماط مندثرة من المساكن
كانت كلفة تشييد المباني السكنية في سوريا مرتفعةً قبل الحرب، وفي المدينة أكثر مما هي عليه في الريف (للتفاوت الكبير في أسعار الأراضي)، ولم تكن الكُلف، عموماً، متناسبةً مع متوسط دخل السوريين. وتفاقمت هذه الحالة بعد الحرب وما أحدثته من دمار في المساكن ونزوح من المدن نحو القرى والبلدات الصغيرة، وكذلك النزوح المعاكس إلى المدن، فضلاً عن الحالة المادية للسوريين التي ساءت كثيراً. وأوجدت هذه العوامل حاجةً مُلحةً للبحث عن حلول ملائمة اقتصادياً لمشاكل الإسكان.
ولأن جميع جهود الدعم الإنساني ركزت على تلبية الحد الأدنى من متطلبات البقاء، فقد كانت أغلبية مشاريع الاستجابة للإيواء ريفية الموقع (لانخفاض كلفة البناء في الريف إلى الحد الأدنى)، دون أن تكون مساكن الإيواء إياها ذات طابع ريفي. فيما حرمت المدن، بشكلٍ شبه كامل، نظراً لطبيعتها الخاصة وبعض العوامل السياسية وارتفاع أسعار الأراضي فيها، من جهود الإعمار، وكذلك من عودة أنماط وأساليب بناء قديمة كانت قد اندثرت.
وبالرغم من أن حركة العمارة في الريف جيدة، إلا أن الدراسات والمشاريع الإسكانية التي اهتمت بالعمارة الريفية (الممكنة ريفياً) كحل ممكن لتلبية الحاجة المتزايدة للمساكن في سوريا قليلة، رغم ما أظهرته الدراسات التاريخية من أن الهجرة المؤقتة لسكان المدينة إلى المناطق الريفية كانت ضروريةً خلال فترات إعادة الإعمار في المدن الكبيرة، بسبب الحروب أو الزلازل.
إنٌ ما يجري تنفيذه من عمارة ريفية، بأساليب عادت للحياة بسبب ضغط الحالة الاقتصادية على أرض الواقع، تغلب عليه صفة الفردية، وهي مشاريع صغيرة جداً موّلها الأهالي، فيما خاضت مشاريع المنظمات والحكومات العمارة الريفية البديلة بتجارب خجولة، بينما ذهبت في الغالب في اتجاه آخر غير مستدام.
من مفارقات الحديث والتراثي أنْ استعان أصحاب المساكن عند تشييدها بما يوفره اليوتيوب من مقاطع فيديو تشرح كيفية البناء، وما يلزمها من أدوات ومواد وطرق تشكيل نماذج جديدة غير معهودة محلياً. وأنتج المحتوى الجيد، المتوفر من مصادر مصرية ويمنية ومغربية، أشكالاً جديدةً من المنازل الريفية عاينتها شخصياً في أكثر من منطقة في سوريا.
لماذا العمارة الريفية؟
لعلّ تقليل نفقات تشييد المساكن، دون أن يكون ذلك على حساب الجودة والراحة والجمالية، هو أكثر ما توفّره العمارة الريفية المعتمدة على مصادر محلية لموادها الأولية. كما أنها تساعد الناس على الاندماج في محيطها، وتولّد فرص عمل مضاعفة للسكان المحليين في مراحل جمع المواد والاتجار بها وصولاً إلى مختلف مراحل التشييد.
وقبل الانتقال إلى الأنماط المعمارية المندثرة، والتي عادت للظهور تحت ضغط الظروف الاقتصادية والحاجة الاستثنائية، يجب ذكر أهم مظاهرها بكافة أشكالها، وهو البناء على الأراضي الصخرية المرتفعة لتوفير كلفة بناء أساسات ولدرء خطر السيول والطوفان (ولأن أغلبها أراضٍ مشاع)، الأمر الذي وفّر، بقدر ما يمكنه التوفير، أراضي زراعية كان يمكن لكتل الإسكان التقليدية اجتياحها في ظروفٍ اقتصاديةٍ أفضل.
