المرأة كـ «الآخر»

«لا يولد المرء امرأة، وإنما يصبح كذلك»، هذه هي أشهر عبارة في أشهر كتاب خطته سيمون دوبوفوار (1908-1986) بعنوان الجنس الآخر. وبخلاف ما يعتقد الكثيرون، فهي ليست أول جملة من عملها الضخم (الذي يبلغ في ترجمته قرابة التسعمائة صفحة)، بيد أنها تلخّص جوهر عرضها، وتُستخدم منذ عقود كدالّة على العمل النِسوي النموذجي للقرن العشرين. كما راح الجنس الآخر يجذب أجيالاً تكره تقسيم الإنسانية إلى حيوانات ذكرية وأخرى أنثوية. وما زال يشكل الكتاب حتى يومنا هذا مرجعاً للرد على الآراء العلمية والدينية والشعبية التي تمجد الأمومة والعناية كقدَر طبيعي لحياة المرأة. وقد استنتجت دوبوفوار أن السلوكيات المنسوبة إلى اختلافات راسخة بين الجنسين مبنية بالدرجة الأولى على التربية والعادات المتجذرة والتوقعات المنغرسة في النفوس والتبريرات التي يختلقها الرجال لسيطرتهم على العالم والأسلحة والنساء. وقد استخدمت دوبوفوار مصطلحاتها الوجودية للتعبيرعن ذلك: الرجل يُرى ويَرى نفسه كـ «ذات» مستقلة وفاعلة، أما المرأة فتُعتبر وتعتبر نفسها «موضوعاً» تابعاً ودونياً. وبينما يمتلك هو حريات كثيرة تُمكِّنه من تأثيث حياته على هواه، تعاني هي من سلسة من الاعتقادات حول سريرة المرأة التي تحكم عليها بالدور الخدماتي المثبّط كراعية وحامية للأسرة. كما كتبت في مقدمتها: «يظن أقل الذكور قيمة نفسه نصف إلهٍ أمام النساء»، وقد سَعَت إلى نشر هذه الملاحظة في مطارح عديدة من الكتاب، وأَثرَتها بفقرات تتعاطف فيها رغم ذلك مع الرجل الذي أصبح رجلاً: «يتمزق الرجل جرّاء محاولاته أن يكون ذكورياً ومتوازناً ومتفوقاً». وكذلك: «يتحرر الرجل من خلال تحرير المرأة، غير أن ذلك هو بالضبط ما يرعبه. لذلك يتمسك بشراسة بالتعميات التي تُبقي المرأة مقيدة».

لم تكن هذه الأفكار لتحصد التصفيق إثر صدور الجنس الآخر. إذ جاءت طبعته الأولى عام 1949، أي في فترة الجفاف وإعادة الإعمار وترميم توازنات ما قبل الحرب في أوروبا. وكانت الموجة النِسوية الأولى حينها قد تراجعت تماماً، ولن يصعد النشاط النِسوي الثاني إلا بعد بضعة عقود. كما كان حصول النساء في عام 1944 على حق الاقتراع أخيراً أقرب للمكافأة على دور الفرنسيات (المؤثرات) أثناء الحرب العالمية الثانية في المقاومة ضد ألمانيا النازية من كونه نتيجة حملة نسوية جماهيرية. ليست ثمة حركة نِسوية حضّت دوبوفوار على كتابة دراستها المطولة والتحريضية. بل على العكس، فقد كانت معظم الفرنسيات والأوروبيات مستسلمات، شئنَ أم أبينَ، للأمثولة البرجوازية المسيطرة حتى سبعينات القرن الماضي، والتي تصوّر الرجل كرب للأسرة والمسؤول عن جلب المال، والمرأة كراعية وأم متفرغة بشكل كامل. وقد استغرق الأمر في هولندا حتى النصف الثاني من الخمسينات إلى أن شُطِبت عدة تحديدات قانونية تقيّد المرأة المتزوجة بمنزلها الدافئ. حتى أن المتزوجات كُنَّ حتى عام 1956 «غير مؤهلات قانونياً»، فبدخولهنّ عشّ الزوجية كنّ يقبلن أن يستلم الزوج الأمور المالية والوصاية عليهن وعلى أطفالهنّ (في المستقبل). وقد تجاوزت دوبوفوار ما أسمته «الحياة التجريبية» بطموحها بالمساواة بين النساء والرجال من ناحية فرص الحصول على عمل مناسب. ذلك أن النساء العاملات مثلها في مِهَن لا تعتبر امتداداً لمهام العناية والدعم، يمثّلن الاستثناءات التي يشكك المجتمع الصالح بأنوثتهنّ.

بعد صدور الجنس الآخر راحت اللعنات تتساقط الواحدة تلو الأخرى على رأس دوبوفوار. كانت صرخات رجال الكنائس والمحافظين هي الأعلى، ولكنها ليست أسوأ من ردود أفعال المثقفين والسياسيين والكتّاب والنقاد الوسطيين، وحتى التقدميين، على أفكارها بخصوص مجتمع جديد يكون فيه الرجال والنساء أفراداً مستقلين اقتصادياً واجتماعياً وجنسياً.

جزء كبير من القلقلة كان سببها الشجاعة التي توسمتها دوبوفوار في كتابتها حول مواضيع لا تُطرح عادة إلا همساً، حيث أفردت فقرات واضحة حول الجِماع والدعارة والإجهاض والجنس السُحاقي والترهل الجسدي. أما أكبر فضيحة، فكانت في أغلب الظن جراء افتتاحها الفصل حول الأمومة بمرافعة مسهبة تطالب بقوننة الإجهاض تحت إشراف طبي مسؤول. فالإحصاءات التي استخدمتها أثبتت أن النقص في وسائل منع الحمل، بالإضافة إلى أخلاقيات العفة المفروضة على النساء فقط، جعلت النساء يشعرنَ بعقدة الذنب طيلة حياتهن. فرغم حظر الإجهاض، إلا أنه كان يطبّق بأعداد مهولة من قبل أطباء موثوقين أو «صانعات الملائكة»، أي النساء اللواتي يساعدن على طرح الحمل باستخدام حقن الصابون وأسياخ الحياكة وطرق خطيرة أخرى. وقد اقتبست دوبوفوار بحثاً يتراوح عدد الإجهاضات فيه ما بين 80000 والمليون، كما نقلت عن أحد الأطباء قوله: «أصبح الإجهاض اعتيادياً […] وفشلَ القمع عملياً». لم تذكر دوبوفوار تجاربها الشخصية مع الإجهاض في الجنس الآخر، ولم تصرّح بهذا الخصوص إلا في بداية السبعينات حين أصبحت حرية الإجهاض إحدى أهم نقاط الكفاح في ما يسمى الموجة النِسوية الثانية، وشكلت التجارب الشخصية أساس الفعاليات النسائية السياسية. في 1973 كتبت دوبوفوار «بيان الـ343»، حيث طالبت 343 امرأة فرنسية بحرية الإجهاض مُعلِنات أنهنّ أَجهضنَ من قبل. بعد عشرين عاماً من صدور الجنس الآخر، غدت سيمون دوبوفوار رمزاً للحركة النسائية الجديدة، وشرعت تسمي نفسها نِسوية.

لم يكن متوقعاً في نهاية الأربعينات أن تنضم دوبوفوار يوماً تحت شعار (نحن النساء). صحيح أنها كتبت دراستها المذهلة انطلاقاً من ضيقها بمكانة المرأة الدونية، غير أنها اعتمدت نبرة العالمة المستقلة، ولم يحصل أبداً في الجنس الآخر أن تكلمت عن «أنا» أو «نحن». وقد اعتُبِر هذا نقصاً كبيراً من قبل جيل نسويات ما بعد الحرب، غير أنه متوافق مع تصوّرها عن ذاتها أثناء شغلها على الكتاب الذي جعلها مشهورة وسيئة السمعة في آن. فقد مَوضعت دوبوفوار نفسها كفرد مفكر، وليس كممثلة لبنات جنسها، فكان من البدهي أن تشكل جزءاً من حلقة أصدقاء عالمية ينتمي إليها ليس فقط مفكرون كتّاب معروفون، بل كذلك فنانون تشكيليون من قبيل بيكاسو وجياكوميتي. كما ألقت نفسها في مغامرات جنسية بشراهة لا تقلّ عن الرجال في محيطها. بالنسبة لها لم يكن ثمة فرق كبير في الهوية بينها وبينهم، وخاصة بينها وبين الفيلسوف والكاتب جان باول سارتر الذي عاشت وعملت معه قرابة العشرين عاماً. كانت غير متزوجة، وليس لديها أطفال، وتمارس الحب الحر، وتقضي معظم أوقاتها بالتفكير والدراسة والكتابة والجلوس مع سارتر ورفاقها الروحيين في المقاهي ليتبادلوا الأفكار حول قضايا فلسفية ونفسية وسياسية. لم تكن تهتم بالشؤون المنزلية أو تحضير الوجبات، فسكنت في فنادق، وأتبعت فترات محمومة من العمل المتواصل بنزهات طويلة ورحلات إلى خارج البلاد، وواظبت على تناول طعامها خارج البيت إلى درجة أن شاع عنها أنها لم تحضِّر فنجان قهوة قط.

وحسب ديردر بير لم تربط دوبوفوار بين وجودها وقرارها بالجهر حول العلاقة بين الجنسين إلا بعد مرور سنوات طويلة على صدور الجنس الآخر. ففي السيرة التي كتبتها عنها تذكر بير أن دوبوفوار قالت في مذكراتها إن الكتاب نشأ «صدفة»، فقد «أردتُ أن أكتب عن نفسي، ولكني اكتشفت أن عليّ قبل ذلك أن أكتب عن وضع المرأة بشكل عام». وقالت بعد ذلك لأحد محاوريها: «أردتُ أن أشرح نفسي لنفسي يوماً ما. بدأتُ بالتفكير بنفسي، فكانت المفاجأة أن أول شيء كان علي أن أقوله لنفسي هو: أنا امرأة».

وقد عبّرت عن هذه الفكرة في الجنس الآخر كما يلي: «لن يخطر ببال الرجل أن يكتب كتاباً حول وضع الذكور في البشرية! لو أردت أن أحدّد نفسي وأصفها، فعليّ أن أقول أولاً: أنا امرأة. وتشكل هذه الحقيقة الأساس الذي تقوم عليه كل المزاعم الأخرى. لا يبدأ الرجل بطرح نفسه كفرد من جنس محدد، فكونه رجل هو أمر بدهي».

كانت دوبوفوار في حوالي الأربعين من عمرها حين كتبت الجنس الآخر. وقد اقتبست بير عنها قولها: «كم سأستغرب وأتضايق لو أخبرني أحد وأنا في سن الثلاثين أني سوف أنشغل بأمور المرأة، وأن الجزء الأهم من جمهوري سوف يكون من النساء». وأضافت أنها غير نادمة على ذلك.

هي تفكر كالرجل

ولِدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دوبوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908. وهي أكبر ابنتين لأسرة راقية كانت قد خرجت من الحرب العالمية الأولى مفلسة. والدها من محبي الأدب والفلسفة، وقد راودته فكرة أن يصبح ممثلاً في صباه، على عكس ما هو مقبول في بيئته. ولكن بدلاً من أن يتبع هواه، درس الحقوق وأصبح موظفاً. وكانت والدتها من عائلة ميسورة ومحافظة دينياً، فربّت ابنتيها على الطاعة الكاثوليكية التي نشأت هي فيها. وقد كانت أخلاق الأسرة التقليدية التي تعلمتها بوفوار منذ نعومة أظفارها عكس الطريق الذي سوف تتبعه بنفسها. لم يكن والداها يملكان المال الكافي كي يوفّرا لها مهراً معقولاً، فاضطُرا أن يدرّساها، على أمل أن ترتفع قيمتها كزوجة أو تتمكن من كسب مالها بعرق جبينها.

وبدون ذرة تهكم – فهي قلّما تسخر من نفسها – حكت دوبوفوار لاحقاً أنها أرادت أن تصبح راهبة حينما كانت صغيرة، فهي مهنة محترمة للفتيات الرافضات لدور المرأة-الأم في سجن الزواج الأحادي. وقد ارتادت حتى السابعة عشرة من عمرها المدرسة الكاثوليكية الداخلية، حيث تخلت عن دينها في الرابعة عشرة، وشرعت تقرأ وتفكر بحياة تحتل فيها «الحقيقة» و«المسؤولية الشخصية» مكان الرب الجبار.

«هي تفكر كالرجل»، هذا ما قاله والدها عنها حينما كانت صغيرة جداً. وفي كتابها مذكرات فتاة رصينة الذي استذكرت فيه تملّصها من البرجوازية الخانقة، تصف تناقض والدها بخصوص إمكانياتها الفكرية. من ناحية كان سعيداً أن ابنته الكبرى تملك عقل الابن الذي كان يتمنى لو أنجبه، ولكنه من ناحية ثانية لا يعرف – مثل أمها – كيف يتعامل مع الفتاة التي بدأت تبتعد عن قدرها «الطبيعي» كامرأة. وكم شعر بالفخر حين تمّ قبولها في سوربون باريس، حيث درست علم الأدب والرياضيات والفلسفة، وانتقلت بعد ذلك إلى المدرسة العليا لإعداد المدرسين. وهناك قابلت سارتر الذي كان مثلها غريباً عن محيطه. وحسبما يتذكره البعض، فسرعان ما أطلق عليها سارتر لقب «قندس» جراء اجتهادها وانكبابها المتواصل على درسها. ويقال كذلك إنه أطلقه عليها بعدما علِم بعلاقتها السابقة في أربعينات القرن الماضي مع الكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين الذي كان يواجه صعوبة في لفظ كنيتها، وبدلاً من بوفوار يقول بيفر، الكلمة الإنكليزية للقندس.

يُعتقد غالباً أن سارتر هو الذي رسم حدود علاقتهما، فالرجل هو الذي يفضل عادة ألا يقيّد نفسه أو يتصرف كذلك. ولكن في حالتهما، كان الإثنان معاً يميلان أن يعتبرا نفسيهما وبعضهما أحراراً، وبالنسبة لهما كان الزواج أحد التقاليد «البرجوازية» الكثيرة. ومع ذلك لم يعرف سارتر كيف يتعامل مع علاقتهما إلا من خلال طلب الزواج منها ثلاث مرات. وفي كل مرة كانت ترفض، إلى أن جاءها بعد المرة الأخيرة بفكرة بديلة. كانت دوبوفوار في الحادية والعشرين وسارتر في الرابعة والعشرين حين عقدا اتفاقهما الشهير: سوف يصبحان شريكين في الحياة من دون زواج، ويحافظان على استقلاليتهما وحريتهما بممارسة العلاقات الجنسية المفتوحة مع الآخرين. كانت تلك العقلية نادرة في 1929، إلا أنها انتشرت في الستينات بين شباب ما بعد الحرب الذي تحول طموحه بعد قدوم الحبوب المانعة للحمل إلى إطلاق ثورة جنسية إلى جانب الثورة الاجتماعية.

اعتُبِر كل من دوبوفوار وسارتر أمثولتين للنساء والرجال المتأثرين بمثاليات المساواة والحرية والمواطنة العالمية. كانا يجسّدان باريس المثقفة والفنية والماتعة والأنيقة وغير التقليدية والرومانسية والمتمردة، وحيث يحصل كل شيء لأول مرة. كان أسلوب حياتهما لا يقل إلهاماً عن تعاطفهما مع الحركات التحريرية في الجزائر وفيتنام. يكثفان التواصل مع أشخاص مثيرين للاهتمام ومتجانسين فكرياً معهما، ويسافران إلى بلدان بعيدة، ويسكنان في فنادق، ويكتبان في المقاهي الباريسية، ويمارسان الجنس مع من يشتهيه القلب. كل شيء كان في غاية الجاذبية.

وقد أدرك كثير من معجبيها شيئاً فشيئاً أن التعددية في الحب التي كانت تروّج لها، تنطوي كذلك على أشكال خاصة من التعاسة. حيث أنهم قرأوا بنهم كتب سيرتها الذاتية التي نُشِرت بعد وفاتها، والتي كتبت فيها عن عشاقها، ومن بينهم نساء صغيرات جداً ممن تقاسمتهن مع سارتر لفترة من الزمن، وعن الفيلسوف والمخرج كلود لانزمان الذي يصغرها بسبعة عشر عاماً، والذي سكنت معه في الخمسينات في منزل واحد. إذ تبين من تلك الكتب، الواحد تلو الآخر، أن التزامها المميز بسارتر ترافق بحزن وجودي لديها ولدى عشاقها وعشيقاتها على حد سواء. كما كشف النبش في مذكراتها أنها عانت فعلاً من الغيرة وعذاب الهجران اللذين حسبت الطليعة المنادية بالحرية الجنسية أنهما صارا ينتميان للماضي.

