تتزامن الانتخابات الفيدرالية الألمانية، التي ستجرى نهاية هذا الأسبوع، مع مرور نحو ست سنوات على موجة اللجوء السوري الأكبر عام 2015. وسيتمكن آلاف السوريين من المشاركة في انتخابات ديمقراطية لأول مرة في حياتهم إثر حصولهم على الجنسية الألمانية. وبحسب الإحصائيات، يشكل السوريون ثاني أكبر مجموعة من بين الحاصلين على الجنسية الألمانية عام 2020، حيث ارتفع عدد السوريين المجنسين بنسبة 75 بالمئة عن العام الذي سبقه، ليصل إلى 6,700.
رغم ما يبدو من رومانسية في لحظة وقوف السوريين أمام صناديق الاقتراع التي حُرموا منها عقوداً، إلا أن هذه اللحظة عينها هي لحظة انهيار مسلمات وبديهيات، ولحظة امتحان أخلاقي حقيقية لشتات مُحطَّم قادم من بلد ممزّق. لحظة لا يمكن فصلها عن عقود من الديكتاتورية، كما أنه لا يمكن توقع أن تكون خيارات الناخبين السوريين غير متأثرة بحرمان طويل من الديمقراطية. سؤال أي حزب سننتخب لا ينفكّ عن أسئلة الهوية والدين والماضي، ولا يمكن فصله عن معضلات كبرى تخص السياسة والأخلاق والإيديولوجيا وسؤال الهوية وأزمة الاغتراب. المجتمع السوري في ألمانيا مجتمع سياسي بكل معنى الكلمة، ومراقبة استطلاعات الرأي والنقاشات السورية حول الانتخابات تساهم في تخليصنا من وهم أن السوريين سيصوتون كـ«سوريين»، وتشير إلى أن اختياراتهم ستكون أكثر تعقيداً بكثير من التوقعات الجاهزة والمعيارية لسؤال: كيف سيصوت اللاجئ السوري؟
لا تسعى هذه المقالة للاحتفاء بالسوريين الذين سيمارسون حقهم الانتخابي في ألمانيا ولا الاحتفال بهم، كما لا تحاول أن تكون صدى لأصوات كل السوريين الذين تحق لهم المشاركة في الانتخابات في ألمانيا ولا أن تجيب على سؤال: من ينتخب السوريون وماذا يريدون؟ المقالة هي محاولة لرصد طريقة تفكير وأولويات مجموعة عشوائية من سوريات وسوريين، لاجئين ومهاجرين، دون الأربعين عاماً، وصلوا إلى ألمانيا بمختلف الطرق خلال العقد الأخير.
مشاعر اللحظة
وصل أحمد حويجة إلى ألمانيا خريف العام 2014، وتعلَّمَ اللغة وعمل لستة أشهر متطوعاً في الترجمة في مخيمات اللاجئين، ليحصل بعدها على الإقامة في ألمانيا ربيع العام 2015. تعلَّم أحمد الألمانية بسرعة، وسعى لأن يجد لنفسه مكاناً في سوق العمل، واستطاع رغم فقدانه أوراقه وشهاداته أن يجد عملاً في شركة في مجال الأجهزة الكهربائية في مدينة دوسلدورف. وبعد ستة أشهر فقط، كان أحمد قادراً على إدارة العمل وحده، وترقّى بعدها ليصبح مسؤولاً عن فريق كامل يديره هو.
يهتم أحمد بالأحداث السياسية في كل العالم، وبالتحديد في الولايات المتحدة وألمانيا. وهو يُعنى في هذه الأيام بشكل خاص بجدالات الأحزاب وخططها الانتخابية. خلال ستة أعوام من عمله في الشركة، ثابر أحمد على متابعة الشأن السياسي، فكان يستغلّ فترات قيامه بأعمال روتينية ليستمع خلالها إلى برامج البودكاست السياسية.