كل أنماط وأساليب البناء التي تتوفر موادها محليا تعود، أو مرشحة للعودة من الطينية إلى الطينية الحجرية والطينية الحجرية الاسمنتية. نعم، الإسمنت يمكن استخدامه كعامل قوة ومتانة في الأبنية الطينية بكل تشكيلاتها، وهنا يجب التوقف قليلاً عند صفة «طبيعية» كي لا يبقى استخدامها ضبابياً عند الكلام عن العمارة الريفية، فكل المواد ذات أصل طبيعي، لكن المقصود بها هنا: ما يحتاج منها إلى أقل ما يمكن من عمليات صناعية لكي تصبح جاهزة للاستخدام في البناء.
بشكل واضح وبسيط، الحديد والإسمنت مواد مستوردة ولها ضرر بيئي كبير، وما تسعى إليه العمارة الريفية هو التقليل قدر المستطاع من الحاجة إليهما. إن أغلبية ما يجري استعادته من أساليب ومواد بناء كانت قد اندثرت ليس بيننا وبينها انقطاع زمني كامل، فالعمارة الطينية والحجرية، بمختلف أشكالها، لم ينقطع استخدامها بشكلٍ كامل، وكانت ولاتزال تستعمل في الكثير من الأرياف السورية. كانت قد تراجعت كثيراً، والآن تحت ضغط الحاجة تُستأنف.
ولاستعراض هذه الأشكال المُستعادة من العمارة، نبدأ بعمارة الطين، فهي أبرز ما جرى استعادته من أنماط البناء في بعض المناطق، واستئنافه في مناطق أخرى. ومن ثم سننتقل إلى البناء الحجري وأشكال أخرى من العمارة.
العمارة الطينية
منذ أن مدّ الإنسان يده إلى التراب وصنع منه الطين، شكلت هذه الخطوة إنجازاً مهماً في تاريخ البشرية وتجربة الإنسان الأولى نحو الإبداع والتصنيع. ويعتبر الطين مادة بناءٍ شعبية عبر التاريخ، ومع مرور الوقت خضع استعمالها لتطورت تقنية مختلفة على مستوى آلية التصنيع، بدءاً من كتل اللبن المجففة بالشمس، إلى الطوب المجفف في الأفران، والمضغوط في المكابس الميكانيكية. وكذلك الأمر على مستوى بنيتها، حيث غالباً ما يتم خلط التربة بمواد أخرى، مثل التبن وغبار المحاجر والرمل والحصى من المحاجر بهدف الوصول إلى مزيج مناسب. كما يتم إضافة مواد أخرى مثل الأسمنت أو الألياف البلاستيكية إلى خليط التربة، من أجل تحقيق قوة ضغط أعلى ومتانة أفضل.
ورافق تطور تقنيات استخدام الطين تطورٌ آخر في شكل الإنشاءات الطينية، فما توفره الجدران الترابية المصنوعة من اللبن المجفف في الشمس مختلفٌ في الشكل والبنية عما توفره تلك المصنوعة من الطوب المجفف في الأفران، وذلك لأسباب متعلقة بالصلابة ومقاومة الماء. ولا تزال هذه التقنيات، حتى اليوم، قيد التحسين في كل من آلية الإنتاج وجودة المنتج.