قد نبالغ إن جزمنا أنها انكشفت بعد وفاتها، لأنه سبق أن كتبت في الجنس الآخر وفي رواياتها (الذاتية) عن المشاعر التي تجعل من الحب الحر منجماً مليئاً بسوء الفهم، والتوقعات غير الواقعية، والوعود غير المحققة. فالنفس البشرية عبارة عن بئر يعجّ بالتناقضات والحيرة. ولكن الأمر يقترب من الزناخة حين ينكب كثير من قرائها على سؤال ما إذا، وإلى متى، «نامت» مع سارتر، وألم يكن من الأفضل لها لو استبدلته في نهاية الأربعينات بنلسون ألغرين الذي عاشت علاقة جياشة معه. ذلك أن ألغرين أرادها أن تصبح زوجته وتأتي لتعيش معه في شيكاغو، إلا أنها لم تكن مستعدة لذلك. وحين أوشكت على إتمام الجنس الآخر، بدأت تصرّح بوضوح متزايد أنها لن تستبدل باريس وسارتر وحلقة أصدقائها الواسعة به.

ورغم أن الشوق إلى ألغرين ذبح روحها، إلا أن أفكارها حول الاستقلالية في علاقات الحب لم تتغير. وقبل أن تختم الجنس الآخر بمناداتها للرجل والمرأة أن «يؤكدا أخوّتهما دون لبس» كي «تسود الحرية»، نجد جملة تعبّر عن أفكارها بهذا الخصوص: «ينبغي على الحب الأصيل أن يقنع بالصُدف، باحتمالات الآخر، أي أن يقبل نواقصه ومحدوديته وميزاته الطبيعية كما هي».

ليس غريباً أن يرتبط اسم سيمون دوبوفوار بجان باول سارتر، إلا أنه من المزعج أن تُختزل دوبوفوار إلى مجرد «امرأة فلان». لا شك أن لسارتر تأثيراً عظيماً على تفكيرها، غير أن العكس صحيح كذلك. حيث أثبتت كارين فينتخس، التي كتبت أطروحة الدكتوراه حول أعمال دوبوفوار، أن وجودية سارتر كانت ستبقى جامدة لولا مساهمة دوبوفوار. فبينما كان هو ميالاً في بادئ الأمر أن يصنع من الفرد مخططاً متوحداً، كانت هي ترى الإنسان ضمن علاقته مع الآخرين. كما أن كتبها تعبّر أكثر من كتبه عن كون إحساس كل فرد يتعلق بظرفه، ويتشكل إلى حد كبير من خلال أسلوب تعامل الآخرين معه/ا وحكمهم عليه/ا. غير أن المنطلقات الفلسفية التي اعتمدها كل من دوبوفوار وسارتر لا يمكن فصلها بعضها عن بعض، فجميع النصوص التي كتباها بشرت بفلسفة حول الإنسان ككائن مفكر يختلف عن الحيوان جراء قدرته على التأمل بأحواله والتصرف على ذلك الأساس. في فكرهما لا وجود لله، ولا شيء قدري أو وراثي. وفي فلسفتهما الوجودية تتحلى مصطلحات كالحرية الفردية والمسؤولية والذاتية بمكانة مركزية: كل إنسان متفرد، وكل إنسان مسؤول عن أفعاله وقدره، وكل إنسان يخلق نفسه. في البداية يصبح الإنسان واعياً لوجوده، وبعدها يكوّن صورة عن نفسه ويتصرف على ذلك الأساس. وكما شرح سارتر في كتابه الوجودية مذهب إنساني، فلا يوجد أبطال بالولادة، أو جبناء بالولادة: «يزعم الوجودي أن الجبان يصنع من نفسه جباناً، وأن البطل يصنع من نفسه بطلاً. وبإمكان الجبان أن يكف عن أن يكون جباناً، والبطل ألا يكون بطلاً». وفي هذا السياق يُطرح «التسامي» كمصطلح وجودي يعبّر عن الإمكانيات بالنسبة للإنسان الذي انفصل عن التصوّر الذي كوّنه عن نفسه. عندئذ سوف يكون قادراً أن يختار بكامل حريته و«ينوجد» كشخص أصيل. هذا ما أسمته دوبوفوار أيضاً الوجود لذاته، وكما شرحت في الجنس الآخر فإنها حالة كينونة تواجه المرأة صعوبة أكبر من الرجل في الوصول إليها.

كما أُضِيفت إلى الإدراك بوجود أفراد يوسَمون بأنهم «الآخر» جراء هويتهم الجماعية، أبعادٌ جديدة في فكر سارتر ودوبوفوار أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. ففي إحدى الصفحات الأولى من الجنس الآخر تفترض دوبوفوار: «لا تعرّف أي مجموعة نفسها كالواحدة دون أن تضع الآخر فوراً مقابلها». برأيها حان الوقت للتخلص من الاعتقادات البائدة حول تفوق أو دونية الأعراق البشرية، ومن بينها الخرافات بخصوص «الرجولة» و«الأنوثة». لأن: «مُدرك الأنثوي الأزلي هو نفسه الروح السوداء والطباع اليهودية». وتستنتج: «إن حقيقة أننا كائنات بشرية أهم بكثير من جميع الخصائص التي تفصل الكائنات البشرية بعضها عن بعض». وقد بيّنت في الجنس الآخر أن الرجل يرى نفسه منذ قرون طويلة كـ «إنسان» والمرأة كـ «الآخر» الحصري.

كانت سيمون دوبوفوار رائدة على كثير من الأصعدة. فكما سارتر وكامو، واصلت هي أيضاً التفكير بفلسفة يكون لـ «الإنسان المجبر على الحرية» مكانة مركزية فيها. ففي فلسفتهم لم يُلغَ الله والآخرة فقط، بل كذلك سلطة القائد الديني: كل إنسان مسؤول بنفسه عن أفعاله، وعن خياراته التي يتخذها بخصوص الظلم في العالم. ومن لا يحتجّ على الحرب والظلم والعلاقات غير المتساوية، فهو يقبل إذن بالوضع الراهن.

وقد عزوا كثيراً من أشكال الظلم للرأسمالية. لا يمكن لمجتمع طبقي مبني على تعظيم الربح إلا أن يترافق باستغلال العمال في البلدان المستولى عليها من قبل الغرب. كان كامو الوحيد من بينهم الذي انتسب فترة من الزمن إلى الحزب الشيوعي، وكذلك كان أول من اتخذ موقفاً علنياً من «الاشتراكية على أرض الواقع». أما دوبوفوار، فقد عُرِف عنها أنها بقيت طويلاً مثل سارتر من المؤيدين. ولا يخفى أنها ضاقت ذرعاً بالبيروقراطية والقمع في الاتحاد السوفيتي، غير أنها تأملت أن يعمل خلفاء جوزيف ستالين على تغيير الوضع بعد وفاته في عام 1953. ارتبطت حياتها وعملها وفكرها بالحرب الباردة التي لن تشهد نهايتها. وكانت من المثقفات اللواتي اعتقدن أن الإمبريالية الأميركية سوف تفضي إلى مزيد من اللامساواة والحرب. سافرت إلى الصين وروسيا، وقابلت الرئيس السوفيتي غورباتشوف، وسمحت – غير ممتنة – أن يأخذها الحزب في جولة لترى العمال والعاملات السعداء في المصانع الكبيرة والمزارع الجماعية.

وبأكثر من اهتمام وسطي تابعت المناظرات حول الطريق الثالث، ذلك النوع من الاشتراكية الذي لن يجعل الفرد خاضعاً لمنظومة ملزِمة.

وفي الحرب العالمية الثانية اقتربت دوبوفوار بعض الشيء من المقاومة الشيوعية للنازية، وتماهت في الخمسينات مع الكتّاب والعلماء ونجوم الأفلام الذين لوحقوا من قِبل مكارثي جراء الاشتباه بتعاطفهم الشيوعي، وفي النصف الثاني من القرن العشرين ارتبطت بحركات المقاومة في بلدان العالم الثالث التي كانت تطالب باشتراكية تناسبها. وقد استُضيفت مع سارتر في كثير من تلك البلدان، حيث تحدثا مع الأبطال القوميين. وفي 1960 استقبلهما كاسترو في كوبا، وثمة صور جميلة لهما وهما يتحدثان مع الأيقونة الثورية تشي غيفارا.

بكل تأكيد أنهم لم يكونوا يتحدثون عن الجنس الآخر، ولا عن كيفية إقناع الرجال بأن، كما وصفت دوبوفوار، «يتمنوا من كل قلوبهم أن تكتمل المرأة وتتحقق». حتى بالنسبة لها، لم تكن استنتاجات بحثها، الذي تحول إلى إنجيل النسوية، على رأس لسانها. تقول ديردر بير: «احتفظت دوبوفوار طيلة حياتها بمسافة غريبة من كتاب الجنس الآخر، ورفضت أن ترد على الانتقادات، أو تصوغ دفاعاً للمرة الثانية». كانت تشعر بصلة أكبر مع رواياتها من ذلك «الكتاب حول النساء» الذي حسبت في بادئ الأمر أنه لن يزيد عن مقالة.

كذلك قراؤها مولعون برواياتها أكثر من عملها النسوي النموذجي. كثيرون قرأوا مراراً المثقفون (التي فازت بجائزة غونكور لعام 1954)، والصور الجميلة، والموت السهل التي كتبتها حول وفاة والدتها، وكُتب سيرتها الذاتية. أما الجنس الآخر، فيُعتبر غالباً أقرب إلى الواجب المدرسي، حتى ولو لم أكن الوحيدة التي أبقت الكتاب الضخم في متناول اليد دائماً. ذلك أن ماريا براوس – الكاتبة والمحررة في جريدة أمستردام الخضراء – أخبرتنا في أكثر من مناسبة أنها تستخدم الجنس الآخر كما لو أنه كتاب التغيرات الصيني. ومنذ ذلك الحين، صرتُ أفتح الكتاب بين الحين والآخر على صفحة لا على التعيين لأقرأ الفقرات التي سطّرتُ تحتها من قبل. جمل رنانة من قبيل: «لن تختفي الخيانة حتى يلغى الزواج». أو: «صعب جداً أن تمثّلي دور معبودة الجماهير أو الجنية الطيبة أو أميرة الحكايات حينما تحسّين بمنديل مبلل بالدم بين ساقيكِ». و: «من المؤكد أن التوفيق بين دور الأم وعمل المرأة ليس صعباً في المجتمع المنظم بطريقة حديثة».

بالإضافة إلى هذا النوع من الطروحات الجاهزة، يعجّ الكتاب باللغة الفلسفية. ما عدا مصطلحات كـ«ذات» و«موضوع»، و«التسامي» (الرجولي) و«المثولية» (الأنثوية)، تتحدث دوبوفوار عن «المشروع الأساسي الذي يتسامى الموجود من خلاله ليصبح كينونة». كما يبدو أنها استخدمت عملياً كل ما حصلت عليه من مراجع أوروبية وأميركية حول وضع المرأة في عام 1949، إذ أن المكتبات تتساقط فوق رأس القارئ/ة أثناء المرور على أفكار الكاتبة حول كيف كانت، وصارت، وينبغي أن تصبح الأمور بخصوص العلاقة بين الجنسين. ولهذا السبب بالذات تشكلت حلقات القراءة التي ضمّت كثيراً من النساء وبعض الرجال في سبعينات وثمانينات القرن الماضي من أجل مناقشة فصول الكتاب فصلاً فصلاً. وقد حصل أن ظلت حلقات القراءة تناقش فقرة واحدة على مدار عدة أمسيات. لا يُقرأ الجنس الآخر بغرض معرفة ماذا قصدت دوبوفوار بالضبط، وإنما من أجل تحديد مواقفنا من الزواج والأسرة والأمومة والدعارة والجنس والسحاقية والرجال الظالمين ومسؤولية النساء حيال مرتبتهن الدونية.

وليس نادراً أن يستصعب البعض إتمام الكتاب السميك الذي يتألف من جزأين منفصلين. في الجزء الأول المعنون بـ «الوقائع والأساطير» تتطرق دوبوفوار للتقاليد والأديان والخرافات والنظريات شبه العلمية وروايات الكتّاب الذين حافظوا على خضوع المرأة للرجل. كذلك تصف كيف تمّ التفكير والكلام حول «الأنوثة الحقيقية» عبر التاريخ. الجزء الأول عبارة عن معالجة نظريّة مطوّلة تنتهي بأمنية الشاعر آرثر رامبو بأن تكون المرأة إنساناً مكتملاً في المستقبل: «حين ينكسر استعباد المرأة اللانهائي، وحين تعيش بنفسها ومن أجل نفسها، وحين يطلق الرجل – البغيض حتى الآن – سراحها».

الجزء الثاني هو بعنوان «التجربة الحياتية». انطلاقاً من المراحل الحياتية المتتالية لدى المرأة، والأوضاع المختلفة التي تتواجد فيها كابنة وأم وعاهرة وسحاقية وشابة وعجوز، تبيّن دوبوفوار كيف حوّلَ تقديس الأمومةِ النساءَ إلى نوع خاص من العبدات المصابات بمتلازمة ستوكهولم. وفي الخاتمة التي عنونتها «نحو التحرير»، تكرس دوبوفوار قرابة الخمسين صفحة حول «المرأة المستقلة» (فقط عمل المرأة يضمن لها حرية ملموسة)، لتستنتج أن من مهام الرجل، ضمن عالم معطى، أن يجعل الحرية تسود .

لقد تمت ترجمة الجنس الآخر إلى أكثر من عشرين لغة، كما شهد ذروة في المبيعات في سبعينات القرن الماضي بعدما حصل على قيمة الأيقونة ككتاب أصيل يتناول النِسوية الحديثة. كذلك تم الاستشهاد به في عدد لا يحصى من النصوص النسوية، من نزق المرأة ليوكه سميت، مروراً بـ ديالكتيك الجنس للرائدة النسوية الجذرية شولاميث فايرستون، وصولاً إلى الأشعار الفارسية لسيمين بهبهاني. ونشهد هذه الأيام عودة للاهتمام بالكتاب من قِبل بعض النسويات الهولنديات الشابات كسيمون فان سارلوس (1990) التي بنت على أفكار دوبوفوار بطريقة مثيرة ومتلاعبة على حد سواء. وسيمون فان سارلوس ليست الوحيدة من بنات جيلها التي تملك قلباً ينبض لـ«القندس». ففي الندوة التي عقدت على شرف دوبوفوار في المركز الثقافي الأمستردامي عام 2018، رأيتُ امرأة ثلاثينية كانت قد وشمت على ظهرها، باللغة الفرنسية والخط الأنيق المائل، تلك الجملة الشهيرة من كتاب دوبوفوار: لا يولد المرء امرأة، وإنما يصبح كذلك.

لطالما قيل إن الجنس الآخر كتاب صعب، وهذا صحيح. ولكن مقارنةً مع الكتابات المجردة التي قدمها الفلاسفة الفرنسيون لاحقاً، فإنه يعتبر سلساً رغم الاستطرادات والتكرار والأفكار الجانبية والمصطلحات الوجودية التي تغمر العديد من القراء. ومع ذلك أنصح المهتم بإرثها الفكري أن يمنح هذا الكتاب الوقت الكافي كي يقرأه، أو بالأحرى يستسلم له، من الألف إلى الياء. أما الذين ترهبهم ضخامته رغم ذلك، فسوف أقدم لهم هنا مختصراً – انتقائياً لا محالة – قامت به قارئة متحيزة.

الكتاب الأول: الوقائع والأساطير

«ترددتُ كثيراً قبل أن أكتب كتاباً عن المرأة. فالموضوع مثير للسخط، وخصوصاً للمرأة، وليس بجديد»، هذه هي الجملة المزعجة التي تبدأ بها دوبوفوار رحلة بحثها التاريخية عن خلق المرأة الأنثوية. ولكنها تستبق ذلك باقتباسين لرجلين، الأول هو لفيثاغورس، أحد المؤسسين اليونانيين للفلسفة الغربية: «هناك مبدأٌ جيدٌ خلَق النظام والنور والرجل، ومبدأٌ سيءٌ خلق الفوضى والظلمات والمرأة». وبعدها يأتي الفيلسوف التنويري بولان دولابار الذي عاش في القرن السابع عشر، والمعروف بكُتيّبه الذي قال فيه إن «لا جنس للروح» لاغياً بذلك ما قاله فيثاغورس: «يجب التشكيك بكل ما كتبه الرجال حول النساء، لأنهم خصم وحَكم في الوقت نفسه».