واليوم، كمواطن ألماني ودافع للضرائب في بلد يشعر تجاهها بالانتماء، يشعر أحمد أن الانتخاب فرحة حقيقية تملأ قلبه: «أنا الحقيقة جداً سعيد. حتى صرت اسمع السجالات السياسية وأنا حاسس بلذة. اليوم أنا فيني شارك. يمكن يعني متل شب عم يحضر بورنوغرافيا كل حياتو وبعدين تزوج».
أمّا مهيار شمّاس، الذي يدرس هندسة الكمبيوتر في جامعة في شمال راين، فلم يكن الفرح هو ما يصف به مشاعره. قبل أيام فتح مهيار صندوق البريد ليجد مغلفاً صادراً عن البلدية، وعندما فتحه وجد فيه أوراق الدعوة للانتخاب. صوَّرَ مهيار اللحظة وشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي: «كان غريب الكم الكبير من الناس، وخصوصاً الألمان، الفرحانين بأني قادر صوّت. الناس مبسوطين فيني أكثر مني أنو فيني انتخب، والكل صاروا بدهم يباركولي»؛ يقول مهيار بلهجته الحورانية. بالنسبة لمهيار، كانت الأوراق واختيار الحزب الذي سيعطيه صوته تحدياً ومسؤولية: «استغربت أنو الناس متوقعة مني كون طاير من الفرح. والحقيقة إنو لا. أنِي حاسس بالمسؤولية والواجب».
مثل كثير من الشباب الذين يركزون في الفترة الأولى على تحقيق ذواتهم في المكان الجديد، لم يكن مهيار يعطي سياسة البلد وقتاً كبيراً. كان مطّلعاً على الخطوط العريضة لما يحدث، ولكن تركيزه الأكبر كان على الانتقال بنفسه وعائلته إلى خط الصفر، إذ أعادته الهجرة والحرب إلى ما دون الصفر بكثير. وصل مهيار إلى ألمانيا قبل سبع سنوات، وحصل على الجنسية الألمانية في النصف الثاني من العام 2020 .
«مرة مزحت قدام رفقاتي الألمان أني ما بدي صوّت، لأنو كثير معقد البروسس، فتطلعوا فيني بنظرة خلتني بدي أسحب النكتة واعتذر أنو والله أني بمزح ياجماعة». لم يكن التصويت في الانتخابات هو الحرية التي يريدها، بل الضريبة التي عليه دفعها للحفاظ على المجتمع الحر والديمقراطي الذي وصل إليه وحصل على جنسيته.
لمن سأمنح صوتي؟
ليست عملية البحث عن الحزب الذي يستحق التصويت له أمراً سهلاً في ألمانيا، وذلك بوجود عشرات الأحزاب وتركيب طريقة احتساب الأصوات والتعقيدات المرتبطة فيها. لكن انتخابات هذا العام في ألمانيا تمثّل تحديات إضافية مقارنةً بالانتخابات السابقة بالنسبة لكثيرين.
يشعر جميل عليو أن الانتخابات التي تقبل عليها ألمانيا هي أول انتخابات بهذا الشكل منذ عشرات السنين: «ميركل لن تكون مستشارة، بالإضافة إلى أن هناك انزياحاً في الطيف السياسي وحالة من الاستقطاب، فالأحزاب التي كانت وسطاً انزاحت إلى اليمين والأحزاب اليسارية انزاحت إلى اليسار أكثر». قرار حصول جميل على الجنسية الألمانية صدر قبل أيام قليلة فحسب.
منذ وصوله إلى ألمانيا، بدأ جميل العمل المجتمعي والسياسي. وبعد سنوات من دراسة هندسة الطاقة، ترك جميل هذا الفرع وانتقل إلى دراسة العمل المجتمعي في مجال الهجرة والاندماج.
في مدينته في شمال الراين، انضم جميل إلى جمعية قطار الأمل، المنظمة التي تضم مهاجرين ولاجئين وألماناً، وتسعى لترسيخ التعددية في المجتمع وتمكين المهاجرين واللاجئين من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية. ساعده نشاطه على أن يرسخ وجوده في المكان الذي هو فيه؛ ليتم بعدها ترشيحه إلى مجلس الاندماج.