يعتبر الطين مادةً طبيعيةً ومتوازنةً بيئياً، وهي متوفرة في معظم المناطق بأسعار رخيصة، ويمكنها أن تقدم إنتاجاً مباشراً وسريعاً، فلا يحتاج البناء به إلا لبعض القوالب والأدوات. وتوفر الأبنية الطينية أيضاً مناخاً داخلياً صحيّاً، فضلا عن توفير الطاقة المستهلكة في التبريد والتدفئة، وذلك لتميّزه بالقدرة على تخزين الحرارة والبرودة. ومن نافل القول إن المباني الطينية تتمتع بالبرودة صيفاً وبالدفء شتاءً. وللون الأبيض (الحوار) الذي تُكسى به الجدران الخارجية دورٌ هامٌّ في عكس أشعة الشمس، مما يقلل من كمية الطاقة اللازمة للتبريد أثناء الصيف، ناهيك عن أن استخدام الطين يسهم في الحد من التلوث وإنتاج النفايات خلال جميع مراحل تصنيعه. وفي حال هدم المبنى وإعادة بنائه، أو حتى في حال هجره وتداعيه، فهو في نهاية المطاف آتٍ من الأرض ويعود إليها. الأبنية الطينية مأمونة غير قابلة للاحتراق، ومتلائمة مع المناخ، وغير ضارة بالبيئة، كما تساعد على الحد من استنزاف الموارد الطبيعية.
كما تعيد العمارة الطينية تشكيل علاقة طبيعية بين الإنسان والعمارة، والتي تتمثل في إنتاج أبنية بحجوم وأشكال وفنون وتراث نابع من الإنسان، وتتناغم مع مقياسه المحلي لا المقياس العالمي. ورغم انتهاء المساعدات الأهلية الجماعية «الفزعات» في عملية البناء كما كانت سابقاً، وحلول الورشات مدفوعة الأجر محلها، إلا أنها تبقى أبنية أكثر اجتماعيةً من حيث إنها تزيد من مشاركة اليد العاملة المحلية في كامل مراحلها. وتلاحظ المشاركة النسائية بنسب مرتفعة في تشييد المباني الريفية، وهذه ليست مشاركةً طارئة، بل تاريخية تتعلق بشكل العلاقات الاجتماعية وطرق توزيع وتقاسم الأعمال في الريف.
طريقة البناء
يتم البناء بالطين عن طريق خلط التراب مع القش (تبن القمح أو الشعير الذي يستعمل كعامل ربط وتماسك بين حبيبات التراب وباقي مكونات الطوب الطيني)، ويوضع الخليط في قالب مكون من أربع قطع من الخشب على شكل مستطيل (أصبح الآن من الحديد)، وهو مفتوح من الأعلى والأسفل، ويوضع الطين المخلوط بالتبن بداخله، ثم يرفع القالب الخشبي ليأخذ الطين الموضوع شكلاً ومقاساً. وغالباً ما تُبنى البيوت الطينية على أساسات حجرية بارتفاع مدماك أو أكثر، وتُشيّد الجدران فوقها بموجب المخطط الذي وضع للبناء.
وتتنوع أشكال أسقف الأبنية الطينية تبعاً لتوفر مواد البناء، فالأسطح المستوية ممكنة عند توفر أعمدة خشبية بأطوال مناسبة، وغالباً ما تسيطر القبة البسيطة بقاعدتها المنخفضة، إذ تبدأ القبة بقاعدة مربعة منخفضة وقريبة من مستوى الأرض، لتنتقل بسلاسة إلى الشكل الدائري، وتنتهي بحجر مدبب يسمى «الطنطورة». وتتمتع هذه القباب ببنية إنشائية جيدة، إضافةً إلى احتوائها على درجات حجرية من الخارج تتيح إمكانية الوصول إليها بهدف إجراء الترميم والصيانة.
وتعد القباب حلاً فريداً لمواجهة المناخ الحار، فهي أقل امتصاصاً للحرارة بالمقارنة مع الأسطح المستوية. كما يساعد شكلها الدائري على التخلص من الحرارة، التي خُزِّنت في النهار، خلال ساعات الليل. كما يبقي عدم انتظام توزع الإشعاع الشمسي على كامل سطحها جزءاً من القبَّة مظللًا دائمًا، مما يساهم في تخفيض درجة حرارة الفراغ تحت القبة. وتضفي القبة أيضاً مزيداً من الفراغ الداخلي، مما يدفع الهواء الساخن ليتجمع في الأعلى، ويبقى الهواء المعتدل الحرارة في القسم السفلي من الفراغ.
