كيف يموت الوقت؟ هل يموت عندما نهدره؟ أو عندما لا ننجز المهام المطلوبة في الوقت المحدد؟ أم أنه يموت بمجرد انقضاء الساعات والأيام أو ربما نسيانها؟ إذا كان الوقت يموت فعلاً فأين يُدفَن؟
لفناني وفنانات المعرض الفني «كيف تجد المعنى في الوقت الميت»، الذي أقيم الشهر الماضي في برلين، أقوال وأسئلة أخرى. فبحسب ما يخبرنا فنانو وفنانات المعرض، الوقت الميت فيزيائياً هو كلمة تقنية، معناها الفيزيائي هو الوقت غير المسجل في أنظمة الكشف بسبب خلل تقني في أجهزة التسجيل. فالوقت الميت هو الوقت غير المسجل. في التاريخ، الوقت الميت يمكن أن يشير إلى الوقت الذي اختفى من التسجيلات، بسبب فعل الحدف المتعمد، إما لأنه غير جدير بالحفظ أو لأنه يتعارض مع التطويبات المقدسة المرغوب بها عبر التاريخ. أعاد معرض «كيف تجد المعنى في الوقت الميت» في صالة savvy contemporary – مختبر الأشكال والأفكار، مقاربة مفهوم الوقت الميت من خلال العودة إلى الأرشيف وفتح ذواكر الأشخاص الخاصة والعامة، وصناعة أعمال فنية منها مبنية على رحلة بحث وسبر للوقت الذي مضى.
ضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية الفوتوغرافية والتجهيزات الفنية والأفلام المصورة التي تُعرض على شاشات متفرقة بالتزامن مع بعضها في صالة مفتوحة. تبحث الأعمال المعروضة في العلاقة مع الأرشيف ومعانيه السياسية والجندرية والذاتية. ولا نقصد بالأرشيف مكان التخزين فحسب، بل أيضاً العملية التي يُحال فيها عمل ما أو شخصية ما للأرشيف، أو الحق بالأرشفة أو مواجهة مصير الإتلاف أو التخريب المتعمد. نظمت هذا المعرض كل من مها مأمون وآلاء يونس، مؤسستَي منصة النشر المستقلة «كيف تا» التي تضم مجموعة من الكتب ذات القوالب الشبيهة بدليل الإرشادات، منها كتاب كيف تختفي للكاتب المصري هيثم الورداني. وقد استند المعرض في إطاره الواسع على أحد التمارين التي يقترحها الورداني في دليله للاختفاء، وهو تمرين: «كيف تجد المعنى في الأوقات الخاوية؟» الذي نجده معلقاً في إحدى زوايا المعرض.
إذا كان الوقت الميت هو الوقت غير المسجل، فإن اقتراح الورداني في هذا التمرين هو التقاط الوقت الميت من خلال تسجيله، وإعادة إحيائه وبث الروح فيه. يستلزم ذلك أولاً كاسيت تسجيل فارغ، مشغل صوت، وأنت مستلقٍ على السرير ليس لديك شيئاً لتفعله. دوّرْ مشغل الصوت، وابدأ بتسجيل الوقت وما يحمله من أصوات ضجيج أو أصوات عشوائية. إلى حد اللحظة، مبدئياً، وبحسب مفهوم الوقت الميت، أنقذْنا الدقائق والساعات من موتها. لكن ماذا نفعل بالتسجيل الخالي تقريباً إلّا من بعض الأصوات؟ كم مرة يجب أن نعيد الاستماع لهذا التسجيل حتى نعيد الحياة للوقت الميت؟ لماذا نقوم بعمل ممل وعبثي كهذا؟ لا يجيبنا الورداني على هذه الأسئلة، لكن يمكن للأعمال الفنية الأخرى أن تقارب هذه الأسئلة بطرق مختلفة، ولنا أن نختار منها الأعمال الأقرب إلى قلبنا و ذائقتنا.