«أحد طقوسي السنوية حتى قبل حصولي على الإقامة الدائمة كانت أني جاوب على أسئلة Wahl-O-Mat لحتى حاول أعرف أي حزب من الأحزاب بيمثلني». في هذا الموقع، الذي صمَّمه المركز الاتحادي للتعليم السياسي BpB، تُطرح مجموعة من الأسئلة حول مواضيع مختلفة في ألمانيا وسياستها الداخلية والخارجية لكي يحدد المرء مكانه من الطيف السياسي بحسب الموضوعات، ولكي يتمكن الناخبون من التصويت، ليس بناء على ولائهم لأحزاب محددة وإنما بسبب تبنيهم لموضوعات.
وقد أخبرنا مهيار بإجراء مشابه اتخذه، إذ حاول معرفة الأحزاب التي تمثله عن طريق الإجابة عن الأسئلة عبر تطبيق voteswiper ومتابعة الفيديوهات التي تشرح البرامج الانتخابية. لكن شعور مهيار بأهمية صوته وبضيق الوقت أمامه جعله يحاول أن يحصل على أكبر قدر من المعلومات في أقصر وقت: «بالنهاية كان الدور الأكبر باختيار الحزب اللي بدي إختاره هو لأصدقائي الألمان اللي أني بوثق فيهم وبحترم توجهاتهن».
هذه المرة لم يشعر جميل أن أحداً من الأحزاب يقنعه بشكل كامل، ولذلك فإن عليه اختيار أهون الشرين. مواقف كبار وجهاء الحزب من القضية الفلسطينية وتأييدهم المطلق لإسرائيل على حساب الفلسطينيين جعلت جميل ينفر من حزب الخضر die Grünen. ليس معنى هذا أن الأحزاب الأخرى مناصرة للقضية الفلسطينية، ولكن حزب الخضر يدّعي مناصرته لحركات تحرر الشعوب ووقوفه إلى جانب المظلومين. لكن أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، صرَّح كثير من زعمائهم بتأييد مطلق لإسرائيل ولم يقفوا مع حق الشعب الفلسطيني، كما يرى أن هذا الحزب يستغل قضيته لكسب الأصوات بطريقة جعلته يشعر بعدم ارتياح لأن يعطيهم صوته: «أكتر ضربة موجعة لإلي، كانت وقت رشح حزب الخضر أحد الشباب السوريين المجنسين للبرلمان. بعد هيك اضطر الشاب يسحب ترشحو وما قدموله الدعم اللازم والكافي. وهون أنا ما بعرف هل هاد غباء سياسي منهن أو حركة كرمال يحصلوا على مكاسب سياسية ما استفادوا منها أبداً بعدين»؛ يرى جميل أن هذا الموضوع أثَّرَ على شباب جالية كاملة: «لأنو ماعاد حدا يؤخذ على محمل الجد».
الأمر أعقد
لكن التطبيقات التي تساعد الناخبين على اختيار الحزب الأفضل لهم ليست كافية، ولا حتى التعمق في قراءة البرامج الانتخابية. هناك عوامل أخرى تلعب دوراً في اختيار الحزب.
بعد أن حاول رشاد لولو أن يعرف الحزب الأكثر تناسباً مع توجهاته ورؤيته السياسية والاقتصادية، وقع اختياره في البداية على حزب الليبراليين FDP. وصل رشاد إلى ألمانيا عام 2014 كطالب، ودرس السنة التحضيرية في ولاية شمال الراين ثم انتقل إلى شمال ألمانيا لدراسة الهندسة في إحدى جامعاتها. تخرَّج رشاد من الجامعة وبدأ العمل في شركة لصنع أجهزة القياس والتحكم قبل عام. فتحت الجنسية الألمانية لرشاد هامشاً من الحرية في التعاملات المالية، إذ لم يكن بوسعه الدخول في التعاملات الاستثمارية حين كان لاجئاً.