من الداخل، تُطلى البيوت الطينية بالكلس المطفأ، المعروف بثاني أكسيد الكالسيوم والناتج عن خلط أحجار أكسيد الكالسيوم مع الماء، إما صرفا أو مخلوطًا بخيوط القنب التي تستخدم كعامل ربط، كما في القش المستعمل في الطوب الطيني الذي ورد ذكره سابقاً. ويمكن أن تطلى البيون الطينية من الخارج أيضاً، إما بالأسمنت، أو بالكلس المطفأ، فأحجار أكسيد الكالسيوم هي مادة أخرى متوفرة بكثرة في الأراضي السورية.
وتسمح سماكة جدران البيوت الطينية بإنشاء زخارف داخلية وفتحات وظيفية، كالخزانات الجدارية ومثل تلك التي تسمى بـ«الكوّة»، والتي تقوم بمهمة الرفوف الجدارية.
البناء الحجري
كما ذُكر آنفاً، لا يمكن القول إن البناء بالحجارة الطبيعية أسلوب بناء عاد إلى الحياة، ذلك أن العمل به لم ينقطع، وخاصةً في المناطق الريفية بعيداً عن غابات الخرسانات المسلحة في المدن. ولكنه بدأ يزداد مع ارتفاع أسعار مواد البناء المستوردة كالأسمنت والحديد، وارتفاع تكاليف استخراج المواد المحلية كالرمل المستخدم في أعمال الخلطة الإسمنتية واستخداماتها المختلفة في عمليات البناء والكساء.
ولا شك بأن أحجار البناء، بنوعيها الأكثر انتشاراً في سوريا الكلسية والبازلتية، هي مواد بناء جيدة بفضل قساوتها ومقاومتها لنفاذية الماء، وكذلك لكونها تعتبر مادة بناء وتشطيب نهائي؛ أي أنها لا تحتاج إلى أعمال إكساء خارجي كالورقة الإسمنتية المستعملة مع البيوت المبنية من الطوب الإسمنتي. وتستخرج الاحجار اللازمة للبناء في أحيان كثيرة من ذات الموقع الذي سيُشيد عليه المسكن.
وهناك أنماط هجينة من البيوت الحجرية، فمنها ما يستعمل الطين في بنائها كمادة للربط بين الحجارة، ومنها ما يستعمل فيها الأسمنت لهذا الغرض. كما تُستخدم فيها القبب الطينية والحجرية، ومنها ما له أسقف مستوية متنوعة بين الخشبية والبيتونية. وحالياً هناك بيوت حجرية تُسقف بالشوادر التي تستند إلى شبكة من الأسلاك المعدنية أو إلى قساطل حديدية يمكن أن تعطي السقف شكل الجملون.
ويمكن للبيوت الحجرية أن تُكسى من الداخل، كما هو حال القبب، بالكلس الأبيض المطفأ. وهناك مَنْ يستخدم الأسمنت في اعمال لياسة الأبنية الطينية، وهذا يرفع التكلفة، لكن ربما يجب علينا أن نكون متسامحين مع الأسمنت في كثيرٍ من المواضع لضمان متانةٍ تسمح باقتناع السكان بجدوى البيوت الطينية.
ويعد تشييد البيوت الطينية وصيانتها الدورية عملية موسمية لا تصلح في كل فصول السنة، والصيف هو فصلها الأنسب لارتفاع درجات الحرارة اللازمة لتجفيف الطوب وأعمال اللياسة. ومن حيث إنها ترابية وموسمية، تبدو المباني الطينية وكأنها عملية زراعة صيفية.