في مقدمتها تشرح دوبوفوار لماذا دفعت نفسها نحو الكتابة رغم نفورها من الموضوع، وذلك من أجل أن تكتشف ما الخطأ في الطريقة التي يتم من خلالها التفكير والكتابة حول «المرأة» منذ الأزل. كما تطرقت لــ«الحماقات العظيمة التي تحدثنا عنها في القرن الماضي» و«أتباع نظرية المؤنث الأزلي». يبدو أن ثمة دفعاً جديداً إلى اللغط حول قدر المرأة الطبيعي، بعدما تَوجَّه عدد أكبر من النساء – شيئاً فشيئاً – نحو التعليم، فلم يعد ضرورياً أن يكون العمل خارج المنزل محصوراً على النساء الفقيرات والأميات فقط. فحتى بداية القرن العشرين، ظلت النساء محكومات بإنجاب الأطفال إلى ما لا نهاية. وفي 1949 كان ثمة أمل أن تمنح التقنيات الحديثة المرأةَ إمكانيات أكبر كي تطوّر نفسها. وبفضل التطورات التقنية كذلك، سوف يزداد عدد الوظائف التي لا تتطلب القوة البدنية. كم ارتبك الإنسان الرجل جرّاء التوقعات بنشوء عالم بدون سيطرة الرجال على كل شيء يقع خارج نطاق المنزل. وهكذا قرأت دوبوفوار في حوار مع طالب أن «كل طالبة سوف تعمل كطبيبة أو محامية سوف تسرق مكاناً منا». كما اقتبست عن أحد «أتباع الأنوثة الأزلية» أن «المرأة تاهت، المرأة ضاعت». وكذلك السؤال الاستنكاري: «أين النساء؟!».

في رأيها، السؤال الذي ينبغي طرحه بداية هو: ما هي المرأة؟ وأول جواب تدوّنه: «إنها رحم»، لتنتقل  بعدها مباشرة إلى مزيج من الآراء التي تجعل الرحم يحدد كيف ينبغي لكِ أن تعيشي كامرأة، وإلى التحريضات كي «تكوني امرأة، وتصبحي امرأة، وتبقي امرأة». فتستنتج أن الأمر يتطلب ضغطاً كبيراً وإكراهاً كي نجعل من الطفلة «امرأة حقيقية». تقول دوبوفوار: «يبدو أن ليست كل أنثى بشرية بالضرورة امرأة».

وبغضب لم يبرد بعد، تطرح أن «للمرأة مبيضان ورحماً، وتلك هي الظروف التي تحبسها ضمن ذاتيتها. فيقال إنها تفكر بغددها، وينسى الرجلُ أن تشريح جسده يتضمن أيضاً هورمونات وخصيتين». وحول هذه النقطة تقدم ملاحظة يهمني اقتباسها: «لا يوجد أكثر وقاحة تجاه النساء وأكثر عدوانية واحتقاراً من رجل قلق على ذكورته».

وفي نهاية المقدمة تتطرق للرأي الذي ما زال منتشراً حتى الآن [2019]، والقائل إن تحرر النساء لا يجلب السعادة لهنّ: «لا توجد أي إمكانية لقياس سعادة الآخرين، ومن السهل دوماً أن نصف بالسعيد ذلك الوضع الذي نريد فرضه عليه. وغالباً ما نعتقد أن السعداء هم هؤلاء المحكومون بالجمود، بحجة أن السعادة هي السكون». لا تفكر دوبوفوار بمصطلحات السعادة، وإنما بمصطلحات الحرية.

وينقسم جزء «الوقائع والأساطير» الذي تدعم به رؤيتها إلى ثلاثة أجزاء.

الجزء الأول: المصير

«معطيات البيولوجيا» هو أطول فصل في الجزء الأول، وفيه تشرح دوبوفوار لماذا يعدّ اختزال المرأة إلى رحمها ونعتها بـ «أنثى» تحقيراً لها: «ليس لأن النعت يحيلنا إلى طبيعة المرأة، ولكن لأنه يحبسها في جنسها». فضلاً عن أنه يثير لدى الرجل «شعوراً قلقاً بالعدائية حيال المرأة». هذا ما عدا التصورات المفزعة حول بويضة هائلة تقوم بـ «بالتهام النطفة وإخصائها»، والتصورات المريبة والمقيتة التي تنحدر مباشرة من عالم الحيوان: السرعوفة «المنتشية بالحب» التي تسحق شريكها، والكلبة الجاهزة للتكاثر التي تنشر الروائح الفاسقة، والقردة التي تستعرض مؤخرتها دون أدنى حياء. ولدينا كذلك اللبوة والنمرة والفهدة، تلك الإناث المفترسة اللواتي يستلقين خاضعات لعناق ذكورهنّ المتسلط. وتترافق هذه التداعيات بالأحكام المسبقة التي يعكسها الرجل على المرأة: «العطالة الأنثوية، وقلة الصبر، والخديعة، والحماقة، وقلة الإحساس، والشهوانية، والقسوة، والتواضع». ورغم أن دوبوفوار تفضّل ألا تفكر بالطرق المبتذلة حول «أنثى الحيوان»، إلا أنها سرعان ما تواجه سؤالين: «ما الذي تمثله الأنثى في مملكة الحيوان؟ وأي نوع خاص من الإناث يتحقق في المرأة؟».

وهكذا تستعرض دوبوفوار عدداً كبيراً من الحيوانات الكبيرة والصغيرة (أو المجهرية)، كي تثبت أن التكاثر والجنس ليسا مرتبطين أوتوماتيكياً، وأن ثمة تنويعة كبيرة من الصفات الذكورية والأنثوية والخنثوية في الطبيعة. وبعدها تشرح أي المفاهيم الخاطئة انتشرت عبر الأزمنة كحقائق حول الدور الذي يلعبه الرجال والنساء في التكاثر، من أرسطو الذي ظنّ أن الجنين ينشأ من اندماج السائل المنوي بدم الحيض، إلى الهولندي نيقولاوس هارتساكر الذي عاش في القرن السابع عشر واكتشف أن ثمة إنساناً قزماً متخفٍ في النطفة، وكذلك العلماء الذين جاؤوا بعده باستنتاجات متقادمة. تعتقد دوبوفوار أن جميعها كانت افتراضات حددت دور المرأة بتغذية مبدأ حيوي ينحو إلى الكمال: «حتى بعدما تمّ الاعتراف بالبويضة كمبدأ نشط، حاول الرجال أن يضعوا بُطأها مقابل سرعة النطفة».

تكتب دوبوفوار صفحات طويلة حول البويضة والنطفة، فتثور على الرجال الذين يعتمدون الاكتشافات بخصوص عملية التلقيح، كي يثبتوا أن الرجل نشط وعقلاني وقوي ومنبسط، والمرأة متلقية وعاطفية وضعيفة وانطوائية. «ليس صحيحاً أن البويضة تلتهم النطفة أو أن المشيج الذكري يسيطر على الاحتياطي في الخلية التناسلية الأنثوية، ذلك أن كلاهما يتخلى عن فردانيته أثناء الانصهار».

وتستخدم دوبوفوار أحياناً جملاً في غاية الواقعية («الكتلة الدموية تخرج كسائل الحيض») في وصفها للخاصية البيولوجية للإناث الثديات. ولكن «هذا لا يعني أنها لا تمتلك خصائص فردية. بل على العكس، ففي الفترات التي لا تنشغل فيها بالأمومة، تكون غالباً مساوية للذكر. فحاسة الشم لدى كلبة الصيد لا تختلف عنها لدى الذكر. وكذلك أثبتت البحوث أن ذكاء القردة يعادل ذكاء القرد». وما ينسحب على الثديات، ينسحب على الإنسان كذلك: «كيان الأنثى بأكمله يتأقلم ليكون في خدمة الأمومة التي تتحكم فيه، بينما تبقى المبادرة الجنسية من امتيازات الرجل. وهكذا تصبح المرأة ضحية النوع».

وتصف دوبوفوار الدورة الشهرية والحمل والرضاعة والأمراض المزعجة التي تترافق معها بطريقة مؤثرة، إلى درجة تجعلك تتساءل كيف بإمكان المرأة بعد كل هذا العذاب الجسدي الذي تتحمله كأنثى، أن تضع أمثولة المساواة نصب عينيها. ومع ذلك تصرّ دوبوفوار على أنه لا يوجد فرق جسدي واحد يؤدي بالضرورة إلى استنتاج بأن المرأة تختلف عقلياً كذلك، ناهيك أن يحكم رحمها عليها بتبعية عملية وجنسية وعقلية للرجل: «هذه الحقائق البيولوجية في غاية الأهمية، وتلعب دوراً أساسياً في تاريخ المرأة، وتشكل عنصراً جوهرياً في وضعها. [….] غير أننا نرفض أن نقبل أنها تحكم مصيرها بشكل نهائي. تلك الحقائق ليست كافية كي تحدد التراتبية بين الجنسين، أو أن تشرح لماذا المرأة هي “الآخر”، أو أن تحكم عليها بهذا الدور الدوني».

تؤمن دوبوفوار بـ«الثقافة»، وليس بـ«الطبيعة»، كنموذج تفسيري. لذلك نراها تشرّح جميع المحاولات المعروفة التي تنسب عدم المساواة المجتمعية بين الرجال والنساء إلى الفروق الجسدية. وتقدم أمثلة ما زال بعضها راهناً حتى الآن، نظراً للبحوث العلمية الشعبية التي تركز على الفروق بين دماغَي المرأة والرجل، والتي تجعل بعض الرجال ينفشون ريشهم كالديكة أثناء قراءتها. وحين تتناول دوبوفوار البحوث التي تثبت أن دماغ المرأة أقل وزناً من دماغ الرجل، تقول إنها «نقطة خلاف تافهة». كما تشير إلى أن الأرقام لا يمكن أن تكون صحيحة طالما لم يؤخذ فرق وزن الجسد بعين الاعتبار، لتصلّح بعد ذلك الخطأ بحسابات مقنعة، فيظهر أن أوزان أدمغة النساء والرجال لا تختلف عن بعضها. ومع ذلك تقرّ أن تلك الحسابات غير ضرورية، لأنه «لا يوجد أي دليل على أن وزن الدماغ يؤثر على تطور مستوى الذكاء».

ولا تكف دوبوفوار عن تكرار أن الإنسان «كائن يصنع نفسه بنفسه»، وتحاول دعم فرضيتها باقتباس ما كتبه زميل دراستها وصديقها الفيلسوف مورلو-بونتي: «الإنسان ليس نوعاً طبيعياً، وإنما مفهوم تاريخي».

وفي نهاية الفصل الأول تفترض أن البيولوجيا لوحدها لا يمكنها أن تجيب على السؤال الأساسي في كتابها: لماذا المرأة هي الآخر؟ «ينبغي الكشف عن تأثر طبيعة المرأة عبر التاريخ، ينبغي الكشف ماذا صنعت الإنسانية من الكائن الإنساني الأنثوي».

وفي الفصلين اللذين تختم بهما الجزء الأول، تتطرق دوبوفوار إلى التيارين الفكريين اللذين كان لهما أثر كبير على مثقفي جيلها: «وجهة نظر التحليل النفسي» و«وجهة نظر المادية التاريخية» اللذين سوف تستخدمهما كثيراً في الفصول القادمة من الجنس الآخر.

 في بادئ الأمر، تتناول دوبوفوار التحليل النفسي بتأن: «لقد ساعد منظور التحليل النفسي على فهم أن الموجود فعلياً ليس هو الجسم-الشيء، وإنما الجسم الذي تعيشه الذات. والمرأة هي أنثى بقدر ما تشعر هي بذلك». كما أنها توافق على أن مزيجاً من اللاوعي والمشاعر/الغيرة المكبوتة والجنس المتسامي يلعب دوراً أساسياً في نظريات سيغموند فرويد وتطبيقات التحليل النفسي. غير أن فرويد لم يهتم كثيراً بمصير المرأة: «من الجلي أنه بخصوص المرأة اقتبس وصفه من مصير الرجل، وعدّل فيه بعض الأمور». والنقطة الإيجابية مقارنة مع أطر التفكير الأقدم هي أن فرويد اعترف بأن المشاعر الجنسية لدى المرأة متطورة بالدرجة نفسها كما لدى الرجل، إلا أن دوبوفوار تدقق في إحدى مقولاته التي يبيّن من خلالها أن الجنس في رأيه مسألة ذكورية: «يمتلك الليبيدو جوهراً ذكورياً بصورة ثابتة ومنتظمة، سواء ظهر لدى المرأة أو الرجل».

من البدهي أن تتوقف دوبوفوار عند فكرة حسد القضيب لدى الفتيات، تلك الغيرة الداخلية حيال عضو جنسي ظاهر: «إنه يفترض أن المرأة تشعر أنها رجل مبتور»، ولكن: «حسد القضيب ليس عاماً إلى هذه الدرجة، ولا ينشأ عن مقارنة تشريحية بسيطة. […] للصبي تجربة حية تسمح له أن يفخر به، غير أن ذلك الفخر لا يؤدي بالضرورة إلى شعور بالإذلال لدى أخواته، لأنهن لا يعرفن العضو الذكري إلا خارجياً. لا يمكن لتلك النامية اللحمية الهشة أن تولّد عندهن سوى عدم الاكتراث وحتى الاشمئزاز». تعتبر دوبوفوار أن شوق البنات للحصول على قضيب، «في حال حصل ذلك أصلاً»، يأتي كنتيجة للحرية والقيمة المجتمعية المرتبطة بامتلاك ذلك الشيء. «فالفتاة لا تحسد القضيب إلا كرمز للامتيازات الممنوحة للصبيان. وتترسخ قناعتها بالتفوق الذكوري من خلال المكان الذي يشغله الأب في الأسرة، والسيطرة الذكورية بشكل عام، والتربية التي تتلقاها هي».

وثمة أمر آخر يزعج دوبوفوار في نظرية التحليل النفسي، وهو رفض «الاختيار» الذي يشكل جوهر فكرها الوجودي. يرى فرويد الإنسان كمنتج (عصابي) لحوافزه (الجنسية) والمحرمات التي يستدمجها، كما أنه يُعرِّف الرجل كإنسان، والمرأة كأنثى: «كلما تصرّفت المرأة ككائن بشري، يقول إنها تقلد الرجل». وهنا تسخر من زميله ألفريد أدلر كذلك: «حين تتسلق الفتاة الشجرة، فإن ذلك برأي أدلر لأنها تريد أن تتساوى مع الصبيان. لا يخطر بباله أنها تحب تسلق الأشجار فقط».

وبينما يصف المحللون النفسيون الفتاة الصغيرة أو الكبيرة بأنها «ميالة للتماهي مع والدها أو والدتها، مترددة بين نزعاتها “الشبيهة بالذكر” و”الأنثوية”»، تعتبر دوبوفوار أن الفتاة الناشئة «محتارة بين دور الموضوع أو الآخر المعروض عليها وبين المطالبة بحريتها». كما يتحدد إحساس تلك الفتاة بنفسها من خلال أخلاقيات المجتمع الذي تترعرع فيه: «في النظرية الفرويدية، تبدو الوحدة الإنسانية مقسّمة، ولا يوجد خط عبور من الفرد إلى المجتمع». أما دوبوفوار، فتعتبر كل حياة بشرية مرتبطة بشكل نهائي بالمجتمع: «من خلال الاختيار يحدد الفرد نفسه في العالم الذي يحيطه. ينبغي علينا أن نتأمل المجتمع، كي نعثر على أجوبة على الأسئلة التي تشغلنا».

 وتتلاقى دوبوفوار في هذه النظرة مع المادية التاريخية، أو النظرية الماركسية التي تمنح للعلاقات الاقتصادية والظروف الاجتماعية دوراً حاسماً، سواء في تاريخ الإنسان أو في الطريقة التي يعي الإنسان بها نفسه. أهم كتاب طبّق هذا المنطق على وضعية المرأة هو أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة (1884) لفريدريك إنجلز. تَرافقَ صدور هذا الكتاب مع صعود الموجة النِسوية الأولى، حينما كان حتى القادة الاشتراكيون يرفضون حق الانتخاب للنساء، لأنهم يتوقعون أن أغلبية النساء سوف يصوتن للأحزاب المحافظة.

اعتبرت دوبوفوار إنجلز حليفاً قديماً، أو على الأقل رجلاً واعياً لأنواع الاضطهاد الممارسة على المرأة. في رأيه، يرتبط استعباد النساء بتطوير الأدوات الزراعية التي ساعدت على إنتاج كمية من القمح والبقوليات والأنواع الغذائية الأخرى أكبر من الاستهلاك الشخصي. ذلك أن التنظيم المجتمعي المتمركز على الربح، والذي أدى إلى استغلال العمال من قبل مدراء المصانع، هو نفسه الذي أدى إلى تسلط الرجال على النساء. وحين نشأت الملكية الخاصة، احتل الرجال السلطة في المجال الخاص بأسلوب مطابق: الزواج الأحادي الذي كان هدفه توريث الرأسمال من الآباء إلى الأبناء. كتب إنجلز: «الأسرة الفردية الحديثة مبنية على الاستعباد المنزلي للمرأة بشكل صريح أو ضمني». وكذلك: «في الأسرة يكون هو البرجوازي، والمرأة تمثل البروليتاريا».