بدأ وعي رشاد بأهمية الاستقلال المادي والاستثمار مبكراً: «كون ألمانيا بلد غني ومتفوق اقتصادياً ما بيعني إننا حنكون مرتاحين مادياً بعد تقاعدنا، وإنو فينا نوثق بالنظام الاجتماعي القائم بالمستقبل».
تعلَّمَ رشاد من والده، الذي يعمل في التجارة، أهمية التعامل مع المال والادخار. لا يشعر رشاد بثقة كافية بأن الدولة يمكنها تأمين حياة كريمة له عندما يصبح في سنّ التقاعد. في مقابلة لأولاف شولتز، وزير المالية الألماني ونائب المستشارة ومرشح الحزب الاشتراكي، صرَّحَ أنه لا يستثمر وإنما يضع كل ما يتبقى من راتبه في حساب الادخار اليومي، بدون فوائد. هذا التصريح، الذي يعتبره رشاد تصريحاً معيباً بحق وزير مالية أقوى اقتصاد أوروبي، جعله يعيد التفكير قبل أن يعطي صوته للحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة شولتز. ألف باء الاستثمار، برأي رشاد، هو أن الأموال التي لا تُستثمر ستتآكل قيمتها مستقبلاً.
يؤمن رشاد بالقيم التي تنادي بها الأحزاب اليسارية وتسعى إليها، ولكن مشكلة هذه الأحزاب في رأيه أن سياستهم لإدارة النظام الاقتصادي تعتمد على حلول قصيرة الأمد، وتبعاتها على المدى الطويل ستكون سيئة. وفي سعيهم لإحلال عدالة اجتماعية وتحسين حال الطبقة الوسطى، لا يشعر رشاد أن طرقهم ستكون مجدية على المدى البعيد. وعندما قرأ رشاد البرنامج الانتخابي لحزب الليبراليين، شعر أن وجودهم في الحكومة إلى جانب الخضر مثلاً يمكن أن يدفع الدولة إلى مسار اقتصادي أفضل.
مع الوقت، بدا لرشاد أن تاريخ الليبراليين ليس فيه اختبارات حقيقية لمبادئهم وبرامجهم. ومع تزايد المتابعة والمشاركة في النقاشات مع عدد من أصدقائه، تبين له أن خيار التصويت لهم ليس خياراً سليماً في هذه المرحلة.
أفضل الموجود
تتباين الآراء بخصوص الأحزاب المرشحة إلى الانتخابات، ولكن المشترك بين جميع من قابلناهم خلال العمل على هذه المقالة هو أنه لا أحد مقتنع بالكامل بأي من بالأحزاب التي سيصوتون لها، ولكن خيارهم في إعطائها صوتهم هو مبدأ: أفضل الموجود. تُرصَد بوضوح حالة من الترقب، ومن الشعور بضرورة رصّ الصفوف وإعطاء الأصوات للأحزاب التي يُرجى منها الخير.
وصلت شمس – التي فضلت ألا نذكر اسمها الحقيقي – إلى ألمانيا عام 2010، وتعيش اليوم في زارلاند في الجنوب الألماني مع ابنتها وزوجها. درست الاقتصاد وتعمل اليوم في شركة في مدينتها. شاركت شمس في انتخابات عام 2017 وكانت سعادتها وقتذاك لاتوصف.
لم يسبق لشمس أن انتخبت في سوريا، لكنها ذهبت مع والدتها أثناء التصويت. تتذكر ملامح ذلك اليوم وتقارن: «بوقتها بتذكر إنو الكل شاف شو صوتت. طبعاً أكيد التصويت واضح لمين. حتى بتذكر إنهم أخدوا بطاقة أمي وصوتوا عنها».
لم تكن الانتخابات عام 2017 في ألمانيا أسهل بالنسبة لشمس من انتخابات هذا العام، ولكن شعورها كان أجمل: «بوقتها كنت جديدة على البلد وكانوا كل الأحزاب بالنسبة إلي شي جديد. بالسنوات الماضية جمعت كتير معلومات عن الأحزاب وصرت حاسة حالي بعرف أكتر».