خزانات المياه الأرضية والمواقد
إن بناء خزانات المياه الأرضية ليس جديداً في سوريا، ولكن مع تدمير شبكات المياه المحلية ازداد الطلب على بنائها لتخزين المياه بكميات أكبر من تلك التي توفرها الخزانات البلاستيكية والحديدية، بالإضافة إلى أفضليتها من حيث عمرها الافتراضي. هناك تجربة جيدة في عمل المنظمات الإنسانية العاملة في سوريا في الاستثمار في بناء خزانات أرضية لتجميع مياه الأمطار واستخدامها للري خلال فصل الصيف، مع مجموعة حلول إنشائية لتعويض غياب المشاريع المائية الحكومية.
كما أن بناء المواقد من الحجر، أو الطين، أو من كليهما معاً، واحدةٌ من أنماط البناء الوظيفية التي عادت، وذلك بعد ارتفاع ثمن الغاز وفقدانه في كثير من الأوقات. وغالباً ما تُبنى المواقد في غرف طينية أو حجرية منفصلة عن كتلة البناء الأساسي، ويستخدم في بنائها الطوب الطيني الناري والأحجار البازلتية.
عودة الكهوف والحظائر الطينية
تنتشر الكهوف والمغاور في مناطق مختلفة من سوريا، وهناك الكثير منها في ريفي حلب وإدلب وجبال الساحل السوري واللجاة في الجنوب. ومنها ما هو طبيعي، ومنها ما هو محفور يدوياً من العهد الروماني، وبعضها جرت توسعته في العهد العثماني، وبعضها جديدٌ جرى حفره خلال سنوات الثورة. وقد أصبحت هذه الكهوف والمغاور مكان سكنٍ آمن لكثير من العائلات التي هربت من قصف النظام.
ولكون المواشي والدواجن تحتل جزءاً هاماً من الحياة الريفية، فقد حصلت، إلى جانب البيوت السكنية والمحال التجارية، على حظائر ومستودعات لطعامها من الطين والحجارة، بهدف تزويد المنزل ببعض حاجياته اليومية من الغذاء. كما بُنيت بيوت النحل «الكواير» من الطين والحجارة، تعويضاً عن تلك البيوت الخشبية مرتفعة التكلفة.
مداخل التطوير
لقد ثبت أنه من المستحيل تلبية الطلب على الإسكان بمواد البناء «الكلاسيكية»، مثل الطوب الإسمنتي والخرسانة وحديد التسليح، إذا لم يتم استخدام مواد طبيعية. الطين متوفر محلياً بكثرة في كل مكان، ورخيص، ومع ذلك فإن له بعض المشاكل مثل فقدان القوة الإنشائية بسبب التشبع بفعل الرطوبة، وحساسيته للتآكل بفعل المطر، وبشكل أعم بما يتعلق بمتانته. ومع ذلك، يمكن حل هذه المشاكل إلى حد كبير من خلال اتخاذ تدابير معمارية مناسبة: مثل الأسقف المائلة والأساسات المعزولة والتصريف الجيد للمياه.
ومن التجارب الجيدة، والتي يمكن اتباعها في عملية تقليل سريان الرطوبة في أسس المباني الطينية صعوداً إلى الجدران، هي فصل أسس المبنى عن جدرانه، وذلك بوضع مادة عازلة من الأسفلت (الزفت) أو البيتومين، وهو ما يحول دون صعود الرطوبة من الأسس إلى الجدران.
تطوير المعدات
لا تزال الأدوات المستخدمة في عمليات البناء الطيني والحجري قديمة جداً، ولم تحصل على أية تحديثات تذكر. لذا فإن من شأن إدخال تقنيات جديدة من قوالب وأدوات ضغط وصقل أن تعطينا أبنية بمواصفات أفضل، وبأشكال جديدة تلبي كافة حاجات الساكنين الوظيفية والجمالية. فعلى سبيل المثال، استخدام مواد إضافية في خلطات الطوب الطيني، مثل السليكون بكميات منخفضة، تجعل الإنشاءات أقل عرضةً لاختراق المياه. واستخدام بوليمرات الأكريليك (وهي مادة عازلة مقاومة للرطوبة والأحماض الكيميائية) في بناء جدران الأماكن التي تتطلب تنظيفاً متكرراً، مثل المطبخ أو الحمام، يعد أمراً هاماً في حمايتها.
