في معرض كلامها عن جهاز الشرطة الألماني السري، نطقت صديقة لي مرة كلمة Gestapo بوصفها Jestapo، ولما صحّحت لها خلطها بين الـG والـJ، ردت أن نطقها للكلمة أكثر أناقة في نظرها: «شكلها كدا أحلى»، هزت كتفيها بلا اكتراث.

رغم عدم نطقهم إياه، يحب القاهريون، فيما أفترض، صوت J، يرون فيه أناقة وسيولة وميوعة، فيشتهونه اشتهاء المحرومين، وبالتالي يحب أبناء الطبقة الوسطى منهم تسمية بناتهم – بناتهم حصراً – بأسماء تُنطق بصوت J، مثل جنى وجمانة. ولجِدّة هذه الأسماء على الأسماع المصرية، فلم يجد المصريون حرجاً من لفظها بالطريقة التي لُقّنوها حديثاً، حتى رسخت بصفتها هذه في الأذهان، ولو نطق أحدهم مثلاً اسم الممثلة السورية Gomana Murad لوُوجه بسخرية شديدة من جهله وجلافته.

ولكن هذا لا يسري على الأسماء المعهودة لدى المصريين، وقد ارتبكت عندما رأيت أبوين يصران على لفظ اسم ابنتهما بوصفه Khadija بدل Khadiga، إذ كيف سيتمكنان، باستخدام الحروف العربية، وفي حالة اسم نطقه القاهريون منذ قرون بجيمهم المعتادة، من نقل طريقة اللفظ هذه إلى سائر المصريين؟

* * * * *

يعي الكثيرون الآن أن تعبير «الجيم المصرية» لم يشكّل قط تعريفاً مانعاً، لأن مدناً مصرية قليلة فحسب، ولو كانت الأهم، هي ما تنطق هذه الجيم، ولا جامعاً، لأن مناطق كثيرة في اليمن كذلك تنطقها كما ينطقها القاهريون.

بالتالي سأضطر هنا لاستعمال حرفي J وG الإنكليزيين للدلالة على الصوتين الإشكاليين، واعياً أن هذا الاستعمال ليس الأدق كذلك، إذ حتى G الإنكليزية قد تُنطق أحياناً كأنها J، ويتجاور صوتاها هذان أحياناً في نفس الكلمة، Gigolo على سبيل المثال، فيُترك الأمر لذكاء المتلقي ومعرفته المسبقة بكيفية لفظ الكلمة.

من المعروف أن العربية الفصحى انفردت بجيمها عن سائر اللغات السامية التي يُنطق الجيم فيها كأنه G. ولأن الفينيقيين الساميين هم من نقلوا أبجديتهم، البادئة بحروف «أبجد»، إلى اليونانيين، فقد احتفظ هؤلاء بصوت G في حرف Gama، مع نفس المعضلة التي يتمتع بها حرف الجيم السامي، ويُنطق أحياناً كأنه غين، فتناوب على اليونانية صوتا الـG والغين كذلك.

ستستمر إشكالية الجيم، بشكل مختلف، عندما تنتقل الأبجدية اليونانية إلى سائر اللغات الأوروبية،  إذ سيتناوب صوتا السين والكاف، مع الغلبة الواضحة للكاف، على نطق الحرف الثالث في أبجدياتها؛ «سي» في الإنكليزية و«سيه» في الفرنسية و«تسي» في الألمانية.

* * * * *

في مسار مقابل، وفي بقعة مختلفة من الأرض، ستعاني المحكيات العربية إشكالياتها الخاصة مع الجيم، والذي سيُنطق كأنه G في بعض محكيات مصر واليمن، وكأنه ياء في بعض بلدان الخليج، وكأنه دال في صعيد مصر، أو كأنه دال تعقبها J، ويقال عن الأخير، لو فهمت كلام علماء الصوتيات القدامى على نحوه الصحيح، إنه النطق العربي الفصيح للجيم؛ دال تنفجر يعقبها سيلان رائق للـJ.

الصوت المجهور، تقنياً، هو صوت تتذبذب فيه الأحبال الصوتية حتى يرن صوتها في الدماغ، في مقابل قرينه المهموس الذي لا تتردد فيه هذه الذبذبة، وبالتالي، مثلما أن الدال هي مجهور التاء، أفهم أن الـG هي مجهور الكاف، والـJ مجهور الشين.

من هذا المنطلق، ونظراً للاختلاف الكبير بين صوتي الشين والكاف، سيحيّرني كثيراً الخلط بين G وJ، إلى أن أنتبه للظاهرة العربية القديمة، والمعروفة باسم «الشنشنة»، وتُنطق فيها الكاف أصلاً بوصفها شيناً.