عندما تنتخب شمس اليوم تفكر بصغيرتها بشكل أساسي. رغم معرفتها اليوم بالأحزاب الألمانية وتعمقها في البلد وثقافته أكثر، إلا أنها لم تكن متحمسة للانتخابات هذه المرة. فجميع الخيارات اليوم بالنسبة لها غير ممتازة. ولذلك، فإن الاختيار اليوم ليس أكثر من اختيار أحسن الموجود لتقويته في وجه اليمين المتطرف: «البلاد اليوم بحالة استقطاب والمجتمع كله تغير. سابقاً ما كنت أتعرَّض لأي موقف عنصري بس هاد الشي اختلف بعد موجة اللجوء. هاد الشي بخليني خاف على بنتي وفكر أنو بدي ياها تربى بمجتمع ما تتعرض فيه لأي موقف عنصري»، الأمر الذي يدفعها أن تنتخب واحداً من الحزبين، إما الخضر أو الاشتراكي SPD.
بالنسبة للأحزاب الصغيرة، فكرت شمس في إعطاء صوتها لأحدهم، لكن شعورها أن الأحزاب الكبيرة اليوم بحاجتها لتقوية مكانتها في وجه اليمين المتطرف، وأن البلاد منقسمة بين يمين ويسار، وبعد أزمة كورونا التي ضربت البلاد، جعلها تغض الطرف عنها وتركز على الأحزاب الكبيرة لتتجاوز البلاد هذه المرحلة بسلام.
نرى الأمر نفسه عند نادين جودي التي تشعر أنها، بعد مرور تسع سنوات على إقامتها في ألمانيا، قد أصبحت أكثر دراية بالأحزاب وتاريخها، وأكثر انتقائية فيما يتعلق بصوتها: «بانتخابات 2017 كنت سعيدة كتير بالانتخابات وبإنو فيني صوت. كانت مشاعري مختلطة جداً، واحد منها هو شعوري إني عم انتخب وأعطي صوتي نكاية بالنظام السوري. بتذكر إني بوقتها كنت مبسوطة بفكرة إني رايحة صوت أكتر من لمين بدي صوت».
اليوم تفكر نادين بالحزب الذي يستحق صوتها، وتعيد التفكير: «بالنهاية أنا رح صوت مو لأفضل حزب، بس لأفضل حزب من الموجودين». درست نادين علم الاجتماع والتواصل الإعلامي، وخلال دراستها تعمقت في العلوم السياسية واطلعت على خطط الأحزاب وتعلمت أن تقرأ الخطط الانتخابية بحرص وتشكك لكي تستخرج الغث من السمين.
فكرت نادين بالأحزاب الصغيرة: «مع الوقت برأيي لازم نبلش نفكر بالأحزاب الصغيرة وندعمها لتكبر وتوصل للبرلمان، لأنو إذا دايماً صوتنا للكبار رح نحرم الأحزاب الصغيرة اللي قد تكون واعدة جداً أنو توصل»، لكن الخوف من القادم يدفع الناخبين باتجاه اختيار ما يعرفونه ويألفونه: «بـ2017 كان عنا جرأة أكبر نصوّت لأحزاب صغيرة. هالمرة الجو العام بالبلد عم يخلينا بدنا نروح للي منعرفوا ومألوف لإلنا. للأسف هاد الشي خطأ بس الجو العام بالبلد هيك».