وافقت دوبوفوار على معظم أفكار إنجلز حول علاقة وسائل الإنتاج بموازين السلطة بين الجنسين، ولكنها كانت أقل افتتاناً بالشبه الذي لمسه بين النساء والعمال. قالت: «لقد تمكنت البروليتاريا أن تضع نفسها على المحك عبر الانتفاضات، كما شكلت خطراً على الذين يستغلونها […] وعملت على إلغاء طبقتها. أما المرأة، فلا تطمح إلى الثورة، ولا تريد أن تلغي نفسها كجنس. هي فقط تطلب ما إذا كان ممكناً أن تلغى بعض نتائج ذلك الفصل الجنسي». وملاحظة ثانية: «تحاول المادية الجدلية أن تنفي الطابع الدراماتيكي للجنس». هذا يعني أنه في حين بدت لها نظرية فرويد متمركزة بشكل أحادي حول الجنس كمحرك للإنسان، كانت نظرية ماركس تعاني من الحتمية الاقتصادية، لأن: «في الفعل الجنسي والأمومة لا تنخرط المرأة بوقتها وطاقتها فقط، بل بالقيم الأساسية كذلك».

رغم تحفظاتها تختم دوبوفوار الجزء الأول من الجنس الآخر بالملاحظة أنها أثناء ما تبقى من رحلة اكتشافها  للمرأة، لن ترفض مساهمات علم الأحياء والتحليل النفسي والمادية التاريخية، بل سوف تحاول فحصها من منظور الوجودية.

الجزء الثاني: التاريخ

تتجول دوبوفوار في خمس فصول عبر تاريخ العالم الموصوف والمرسوم في أغلب الأحيان من قبل رجال أوروبيين. تبدأ عند القبائل البدوية، وتنتهي في عصرها الحالي.

تشير بداية إلى قصص هيرودوت والأمازونيات، كي تثبت أنه منذ القدم كانت ثمة نساء لم تحدّهنّ أرحامهن. كذلك كانت ثمة نساء شاركن في العمليات القتالية. «كنّ يُظهرن بسالة وقساوة كما الرجال، ويقال إن بعضهن مزّقن بأسنانهن أكباد أعدائهن». جميعها قصص مذهلة طبعاً، ولكنها تعبّر عن الاستثناءات. فالمرأة الوسطية التي عاشت في ما قبل التاريخ، استسلمت في حياتها القصيرة إلى «قدرها البيولوجي». وتستنتج دوبوفوار: «اللعنة الأسوأ التي تثقل على المرأة هي أنها مستثناة من تلك الغزوات الحربية. بينما يتمكن الرجل من الارتقاء فوق مرتبة الحيوان، ليس بمنح الحياة، وإنما من خلال المخاطرة بحياته. لذلك لا يتفوق في البشرية الجنس الذي ينجب، وإنما الجنس الذي يقتل».

وتتبع دوبوفوار إنجلز في أن تمجيد العذرية والأمومة والزواج الأحادي شَرَعَ يتخذ أشكالاً اضطهادية، عندما صار ضرورياً للرجل أن ينجب الورثة من صلبه. وهكذا راح يوسّع حدوده واكتشافاته في مختلف المجالات، ويشكّل العالم حسب رؤيته، بينما تحولت المرأة إلى آلة إنجابية تُمنَح الحمايةَ والغذاء بالدرجة الأولى، وتستمد قيمتها من إنجازات زوجها. وكما قالت دوبوفوار: «لقد فتح لها المستقبل الذي سوف تتسامى نحوه».

وقد صدّق علماء الأنثروبولوجيا القدامى والنسويات المتفائلات بفكرة أنه كانت توجد مجتمعات أمومية، بأن الانتقال من البداوة إلى المجتمعات الزراعية قد منح المرأة مكانة محترمة. حيث أنها استطاعت التوفيق بين الأمومة وحراثة الأرض، وكان أطفالها ينتمون إلى قبيلتها وإلى قطعة الأرض التي هي ملكية جماعية. وحين تطورت الصناعة المنزلية، كانت هي التي تنسج السجادات، وتصنع الأواني الفخارية، وتتاجر عبر المقايضة. وتماشياً مع الدور الهام الذي اضطلعت به، ظهرت الإلهات الأنثوية: عشتار عند البابليين، وعشتروت عند الشعوب السامية، وسيبل عند اليونانيين، وإيزيس في مصر. «وفي أشعار هوميروس تمتعت أندروماك وهيكوب بأهمية لم تعد اليونان القديمة توليها للنساء المخبّأات في الحريم».

ومع ذلك تعتبر دوبوفوار «عصر المرأة الذهبي» مجرد خرافة، لأن تمجيد الأمومة والخصوبة والإلهات بصفات معينة يدل على أن المرأة هي الآخر: «حين تكون المرأة هي الأرض والأم والآلهة، لن تكون نداً بالنسبة للرجل. ذلك أن قوتها تتأكد في الطرف الآخر من العالم البشري، أي أنها خارج ذلك العالم. ويبقى المجتمع ذكورياً دائماً، وتبقى السلطة السياسية في يد الرجل». و: «كل ما يكسبه، يكسبه ضدها. وكلما ازدادت قوته، ضعفت هي. وخصوصاً حينما يصبح مالكاً للأرض، فيطالب بملكية المرأة أيضاً».

وحينما يستلم الرجال السلطة، تخسر المرأة مكانتها المميزة كأم شيئاً فشيئاً، وسوف تتبنى الإيديولوجيا السائدة التي عبّر عنها الشاعر التراجيدي إسخيليوس على سبيل المثال: «يعلن أبولون عن الحقيقة الجديدة: ليست الأم هي من تنجب ما يسمى ابنها، فهي ليست سوى المربية للبذرة المزروعة في داخلها. الأب هو الذي ينجب. تتلقى المرأة البذرة كمؤتمنة غريبة، وسوف تحتفظ بها إن شاءت الآلهة».

وفي الفصول التالية من الكتاب، تعرض دوبوفوار أنه لطالما استُثمِرت الأمومة عبر التاريخ في رفع المرأة إلى مستوى السماء، بغرض سحب جلّ – إن لم يكن كلّ – نفوذها على حياتها الخاصة. وبالإضافة للقوانين المدونة وغير المدونة التي جعلت من النساء مواطنات من الدرجة الثانية، جاءت الأديان التي سيطر عليها الرجال، وأصبح الرب الأهم هو البطريرك الكبير، وحلّ الرجل في محله كربِ داخل الأسرة.

وحين تبلغ القرون الوسطى، تتطرق دوبوفوار إلى معاداة النسوية في الدين المسيحي. فتقتبس مثلاً عن الرسول بولس الذي أكد على أن المرأة مخلوقة من ضلع آدم، وولِدت كامرأة كي تخدم الرجل: «لأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة». كما توصف المرأة بأنها كائن شيطاني يغري الرجال إلى الفجور، وهي ليست مسؤولة عن الطرد من الفردوس فحسب، بل كذلك عن موت المسيح. فيكتب ترتليان: «أيتها المرأة، أنت بوابة الشيطان. لقد أغريتِ الذي لم يجرؤ الشيطان على مواجهته مباشرة. بسببك مات ابن الرب، فعليك أن تسيري دائماً مرتدية أسمال العزاء». ويضيف أمبرواز: «قادت حواء آدم إلى الخطيئة، وليس آدم من قاد حواء. فمن العدل أن تقبل المرأة ذلك الذي قادته إلى الخطيئة كسيد». كما قال يوحنا ذهبي الفم: «من بين جميع الحيوانات المتوحشة، المرأة هي الأكثر ضرراً».

كما تثبت الأعمال الأدبية التي كتبت في القرون الوسطى تلك الدونية. «ففي كثير من أشعار البطولات يتم التغني بأن الملك أو السلطان يمتلك النساء والأرامل كطاغية. كذلك نقرأ أن الرجل الذي حصل على المرأة كهدية، لا يعاملها بأدنى احترام، بل يسيء معاملتها ويضربها ويشد شعرها». وقد شرّعت المنظومة القانونية تلك الأخلاقيات، ولطّفتها بعض الشيء. «كل ما أراده رجل القانون فيليب دوبومانوار حينما سنّ القوانين الفرنسية القديمة “عادات بوفيزيز” في القرن الثالث عشر هو أن يعاقب الزوج زوجته بشكل معقول».

لا شك أن ثمة قصصاً قروسطية حول نساء اشتهرن جراء مشاريعهن العظيمة أو الفظائع التي قمن بها أو تضحياتهن السخية أو بطولاتهن، غير أنهن لا يشكلن سوى الاستثناءات التي تثبت القاعدة. «فقد كانت المرأة تقضي أيامها بالتطريز والصلاة وانتظار زوجها والملل».

وبما أن قصص الطبقات العليا كانت ولا زالت الأكثر تدويناً من غيرها، فقد تحدّرت معظم الأمثلة التي أوردتها دوبوفوار حول مصير المرأة من تلك البيئات. وتتوقف دوبوفوار عند هذه النقطة بين الحين والآخر، وتستنتج أن الفروق بين الجنسين عند المعدَمين كانت أقل صرامة مقارنة مع الأثرياء. «ففي الطبقات الثرية على وجه الخصوص، كانت تبعية المرأة هي الأكبر والأوضح. أما الفقر المشترك، فيجعل من الزواج رباطاً وثيقاً. لا يملك الرجل المعدم سبباً ليكون سيداً على المرأة التي لا تملك شيئاً». وقد تم الحفاظ على هذا النوع من المساواة في عصر النظام الإقطاعي والحِرَفيين المختصين: «حين تُلغى العبودية، يبقى الفقر. وعندئذ سوف ينتبه الناس في المجتمعات الزراعية والحرفية الصغيرة على وجه الخصوص إلى أنهم يتعاملون بالتساوي بين الرجال والنساء. أما المرأة الثرية، فسوف تدفع ثمن كسلها بالخضوع».

غير أن دوبوفوار ترى بصيص أمل في حيوات نساء الطبقات الثرية. ذلك أن الحياة الفارغة التي يَحيينها في القصور، تمكنهنّ من «العمل على ازدهار المحادثات المتحضرة والأساليب الراقية والشعر». نخبة من المتعلمات أحطنَ أنفسهن بالشعراء، واكتسبنَ نوعاً جديداً من المكانة، وانتعشنَ بالأدبيات حول الحب الفروسي الذي قيل إنه كان عذرياً: «في حقيقة الأمر، كان الزوج الإقطاعي طاغية ووصياً، مما دفع المرأة للبحث عن عشيق خارج مؤسسة الزواج». وبينما كان للحب خارج مؤسسة الزواج هالة عفة عذبة تحيط بنساء القصور، لم يكن أزواجهنّ يخفون أن لديهم عشيقات أو أنهم يزورون العاهرات، حتى بعدما أعلنت نهاية العصور الوسطى عن ولادة الأخلاق البرجوازية: «حين صعدت البرجوازية وطُبِّق الزواج الأحادي بشكل صارم، اضطر الرجل إلى أن يبحث عن المتعة خارج المنزل. […] وقد قال شوبنهاور متعاطفاً: العاهرات هن الأضحيات التي تقدمها البشرية على مذبح الزواج الأحادي».

وطبعاً تهتم دوبوفوار بالنساء الراغبات بالكتابة. ذلك أن «ألف حقيقة صغيرة تتآمر ضدهنّ». وتشير إلى فيرجينيا وولف التي كتبت في غرفة للمرء لوحده عن أخت شكسبير («بينما يذهب هو إلى المدرسة ليتعلم اللاتينية والنحو والمنطق، تبقى هي لصيقة بيتها ولا تتعلم شيئاً»)، وكذلك إلى الليدي وينشلسي، تلك السيدة النبيلة التي كانت غاضبة بخصوص مكانة النساء في الأدب:

وا أسفاه! المرأة التي تمسك بالقلم

تعتبر مغرورة للغاية

ولا تملك وسيلة لتكفّر عن جريمتها!

وحين تصل إلى نهاية العصور الوسطى، تذكر دوبوفوار فلاسفة التنوير المشهورين الذين دافعوا عن المرأة، ومن بينهم بولان دولابار، ذلك «النسوي الأكثر اقتناعاً في تلك الحقبة»، والذي اقتبست كلماته في مُستهلّ كتابها. ففي ردٍ منه على الرجال المثقفين الذين يزعمون أن النساء غير قادرات على إنتاج شيء ذي قيمة (فنية) جراء نقص خُلُقي في المواهب لديهنّ، قال دولابار إن الرجال ميّزوا أبناء جنسهم في جميع المجالات لأنهم الأقوى، وإن تقبُّلَ النساء لتلك التبعية نابع عن نوع من التعود: «لم تسنح لهن أي فرصة للحرية أو التعلم. لذلك لا يمكن الحكم على منجزاتهن في الماضي».كما تجد دوبوفوار في نيقولاس كوندرسيه حليفاً، إلى درجة أن إحدى مقولاته تشبه جملتها الشهيرة حول أن المرء لا يولد امرأة: «ليست طبيعتهنّ، بل تربيتهن ومكانتهن الاجتماعية سببتا ذلك الاختلاف».

وتُكرّس دوبوفوار بضعة صفحات حول النساء – الشعبيات – اللواتي شاركن في الثورة الفرنسية ضد النظام القديم، وحول الحركة النسوية في تلك الفترة. إحدى الأعلام النسوية التي برزت حينها هي أوليمب دوغوج التي خطت إعلاناً لحقوق المرأة طالبت فيه بإزالة جميع الامتيازات الذكورية. ورغم تلك الأصوات النسوية، تستنتج دوبوفوار أن الثورة الفرنسية في عام 1789 لم تغير مصير المرأة بأي شكل من الأشكال: «احترمت هذه الثورة البرجوازية المؤسسات والقيم البرجوازية، كما أنها كانت إلى حدٍ بعيد صنيعة الرجال» و: «تمتعت المرأة بحرية فوضوية أثناء تصفية الثورة. ولكنها استُعبِدت ثانية بقسوة عندما أعاد المجتمع تنظيم نفسه من جديد».

لم تفضِ الحرية الفكرية التي تبناها الثوار إلى تحرير المرأة. حيث بقي مصيرها هو الأسرة، وبقيت المرأة المتزوجة محرومة من حقوق المواطنة، حتى بعدما ظهرت الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر، وراحت أمهات الأطفال المنتميات للطبقات الدنيا يعملن في المصانع ضمن ظروف سيئة للغاية – أحياناً سبعة عشر ساعة في اليوم. وبنفور واضح تقتبس دوبوفوار المقولة التي ترددت كثيراً في ذلك الزمان: «إنهنّ يعملن أفضل بأجر أقل». كما أشارت إلى أن الاستغلال الاقتصادي ترافق في كثير من الأحيان باستغلال جنسي. فمثل الخادمات في بيوت الأثرياء، تتعرض العاملات في المصانع للاغتصاب من قبل رؤسائهم، دون أن يتمكنّ من تقديم شكوى خجلاً أو خشية فقدان الدخل.

الاشتراكيون هم الذين دافعوا عن النساء العاملات، حتى أنهم طالبوا بالمساواة بين الجنسين في المؤتمر الاشتراكي لعام 1879. وحسب دوبوفوار، فإنه اعتباراً من ذلك الوقت لم يعد ممكناً فصل النسوية عن الاشتراكية. ولهذا ميزة سلبية كبيرة في رأيها: «نساء الطبقات الدنيا لن يناضلن من أجل قضيتهن إلا بالدرجة الثانية، لأنهنّ يتوقعن الحرية من خلال تحرير العامل بشكل عام. أما نساء البيئات البرجوازية،  فيطمحن إلى حقوق جديدة ضمن الأطر الحالية للمجتمع، ولا يرغبن أن يصنّفن كثوريات».

هذا التناقض المستعصي بين النساء، ما زال راهناً سبعين عاماً بعد صدور الجنس الآخر. وقد وجدت دوبوفوار أن الحركة النسوية المطالبة بحق الانتخاب كانت متجذرة في انقسام عميق بين النساء: «الحقيقة هي أن النساء لسن متضامنات كجنس، فهن يشعرن بالارتباط بطبقتهن الاجتماعية بالدرجة الأولى. ولا توجد عوامل مشتركة بين مصالح نساء الطبقة البرجوازية ونساء البروليتاريا».

ونصل في نهاية الجزء التاريخي من الكتاب إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي الفترة التي كتبت دوبوفوار فيها كتابها. فقد اكتسبت كلمة مساواة معانيَ جديدة حينها، وصارت تطبق في بعض البيئات على وضع النساء كذلك. كما أُسِّست الأمم المتحدة في 1945، واعتُبِر تحرر المرأة أحد المبادئ التوجيهية الرسمية للبلدان المنضوية تحتها. لا بد أن يعتبر ذلك ربحاً، غير أن دوبوفوار لم تكن متفائلة. فبالرغم من جميع التطورات الاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية، إلا أن النساء ما زلن في وضع التبعية. «وهكذا ترى المرأة نفسها وتختارها كما يحددها الرجل، وليس كما توجَد لنفسها. ينبغي عليّ أن أصف أولاً تلك المرأة التي يحلم بها الرجل، لأن وجودها بالنسبة له من أهم العوامل الجوهرية لوجودها الفعلي».