صيف غير عادي
ما فعله المخرج كمال الجعفري في فيلمه صيف غير عادي (2020) يشابه إلى حد ما التمرين الذي اقترحه الورداني. بدأت القصة مع والد المخرج الفلسطيني في عام 2006، فالأب هو أول من بدأ بالتسجيل، لكن هذه المرة استخدم كاميرا المراقبة بدلاً من الكاسيت، ولم يكن الأب يبحث عن الوقت الميت؛ ما أراده فعلاً هو أن يراقب الشارع المجاور لمنزله، ليعرف من كسر شباك سيارته في منطقة الرملة المحتلة في أحياء الغيتو. قام الأب بتثبت كاميرا مراقبة، تعرض لقطة ثابتة واسعة من الشارع المجاور وسيارات العائلة. هذا هو كل ما صورته كاميرا المراقبة. ما فعله الجعفري هو إعادة مشاهدة شريط التسجيل، وتوليفه وصناعة فيلم منه، يروي لنا عن شخصيات الحي التي تلتقطها كاميرا المراقبة. فيما تعلّق الحفيدة أحياناً على بعض المشاهد المصورة التي ترى فيها جدها وجدتها والعمات والأعمام. تمر شخصيات الحي بشكل دوري في أوقات متشابهة من النهار أو الليل، والتي يمكننا مع متابعة الفيلم أن نميز حركتها ومرورها. يتورط المتفرج تدريجياً بفعل المراقبة، يستغرق بفعل الفرجة على أشخاص لا يعرفون أننا نراهم، ويصبح مرورهم الروتيني وتصرفاتهم العفوية مصدراً للمتعة وللضحك أحياناً. وحتى الدقة الفقيرة والمشوشة للفيلم تصبح أيضاً مصدراً تشويقياً، لأنها تدفع المتفرج لأن يخمن ويتتبع معالم الحي ووجوه الشخصيات وسلوكياتهم التي اعتاد عليها، فصار بالإمكان التعرف عليها من خلال طريقة المشي، أو ساعة المرور أمام الكاميرا. وتدريجياً يصبح لمرورهم أمام الكاميرا معنى آخر يحكي عن سكان الحي وأحوالهم وقصصهم بمساعدة تعليقات المخرج، روايته لتفاصيل أخرى عن شجرة التين التي نراها في الكادر، وقصة جدته ويوم وفاتها، وقصة عمه، وتاريخ العائلة بأكملها تحت الاحتلال والتهجير. إنقاذ تسجيلات كاميرات المراقبة، وإعادة توليف التسجيلات، وفهم إيقاع حركة الأشخاص داخلها، لم تكن عبثاً على الإطلاق، بل هي إعادة إحياء لذاكرة المخرج وتوثيق لحياة الناس في الحي الذي مروا أمام الكاميرا، وظلت صورهم محفوظة دائماً في صلب الشريط التسجيلي لتعبر عن وجودهم كفلسطينيين هُجِّروا إلى الغيتو.
نحن أموات لكن ليس للأبد
في زاوية قريبة من المكان المخصص لعرض فيلم صيف غير عادي، وخلف ستارة كتب عليها بالإيطالي: «نحن أموات لكن ليس للأبد»، يُعرَض فيلم أخر. للوهلة الأولى، يظن المتفرج أن اللقطات المعروضة لقطات سينمائية مجردة، غير مفهومة وغير واضحة أحياناً، صور بالغة الضرر، وفقيرة الدقة، لكن أحياناً نرى وجوهاً تغطيها بقع حمراء. فيلم ماريا أوريو ورافاييل كومو أصوات غير ميتة هو عن «ميت» يحاولان إعادة إحيائه. الفيلم الأصلي هو للمخرجة الإيطالية إيزابيل برنو، وهو عن مظاهرة نسوية في إحدى شوارع إيطاليا عام 1975، لكن الفيلم أصيب بالضرر البالغ بسبب سوء الأرشفة وإهماله لأسباب سياسية وفنية صنفت الفيلم بأنه غير جدير بالحفظ. نعرف هذه الحقيقة في بداية الفيلم، لكننا نتابعه بسبب جماليات جديدة يقترحها، وهي جماليات إنقاذ فيلم كان يصنف على أنه «سينما ثانوية». جماليات الصورة المشتهاة وإعادة تركيبها لفهم معنى وعنف عبارة «سوء التخزين أو إهمال معايير الأرشفة».
يحاول الفيلم إنقاذ الفيلم المتلف، من خلال التقصي عن الحدث والمظاهرة النسوية التي كان ينوي توثيقها، والعودة لشعارات مظاهرات الحركة النسوية في السبعينات في إيطاليا. العبارة المكتوبة على الستارة «نحن أموات لكن ليس للأبد» هي من نشيد نسوي يعود لفترة السبعينات، وهو ما حاول الفيلم إحياءه إلى جانب شعارات أخرى، مؤكداً على وجود «الفيمنيست الزومبي» بالرغم من محاولات الدفن العديدة. أما المعنى الأهم الذي يعثر عليه الفيلم في إحيائه لفيلم مدفون ومهمل فهو اشتباك النضال النسوي في السبعينات مع النضال النسوي الآن، وذلك تجسيداً للرغبة في زيارة ذلك الأرشيف وإنقاذه، ومن ثم صناعة فيلم عنه وجعله مرئياً وحيّاً من جديد.
ضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال الأخرى التي تبحث في العلاقة مع الأرشيف ومعنى الوقت الميت، وربما يحتاج المرء زيارته مرتين وثلاث كي يشاهد جميع الأعمال المعروضة، والاستغراق فيها واكتشاف إحساسه بإيقاع الوقت ومعناه في كل فيلم. لكن ما تذكرنا به الأعمال الفيلمية في المعرض أن الوقت يموت عندما نعجز عن استخراج المعنى منه. ربما العودة المتكررة إلى ألبومات العائلة والتسجيلات المهملة، والزيارات المفاجئة للأرشيف الخاص والعام، قد تنقذ الوقت الميت، أو تنقذنا نحن من موت تفاصيل حياتية شخصية من الماضي والمستقبل معاً.