لا ينتهي الأمر هنا، فالكاف تُلفظ في بعض اللهجات، بالعراق وغيرها، باعتبارها تاء تعقبها شين، فيقال مثلاً «أحْتْشي لَتْشْ» بمعنى «أحكي لك»، ومن المثير أن هذا التطور يتطابق تماماً مع تطور الجيم السامية القديمة، الـG، والتي ستتحوّل في العربية الفصيحة، كما أسلفت، إلى دال يعقبها صوت J.

كاف تتمظهر في تاء وشين، مقابل G تتمظهر فيى دال وJ. صوت مهموس يتفرّع لصوتين مهموسين، ومقابلٌ مجهور له يتفرّع لمقابلين مجهورين لهما. كل صوت مطابق لنظيره، باستثناء ذبذبات الحنجرة.

* * * * *

تقول النكتة الليبية إن المصريين لا ينطقون القاف سوى في ثلاث كلمات: القرآن والقاهرة والقذافي. ولكن على حد علمي فصوت القاف، كما ينبهّنا شاكر جرار في مقاله عنه،  يستعصي على كثير من العرب من غير المصريين أيضاً، إذ يُروَّض في الكثير من اللهجات ليصبح G، فينطق الليبيون اسم القذافي كأنه Gaddafi، وينطق التوانسة اسم بو رقيبة كأنه Bourguiba.

هكذا، وعلى خلاف صوت P الذي يصعب نطقه، فحتى لو لم يوجد حرف مخصوص في العربية لصوت الـG، إلا أن أحداً من العرب لا يعاني مشكلة في نطقه، وأذكر الفلاح البحراوي الذي ذكرت اسمي أمامه، فاحتار في همزته، إن كانت أصلية أم مقلوبة عن القاف على نهج القاهريين، فسألني: يعني نقول نائل ولا ناقل، nael walla nagel؟

كقاهري، قاومت الآن كثيراً كي لا أدوّن سؤاله هنا باعتباره: يعني نجول نائل ولا ناجل؟

بوصفها هي نفسها الجيم السامية القديمة، أنحاز للجيم القاهرية كأفضل معبّر عن صوت الـG، ولكني لا أصر على انحيازي في حالة ظهور اختيار آخر يتفق عليه كُتّاب العربية.

اختيار مثل هذا لم يظهر بعد. هناك مثلاً حرف الكاف، كما في «سكائر إنكليزية»، وهناك حرف القاف كما في «قروب فيسبوك»، وهناك حرف الغين كما في الكثير والكثير من الكلمات، ويبلغ من قوة هذا الغين أننا – حتى في مصر، وحتى في القاهرة – نطقناه في أسماء مثل شيكاغو وسنغافورة، وقد تصورتُ في مراهقتي أن اللبنانيين يقلبون أي جيم غيناً، فلما نطقت شخصية لثغاء، بأحد المسلسلات المصرية، كلمة «غجر» بوصفها «غَجَغ»، زايدت عليها مازحاً إنها لو كانت لبنانية لنطقتها «غَغَغ».

لو ظهر اختيار مثل هذا، فسيتوجّب عليه، منعاً للخلط، ألا يكون واحداً من حروف اللغة الثمانية والعشرين، وهناك اختيارات بالفعل اضطر إليها العرب لتدوين صوت الـG ولا تنتمي لحروفهم المعهودة؛ أولها الجيم المثلثة، ولكن يعيبها أننا نفهمها في مصر بالعكس، كأنها تعبر عن الـJ، لا عن الـG الذي تعبر عنه لدينا الجيم العادية، وهناك القاف المثلثة المستعملة في المغرب العربي، وأراها اختياراً جيداً لتذكيرها بالقاف التي تواطأ كثير من العرب على نطقها كأنها G، ولكن يعيبها تشابهها أحياناً مع الڤاء المعبّرة عن الـV، وهناك أخيراً الكاف المشروطة المأخوذة من الفارسية، في مثل «شگد نحبكم»، وأراها أكثر الاختيارات منطقية، نظراً لكون الـG، تقنياً، ما هي إلا كاف مجهورة.

لا يعيب الاختيار الأخير سوى عدم التوافق عليه، ولو حدث هذا فسيمكنني أن أكتب أخيراً، بكل سماحة صدر وواثقاً من فهم جميع العرب لي،  كلمات مثل «سگائر» و«جيگولو»، و«گستاپو» و«يعني نگول اسمك نائل ولا ناگِل».