الجزء الثالث: الأساطير

تبحث دوبوفوار ضمن هذا الجزء في رؤوس الكتّاب الرجال وقلوبهم عن الصور التي سمّرت المرأة في وضع «الآخر». كانت تلك الصور سامية أحياناً، ومخيفة أحياناً، ومثيرة (جنسياً) أحياناً أخرى، إلا أنها جميعها ساهمت في الاحتفاظ بالوضع الراهن الذي يؤكد تفوق الرجل، حتى كادت المرأة تصدق أنها الجنس الضعيف. هو كان ولا زال الذات، وهي الموضوع. ونجد هذا الافتراض في كثير من النصوص، من الأساطير الإغريقية إلى قصة الخلق الإنجيلية، ومن فوست لغوته إلى مراحل على طريق الحياة لكيركغارد، ذلك الفيلسوف الذي تم تنميطه كأحد أسلاف الوجودية جراء آرائه حول «الخيارات الشخصية». وتقتبس دوبوفوار من أعماله ما يلي: «أن تكون امرأة هو شيء غريب للغاية، ومشوِّش للغاية، ومعقد للغاية، بحيث لا يمكن لأي وصف أن يكون معبراً، وجميع المسميّات متناقضة إلى درجة لا يمكن أن تحتملها سوى امرأة». طبعاً لم تهبط رؤيته من السماء، لأن هذا الدانماركي الذي عاش في القرن التاسع عشر لم يكن الأول ولا الأخير الذي اعتبر المرأة لغزاً.

في عديد النصوص نجد المرأة متقلبة كـ «الطبيعة»، فهي ظاهرة تمنح الحياة، وتنطوي على الموت، وبمقدورها أن تنقلب عليك في أي لحظة. تقول دوبوفوار في هذا الخصوص: «هي ما يعارض الروح، وهي الروح ذاتها. كما تتناوب على دور الحليفة والعدوة متمظهرة كالفوضى العمياء التي تنبع منها الحياة، وهي الحياة، وهي الضفة الأخرى التي تنحو إليها. تلخّص المرأة الطبيعة كأم وزوجة وفكرة، غير أن تلك الصور تختلط تارة وتتعارض تارة أخرى، ولكلّ منها وجهان».

ثمة نصوص كثيرة تساند محاججتها حول الفروقات بين الجنسين التي ابتدعها الرجال وتبنتها النساء، والتي تكرس الانقسام الثنائي: «تعتبر خصوبة النساء كفضيلة سلبية. هي الأرض، وهو البذرة. هي الماء، وهو النار. الشمس والنار إلهان ذكريان، أما البحر فهو من أكثر الرموز الأمومية انتشاراً».

ومن البحر بأسراره ومخاطره والرجل الطامح إلى أن يسيطر على المرأة كما البحّار على المحيطات، تنتقل دوبوفوار إلى العادات والتقاليد بخصوص الجنس. وتتناول بداية الأساطير حول النساء الحائضات، فتتوقف عند النساء اللواتي يُعتبرن دنسات أثناء دورتهن الشهرية. حتى أنه يحصل أحياناً أن يُطردن حرفياً من البيت، ليمكثن في أكواخ منفصلة ريثما تنتهي فترة الطمث المشؤومة: «منذ صعود الأبوية، يعزو المرء السائل المشبوه الذي يفرزه عضو المرأة الجنسي إلى قوى شريرة. وقد كتب بلينيوس في التاريخ الطبيعي: المرأة الحائض تفسد الحصاد، وتخرّب الحدائق، وتقتل البذور، وتسقِط الثمار، وتبيد النحل. وحينما تلمس النبيذ يصبح خلاً، ويَحمضّ الحليب». إنها أفكار ما زالت تتواتر حتى الآن، ودوبوفوار ترفضها جملة وتفصيلاً: «في حقيقة الأمر ليس الدم هو الذي يجعل المرأة دنسة، ولكنه يعبر عن دناستها الثقافية».

في الأساطير حول جنسانية المرأة، تلمس دوبوفوار مزيجاً من هلع الموت والرغبة والاحتقار وإرادة الرجال بالسيطرة على النساء. خذوا على سبيل المثال الهوس بالعذرية: «يخشاها الرجل تارة، ويتمناها تارة أخرى، أو حتى يفرضها. فتغدو العذرية الشكل الأكثر اكتمالاً للّغز الأنثوي […] وحسبما يشعر الرجل أن القوى المحيطة به تسحقه، أو يعتقد فخوراً أنه قادر على إخضاعها لإرادته، يرفض أو يطالب أن تكون زوجته عذراء». وتقدم دوبوفوار أمثلة كثيرة عن مجتمعات تطالب المرأة أن تكون عذراء عند الزواج: «ما زالت ثمة قرى في فرنسا تُعرض فيها الملاءة المدمّاة أمام الأهل والأصدقاء صبيحة الزفاف، لأن الرجل أصبح في النظام الأبوي سيد المرأة». كما تلمّح إلى أن تمجيد العذرية ينقلب قرفاً حين تقترب العذراء من سن انقطاع الطمث: «العذراوات اللواتي لم يسيطر الرجل عليهنّ، والعجائز اللواتي أفلتن من سطوته، يُنظر إليهن كساحرات أكثر من غيرهنّ».

وفي رحلة بحثها عن الأساطير حول الجنسانية (الأنثوية)، تستخدم دوبوفوار كثير من القصص التي تستنتج من خلالها أن الرجل يشعر كما لو أنه أخضع الطبيعة حين يمتلك المرأة، وأن المرأة تقنع نفسها أن ترتدي ملابس غنجة وغير مريحة، وتضع الأصبغة على وجهها كي يخفّ تهديدها له قدر الإمكان: «الطبيعة حاضرة لدى المرأة المزيّنة، لكنها أسيرة، فقد شكّلتها الإرادة البشرية حسب رغبة الرجل».

في الفصل نفسه تعتبر دوبوفوار الديانة المسيحية كحامل ثقافي لبُغض النساء: «إن نفور المسيحية من الجسد الأنثوي يصل إلى درجة أن يحكم المرء على ربه بالموت المذل، ولكنه يوفر عليه دنس الولادة». ولذلك أعلن الكنسيون القروسطيون أن الأم مريم عذراء.

وتسحب دوبوفوار بعدئذ قراءها عبر غابة من الأفكار الخرافية حول الأم كقامة فاضلة، والحماة كشخصية مفزعة، والمرأة «الجيدة» أي الخاضعة، والقديسة العذراء كعزاء مقابل الرب الصارم، وأسطورة الحسناء النائمة، والفتاة الساقطة والخائنة. كما تُشبع دوبوفوار كتابتها بالاقتباس من سقراط وأورسون ويلز وسومرست موم ونيتشه ومالرو وميلر («حين ينام هنري ميلر مع العاهرة، فهو يقيس أعمق أعماق الحياة والموت والكون»)، لتستنتج في آخر المطاف أن الرجل يعكس إلى المرأة «كل ما يتمناه ويخشاه، وكل ما يحبه ويكرهه».

وفي فصل مستقل، تتطرق دوبوفوار إلى الأساطير عن المرأة لدى خمسة كتّاب: هنري مونترلان «الذي يحلّق في سماء الأبطال، بينما تقبع المرأة على الأرض تحت قدميه»، وكذلك د.ه. لورنس «الذي يموضع التسامي في القضيب»، وباول كلوديل «الذي يرى أن المرأة تحافظ على الحياة، بينما يوسّع الرجل حدودها»، وأندريه بروتون «الذي يجلّ المرأة لأنها تجلب السلام»، وستندال هو الوحيد الذي يتلقى كامل التقدير: «لا يطمح ستندال إلى تحرر المرأة باسم الحرية فحسب، وإنما باسم الشخصي والسعادة الفردية. في رأيه، لن يخسر الحب شيئاً، بل سوف يصبح حقيقياً أكثر كلما تمكنت المرأة المتساوية مع الرجل من فهمه بشكل أفضل». وبعد دوبوفوار سوف تعشق نسويات كثيرات أعمال ستندال، فخلافاً لمعظم الكتاب الرجال كان يصف شخصياته الأنثوية ككائنات بشرية، وليس كتجسيد لصورة مثالية أو فزّاعة.

وتقول دوبوفوار في نهاية كتابها الأول: «مقابل وجود النساء المبعثر والعارض والمتعدد، يضع التفكير الخرافي المؤنثَ الخالد والوحيد والجامد. وفي حال ناقض سلوك النساء الحقيقيات ذلك التعريف المعطى له، فهنّ المخطئات. فلا يقال إن الأنوثة تجريد لا معنى له، بل إن النساء لسن أنثويات».

الكتاب الثاني: التجربة الحياتية

وكما تفعل في الكتاب الأول، تفتتح دوبوفوار كتابها الثاني باقتباسين لرجلين. الأول هو لكيركغارد: «أي مأساة أن تكون امرأة! ومع ذلك، فالمأساة الكبرى هي ألا تفهم المرأة أن ذلك مأساة». والاقتباس الثاني لسارتر: «الجميع نصف ضحية، ونصف شريك بالجريمة». سوف نلاحظ أن وقع هذا الاقتباس سوف يظل واضحاً عبر الصفحات القادمة.

وفي مقدمتها، تبين دوبوفوار أن النساء منهمكات في إسقاط خرافة الأنوثة: «فقد بدأن يثبتن استقلاليتهن بشكل محسوس. ولكنهن ينجحن بصعوبة في أن يعشن وضعهن كإنسان بشكل كامل. وإذ تربين ضمن عالم أنثوي على يد نساء، فمصيرهن الطبيعي هو الزواج، حيث ما زلن عملياً تابعات للرجال».

وكما هو عنوان الكتاب الأول، فإن عنوان الثاني معبر أيضاً. ففي «التجربة الحياتية» تصف دوبوفوار في أربعة أجزاء تشكيل البنت الصغيرة نحو امرأة شابة (ومن ضمنه التدريب الجنسي ونمو النساء السحاقيات)، ومسار حياة المرأة الناضجة (الوضع) إلى أن تصبح عجوزاً (مع فصل مستقل عن المومسات والخليلات)، والتبريرات التي تجعل النساء يشعرن بالاعتزاز بقيودهن. وكخاتمة، لدينا الجزء الذي لطالما قُرِأ بشكل منفصل عن الكتاب، وهو بعنوان «نحو التحرير».

الجزء الرابع: التشكيل

«لا يولد المرء امرأة، بل يصبح كذلك». ها هي أخيراً تلك الجملة الشهيرة في مستهل الجزء الذي تحاول دوبوفوار من خلاله إثبات أن الأطفال بعد انطلاقة متساوية («الصبيان كما البنات يحاولون لفت الانتباه ونيل الإعجاب واستدراج الضحكات»)، يتم تشكيلهم كرجال ونساء من خلال التربية والتقاليد والفروق في التقييم المجتمعي. وتطرح دوبوفوار بداية أن «الأطفال يستكشفون الكون من خلال عيونهم وأياديهم، وليس عبر أعضائهم الجنسية». «أول ثلاث إلى أربع سنوات لا يوجد فرق بين سلوك الصبيان والبنات». ولكن منذ البداية «ثمة أناس يفرضون صيرورة المرأة على البنات بإلحاح واستبداد». أما الصبي، فيتعلم منذ نعومة أظفاره أن لا علاقة له بالعالم المنزلي الذي يسود فيه الحب والعناية والتبعية. يقال له إن «الصبي لا  ينق من أجل قبلة، الرجل لا ينظر في المرآة، الرجل لا يبكي». يراد منه أن «يكون رجلاً صغيراً»، ولن يكسب رضى البالغين إلا من خلال الاستقلال عنهم. ولكي يتشجع على سلوك الدرب الشاق الذي لا رجعة منه، يتم نفخه بالفخر بذكورته.

وكتتمة لنظرية التحليل النفسي حول حسد القضيب، تصف دوبوفوار كيف يتعلم الصبيان بكل الطرق أن الرجولة الموقرة التي ينبغي السعي إليها تتمثل في قضيبهم. وبينما لا تتلقى الأعضاء الجنسية الأنثوية أي اهتمام أو اهتماماً سلبياً فقط، يتم التعامل مع الأعضاء الجنسية للصبيان بترحاب خاص من قبل الأمهات والقائمين على الرعاية. «وليس نادراً أن يدللوا العضو الذكري بمنحه لقباً، ويوجهون الكلام إليه كما لو أنه كائن بشري هو ذاته والآخر في آن». الأمر أشبه بعبادة القضيب الذي ينبغي أن يعوّض عن حضن الأم  الذي غالباً ما يُفصل عنه الصبيان بشكل أسرع وأكثر صرامة من البنات بغية أن يصبحوا أقوياء.

وفي معرض تفكيرها حول حسد القضيب، تقتبس دوبوفوار بضع فقرات من دراسة علم نفس المرأة للمحللة النفسية البولونية-أميركية الأصل هيلين دويتش: «يمكن أن يكون لرؤية العضو الذكري تأثير صادم شريطة أن تكون سبقته سلسلة من الخبرات القادرة على إحداث هذا التأثير. فإذا كان لديها انطباع أنها محبوبة ومحترمة أقل من أشقائها، عندئذ سوف تعكس عدم اكتفائها على العضو الذكري».

وحسب دوبوفوار، سرعان ما يؤدي نظام العنصرية في تربية الصبيان والبنات إلى تنافس الصبي في الصلابة والاستقلالية مع الصبيان الآخرين، وإلى احتقاره للبنات. «يفخر بعضلاته كما بعضوه، وعبر الألعاب والرياضة والمصارعة والتحديات والمِحَن، يجد استعمالاً متوازناً لقواه. وفي الوقت نفسه يتعلم دروس العنف القاسية، وكيف يمتص الضربات، ويحتقر الألم، ويحبس دموع الطفولة». وعلى العكس لدى المرأة، فهناك منذ البداية «صراع بين وجودها المستقل وبين كونها آخر». فيعلمونها أن عليها «أن تنال الإعجاب من أجل أن تناله، وأن تجعل من نفسها موضوعاً، وبالتالي أن تتخلى عن استقلاليتها». وفي هذا السياق، تشير دوبوفوار إلى مدى تعقيد علاقة الأم بالبنت: «الأم تدللها وتغنجها بتسلط، وفي الوقت نفسه تعاديها، وتفرض عليها مصيرها ذاته». وتتوصل إلى أن البنت في السنوات الأولى من عمرها سوف تستكين لهذا المصير دونما صعوبة، حتى ولو كان ذلك لمجرد أنها تعتقد من خلال منظور عالمها الطفولي أن أمها محاطة بهيبة وسلطة أكثر من الأب. تلعب بدميتها كما لو أنها طفلتها، وتضم أمها إلى هذه الحياة الخيالية لتلعب لعبة الأب والأم. «ولكن هذا لا يعني أننا أمام غريزة أمومية فطرية وغامضة. كل ما هنالك أن البنت الصغيرة تلاحظ أن العناية بالأطفال منوطة بالأم. يعلمونها ذلك، وكل ما تسمعه لاحقاً من قصص، وتقرأه من كتب، وكل تجربتها المحدودة، سوف يؤكد على ذلك».

وتعتقد دوبوفوار أنه من المنطقي أن تقتنع البنت مع مرور السنين أن جنس الرجال أفضل من جنسها: «التفوق الذكوري ساحق: برسيه وهرقل ودافيد وأخيل ولانسلو ودوغوسكلين وبايار ونابليون، كلهم رجال مقابل جان دارك واحدة. […] وإذا قرأت البنت الصغيرة الصحف أو أصغت إلى حديث الكبار، سوف تلاحظ أن الرجال يقودون العالم اليوم كما فعلوا فيما مضى. رؤساء الدول والجنرالات والمستكشفون والموسيقيون والرسامون الذين تعجب بهم هم رجال. وهم من يجعل قلبها يخفق حماسة».

وحين تصل البنت إلى سن المراهقة، فهي تدرك أن «قبولها لذاتها كامرأة يعني أن تتنازل وتتشوه». ويفضي ذلك إلى أشكال دراماتيكية من المقاومة حين تكون أمها من نوع العبدة المنزلية: «لا ترغب ابنتها بالتشبه بها، بل تشعر بإعجاب شديد حيال النساء اللواتي أفلتن من العبودية النسائية: الممثلات المسرحيات والكاتبات والعالمات. وتبذل نفسها بحماسة شديدة للرياضة والدراسة، وتتسلق الأشجار غير آبهة بتمزق ثيابها، وتحاول التنافس مع الصبيان بشتى السبل».