وإن مراعاة الجوانب الجمالية ضروري جداً في الأبنية الريفية المقدمة كبديل رخيص وبيئي للنازحين، مما لها من أثر نفسي على سكانها بحيث يساعدهم في تقبلها، وفي الاستثمار المادي في صيانتها وتطويرها مستقبلاً. وللحصول على نتائج مرضية من العمارة الريفية البديلة، لابد من مراعاة وجود دراسة وتخطيط جيدين للمواقع العامة التي تبنى فيها، وضمان تخديمها بكل ما يلزم، فالأبنية الطينية في الأراضي غير المرصوفة وغير المجهزة بتصريف للمياه تحولها إلى كارثة على ساكنيها.
يجدر بنا التذكير بأنه لا يوجد ضابطة بناء سورية تُنظم تشييد الأبنية الطينية، ولا شك بأن وجودها ضروري لتنظيم كافة أعمال العمارة الطينية: بدءاً من اختيار التربة الصالحة للبناء، ووصولاً إلى أساليب البناء وطرقه، والعزل المائي والحراري. ولعل غياب هذه الضابطة هو ما دفع بالكثير من المنظمات الإنسانية العاملة في قطاع الإيواء في سوريا بعيداً عن الخوض في هذه التجربة المعمارية.
ما تمّ تنفيذه: التجارب السورية في هذا المجال
جرّب السوريون بعد دمار منازلهم ونزوحهم تشييدَ منازل تؤويهم بكل الطرق الممكنة، وبكل المواد المتوفرة. وكان تشييد المأوى الجديد، في كثير من الأحيان، قراراً سياسياً وإعلاناً عن رفض العودة والعيش تحت حكم النظام. يبني النازحون منازلهم بأيديهم، وبما توفر، وفي أصعب الظروف المعيشية، لأن ما ينتظرهم مجهول، ومسؤوليات الحياة والأسرة ثقيلةً ثقلَ الصخور التي يبنون بها، كما تقول إحدى النساء التي قامت ببناء منزلٍ طيني لأطفالها.
لكنّ هناك ما أعاق قدرة الأهالي على المساهمة في بناء مساكنهم الجديدة، وهي بعض آليات عمل المنظمات العاملة في قطاع الإسكان، وابتعادها عن دراسة وتنفيذ مشاريع إيواء بمشاركة محتاجيها. فقد ركن الأهالي لفكرة الخيمة الجاهزة أو المسكن البيتوني النموذجي التي تقدمه المنظمات، بدل تعلم وتطوير أساليب البناء المحلية التي يعرفونها. وثمة آلية أخرى تتبعها المنظمات الإغاثية أعاقت في كثير من الأحيان قرار الأهالي النازحين في تشييد منازلهم الطينية أو الحجرية أو البيتونية، وهي اعتماد آلية توزيع مساعدات تعتمد على نوع المسكن، فمن يحصل على مساعدات في الخيم قد لا يحصل عليها بسبب تحوله لمسكن يوحي بتحسن حالته المادية، والتي معها لا يعود بحاجة للمساعدات الإغاثية بحسب ما تفترضه المنظمات.
تم تنفيذ الكثير من تجارب البناء الريفي أو العمارة الطينية والحجرية بكافة أنواعها خلال سنوات الحرب، وبُنيت المنازل والمساجد وتصوينات البيوت والمزارع. ورغم ما تتسم به من عشوائية، إلا أنها تجارب واعدة لبت حاجات الكثيرين على كامل الجغرافيا السورية، وباختلاف المواد الممكن توفرها محلياً، من البناء بالحجارة البازلتية في السويداء الى الحجرية الكلسية في دير الزور وحلب وإدلب، مروراً بتجارب بناء طينية في الغوطة.