من بين الأحزاب الصغيرة، لفت حزب Volt انتباه نادين بسبب مظهره الشبابي والحيوي. والحزب هو حركة تقدمية أوروبية تهدف إلى جعل السياسة أكثر شفافية وتسعى من أجل اتحاد أوروبي موحد ومنصف ومنفتح يوفر الفرص للجميع. بعد قليل من البحث شعرت بالنفور بسبب مركزيته الأوروبية الظاهرة: «هاد شي كفيل إنو ينفرني بشكل مباشر من الحزب».على الخط الآخر، توقفت نادين عند حزب Team Thodenhofer وبالتحديد لفتت نظرتها حملته الإعلامية. تأسس الحزب عام 2020 من قبل يورغن تودنهوفر بعد أن غادر الحزب المسيحي الديمقراطي CDU. ينصب التركيز الرئيسي للحزب على سياسة السلام، والتي يطالب فيها بإنهاء جميع عمليات انتشار الجيش الألماني في الخارج، وبمزيد من سياسة المناخ الاجتماعي ودعم جيل الشباب. يُسوّق مؤسس الحزب لنفسه على أنه يريد أن يمرر معارفه التي راكمها إلى الجيل القادم. يلقي الحزب الضوء على قضايا العنصرية والإسلاموفوبيا: «أكتر شي لفت نظري هو أنو اللغة السياسية للحزب مو لغة غربية كلاسيكية وإنما لغة قريبة من الناس والشارع والأخص المهاجرين، وأنو ما بيضوي على المشاكل بس وإنما بيطرح حلول وهاد الشي للأسف حتى عند حزب الخضر مفقود».
بعد متابعة جادة بدأ يتجلى لنادين أن تودنهوفر يستعمل خطاباً شعبوياً ويطالب بحقوق الناس والمظلومين، ولكنه حاضر ومتعطش دوماً للأضواء: «تودنهوفر بيحكي عن المهاجرين ومشانن، بس أنا حسيت أنو هو عم يطلع على أكتافن».
الهجرة وسوريا في انتخابات ألمانيا
بالنسبة لكثير من السوريين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية وحق الانتخاب، تبدو القضايا التي تتعلق بسوريا من ناحية، وبالهجرة من ناحية أخرى، مركزية في خياراتهم الانتخابية.
قلبياً، يميل محمد نعناع إلى حزب الخضر بسبب مواقفهم الحاسمة من عدم ترحيل السوريين والأفغان والعراقيين إلى بلادهم، حتى مرتكبي الجرائم منهم. هذا الأمر بالنسبة لمحمد موضوع مهم جداً وحاسم: «لاحظت مثلاً إنو رفقاتي الألمان، حتى اللي مع قضايا المهاجرين، مو كتير مهتمين بهي النقاط. بعتقد أنو اللي منشوفو هو اللي بِحدد توجهنا. رفقاتي ما بِروحوا على اليونان وبشوفوا 700 لاجئ بمكان واحد، قدامهم بحر ووراهم حرب وبعيونهم المستقبل مجهول».
يفكر محمد ويقول: «بالتأكيد أنا مهتم بالبيئة. ويمكن لو بقرا أكتر وبشوف تقارير عن البيئة رح يكون الموضوع على راس قائمة أولوياتي. بس أنا هلأ باليونان بزيارة وعم شوف اللاجئين فالبيئة مو أكبر همومي». يعيد محمد التفكير في كلامه وفي دوافعه للانتخاب، ويصمت قليلاً: «يمكن مع الوقت وطول المدة بألمانيا تتغير قائمة أولوياتي، ويمكن عمري كمهاجر بهالبلد أكتر من عمري كألماني، فأنا بفكر أكتر بالمهاجرين مو بالألمان».
حصل محمد على الجنسية قبل تسعة أشهر تقريباً، وهو ينشط في برلين ويعمل مع R3SOLUTE، وهي منظمة غير ربحية تعنى بتمكين اللاجئين من إدارة النزاعات في مجتمعاتهم: «أنا شخص بيحكي ألماني وهاد الشي بيخليني عندي صوت ولهيك برفعو لقضايا العالم اللي ما عندها صوت». حصول محمد على الجنسية، وتمكّنه من الإدلاء بصوته، جعله يشعر بمسؤولية أكبر، فصوته اليوم يجب أن يعبر عن كثير من الناس التي لم تمتلك حق التصويت: «الحزب اللي بدي أعطيه صوتي بيهمني ما يكون بيعترف بشرعية الأسد. بيهمني يكون مع اللاجئين ومع منع إعادتهم حتى لو ارتكبوا جرائم في بلاد اللجوء».