وتنشأ في تلك المرحلة العمرية صداقات حميمة (أشبه بالعاطفة الجنسية أحياناً) بين الفتيات، بحيث يتناوب التضامن مع العدائية فيما بينهنّ، وتظهر المقاومة حيال قَدَر النساء على شكل نفاذ الصبر ونوبات الغضب والدموع. «إنهن يملنَ إلى الدموع – ميلٌ يستمر لدى كثيرات مدى الحياة، وينبع غالباً عن تفضيلهنّ لدور الضحية».

وحتى في أوروبا عام 1949، كانت الدورة الشهرية بالنسبة لكثيرات حدثاً محاطاً بالغموض والتابوهات والقرف. كما اعتُبِر الجنس أمراً لا تمارسه الفتيات المهذبات. ونادراً ما كان يتمّ إعلام البنت حول تفاصيل هذه الأمور، إلا أنها تستنتج من خلال النواهي التي فرِضت عليها بعد طمثها الأول أن التعامل مع الرجال خطر ويصيب بالتلويث. وفي الوقت نفسه، تصبح فريسة استيقاظ مشاعرها الجنسية، فتخضع لها بكامل الذنب وتأنيب الضمير. كما أنها تُغمَر بالأدب وأغاني الحب العفيفة. وتقتبس دوبوفوار من رواية لتيد مونييه: «كيف يمكن لفتيات بريئات مثلنا أن يربطن بين تلك الأشياء وبين الأغاني العاطفية والقصص التي تصوّر الحب كاحترام صرف وخجل وتنهيدة وقبلة على اليد، وتحكم عليه بالسموّ إلى حد الإخصاء؟».

ومع ذلك تدرك معظم الفتيات اعتباراً من سن الخامسة عشر أن محور حياة المرأة هو العثور على رجل جيد والحفاظ عليه، وطمس ذاتها، وتكبّد الألم. ها قد بلغن سن الحيض، ومارسن أولى تجاربهن – المزعجة غالباً – في الجنس الغيري، ورأين من خلال أمهاتهن أن الحمل يسبب ألماً وترهلاً جسدياً، فاستسلمن للمستقبل «جريحات ومستحيات وقلقات ومذنبات».

وبينما يتابع الفتى الناشئ طريقه إلى الرشد بنشاط، تدخل الفتاة حاضرها من دون هدف أساسي. «وهكذا ينقضي شبابها بالانتظار. هي تنتظر الرجل». وبينما يحلم ويشتهي الفتى المرأةَ التي سوف تخدمه (جنسياً)، يشكل الرجل كل شيء في حياة الفتاة. «بنظرها يجسّد الرجل الآخر، كما تجسّد هي الآخر بالنسبة له. غير أن ذلك الآخر يظهر لها جوهرياً، بينما تعتبر نفسها بعد المقارنة كغير جوهرية». وهكذا سوف تنتهي إلى نوع من الانهزامية وعدم المسؤولية حيال مستقبلها.

وفي فترة المراهقة، تتأكد عقدة النقص التي اكتسبتها في طفولتها. ويفضي ذلك لدى الفتيات المترعرعات في بيئة محافظة إلى آلام مبرّحة أثناء الحيض، ويملن إلى رؤية أنفسهن كدمى غير قادرات على مواجهة الحياة. «غير أن الأطباء النسائيين متفقون على أن تسعين بالمئة من مريضاتهم يشكين من مرض وهمي» سببه «الخوف من كينونة الأنوثة». تقول دوبوفوار: «دعوها تسبح، وتتسلق أعالي الجبال، وتقود الطائرات، وتصارع عناصر الطبيعة، وتخاطر وتغامر، عندئذ سوف يختفي ذلك الخجل من العالم». ولكن عوضاً عن ذلك يتم تذكير الفتاة أن كينونة الأنوثة تعني أنها يجب أن تتصنع العجز والتفاهة والسلبية والطاعة، وشيئاً فشيئاً سوف تتعلم متى تستخدم تلك «الميزات الأنثوية». «إذ منذ مرحلة الغنج الطفولية حيال أبيها، وفي تخيلاتها الجنسية، عرفت سحر السلبية. وها هي تكتشف الآن قوتها».

ومن خلال فقرات اقتبستها من كتب تروي حكايات بنات يحلمن بالأمراء على الأحصنة البيضاء، أو يؤلّهنَ أساتذتهن، أو يتجاوزن حدودهنّ (مؤقتاً) في ممارسة الحب  مع صديقاتهن، تحاول دوبوفوار أن تكشف عما يسبق تلك الفترة التي تستسلم فيها معظم البنات للحتمية: «ويتضافر كل شيء كي يكبح طموحها الشخصي، وفي الوقت ذاته يدعوها ضغط اجتماعي هائل إلى أن تجد في الزواج موقعاً اجتماعياً ومسوِّغاً».

وتفرد دوبوفوار فصًلا مستقلاً حول «التدريب الجنسي» تتبع فيه بالخطوط العريضة نظرية التحليل النفسي حول تطور الأطفال الجنسي: «هناك فترة تدريب نظرية وعملية تتالى منذ الطور الفموي، فالشرجي، فالتناسلي، حتى سن الرشد». غير أن الفتاة تعاني من عقبات إضافية. ففي حال لم تمتنع جراء الشعور بالذنب، والخجل، والنفور المستدمج أو الجهل، سوف تكتشف عبر العادة السرية أو المداعبات مع الصديقات أن جسدها مليء بمناطق الإثارة الجنسية، وأنه بإمكانها بلوغ الذروة عبر فرك البظر. ولكن حين تكبر، فسوف يُطلب منها أن تنتقل إلى ما يعتبره فرويد الشغل الحقيقي، وما تؤشكله دوبوفوار: المتعة المهبلية أثناء الإيلاج. وبإشارة إلى تقرير كينزي، تشكك دوبوفوار بوجود ذروة جنسبة تحصل في المهبل: «ثمة عديد من الدلائل التشريحية والسريرية التي تثبت أن الجزء الأكبر من المهبل خال من الأعصاب». ولكن كيفما كان، فإن الذروة المهبلية هدف غير قابل للتحقق، وخاصة حينما يعتليهن الرجل ويدخل قضيبه المنتصب في داخلهن. «إن فض البكارة ليس نهاية منسجمة لتطور مستمر، إنه قطيعة حادة مع الماضي، وبداية دورة جديدة».

ما عدا أن فض البكارة غالباً ما يتمّ بأسلوب خشن وأخرق، والخوف من الحمل غالباً ما يعرقل الإثارة لدى المرأة، فإن دوبوفوار تشخّص عقبة إضافية: «هو يأخذ متعته منها، وهي تمنحه إياها». ويبقى الرجل قبل العملية الجنسية وبعدها شخصاً مستقلاً فاعلاً، أما المرأة فتتعرض لهذه الأمور فقط، وفي حال جرت العملية على ما يرام، فإنها سوف تفقد نفسها. «بالنسبة للمرأة، المتعة نوع من الافتتان الذي يتطلب استسلاماً تاماً وكاملاً. وسوف يختفي ذلك الافتتان حالما تشكك الكلمات والإيماءات بسحر العناق». ولكن: «كثير من الرجال يتخيلون أن إمتاع المرأة عبارة عن مسألة وقت وتقنية، وحتى عنف. لا يدركون إلى أي درجة تتحدد جنسانية المرأة بالظرف».

وثمة فرق آخر: «لا يتم الإيلاج إلا بموافقة الذكر، ونهايته الطبيعية هي إشباع الذكر». وحتى لو كانت المرأة تشكو من التشنج المهبلي، «سوف يتمكن الرجل من إشباع نفسه بجسد تسمح له قوته العضلية بوضعه تحت رحمته. بما أنها موضوع، لن تغيّر عطالتها من دورها الطبيعي كثيراً. حتى أن كثيراً من الرجال لا يهتمون بمعرفة إن كانت المرأة التي تشاطرهم سريرهم تريد الإيلاج أو تخضع له فقط. باستطاعته حتى مضاجعة جثة».

وتوضّح دوبوفوار من خلال الأمثلة ما هي الأشياء التي يمكن أن تصيب النساء اللواتي يشعرن بالاستغلال والإهانة بعد ممارسة الجنس: أعراض جسدية مزمنة واكتئابات وعصابات لا تبرح. ولكن حتى في تلك الحالات، ثمة أمل بالتحسن: «يجري التدريب الجنسي بسهولة أكبر كلما كان طبع المرأة أقل ميلاً للتحريم، وكلما شعرت الفتاة بحرية أكبر حيال الشريك، وكانت رغبته بالسيطرة أضعف».

وتستنتج دوبوفوار أن الرغبة الأنثوية لا تنحصر بالعملية الجنسية، إذ «ثمة عوالم متاحة في داخلها ما زالت تتوق إلى الحصول على كنز كالذي منحته للرجل». ويفضي ذلك الاستنتاج بها إلى الجزم بأن «في داخل كل امرأة تقريباً يكمن شكل من أشكال المثلية المتنكرة». هذه هي إحدى مقولاتها التي أثرت سلباً على شعبيتها لدى البرجوازية الصغيرة التي تكرهها.

واعتباراً من النصف الثاني لعقد السبعينات، شرعت الانتقادات تأتي من طرف النسويات المناضلات في سبيل نوع من السحاقية المتطرفة أو ما يسمى بـ«النساء اللواتي اخترن النساء»، جراء الأفكار التي كشفت عنها دوبوفوار في فصل «المرأة السحاقية». صحيح أنها حاولت إنقاذ السحاقيات من كليشيهات المرأة المسترجلة التي تشكو من خلل هرموني حين قالت إن «السحاقية منتشرة أيضاً بين نساء الحريم والعاهرات وبكل تأكيد بين ما يسمى بالنساء الأنثويات»، إلا أن الناشطات الفخورات بسحاقيتهن يرين أنها اهتمت كثيراً بافتراضات تؤكد على أن النساء المثليات بقين عالقات في مرحلة من الجنسانية البديلة التي ينبغي أن تنتهي.

كذلك هوجمت جرّاء رؤيتها بأن المثلية تكون أحياناً قفزة اضطرارية للتملص من القيود التقليدية التي تكبل الحياة الجنسية الغيرية. إذ تلاحظ دوبوفوار أن ثمة سحاقيات كثيرات بين الفنانات والكاتبات. في رأيها ينتج ذلك عن تركيزهن العالي على عملهن، وعدم رغبتهن بـ «لعب دور المرأة أو الصراع مع الرجل». غير أنها لم تكتب شيئاً عن تجاربها السحاقية الشخصية، حيث ظلت لهجتها حيادية بالعموم. طبعاً لا يمكن الاستهانة بمحاولتها للفصل الواضح بين النساء الغيريات والمثليات في ذلك الزمن: «في حقيقة الأمر، المرأة السحاقية ليست ناقصة ولا متفوقة».

الجزء الخامس: الوضع

بما أن دوبوفوار كانت تظن أن النساء المتزوجات سوف يتمكنّ من كسب المال وإدارته في المستقبل القريب، فقد توقعت أن يغدو الزواج «اتحاداً تتفق عليه بحرية فرديتان مستقلتان، حيث تكون تعهدات الزوجين شخصية ومتبادلة». لم يكن ذلك قد تحقق بعد في حينها. ففي فصل «المرأة المتزوجة» يشكل العرس بالنسبة لمعظم النساء منتهى الأحلام: «من وجهة نظر نسوية، ما زالت المرحلة التي نعيشها مرحلة انتقالية». فمن الناحية الاقتصادية والاجتماعية والبيولوجية لم تعد المرأة مضطرة أن تكون العبدة ضمن أسرتها، ولكن عملياً ما زال الزواج في تسعين بالمئة من الحالات مرتبطاً في ذهنها بالمكوث في المنزل. وينتج ذلك عن نوع من عدم المساواة ما زال مستمراً حتى يومنا، وهو أن الرجال يكسبون مالاً أكثر من النساء: «حتى لو كانت المرأة أكثر تحرراً، فالميزات الاقتصادية التي يتمتع بها الزوج سوف تجعلها تفضّل الزواج على مزاولة مهنتها».

في قرابة مئة صفحة مذهلة، تعرّفنا دوبوفوار على الحقائق التاريخية بخصوص قوانين الزواج، وعلى الشابات اللواتي يتوقعن التحرر من استبداد الوالدين من خلال الزواج (كي تنتقل الوصاية بعد ذلك إلى الزوج)، وعلى الشابات اللواتي يمرضن من فكرة ترك محيطهن المألوف من أجل رجل، وعلى الرجال الذين يحرمون زوجاتهن من المتعة لأنهم يعتقدون أن الجنس أمر وسخ ينبغي أن ينتهي بأسرع وقت ممكن، وعلى خوف كثير من النساء من ليلة الزفاف، وعلى وهم الحب المديد في علاقة أحادية، وعلى كثير من الشخصيات الروائية التي وردت في كتابات إميل زولا وفيرجينيا وولف وكوليت أودري التي اعتبرت الزواج مصدراً لخيبة الأمل والوحدة والحقد وأحياناً الاستسلام المهين: «من النفاق أن ندّعي أن الرباط المبني على عقد، ينطوي على فرص وفيرة لإثارة الحب واستمراريته».

كما بمقدورنا أن نلمس حجم العجز الذي كانت نساء القرن التاسع عشر يشعرن به حيال أزواجهن من خلال مذكرات صوفي تولستايا. كان عمرها ثمانية عشر عاماً حين تزوجت بصديق والديها الكونت تولستوي، الذي يكبرها بسبعة عشر عاماً، وكانت معجبة بكتابته. وفي المقتطفات التي أوردتها دوبوفوار تصف تولستايا الوحدة واستنزاف الإحساس بذاتها لأن كامل كيانها يدور في فلك الزوج. «سأخسر شخصيتي. لم أعد أصلاً كما كنت، وهذا يزيد حياتي صعوبة». و: «ليوفا مشغول جداً بعمله وإدارة الأرض، بينما أنا ليس لدي أي همّ. ليست لدي أي موهبة. أتمنى لو كان لدي مشاغل أكثر، شريطة أن تكون عملاً حقيقياً». كانت تولستايا تمتلك موهبة الكتابة، وتطمح أن تصبح أديبة، إلا أنها بالإضافة إلى إنجاب العديد من الأطفال قد كرّست نفسها لإعادة كتابة مخطوطات زوجها بخط مرتب.

ومن البدهي أن نعثر في الجنس الآخر كذلك على نساء يقدّسن وضعيتهن كالزوجة-الأم، ويعتبرنها رسالتهن الطبيعية. حيث تتوسع دوبوفوار بالكتابة عن بنات جنسها اللواتي يكرّسن أنفسهن من أجل أن يصنعن من بيوتهن قصوراً: «تمكث المرأة حبيسة الزواج، لذلك من المهم أن تحوّل السجن إلى مملكة». هذا لا ينفي أنها تعتبر عمل ربات البيوت هو الأكثر شبهاً بعذاب سيزيف. «ينبغي غسل الصحون اليوم تلو الآخر، وكذلك مسح الموبيليا ورتق الملابس، وغداً سوف تتراكم الصحون المتسخة مجدداً، ويعلو الغبار الموبيليا، وتتمزق الملابس». ليس عبثاً أن تتحول كثير من النساء المتزوجات إلى مخلوق سريعة التوتر ومنشغلة على طول الخط بتجنب حدوث البقع: «فما إن يدخل كائن حيزها المكاني، حتى تقدح عيناها شرراً: “امسح حذاءك، لا تلوّث كل شيء، لا تلمس هذا!”. يخيل أحياناً أنها تريد منع محيطها من التنفس، إذ أن أقل نفسٍ يشكل تهديداً».

يمكن الاستنتاج من المفردات التي اختارتها دوبوفوار أنها تكره الأعمال المنزلية كرهاً شديداً، فتصف «العجائب الكيميائية» للطبخ والخبز وتخليل الخضار والفاكهة كانتصارات صغيرة على الطبيعة. خذوا على سبيل المثال صنع المربى: «فحين تسدّ المرطبانات بالجلود، وتدوّن تاريخ انتصارها، فإن المرأة تنتصر على الزمن كذلك. ها هو السكر ضمن لها الاستدامة، وأقفلت على الحياة في زجاجة».

لا تنفي هذه المتع أن ربة البيت «تكرّس نفسها للعام وغير الجوهري». ولكن بعد صدور الجنس الآخر ببضعة عقود جاءت عالمات الاقتصاد والاجتماع النسويات بتحليلات مفادها أن العمل المنزلي والرعاية، التي تُطالَب النساء أن يقدمنها عن حب أو واجب، هي ذات أهمية كبيرة في دوران عجلة الاقتصاد. فمن دون الدفء المنزلي والراحة والنظافة والنظام، لن يقدر رجل واحد على تكريس طاقته في العمل خارج المنزل، ولن ينمو طفل واحد ليصبح مواطناً معافى ومسؤولاً. وقد جرت نقاشات ساخنة بين النسويات حول هذه الأفكار: هل أفضى التركيز على القيمة الاجتماعية للغسل والمسح والطبخ والتربية إلى الاعتراف بما سمي عن غير حق «شغل النساء»؟ أم أوقعنا ذلك في المطب القديم لربة البيت التقليدية؟ إذا دققنا في كلمات دوبوفوار، فسوف نجد سنداً للأخير: «العمل الذي تقوم به المرأة في البيت لا يمنحها الاستقلالية، وهو ليس ذا أهمية مباشرة للمجتمع، وغير موجه إلى المستقبل، ولا ينتج شيئاً».