إن السبب الرئيسي لعودة العمارة الطينية والحجرية ليس نوبة حنينٍ عاطفي إلى الماضي، بل بحثاً فيها عن حلول ملائمة لمشاكل استثنائية خلفتها الحرب من أزمات مالية وطاقية، ومن ارتفاع في تكاليف البناء التقليدية (الخرسانة المسلحة)، فالهدف من العمارة الطينية هو الاستفادة مما توفره في المواد، وما توفره من فرص عمل لليد العاملة المحلية، ليس فقط في تشييد المباني، وإنما في تأمين المواد الأولية للبناء. وكل ذلك من أجل مساعدة الانسان في امتلاك بيته أولاً، وليعود لمحيطه الطبيعي ثانياً وفق علاقة تفاعلية بين الإنسان ومسكنه ومحيطه الطبيعي. وإن تقليص حجم اعتماد المجتمعات المحلية على المواد المستوردة، وتوفير مدخراتها المالية أو توجيه ما يُقدم لها في الكوارث من مساعدات نحو أعمال أكثر استدامة (الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح)، تكون حصيلتها المتراكمة من الخبرة مع الوقت عدمُ الحاجة إلى المساعدات.
قد يبدو العامل البيئي مهملاً، ولكن مع تفاقم المشاكل البيئية وزيادة التكلفة المادية لمواد البناء الحديثة، أصبحت ضرورة البحث عن مواد طبيعية كبديل في عملية البناء تزداد يوماً بعد يوم. ففي زمننا اليوم، أصبحت البيوت الطينية والحجرية الطبيعية تفرض نفسها كحل ممكن لـ«فوضى العمران»، باعتبارها أكثر ملائمةً لمناخ منطقتنا، إذ يعتبر البناء بالطين والحجر الطبيعي بديلاً قوياً لتقنيات البناء الحديثة. وإن كان لا يخلو من بعض العيوب، إلا أن أغلب سلبياته يمكن تلافيها باستخدام التقنيات الحديثة المتوفرة، ومن دون إحداث خلل في النظام البيئي.
أخيراً، يجب الاعتراف بأن الوظيفة البيئية التي تؤمّنها هذه الأساليب وهذه المواد لم تكن الغاية الرئيسية، بل يمكن القول إنه لا أحد يخطط لتوظيف بيئيتها على أكمل وجه، وذلك بسبب استثنائية وصعوبة الظروف التي خلفتها الحرب. ولكنّ مراعاة العوامل البيئية في البناء ليست ترفاً يمكن تجاوزه بدون مخاطر مستقبلية على صحة الناس وصحة محيطهم الطبيعي، وخاصةً في البيئات الريفية الزراعية المنتجة للغذاء. وبما أننا في بدايات مراحل بناء تأسيسية، وبذات الظروف الاقتصادية الصعبة التي أعادتنا الى أنماط بديلة من البناء، يمكن أن يصعد الاهتمام ببيئية البناء على سلم أولويات التخطيط السكني لتوفير بيئة صحية مستدامة، تخفف من الضغط على المؤسسات الصحية وتؤمن علاقة نمو سكني صحية لا تؤثر على قدرات الإنتاج الزراعي.
وتتوفر في الحالة السورية الإمكانيات اللازمة لتقديم نماذج ملهمة في الإسكان بعد الحرب، وبما يراعي التغير المناخي في الوقت ذاته. وأقول مرةً أخرى إن هذا ليس ترفاً، بل لا يوجد ما هو أكثر قيمة من إثبات جدارة عملية وملهمة تتحدى من حطّم المدن وهجر الأهالي ليجعل منّا عبرةً. في أصعب ظروف الواقع السوري يمكن أن نضع بصمتنا في عالم مواجهة التغير المناخي المتسارع. ويمكن القول، وبكثير من الرومانسية الحالمة، أنه لكي تصمد قبةٌ ثلجية في مواجهة خطر الذوبان الجليدي عند الأسكيمو، لابد أن تساندها قبة طينية في الطرف الآخر من العالم.