على صعيد آخر، يشعر محمد أن ماضيه في سوريا يحدد، ولو على مستوىً عاطفي، نظرته إلى الأحزاب: «في شي جواتي بحسو بيرفض حزب اليسار. يمكن راديكاليتهم، ويمكن في شي مني بينفر من الشيوعية ومن ارتباطها العميق جواتي بالتخلف. بظن هون إنو حزب البعث هو السبب بنفوري من اليسار. بس فكر إنو هنن استلموا الحكم، بحسّ عتّمت الدنية وصرت ببلد شيوعي وبحس بالفقر».
أما نادين جودي فلا تقتصر أولوياتها الانتخابية على موضوعي الهجرة واللجوء، بل تفكر في السياسة الخارجية التي تتبناها الأحزاب. مثلاً، موضوع مثل تصدير الأسلحة التي تبيعها ألمانيا إلى مناطق النزاعات موضوع مركزي في الانتخابات، وموضوع حاسم بالنسبة لها.
من ناحيته، يحاول أحمد أن يعطي صوته لمن سيكون مفيداً لألمانيا بشكل عام، وليس بالضرورة من عدسة اللجوء أو الشأن السوري: «إن كانت ألمانيا بخير سيكون الوافدون إليها بخير»، بحسب أحمد. «أنا عن حالي لما بدي أعطي صوتي، بفكر إنو الحزب اللي بدو يحكم لازم يكون مركّز على الوجهة النهائية. السياسة متل قيادة السيارة لحتى توصل لازم توازن وتوزع انتباهك».
يؤيد أحمد انتخاب الحزب الاشتراكي، حتى لو كان هذا معناه أن يدفع كفرد مزيداً من الضرائب من راتبه، ويعتقد أن التفكير بالاقتصاد مهم جداً إذا أردنا مصلحة البلد: «أنا مثل أي مواطن بيهمني ما تغلى الأسعار وبيهمني كمان ما يصير تضخم، ومعني جداً إنو يكون راتبي التقاعدي بيكفيني. البحث عن حزب بيحقق كل المتطلبات هو أبداً مالو شي سهل».
في متابعة للنقاشات الدائرة حول الانتخابات الألمانية واستطلاعات الرأي على صفحات فيسبوك السورية، نجد كثيراً من الآراء المتباينة، ومن وجهات النظر التي تتحدى المسلمات. بعض اللاجئين الذين وصلوا إلى ألمانيا عن طريق الهجرة غير الشرعية يرفضون حزب الخضر والاشتراكيين، ويعبرون عن مخاوفهم من فتح باب الهجرة للأفغان «خشية أن تتحول ألمانيا إلى قندهار»، وغيرهم يعبرون عن استعدادهم لأن يصوتوا لليمين المتطرف في مواجهة التصويت للخضر، لأن الخضر «يشجعون زواج المثليين». وآخرون يعادون النظام الاجتماعي لأنه يجبرهم على دفع الضرائب التي كانوا قبل ذلك يستفيدون من دفع غيرهم لها. وغيرهم ممتنعون عن التصويت لأنهم لا يرغبون في بذل جهد لفهم سياسات المكان، أو لأنهم يشعرون أن التصويت كذبة والأحزاب متشابهة وتُدار من خلال مؤامرة خفية. لحظة الوقوف خلف صناديق الاقتراع ليست بالضرورة لحظة احتفالية بقدر ما هي تحدٍ واختبار لأشخاص في الشتات عانوا عقوداً من الديكتاتورية، وتركوا خلفهم حرباً وبلداً مدمراً.