يكفي انسداد أفق عمل المرأة ليصبح الزواج تحالفاً صعباً يسود فيه السلام المسلح في أحسن الأحوال، إلا أن مصير المرأة البرجوازية أسهل بالعموم من مصير نساء العمال المستنزفين: «في الفقر يكون مصير المرأة ثقيلاً، ولكنه يصبح محتملاً في حال توفرت لها أوقات الفراغ وإمكانيات الاسترخاء». الأمثلة التي تبذخ دوبوفوار باستعراضها تدور حول نساء الأزمنة الغابرة. وقبل نهاية فصل «المرأة المتزوجة» تقول: «كثير من الأسر الشابة تعطي انطباعاً بمساواة تامة. لكن ذلك ليس سوى وهم طالما احتفظ الرجل بمسؤوليات الأسرة الاقتصادية».

أما حين تغدو المرأة أماً، فسوف تكون بنظر المجتمع قد أكملت قدرها الفيزيولوجي. غير أن اختزال المرأة بـ«مجرد رحم» مزعج، وبخاصة بعد توفر وسائل تنظيم النسل وطرق الإجهاض المسؤولة طبياً في حالات الحمل غير المرغوب بها. لا شك أنه من الجرأة بمكان أن تبدأ دوبوفوار الفصل حول الأمومة بمرافعة نارية تطالب فيها تشريع الإجهاض المستحث، وبملاحظة أن الحياة الجنسية لكثير من الرجال والنساء تضطرب جراء الخوف الشديد من الحمل. وبما أن وسائل منع الحمل ما زالت بدائية في كثير من البلدان، والإجهاض ممنوعاً قانونياً، فقد اضطرت كثيرات للجوء إلى أساليب تطريح في غاية الخطورة. تحصل هذه الأمور عادة في السر، وتترافق بمشاعر الذنب والعار جراء الوصمة الإجرامية: «يلجأ المجتمع البرجوازي إلى النفاق في موضوع الإجهاض أكثر من أي موضوع آخر. فالإجهاض جريمة تثير الاشمئزاز ومن غير اللائق الإشارة إليها. […] غير أن عدد الإجهاضات في فرنسا يتساوى مع الولادات سنوياً، وهو ظاهرة منتشرة لدرجة أنه يجب اعتبارها إحدى المخاطر التي تفرضها الأنوثة». وتحتار دوبوفوار كيف تصف المآسي التي تتسبب بها الإجهاضات السرية لدى النساء والأطباء، وكيف تعبر عن نفاق الكنيسة الكاثوليكية: «من الملاحظ أن الكنيسة تسمح أحياناً بموت البشر المكتملين في الحروب والإعدامات، إلا أنها تحتفظ بإنسانية متشددة فيما يخص الجنين».

كما تستطرد دوبوفوار حول طرق النساء المتباينة في معايشة الحمل بالعموم، وتتطرق للتناقضات التي تترافق مع الإنجاب. ذلك أنه نادراً ما تشعر المرأة بتلك السعادة الصرفة التي وُعِدت بها طويلاً. فالأم غير المتزوجة التي يتطاول عليها المجتمع بوصمها بالعهر وشتم طفلها بأنه ابن حرام، «قد تبدو غير قابلة للمواساة، ولكنها تجد في الطفل تحققاً لحلم طالما حلمت به سراً». والأم المتزوجة التي تبدو سعيدة بحملها، «قد تخاف من الحمل إلى درجة أن تبغضه في أوهامها وتخيلاتها وذكريات طفولتها، ولكنها لا تعترف بذلك». ولدينا كذلك الأمهات اللواتي يستمتعن بالحمل والرضاعة إلى درجة أنهن يرغبن بتكرار التجربة في كل مرة. «إن الانصهار بين ذراعي الرجل الذي كانت ترغبه، والذي فقدته بالسرعة ذاتها التي حصلت عليه، يتحقق حين تشعر بالطفل في بطنها الثقيل أو حين تلصقه بثدييها المنتفخين».

الأم التي تلد طفلاً، تسير على خطى والدتها، وسوف تتأثر بهجتها بالأمومة بطبيعة علاقتها معها. وهنا تصف دوبوفوار «سلسلة من المآسي» من خلال استحضار الأمثلة من الأدب وعيادات الطب النفسي كالتي أدارتها هيلين دويتش على سبيل المثال: «وسوف تبعث الأمومة السادومازوشية على مشاعر الذنب لدى الابنة، والتي سوف تظهر من خلال سلوكيات سادومازوشية حيال أطفالها». ولكن حتى حين لا تكون العلاقة بين الابنة ووالدتها موسومة بالسلوك العصابي، سيشكل الوضع الهزيل لربة البيت عقبة كبيرة أمامها: «الطفل ثروة، الطفل كنز، ولكنه همّ مستبد كذلك. البهجة التي يمنحها إياها هي بهجة التضحية، وينبغي أن تقنع بالعطاء وتحقق سعادتها عبر تقديم الخدمات». ولكن: «حب الأم عبارة عن مزيج غريب من النرجسية والغيرية والأحلام والصدق والكذب والإخلاص والسينيكية. […] الخطر الكبير الذي يتعرض إليه الأطفال في ثقافتنا هو أن الأم التي تتولاهم في عهدتها هي في أغلب الأحيان امرأة مكبوتة. فمن الناحية الاجتماعية تشعر بأنها أقل من الرجل، ومن الناحية الجنسية تكون (بسبب الأمومة أو غيرها) باردة وغير مشبعة».

ومن المنطقي أن تكون العلاقة التي تبنيها الأمهات مع بناتهن أكثر تعقيداً من علاقتهن مع أبنائهم. «حيث ترغب كثير من النساء بإنجاب صبي نظراً للهيبة التي تكنها المرأة للرجال والامتيازات الملموسة التي يتمتعون بها. فيقُلنَ لأنفسهن: كم جميل أن نمنح الحياة لرجل».

وسوف تردد كثير من النسويات ما قالته دوبوفوار قبلاً حول أن محاولات النساء بتطوير أنفسهن خارج الأسرة سوف تعود بالخير على الأطفال: «من الواضح جداً أن رفاهية الأطفال تتأثر إيجاباً حين تكون شخصية الأم مكتملة وغير مُنتهَكة، وحين تتمكن من تحقيق نفسها من خلال عملها وعلاقتها مع المجتمع بدلاً من أن تحصل على ذلك بطريقة سلطوية من خلال الطفل». وهنا تنتقل دوبوفوار إلى التغييرات الاجتماعية الضرورية كي لا يقف إنجاب الأطفال وتربيتهم عائقاً أمام صيرورة المرأة كذاتٍ مستقلة: «إن عمل المرأة لا يمكن أن يتعارض مع الأمومة حين يتحمل المجتمع مسؤولية الأطفال ويعتني بالأمهات ويساعدهنّ».

أما ملاحظتها الختامية بخصوص وضع الأم فهي أن وعي الإنسان المعاصر (أنثى/ذكر) بكونه فرداً يزداد مع الوقت، وسوف يفضي ذلك إلى أشكال جديدة من التحرر. تقول دوبوفوار: «في الثقافة المعاصرة ينظر الرجل إليها كفرد إلى حد ما. المرأة الغربية الحديثة تطمح أن يلحظها الآخرون بصفتها تلك المرأة وتلك الزوجة وسيدة المنزل تلك. وتبحث عن هذا الإشباع في الحياة الاجتماعية».

تفتتح دوبوفوار وصفها لحياة المرأة الاجتماعية بنص طويل حول الوقت والطاقة التي تبذلها النساء عادة في العناية بمظهرهن. ذلك أنهن يعبّرن عن قيمتهن الأنثوية من خلال الأثواب والتسريحات والأحذية والوجوه المطلية: «المرأة التي تعاني من أنها لا تعمل شيئاً، تعتقد أنها تعبّر عن كيانها من خلال مظهرها». غير أن هذا التركيز على المظهر الخارجي لا يقتصر فقط على النساء اللواتي لا يعملن خارج المنزل: «ففي معظم البلدان الغربية تنفق المرأة العاملة جزءاً كبيراً من دخلها على مستحضرات التجميل والملابس».

وطبعاً لا علاقة للطبيعة في أن معظم النساء غير راضيات عن مظهرهن: «يطالب المجتمع المرأة أن تجعل من نفسها موضوعاً إيروتيكياً. ليس هدف الموضة التي تخضع لها أن تعرض نفسها كذات مستقلة، وإنما فصلها عن تساميها بغية رميها كفريسة للشهوة الذكورية. لا يتم خدمة مصالحها، بل بالأحرى عرقلتها. التنورة ليست مريحة كالبنطال، والكعب العالي يعرقل مشيتها. الملابس والأحذية الأقل عملية هي الأكثر أناقة».

في عملية التجمّل يكمن المعطى المأساوي؛ أن المرأة ترى نفسها كموضوع، بحيث يستمر خوفها من الفشل جراء عيوب معينة. فإذا كانت ياقتها ضيقة أو عريضة أكثر من اللزوم، سوف تفسد الصورة بأكملها، لأن «المرأة التي تثير رغبة الرجل بشكل فاضح لا تملك الأسلوب الحسن، أما تلك التي تبدو رافضة لها، فهي مرفوضة كذلك». وقبل أن تخطو خطوة خارج منزلها أو تستقبل الضيوف في منزلها، لا بد من أن تفحص ملابسها بتمعن وتتأكد من أن دهون جسمها وتجاعيدها والبثور على جلدها ليست ظاهرة للعيان. كما أنها تتحطم في حال ذكر زوجها شيئاً سلبياً حول ملابسها أو أظهر عدم اهتمامه.

الحياة الاجتماعية التي تصفها دوبوفوار تدور بشكل خاص حول الأعياد والولائم والزيارات والصالونات ذات الطابع السياسي أو الأدبي التي تديرها سيدات الطبقات العليا. جميعها مناسبات تسمح للمرأة أن تستعرض نفسها ومنزلها، وفي الوقت نفسه تشعر بفراغ داخلي كبير. أفضل طريقة للهروب من كل تلك الشكوك الأنثوية هي عقد صداقات مع النساء الأخريات. تلك الصداقات لها طابع يختلف عن الصداقات مع الرجال: «لا يتناقشن حول الآراء، بل يتبادلن الأسرار والوصفات. من خلال تلك التحالفات تستمد النساء القوة على تحدي قيودهنّ. يرفضن تفوق الجنسانية الذكورية عبر البوح لبعضهنّ ببرودهن الجنسي وعبر التهكم على ميول أزواجهم وسلوكهم الأخرق، وعلى الرجال بشكل عام». ولكن ثمة وجهاً آخر للعملة: «النساء رفيقات في السجن. يساعدن بعضهن بعضاً في تحمل الحبس، وفي التحضير من أجل الهروب منه، غير أن المحرر يأتيهن من عالم الرجال».

وتبحث النساء عن أولئك المحرِّرين في فئة الرجال المؤهلين من خلال مهنتهم أن يكونوا موضع ثقة: كالكهنة والأطباء. (ثلاثة أرباع الرجال الذين لوحقوا من قبل امرأة مهووسة هم أطباء). كذلك بمقدور العشيق أن يحمل معه – مؤقتاً – وعوداً بالانعتاق، حتى ولو كانت وظيفة معظم العشاق هي إرضاء الغرور لأن «نظرة زوجها المفرطة في عاديتها لم تعد تنجح ببث الروح في صورتها». فضلاً عن أن التقاليد التي تحيط بالعلاقات خارج نطاق الزواج لا تسمح لها بأن تبدو كأنها تنوي خيانة زوجها. «حتى العاشق لا يعترف بالحرية التي يستفيد منها، بل يفضل أن يرى عشيقته تعترف بأنه أغراها وأوقعها في شباكه».

وتنتقل دوبوفوار من المتزوجات اللواتي يخفين عشيقاً سرياً إلى أولئك الخارجات عن التقاليد منذ قرون: العاهرات والخليلات. وهنا تؤكد مرة أخرى على أن البغاء هو التابع المباشر للزواج: «وضع المومس من الناحية الاقتصادية مماثل لوضع الزوجة. وكما قال أنطونيو مارو: الاختلاف الوحيد بين اللواتي يبعن أنفسهن بالبغاء واللواتي يبعن أنفسهن بالزواج هو ثمن الاتفاق ومدته». ويكمن الفرق الكبير بينهما في أن الزوجة الشرعية تُضطهد، ولكنها تتلقى الاحترام كإنسانة.

وتحيل دوبوفوار القصص حول أن العاهرات غبيات وحقيرات إلى عالم الأساطير، لأن النساء يدخلن عالم البغاء حين تتقطع بهن سبل الحياة. كما أن حالة النبذ التي يعانين منها تجعلهن عرضة لأهواء الزبائن والقوّادين. وفي حال أردنا أن يختفي البغاء، ينبغي أن يتوفر شرطان: «أن تتعلم جميع النساء مهنة محترمة، وألا تمنع الأخلاقيات السائدة أن يُمارَس الحب بكامل الحرية».

وتغدق دوبوفوار الكلمات اللطيفة على الخليلات، «أولئك النساء اللواتي لا يعتبرن جسدهن فقط كرأسمال ينبغي أن يُستخدم، بل كامل شخصيتهن كذلك». يظهرن كـ«ذوات مسيطرة»، فيكتبن الشعر والنثر، ويرسمن، ويؤلفن الموسيقا، حتى أن الخليلة تكون أحياناً مشاركة كاملة القيمة في الحديث مع راعيها: «تتمتع محظيات عصر النهضة، وفتيات الجيشا اليابانيات بحرية أكبر بكثير من معاصراتهنّ». ولكن حتى الخليلة تبقى تابعة لجسدها «الذي يفسده الزمن بلا رحمة». هذه هي إحدى أوجه الشبه مع نجمات هوليود: «فجسدهنّ لم يعد ملكهنّ، بل يقرر المُنتِج لون شعرهنّ ووزنهنّ وقوامهنّ ونمطهنّ».

وبغض النظر عن أي «وضع» تعيش المرأة فيه، فهي سرعان ما تصبح مهمشة. فكل شيء عرفته حول ماذا ينبغي أن تكون الإنسان الأنثى عليه، يجعل جل حياتها تابعة لخصوبتها. ففي فترة انقطاع الطمث، أي حين تكون قد قضت نصف حياتها البالغة، «سوف تجرّد من أنوثتها فجأة». فكما نعلم، فإن بداية تلك المرحلة سوف تأتيها بأعراض جسدية ونفسية. وحسب دوبوفوار، فإن درجة استسلام المرأة لهذه الأعراض تنخفض كلما كانت أقل ارتباطاً بالجلوس في منزلها؟ «إن النساء المكافحات يتنفسن الصعداء حين تتوقف عنهن الدورة الشهرية. الفلاحات وزوجات العمال المهددات دائماً بحمل جديد يشعرن بالسعادة حين ينزاح عن كاهلهن ذلك الخطر».

كثير من النساء يخفن من الشيخوخة قبل أن يتجاوزن سن التاسعة والثلاثين، ويسترجعن حياتهن بحسرة: «وكما تحلم الفتاة بما سيكون عليه مستقبلها، تذكر هي ما كان ينبغي أن يكونه ماضيها». ويحصل كثيراً أن تحقق المرأة في فترة ما قبل أو بعد انقطاع الطمث أحلاماً لطالما حلمت بها: «تتعلم عزف البيانو أو النحت أو الكتابة أو السفر أو التزلج على الجليد أو اللغات الأجنبية». وأخريات يتخذن عشيقاً قبل أن يفوت الأوان، أو يستسلمن لميولهنّ السحاقية، أو يبذلن أنفسهن للأعمال الطوعية في خدمة إحدى الجمعيات، أو يبالغن في تدينهنّ. وكذلك لدينا الأمهات اللواتي يتقدم السن بهنّ، فيعتمدنَ على عوائل أبنائهن في تحقيق الذات، إلى درجة أن يصبحن دودات متطفلات: «تحتاج المرأة إلى خليط من السخاء والتحفظ كي تثري نفسها بحيوات أبنائها دون أن تصبح طاغية وتحولهم إلى جلادين».

وحين تصبح الشيخوخة حقيقة، لن يتبقى أمام المرأة الوسطية سوى العزاء المر: «عندما يفقد الرجل مهامه العامة، يصبح عديم الفائدة كلياً. ولكن المرأة تحتفظ على الأقل بإدارة المنزل. فهي ضرورية لزوجها، بينما هو مزعج فقط».