في بحثها الأخير عن الشتات السوري في ألمانيا، تناوت الصحفية الألمانية والخبيرة في الشأن والشتات السوري كريستين هيلبرغ مسألة المُشاركَة السياسية للسوريين والتنظيم الذاتي. في مقابلة لها مع الجمهورية.نت تقول: «لحظة المشاركة في الانتخابات البرلمانية لحظة مهمة بالتأكيد للشتات السوري، لكنها بكل الأحوال ليست الأولوية ولا الحدث الأهم الذي يجب أن نتكلم عنه». ترى هيلبرغ أن ما يستحق التركيز عليه والاستثمار فيه هو التعليم السياسي للسوريين، وإدخالهم في البنى الديمقراطية الموجودة في البلد بشكل فاعل.
«يُخيفني أن يتم صرف ساعات على تعليم الناس معلومات يمكن أن يجدوها في غوغل بدل تثقيفهم سياسياً وتشجيعهم على البحث عن ممثلين لآرائهم ومصالحهم بطريقة ديمقراطية». ترى هيلبرغ أن المُراقِب للمجتمعات السورية في ألمانيا يلاحظ أن طرق التفكير والعيش القديمة ما زالت مسيطرة. وهذا أمر طبيعي جداً. الشعب السوري اعتاد أن لا يثق بالدولة ولا بالسياسيين، واعتاد على الاعتماد على نفسه وشبكة علاقاته في تسيير أموره. تفكيك طرق التفكير واستبدالها يحتاج وقتاً وعملاً منظماً.
يشارك جميل هيلبرغ الرأي: «للأسف اللي بشوفو محزن كتير ومحبط أنو نحن كسوريين بحاجة لسنين طويلة من العمل المدني والسياسي لحتى نقدر نتصرف بطريقة ديمقراطية. لسه مسيطرة عنا الغريزة القبلية». يرى جميل من خلال ملاحظاته في عمله في جمعية قطار الأمل أن بناء التفكير السياسي والتربية على الديمقراطية ضرورة ملحة. ويرى أيضاً أنه من السهل كثيراً كسب أصوات الناخبين عن طريق تجييش العواطف بدون أي برنامج انتخابي أو جهود حقيقية، كما أنه يفتقد المُساءلة: «لازم تتم مُساءلتي. حتى الناس اللي عطوني صوتهن بمجلس الاندماج ما حدا منهن سألني شو عم أعمل».
من جهة أخرى تنتقد هيلبرغ دورات الاندماج، وترى أنها تركز على ما هو غير مهم من قبيل تلقين اللاجئين معلومات عامة يمكنهم أن يجدوها وحدهم، في حين أن هناك حاجة ماسة أن تكون دورات الاندماج هذه موجهة لإشراك اللاجئين في الحياة من خلال مصالحهم وحاجاتهم ومن خلال تفاصيلهم اليومية المعاشة: «ما يجب أن يتعلّمه اللاجئون ليس فقط أسماء الأحزاب وأعلامها، وإنما كيف يصلون إلى مبتغاهم وكيف يتحركون في الأطر الديمقراطية. يحتاج اللاجئون أن يعرفوا كيف يبحثون عن ممثلين لآرائهم ومصالحهم بطريقة ديمقراطية، وليس عن طريق أبو عبدو الذي يعرفونه هنا وأبو أحمد هناك».
تلاحظ هيلبرغ أن هناك فجوة في فهم بعض السوريين للنظام الاجتماعي السياسي الألماني: «يظن بعض السوريين مثلاً أن الدولة الألمانية تقدم ’راتباً‘ للاجئين وليس مساعدة اجتماعية. أي أنهم لا يعرفون ماذا يعني نظام التكافل الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة. هذا مثال بسيط عن نقص المعلومات بالنسبة للسوريين»، الأمر الذي سينعكس بالتأكيد على خيارات السوريين الانتخابية وإقبالهم على الانتخابات وشعورهم بالمسؤولية. من ناحية ثانية، ترى هيلبرغ أهمية أن ينظر السوريون إلى الدولة في ألمانيا على أساس أنهم جزء منها وليس بوصفها كائناً غريباً، وأن يعرفوا أن بوسعهم أن يؤثروا فيها وأن يكونوا فاعلين في النظام الاجتماعي والسياسي.