وفي نهاية الجزء الخامس تكرر دوبوفوار تعداد الطرق التي شوّهت طبع المرأة، فتلاحظ أن «وضعها ظلّ كما هو مع تغيرات سطحية». وتعترف بالتفاهة التي لطالما اتُهِمت بها المرأة، إلا أنها تعللها من خلال مكانتها: «يحبسون المرأة في المطبخ ويتعجبون من قصر نظرها، يقصّون جناحيها ويتأسفون أنها غير قادرة على الطيران». الطريق الوحيدة من أجل تغيير وضع المرأة هو الثورة الجماعية: «لا يوجد للمرأة مخرج سوى أن تعمل على أن تتحرر». ولكن قبل أن تكتب لنا كيف تتحرر المرأة، تصف لنا في «التبريرات» استراتيجيات البقاء التي تستخدمها النساء اللواتي يبذلن جهداً أخيراً – سخيفاً في بعض الأحيان ومؤثراً في أغلبها – في سبيل الرضوخ للوضع الراهن.

الجزء السادس: التبريرات

تتناول دوبوفوار ثلاثة أساليب هروبية تمنح كيان المرأة الدوني كـ«الآخر» بريقاً وهاجاً: النرجسية والعشق والصوفية.

نقرأ في فصل «النرجسية» عن النساء الغارقات في حب الذات. تتحدث دوبوفوار عن عملية اغتراب معينة: «الأنا مطروحة كغاية مطلقة، ويتهرب الشخص من نفسه فيها». وتقدم ما كتبته الفنانة ماري بشكيرتسف في مذكراتها كمثال صارخ عن حب الذات: «أحب نفسي كثيراً، وأسعد بنفسي بحيث كنت كالمجنونة على العشاء». وتشير دوبوفوار إلى أن هذه الأنا المحِبة لذاتها كانت مذهولة بجسدها إلى درجة أنها أرادت أن تصنع منه تمثالاً.

ولكن بشكيرتسف كانت قادرة على الأقل أن تبدع بالتعبير عن نفسها، إلا أن السواد الأعظم من النساء النرجسيات يشكين من فكرة أنهن مختفيات في عمومية الزوجة والأم وربة المنزل، فيجعلن من أنفسهن شخصيات فريدة بصفات فريدة لا تقل عما تعلَّمنَ أنه ينبغي لأنثى أن تكونه. أو قد ينزلقن في دور الضحية، كما فعلت تلك المرأة السوداودية التي تزداد شكوى يوماً بعد يوم، والتي كتب عنها الفرويدي ويليام ستيكل في كتابه برود المرأة الجنسي: «كانت تُسمم نفسها حرفياً بفكرة أنها أتعس امرأة على وجه الأرض».

ودوبوفوار لا تعرض فقط الحالات الشاذة أو الفنانات، ذلك أنها تلمس ذلك الميل لاستعراض الذات كأنثى ذات أنوثة مميزة تستحق الأضواء لدى الفنانات وأخريات من بنات جنسها. فتستنتج أنه من الغلط أن نفكر أن النرجسية اختارت استراتيجية ناجحة تمكنها من ألا تكون تابعة لجنسها: «فهي على العكس تكرّس نفسها لأشد عبودية. لا تستند إلى حريتها، بل تجعل من نفسها موضوعاً يواجه الخطر في العالم وفي الوعي الغريب».

أما أكثر المآزق خداعاً، فهو الحب الغيري: «ولقد كان بيرون محقاً حين قال إن الحب ليس سوى أحد الاهتمامات في حياة الرجل، بينما هو حياة المرأة بأسرها». وبينما يبقى الرجال ضمن حياتهم ذواتاً وأسياداً، يترافق العشق لدى النساء بتنازل كامل لصالح سيد. يبدأ الأمر حين تبحث المرأة تبعاً للأعراف البالية عن رجل يتمتع بتفوق ذكوري: «فهي تتوق لرجل تعبده كإله». وبما أن العظمة التي تبحث عنها غالباً ما تعرّضها لخيبات أمل، تلاحظ دوبوفوار أن الحب لدى المرأة يحتل حيزاً أقل بكثير مما نميل للاعتقاد: «جميع النساء تقريباً حلمن بالحب الكبير، وعرفن بدائل له، واقتربن منه. كما زارهن بصور غير مكتملة، قاتلة، مثيرة للسخرية، ناقصة، كاذبة، لكن قليلات كرّسن له وجودهن».

ولكن هذا لا يعني أن خيال النساء لا يجمح بتصورات حول الحب الذي يبرر جميع التضحيات، وأنه لا توجد نساء سمحن باستعبادهنّ باسم الحب، لأن «المرأة التي تخضع مستمتعة لنزوات ذكورية تعجب كذلك بالحرية الكامنة في الطغيان الذي يُمارس عليها». لذلك تؤكد دوبوفوار مراراً وتكراراً على أن تلك الحرية هي التي ينبغي أن تطالب بها المرأة لنفسها، كي تجعل من الحب حدثاً سعيداً بين ذاتين مستقلتين. «ينبغي أن يقوم الحب الأصلي على الاعتراف المتبادل بحريتين. أي حين يشعر كل من العاشقين أنه هو ذاته وأنه الأخر، ولن يتخلى أحد عن تساميه، ولن يبتر أحد نفسه».

 كما عثرت دوبوفوار في تاريخ الراهبات اللواتي كرّسن أنفسهن لحب الإله المسيحي على أمثلة مرعبة حول تدمير الذات باسم الحب. وفي حين يكتسي الورع لدى الرجل مظهراً فكرياً، تخبر النساء «العرس السماوي» بطريقة شعورية استثنائية. «فالمرأة متعودة على العيش راكعة».

ورغم أن هالة من العفة تحيط بالمرأة المتدينة، تقترب الصوفية من المسّ الشبقي. «يحب الله منذ الأزل النفسَ التي يؤجج فيها حبه، لقد سكب دمه من أجلها، ويهيئ لها تمجيداً رائعاً. كل ما يمكنها فعله هو الاستسلام لعواطفها دون مقاومة». وتضيف دوبوفوار  أننا «نقبل اليوم أن المسّ الشبقي يتخذ شكلاً أفلاطونياً تارة، وجنسياً تارة أخرى». غير أن ثمة درجة عالية من الجسدية في أسلوب النساء الصوفيات في التعبير عن عواطفهن تجاه الله. وقد رأت القديسة تيريز ملاكاً يخترق جسدها بسهمه، وتخيلت القديسة آنجيل دوفولينيو المسيح يهمس لها «أحبيني، لأني أحبك» لتتلذذ بعد ذلك بشرب الماء الذي غسلت فيه لتوها أيادي وأرجل المصابين بالجذام، كما نظفت ماري آلاكوك بلسانها إقياءات مريضة. ثمة نساء تماهينَ مع عذابات المسيح إلى درجة أدمت جباههنّ تحت وطأة تاج الشوك وثقبت أياديهن وأقدامهن بأسلاك الحديد غير المرئي: «من أصل الثلاثمئة وواحد وعشرين موسوماً بجروح المسيح الذين أحصتهم الكنيسة الكاثوليكية، هناك سبعة وأربعون رجلاً فقط». ولدينا كذلك القديسات اللواتي يتواصلن مع العالم عبر الأفعال، كالبطلة الفرنسية جان دارك، ولكن إذا دققنا جيداً سوف نرى أنها مثل الأخريات تستخدم الصوفية لتهرب من واقع المرأة العادية. وفي الختام، ترى دوبوفوار أنه «لا توجد سوى طريقة واحدة لتحقيق الحرية بشكل أصلي، وهي طرحها في المجتمع الإنساني عبر العمل».

الجزء السابع: نحو التحرير

بعد التحليلات المليئة بالإشارات العلمية والتاريخية والفلسفية والأدبية التي حملت القراء على التفكير على مدار تسعمائة صفحة، تختم دوبوفوار كتابها بجزء لطالما تمت قراءته كمنشور قائم بذاته. تحاول فيه أن تسترجع سريعاً أهم استنتاجاتها، لتشرح بعد ذلك ماذا ينبغي أن يحصل كي تقدر النساء على النظر إلى أنفسهن كذوات فاعلة.

ترى دوبوفوار أنه بالإمكان صنع مجتمع يكون الرجال والنساء فيه أفراداً مستقلة اقتصادياً واجتماعياً وجنسياً، وتكون علاقات الحب متساوية. ورغم أن عدداً كبيراً من اللجان العالمية نادت بذلك منذ صدور الجنس الآخر منذ أكثر من سبعين عاماً، إلا أنها لم تقدر حتى الآن على تحقيق الهدف النهائي، أي الفرص المتساوية في سوق العمل.

«وحده العمل يستطيع أن يضمن للمرأة حرية ملموسة»، تكتب دوبوفوار. «ولا تستعيد تساميها ثانية، إلا ككائن مُنتِج وفعال. كما أنها في مشاريعها تحقق نفسها كذات». وطبعاً تزود دوبوفوار هذه الفرضيات ببعض التحفظات، كما تكرس في آخر لحظة بعض العبارات عن فئات الرجال غير القادرين كذلك على السيطرة على وجودهم: الرجال السود والعمال. بالنسبة للفئة الأولى، فهي لا تستخدم كلمة «العنصرية» ولا تحيل إلى شيء يشبه مصطلح «التقاطعية» الذي صكته النسويات السوداوات لاحقاً. التقاطعية هي الفكرة القائلة بأن العلاقات الاجتماعية والبشرية تتحدد بدرجة كبيرة من خلال مزيج من العنصرية العرقية والعنصرية الجنسية وكل تلك العنصريات الأخرى التي تحافظ على عدم المساواة. ولكنها تجد بعض وجوه الشبه بين وضع المرأة ووضع المهاجرين القادمين من البلدان المستعمرة: «إن السود القادمين من أفريقيا إلى أوروبا يواجهون في البيئة المحيطة صعوبات تشبه تلك التي تواجهها المرأة». غير أنها لا تستطرد في التحليل، بل تنتقل إلى العمال الذين يتلقون أجوراً منخفضة مقابل عملهم العضلي الثقيل، وإلى الموظفين غير المتعلمين، وإلى آخرين مستعبدين لا يشبهون الأسياد غير المجبرين على الشكّ بنظرتهم إلى أنفسهم كذوات. وهنا تصل إلى استنتاج متجذر في المفردات الماركسية: «أغلبية العمال مُستغَلون».

لا يعيش جميع الرجال في رفاه إذن، ولا تمنح جميع المهن أفقاً للتسامي، ولا يكفي سوق العمل وحده كي ينفتح السبيل إلى المساواة (الجنسية). وككثير من النسويات اللواتي سبقنها أو جئن بعدها، فإن دوبوفوار تؤمن أنه ينبغي تغيير المجتمع بأسره: «فقط في المجتمع المساواتي يمكن للعمل أن يفضي إلى الحرية».

ومع ذلك ترى أن العمل منخفض الأجور قد يمنح إحساساً بالقيمة. وكدليل على ذلك تقتبس ما قالته خادمة الفندق الذي تقيم فيه: «لم أطلب شيئاً من أحد، وصلت لوحدي». كانت تلك المرأة فخورة باعتمادها على نفسها كأنها فرد من عائلة روكفلر. وتناقش دوبوفوار بعد ذلك بحثاً أجري على العاملات في مصنع الرينو، والذي توصّل إلى أن العاملات يفضلن الأعمال المنزلية على العمل في المصنع: «لا شك أن العاملات محكومات بتحقيق استقلالهن الاقتصادي ضمن فئة مسحوقة اقتصادياً. ولكن من ناحية ثانية، فإن العمل في المصنع لا يعفيهن من الأعمال المنزلية». وهنا تنتقل دوبوفوار إلى نقطة جديدة ما زالت حتى الآن تثير الشجون لدى النسويات، وهي أن النساء اللواتي يعملن خارج المنزل يبقين في أغلب الحالات مسؤولات عن العناية والأعمال المنزلية. ولكن دوبوفوار لم تطرح إمكانية تحريض الرجال على تحمل جزءٍ متساوٍ من الأعباء المنزلية. هي فقط تطالب بتوفير الخدمات الجماعية لتجنب أن تفضي الأمومة إلى حياة ربة المنزل أو الإنهاك: «بسبب نقص دُور الحضانة ورياض الأطفال المنظمة بشكل مناسب، يكفي طفل واحد ليشلّ نشاط المرأة بأكمله».

ورغم أنها تلاحظ تنامي مجموعة النساء ذوات الامتيازات اللواتي يحققن من خلال عملهن الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن دوبوفوار تدرك أن الطريق طويلة إلى أن تتمكن النساء من التملص بشكل جماعي من الخدماتية المزدوجة ومن الفكرة السائدة بأن على النساء أن يبقين أنثويات، تلك الفكرة التي تتبناها النساء بشكل مرعب: «ما زالت المرأة حتى الآن تتبع التقليد القديم، بحيث تصبح غير قادرة على تقدير نفسها إلا في حال تمكنت من التوفيق بين الحياة التي صنعتها والمصير الذي رسمته لها أمها وحلمت به وهي صغيرة».

وتدرك المرأة العاملة أن الأمر سيستغرق طويلاً قبل أن يكفّ الناس عن تقييمها بالدرجة الأولى من خلال مستوى أنوثتها.  كما أنها تعي أن «الأسقف الزجاجية منتشرة في كل مكان، وسوف ترتطم بها لا محالة». لذلك ترضى حتى المرأة العصرية بالنجاحات الوسطية. إنه نوع من عقدة النقص الذي تعاني منه الكاتبات: «لم تعد الكاتبات بحاجة إلى تجشم العناء كي يثبتن أنفسهن، إلا أنهن لم ينتصرن حتى الآن على عزلة الألف عام التي حبستهن في أنوثتهنّ». ذلك أن: «القيود التي فرضتها التربية والعادات تعيقها في إحكام قبضتها على العالم».

وتستهل دوبوفوار استنتاجها النهائي باقتباس عن رجل، جول لافروغ: «كلا، المرأة ليست أخانا. بالكسل والفساد جعلنا منها كائناً على حدة. مجهولة وليس لديها سلاح سوى جنسها. وهذا لا يعني الحرب المستمرة فحسب، إنما أيضاً سلاحاً في حرب فاسدة – هي تحب أو تكره، ولكنها ليست رفيقاً صريحاً، بل كائناً ماسونياً يشكل فيلقاً بروح الجسد – وبشكوك العبد الصغير الأزلية». يبدو أن دوبوفوار ارتأت أن لافروغ استطاع التعبير عن صراع النساء المزدوج مع الشروط المفروضة على أنوثتهنّ. ولكنها تحدثت كذلك عن مأساة الإنسان الذي أصبح رجلاً: «يعاني الرجل من واجب أن يكون ذكورياً ومتوازناً ومتفوقاً. يقوم بالتهريج كي يجعل الآخر يهرج أمامه. يتحرر الرجل من خلال تحرير المرأة، غير أن ذلك هو بالضبط ما يرعبه. لذلك يتمسك بشراسة بالتعميات التي تُبقي المرأة مقيدة».

وبالرغم من كل شيء اعتبرت دوبوفوار التغيير في موازين العلاقة بين الجنسين أمراً ممكناً. وأول خطوة سوف تكون باتخاذ مطالب الحركات الجذرية بالحرية والمساواة والتضامن على محمل الجد: «بإمكاننا تصور عالمٍ يكون فيه الرجال والنساء على قدم المساواة، لأنه ذلك العالم الذي وعدت به الثورات الكبيرة في القرن العشرين».

أما الجملة الأخيرة من الكتاب، فقد أفضت إلى نقاشات – مسدودة – بين نسويات منتميات لتيارات مختلفة حول الاستراتيجية المناسبة للحركة النسوية. هل ينبغي أن تبقى المنظمات النسوية مفتوحة للرجال المتنورين؟ أم ينبغي إبعاد الرجال كي لا يعلو صوتهم على صوت النساء في حركة التحرر؟ غير أن دوبوفوار كانت في 1949 أبعد ما يكون عن النسويات اللواتي يكافحن في سبيل حركة مستقلة لا يتدخل الرجل فيها: «يعود للرجلإن النقاشات المسدودة التي تتكلم عنها ماريا فاوسيه سببها التباس فهم كلمة (l’homme) في اللغة الفرنسية. هل تقصد دوبوفوار (الرجل) أم (الإنسان)؟ هل هو الرجل الذي سيحرر المرأة؟ أم الإنسان؟ الجواب على هذا السؤال في غاية الأهمية، إلا أننا لم نعد قادرات أن نسأل دوبوفوار نفسها. لذلك سوف يستمر النقاش حول مقصدها. [المترجمة] ضمن عالم معطى أن يجعل الحرية تسود، وللحصول على هذا الانتصار الفائق من الضروري أن يؤكد الرجل والمرأة أخوّتهما دون لبس، وفيما بعد اختلافاتهما الطبيعية».